ارتخيت قليلا مع الموسيقى؛ ديبوسي، لا أحب موسيقاه بقدر ما تحبني، لا أسمعه، لا أتذكر الألحان، فقط أشعر بانسياب يتمدد بروحي كموج البحر ويعود أدراجه وروحي معلقة بذيوله، ويعاود بها ليسحبها، وكأن موسيقاه تستمتع بتلك اللعبة، لكن ليس بقدر استمتاعي بها. قطع استمتاعي الموجي صوت «عم نصر» يخبرني بأن لدي زوارا ... أي زوار الآن؟ أوقفت الموسيقى وخرجت من غرفتي التي أطلق عليها «أتيليه» ومشيت حافي القدمين على أرضية السطح الحجرية، ألقيت نظرة لمئذنة ابن طولون قبل أن أصل للسور وأعرف الزائر الذي قطع متعتي.
كان العجوز «نصر» مستمرا بالصياح: «يا دكتور عبد الله، يا دكتور عبد الله ...» وتجمدت عيناي؛ أمل؟! لا أعرف كيف نزلت لأصافحها بنفس هيئتي؛ بنطالي القطني البني الفاتح بلون التراب، وقميصي الكتاني الأبيض، وبالطبع حافي القدمين ... أخذت يدها وصعدنا سويا، دعوتها للدخول، لم تهتم بحال الغرفة بل خطت كملكة في بلاطها: «غرفة كبيرة.» هكذا قالت، ابتسمت مجيبا: «هي في الحقيقة ثلاث غرف وحمام، وأزلت كل الجدران، حتى الحمام بلا باب الآن.» ابتسمت، وانزلقنا في صمت لحظي، شفتاها تجتذبان عيني، وعيناي مستسلمتان لنفاذ نظرتها ...
تحدثنا قليلا بين فترات الصمت، لم تعجبني حالتي، لم أكن أنا، لم أكن بهذا القرب منها من قبل، لم أعتده، سألتها إن كانت تريد بعض النبيذ المصنوع منزليا بجنوب أفريقيا، وافقت بضحكة خفيفة، معلنة أنها مرتها الأولى، أذابت ضحكتها كل التوتر، عاودني النشاط وأنا أملأ كأسينا، تجنبت ملامسة أناملها وأنا أعطيها كأسها، كنت أستمتع بوجودها، أراقبها ترفع الكأس، تشم النبيذ وتبلل شفتيها.
سألتها لم وافقت أخيرا على زيارتي فأجابت لترى لوحاتي «الزفت»، فأشرت لتلك اللوحة فوق السرير بأنها «الأزفت» على الإطلاق ، كانت لوحة مربعة كبيرة بها دوامة من اللون الأسود سحب بسكين مبتلعا كل الألوان، فسألتني كيف للألوان الخلاص من تلك الدوامة؟ فأجبتها بأن تتعرى منها وتخرج عارية وحين تشعر بالخجل تعود فترتديها، سألتها: «هل تخجلين من العري؟» أجابت بنفس ابتسامتها المرتعشة وعينيها الثابتتين بمستقرها داخلي «بل يخجل من يرتدون ملابسهم مني.» كانت تراقصني بكلماتها ... - هل تحبين المشي على سور السطح؟ [لم أنتظر إجابة وأضفت] اتركي ملابسك وتعالي بكأسك.
وخلعت ملابسي كلها وخرجت عاريا للسطح لم أنظر خلفي، لم تتأخر؛ عارية وكأسها بيسراها. قدماها تعرفان أحجار السطح. تسير ببطء، بهدوء، ويمناها تبحث عن يدي، أمسكتها وصعدنا على سور السطح، هي أمامي وأنا خلفها ممسك أنا بيدها وملاصق لها، مشينا قليلا، لم أقصد بعريها رؤيتها عارية، لم أكن أيضا أحاول إغواءها بعريي، لم أكن أهدف إلى شيء، ربما كنت أحاول منح جسدينا الفرصة للتعارف، تعارف البراري بنسمات الشمال.
كلاهما يمنح رائحته للآخر ومعها يمنح سره.
كانت خطوتها تتناغم مع السور الحجري، خشونته تلتهم نعومة قدميها، ونعومتهما تقتحم خلوته، كنت أشعر بخوفها، وكنت أشعر بإحساسها بالأمان التام! طلبت منها أن تحاول السقوط وتختار أي جهة تود السقوط، فاختارت ابن طولون، فجذبتها وقفزت بها للسطح مرة أخرى: «هيا لنرسم.» قلتها وأنا أجذبها من يدها للداخل مرة أخرى. - أنا لا أجيد الرسم، مجرد ... - [قاطعتها] لن نستخدم فرشاة.
وقفت أمام المنضدة وفتحت أنابيب الألوان والزيت الخام والنفط الرومي وبدأت في تخليط كميات من الألوان بسرعة، وألقيت عليها الألوان تنساب على جسدها وتبتلع من سمرتها، وقبل أن تفيق من المفاجأة جذبت ملاءة السرير وفرشتها على الأرض قائلا وتلك هي اللوحة، جذبتها للأرض وكلانا يغطي الآخر بالألوان، وبدأنا نتحرك، نترك بصماتنا بثقل أوزاننا على القماشة البيضاء، كانت تتحرك، لا، كانت تزحف، همست لها: «كنت أعرف أن خلف الدكتورة أمل كوبرا ملكية متمردة.» فهمست: «وكنت أعرف أن خلف الدكتور عبد الله إنسانا بدائيا متوحدا مع الطبيعة.»
أمسكت بها أحركها، أرفعها قليلا فتستجيب، لم تكن مستسلمة تماما ليدي التي ترسم بها؛ فطلبت منها الاستجابة، فهمست: «هل تخضع لجبروتي دقائق؟» كثيرة هي مفاجآتها. - أجبريني على الخضوع. - الخضوع الكامل، وتتسلم الصولجان وتصبح مملكتك. - أحاول المقاومة وأحاول الاستسلام. - قاوم فلا معنى لنصر بلا مقاومة، يشبه الوجبة المجانية، لا يقبلها الفرسان. - ليس لي خيار، سأحارب للنهاية، وأستمتع باستسلامك. - قلت لك تعجبني ثقتك بنفسك، تبدو أفاقا، كاذبا، مراوغا، جريئا لحد التطاول، لكنك تعجبني.
لم تكن تراوغ، كانت تعرف موطئ قدميها، طلبت منها المبيت، فاشترطت الوصول لمحطة القطار قبل الثامنة صباحا.
Shafi da ba'a sani ba