سراي خطاب
استقبلني عبد الرحيم باشا بترحاب ووجه باسم. - أهلا دكتور المجاذيب، أرجو ألا تكون طامعا في علاجي. - العفو يا باشا، بل جئت لأعرف كيف تبدو أصغر سنا مني بعشرة أعوام وقد كنت باشا قبل أن أحصل على الشهادة الإلزامية. - إذن فأنت تعرف [قالها بخبث]. - أعرف ماذا؟ أنك ما زلت باشا في نظام اشتراكي؟ [قلتها بطريقة أخبث].
ضحك كثيرا عبد الرحيم باشا وعيناه تلمعان ثم تحولت ضحكته لابتسامة هادئة قائلا: تتحدث عن الاشتراكية والرأسمالية الطبقية وأنت طبيب المجاذيب؛ فدعني أخبرك، الاشتراكي هو «رأس» يقرأ ويفهم ولا يملك المال فيشارك ويتشارك ويهاجم من يملك المال حتى يملكه، ويتذوق قيمة إضافة المال للرأس، وحينها يصبح «رأسماليا» ولأزيدك غيظا فوق غيظك، لم أحتفظ فقط بباشويتي رغم إلغاء الألقاب، بل أنتظر من ألغاها ليحظى بها.
ثم ضحك مرة أخرى وضحكت معه فقد راقتني رؤيته الساخرة، تحدثنا في موضوعات عامة أذابت بعض الجمود، وكانت مفاجأتي الكبرى حين صرحت له بأنني طبيب أمل ابنة أخيه، قال لي: «تقصد الدكتورة أمل ابنة دكتور إسماعيل خطاب ، أخي؟» - دكتورة أمل؟ - نعم أليست دكتورة؟ - بالطبع عبد الرحيم باشا، بالطبع، أعتقد أنني أريد معرفة الكثير منك.
كانت مفاجأتي الثانية شعوري بأن عبد الرحيم باشا كان ينتظر تلك اللحظة، كان ينتظر أن يحكي كل شيء، يتخلص من شعور بالذنب ربما، لكن معرفته بكون أمل دكتورة بالجامعة يجعلني أتشوق لأعرف ما يعرفه، تركته يبدأ من حيث يريد ولم أقاطعه، دونت استفساراتي، واستمعت بإنصات.
كنت تنظر لصورة أمي - رحمة الله عليها - ثريا هانم السلحدار، صخرة هذا البيت التي تحطمت عليها آمال الكثيرين، كان الجميع يحارب الجميع ليظهر أكثر جمالا، أو ولاء، لينعم برضاها، إلا كاميليا؛ فقد كانت تحارب الجميع لتحتفظ بعاديتها، عاديتها التي أثارت حقد الجميع، حتى ثريا هانم كانت تغار من احتفاظها بتلك العادية، لم تخالف تقاليد البيت ولم تتطبع بها، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تتجاوز الثالثة والعشرين، حين أتت بوليدتها لمنزلنا، كانت تصغر إسماعيل بثمانية عشر عاما.
ولد إسماعيل وقت هوجة عرابي، تفاءل أبي كثيرا به، نعم كان أبي من الأعيان لكن دماء الصعيد الحارة كانت تجري في عروقه، لكن فرحة أبي لم تتم بدخول الإنجليز مصر؛ فكان الثناء عليه بذكر أحمد عرابي، وكان عقابه بذكر دخول الإنجليز، عادة في أسرتنا ربما من جذور أبي الصعيدية، نحدد الأعوام بالأحداث، حتى نسينا التاريخ ولم ننس الأحداث، بقيت تاريخا لنا. - هل تريد التدخين؟ لدي تبغ ممتاز، يمكنني أن أدعوك لكأس من الكونياك الفرنسي وندخن بعض السيجار سويا بغرفة المكتب. - حسنا.
لم ينتظر إجابتي كاملة، بل قام وبدأ التحرك، لم يتحرك لباب الغرفة، بل اقترب مني وهمس لي: «يمنعونني من الشرب، لكنني أحتفظ بمخزون يكفي لتموين جيوش المملكة المتحدة في غرفة المكتب.» ثم ضحك ببراءة لا تتناسب مع هيئته، قمت معه، سرت خلفه إلى غرفة المكتب، ويا لها من مكتبة ضخمة ومكتب عتيق! جلست على كرسي جلدي ضخم أراقبه، وهو يفتح جزءا من المكتبة ليظهر خلفه خزانة ضخمة أضاءت حين فتحها، أرفف زجاجية، وزجاجات الخمور بألوانها المتعددة، سحب زجاجة من الكريستال، وكأسين من الرف العلوي المليء بالكئوس وأعاد المكتبة كما كانت، وضع الزجاجة والكأسين على منضدة القهوة أمامي، ثم أحضر صندوق تبغ خشبيا، وصببنا الكونياك الفرنسي، وأشعلنا السيجار الكوبي القادم من المملكة المتحدة، وأنا مبتسم لسعادته.
يبدو وحيدا بلا أصدقاء، يريد الحديث، يريد بقائي أطول مدة، أن أسمعه يتحدث، نهر حبيس، وجد شقا ينفذ منه، لا أظنه سيهدأ قبل انهيار السد، تركته يتحدث، وتركت قرار بقائي رهنا بما يقول، ولم أكن أتوقع أن يبقيني كل هذا الوقت؛ فقد غادرت بيته في صباح اليوم التالي، القهوة والكونياك والسيجار وحديث عبد الرحيم باشا خطاب. - كان إسماعيل ابن أبيه، وسر أبيه، لم يكن مثلي، وباقي إخوتنا، كان الأقرب لوالدي والأبعد عن أمي، لم يكن يهتم بالمظاهر أيضا، يبني لغيره، كان وسيما، ذكيا، وكثير العراك مع أمي، كان يدافع عن أبي ويرد غيبته، منذ كان طفلا، ذات مرة كانت أمي تتحدث مع أقاربها عن عناد أبي وإصراره على تحدث الفرنسية بلكنة شعبية تصفها أمي بلكنة الفلاحين، رغم أنه يتحدثها بطلاقة فإنه يصر على إحراجها أمام أقاربها، كانت متعته الظهور أمامهم بمظهر الفلاح الجاهل، يومها قال لها إسماعيل بفرنسية واضحة: «أبي ليس فلاحا، أنت أقاربك الفلاحون، أنا أبي يملك مصانع الغزل والنسيج.» وبعد إطراء ضيوفها على لغته، انطلقت في وجهه اللعنات، ومن خلفه، ولاحقته حتى غرفته: «ستصبح فلاحا مثل أبيك، ستتزوج فلاحة من الخدم، ستسكن مع الخيل وتأكل معهم، أنت لست ابني، أنت ابن أبيك الفلاح.»
كان الحديث يجدد شباب عبد الرحيم، يتغير صوته، يقلد أمه، يقلد إسماعيل، لم يكن يفضح سر أخيه، لكنه يعطيني مفاتيح الأسرار، فإن كشفت السر فسأستحقه، وإن لم أكشفه فقد حفظه، كانت تعجبني طريقته، وكنت أتفاعل معه. - كانت أمي دائمة القسوة عليه، وكان ساخرا مثل أبي، يفجر قنابله أمام ضيوفها الدائمين، وينطلق لغرفته، حتى سافر لدراسة الطب في فرنسا، لا أذكر وقت سفره الأول، لكنه عاد طبيبا، كان له سحر العائد من السفر، سحر من يعرف ما خلف الأفق، يأتي دائما بهذا ، يفعلونه هكذا هناك، دائما لديه ال «هذا» ودائما يعرف ماذا «هناك». لكن لم يفكر أي منا أنه لديه الكثير من الأشياء هنا يحاول نسيانها، وكأن سحره كان غطاء يخفي خوفه من تذكر ال «هنا»، وكان مرض أبي الأول؛ فكان إسماعيل يصرخ: «الأمر بسيط، الأمر بسيط، لن يموت، لن يموت.» راقبته يومها، أعطى أبي دواء وذهب إلى غرفته، ذهبت خلفه لأعرف ما بأبي، كان يبكي، وذهبت دموعه عند رؤيتي، وذهب إسماعيل مرة أخرى لباريس، أذكر تلك المرة كانت وقت اغتيال بطرس باشا، أظنه كان في الثامنة والعشرين من عمره، وظل هناك لا نعرف من أخباره سوى الخطابات، وبطاقات المعايدة، والهدايا التي يرسلها مع الأصدقاء، زاره أبي عدة مرات، كان يسافر للعلاج، لكنه لم يكن مريضا، كان يسافر لرؤيته، أما أمي فحين احتاجت السفر للعلاج ذهبت إلى لندن؛ لتقسو عليه.
Shafi da ba'a sani ba