فقهقه الشيخ عباس ضاحكا كأنه يريد أن يغرق بضحكه القبيح روح الشاب ويوقفها عن المسير إلى أرواح السامعين والبسطاء ثم قال: «أولم تكن راعيا لثيران الدير أيها الشاب الوقح فلماذا تركت رعيتك وخرجت مطرودا؟ هل ظننت أن الشعب يكون أكثر رأفة بالمجاذيب الملحدين من الرهبان الأتقياء؟»
فأجابه خليل: «كنت راعيا ولم أكن جزارا، كنت أقود العجول إلى المروج الخضراء والمراعي الخصبة ولم أسر بها قط إلى الطلول الجرداء، كنت أوردها الينابيع العذبة وأبعدها عن المستنقعات الفاسدة، كنت أعيدها في المساء إلى الحظيرة ولم أتركها في الوادي فريسة للذئاب والضواري الخاطفة، هكذا كنت أفعل بالبهائم ولو فعلت أنت مثلي بهذا القطيع المهزول الرابض الآن حولنا لما كنت تسكن هذا القصر الرفيع وتتركه يبيد جوعا في الأكواخ المظلمة، لو كنت ترحم أبناء الله المخلصين مثلما كنت أرحم عجول الدير لما كنت جالسا الآن على هذا المقعد الحريري وهم واقفون أمامك وقوف القضبان العارية أمام ريح الشمال.»
فتحرك الشيخ عباس منزعجا، وتلمعت على جبهته قطرة عرق باردة، وتبدل ضحكه بالغضب، ولكنه عاد فامتلك نفسه كي لا يظهر الاهتمام والاكتراث أمام رجاله وتابعيه ثم قال مشيرا بيده: «لم نأت بك مكتوفا أيها الكافر لنسمع هذيانك، بل أحضرناك لكي نحاكمك كمجرم شرير فاعلم إذا بأنك واقف الآن أما سيد هذه القرية وممثل إرادة الأمير أمين الشهابي أيده الله
2
وأمام الخوري إلياس ممثل الكنيسة المقدسة التي كفرت بها، فدافع إذا عن نفسك مما اتهمت به أو فاركع مسترحما نادما أمامنا وأمام هذا الجمع الساخر بك، فنغفر لك ونجعلك راعيا للبقر مثلما كنت في الدير.»
فأجاب الشاب بهدوء: «إن المجرم لا يحاكمه المجرمون والكافر الشرير لا يدافع عن نفسه أمام الخطاة.»
قال هذه الكلمات والتفت نحو الجمع المزدحم في تلك القاعة الوسيعة وبصوت جهوري يشابه رنين الأجراس الفضية ناداهم قائلا: «أيها الإخوة، إن الرجل الذي أقامه خضوعكم واستسلامكم سيدا على حقولكم قد أحضرني مكتوفا ليحاكمني أمامكم في هذا القصر المبني فوق بقايا آبائكم وجدودكم ، والرجل الذي جعله إيمانكم كاهنا في كنيستكم قد جاءني ليدينني، ويساعد على تعذيبي وإذلالي. أما أنتم فقد تراكضتم مسرعين من كل ناحية لكي تنظروني متألما وتسمعوني مستغيثا مسترحما، قد تركتم جوانب المواقد الدافئة لتشاهدوا ابنكم وأخاكم مكتوفا مهانا، قد أسرعتم لتروا الفريسة المتوجعة بين مخالب الكواسر، قد جئتم لتنظروا المجرم الكافر واقفا أمام القضاة، أنا هو المجرم، أنا هو الكافر الذي طرد من دير فحملته العاصفة إلى قريتكم، أنا هو ذلك الشرير فاسمعوا احتجاجي ولا تكونوا مشفقين بل كونوا عادلين لأن الشفقة تجوز على المجرمين الضعفاء، أما العدل فهو كل ما يطلبه الأبرياء، قد اخترتكم قضاتي لأن إرادة الشعب هي مشيئة الله، فأيقظوا قلوبكم واسمعوني جيدا ثم احكموا علي بما توحيه ضمائركم، قد قيل لكم بأني رجل كافر شرير ولكنكم لم تعرفوا ما هي جريمتي، وقد رأيتموني مكتوفا كاللص القاتل ولم تسمعوا بعد بذنوبي لأن حقيقة الجرائم والذنوب في هذه البلاد تظل مستترة وراء الضباب، أما العقاب فيظهر للناس ظهور أسياف البرق في ظلمة الليل، جريمتي أيها الرجال هي إدراكي تعاستكم وشعوري بثقل قيودكم، وآثامي أيتها النساء هي شفقتي عليكن وعلى أطفالكن الذين يمتصون الحياة من صدوركن ممزوجة بلهات الموت.
أنا واحد منكم أيها الجمع وقد عاش آبائي وجدودي بين هذه الأودية التي تستفرغ قواكم وماتوا تحت هذا النير الذي يلوي أعناقكم، أنا أؤمن بالله الذي يسمع نداء نفوسكم المتوجعة ويرى صدوركم المقروعة، وأؤمن بالكتاب الذي يجعلني ويجعلكم إخوة متساوين أمام وجه الشمس وأؤمن بالتعاليم التي تحررني وتحرركم من عبودية البشر وتوقفنا جميعا بغير قيود على الأرض موطئ أقدام الله. كنت في الدير راعيا للبقر لكن انفرادي مع البهائم الخرساء في البرية الساكنة لم يعمني عن المأساة الأليمة التي تمثلونها كرها في الحقول، ولم يصم أذني عن صراخ اليأس المتصاعد من قراني الأكواخ، قد نظرت فرأيتني في الدير ورأيتكم في الحقول كقطيع من النعاج سائر وراء ذئب خاطف إلى وكره فوقفت في منتصف الطريق وصرخت متسغيثا فهجم الذئب ونهشني بأنيابه المحددة، ثم احتال علي وأبعدني كي لا يثير صراخي روح القطيع فيتمرد ويتفرق مذعورا إلى كل ناحية ويتركه منفردا جائعا في ظلام الليل. قد احتملت السجن والجوع والعطش من أجل الحقيقة الجارحة التي رأيتها مكتوبة بالدماء على وجوهكم، وقاسيت العذاب والجلد والسخرية لأنني جعلت لسكينة تنهيداتكم صوتا صارخا متموجا في خلايا الدير، ولكنني لم أخف قط ولم يضعف قلبي لأن صراخكم الأليم كان يتبع نفسي ويجدد قواي ويحبب إلي الاضطهاد والاحتقار والموت.
أنتم تسألون نفوسكم الآن قائلين: «أي متى صرخنا متظلمين وأي فرد منا يتجاسر أن يفتح شفتيه؟» وأنا أقول لكم بأن نفوسكم تصرخ متظلمة في كل يوم وقلوبكم تستغيث متوجعة في كل ليلة، ولكنكم لا تسمعون نفوسكم وقلوبكم؛ لأن المنازع لا يسمع حشرجة صدره أما الجالسون بجانب مضجعه فيسمعون، والطائر المذبوح يرقص متململا أسر إرادته ولا يعلم، أما الناظرون فيعلمون في أي ساعة من النهار لا تتأوه أرواحكم متوجعة؟ أفي الصباح عندما تنتهركم محبة البقاء وتمزق نقاب الكرى عن أجفانكم وتقودكم كالعبيد إلى الحقول؟ أم في الظهيرة عندما تتمنون الجلوس في ظل الأشجار لكي تتقوا سهام الشمس المحرقة ولا تستطيعون؟ أم في المساء عندما تعودون جائعين إلى أكواخكم ولا تجدون سوى الخبز اليابس والماء العكر؟ أم في الليل عندما تطرحكم المتاعب على الأسرة الحجرية فتنامون قلقين ولا يكتحل النعاس أجفانكم إلا وتهبون خائفين متوهمين صوت الشيخ يرن في آذانكم؟ وفي أي فصل من السنة لا تندب قلوبكم متحسرة؟ أفي الربيع عندما ترتدي الطبيعة حلة جديدة فتخرجون لمشاهدتها بأطمار بالية ممزقة؟ أم في الصيف عندما تحصدون الزرع وتجمعون الأغمار على البيادر وتملأون أهراء سيدكم الظلوم بالغلة ولا تحصلون لقاء أتعابكم على غير التبن والزوان؟ أم في الخريف عندما تجنون الأثمار وتعصرون العنب ولا يكون نصيبكم منها سوى الخل والبلوط؟ أم في الشتاء عندما يضطهدكم الفضاء ويطردكم البرد والزمهرير إلى الأكواخ الملتحفة بالثلوج، فتجلسون بجانب المواقد متأففين خائفين غضب الزوابع والعواصف؟
هذه هي حياتكم أيها الفقراء، هذا هو الليل المخيم على أرواحكم أيها التعساء ، هذه هي أشباح ذلكم وشقائكم أيها المساكين، هذا هو الصراخ الأليم المستمر الذي سمعته خارجا من أعماق صدوركم فاستيقظت وتمردت على الرهبان وكفرت بمعيشتهم، ووقفت منفردا متظلما باسمكم واسم العدالة المتوجعة بأوجاعكم فحسبوني كافرا شريرا وطردوني من الدير فجئت لكي أشاطركم التعاسة وأعيش بقربكم وأمزج دموعي بدموعكم فأسلمتموني مكتوفا إلى عدوكم القوي الذي يغتصب خيراتكم ويحيا غنيا بأموالكم ويملأ جوفه الوسيع من أثمار أتعابكم ... ألا يوجد بينكم شيوخ يعلمون بأن الأرض التي تحرثونها وتحرمون غلتها هي لكم وقد اغتصبها والد الشيخ عباس من آبائكم عندما كانت الشريعة مكتوبة على حد السيف؟ أما سمعتم بأن الرهبان قد احتالوا على جدودكم وامتلكوا مزارعهم وكرومهم عندما كانت آيات الدين مخطوطة على شفتي الكاهن؟ ألا تعلمون بأن ممثلي الدين وأبناء الشرف الموروث يتعاونون على إخضاعكم وإذلالكم واستقطار دماء قلوبكم؟ أي رجل منكم لم يلو عنقه كاهن الكنيسة أمام سيد الحقول؟ وأي امرأة بينكم لم يزجرها سيد الحقول ويستحثها لكي تتبع مشيئة كاهن الكنيسة؟ «قد سمعتم بأن الله قد قال للإنسان الأول: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» فلماذا يأكل الشيخ عباس خبزه مجبولا بعرق جبينكم ويشرب خمره ممزوجا بدموعكم؟ هل ميز الله هذا الرجل وجعله سيدا إذ كان في رحم أمه أم غضب عليكم لذنوب مجهولة وبعثكم عبيدا إلى هذه الحياة لكي تجمعوا غلة الحقول ولا تأكلون غير أشواك الأودية، وتقيموا القصور الفخمة ولا تسكنون غير الأكواخ المتداعية؟ قد سمعتم بأن يسوع الناصري قد قال لتلامذته: «مجانا أخذتم ومجانا أعطوا. لا تقتنوا فضة ولا ذهبا ولا نحاسا في مناطقكم.» إذا أي تعاليم أباحت للرهبان والكهان بيع صلواتهم وتعازيمهم بالفضة والذهب؟ أنتم تصلون في سكينة الليالي قائلين: «أعطنا يا رب خبزنا كفاف يومنا.» والرب قد وهبكم هذه الأرض لتعطيكم الخبز والكفاف فهل وهب رؤساء الأديرة السلطة لانتزاع هذا الخبز من بين أيديكم؟ أنتم تلعنون يهوذا لأنه باع سيده بالفضة فأي شيء يجعلكم أن تباركوا الذين يبيعونه في كل يوم من حياتهم؟ إن يهوذا التعس قد ندم على خطيئته فشنق نفسه، أما هؤلاء فيسيرون أمامكم برؤوس مرفوعة وأذيال طويلة ناعمة وقلائد ذهبية وخواتم ثمينة، أنتم تعلمون أبنائكم محبة الناصري فكيف تعلمونهم الخضوع أمام مبغضيه ومخالفي تعاليمه وشرائعه، قد عرفتم بأن رسل المسيح قد ماتوا قتلا ورجما لكي يحيوا فيكم الروح المقدسة فهل تعرفون بأن الرهبان والكهان يقتلون أرواحكم لكي يحيوا متمتعين بخيراتكم متلذذين بحرتقة قيودكم، ماذا يغركم أيها المساكين في وجود مفعم بالذل والهوان ويبقيكم راكعين أمام صنم مخيف أقامه الكذب والرياء على قبور آبائكم؟ وأي كنز ثمين تحافظون عليه بخضوعكم لتبقوه إرثا لأبنائكم؟ «نفوسكم في قبضة الكاهن، وأجسادكم بين مخالب الحاكم، وقلوبكم في ظلمة اليأس والأحزان، فأي شيء في الحياة يمكنكم أن تشيروا إليه قائلين: «هذا لنا.» أتعرفون أيها المستسلمون الضعفاء من هو الكاهن الذي تهابونه وتقيمونه وصيا على أقدس أسرار نفوسكم؟ اسمعوني فأبين لكم ما تشعرون أنتم به وتخافون إظهاره، هو خائن يعطيه المسيحيون كتابا مقدسا فيجعله شبكة يصطاد بها أموالهم ومرائي يقلده المؤمنون صليبا جميلا فيمتشقه سيفا سنينا ويرفعه فوق رؤوسهم، وظالم يسلمه الضعفاء أعناقهم فيربطها بالمقاود ويوثقها باللجم ويقبض عليها بيد من حديد ولا يتركها حتى تنسحق كالفخار وتتبدد كالرماد.
Shafi da ba'a sani ba