توقعت أن أنام كالأطفال، لكن فشل توقعاتي لم يكن لسبب أكثر من أن الأطفال لا تشرب الفودكا لتنام. نوم متقطع، أحلام تشبه الصور المرتعشة، لم أجد أي خط يجمعها، حتى قمت في السادسة صباحا، وقررت العودة للإسكندرية مرة أخرى، سأذهب إليها ونتحدث، لا أعتقد أنها ستطلب الزواج، ولكن هناك فرصة أن ينتهي الأمر وقد انتقل أحدنا للعيش مع الآخر، وتنظيم جداول محاضراتنا بالجامعة لن يكون بالأمر العسير، أربعة أيام سويا وثلاثة أيام للجامعة، لم أكن بهذا الحماس من قبل.
لم أتأثر بالزحام؛ فقد كنت أفكر في تلك المرأة الخليط بين آلهة طيبة والأوليبمس، كيف أحال النيل رخام الأكروبوليس لتلك الخصوبة؟ هي لا تتحدث كثيرا، أعرف حالتها من درجة حرارة جسدها، عيناها نصف المشتعلتين، نصف المستسلمتين، لديها النصف من كل شيء، ولديها مذاق في كل نصف، لم نتحدث قط عن الأمس؛ أي أمس، لم نتحدث أيضا عن المستقبل؛ أي مستقبل، فقط أكون أنا وتكون هي، واللحظات بيننا تختفي ما إن تتم، وغير جرح كفينا، ليس لدينا من أول أمس سوى بعض الجروح بجسدي، وبعض أنسجتي خلف أظافرها.
بعد خروجي من المحطة كان صوتها يصدح بعقلي «الشاطبي»، هكذا قالتها هي لسائق الأجرة، وهكذا قلتها أنا أيضا وتدثر وجهي بابتسامتها، ترجلت من السيارة حيث ترجلنا، وصعدت السلم كما صعدنا، لم أكن وحدي؛ فما زال برفقتي بعض من رائحتها، وطيف يجتاحني ويحتوي أطرافي، كدرع يحميني من الموجات المتلاطمة برأسي، لم أجدها بالبيت، لم أصب بإحباط، لم يهدأ حماسي، نزلت مرة أخرى فكان البحر في مواجهتي، مبتسما، لم أشعر بود ابتسامته، ابتسمت له متمتما: «إلى متى ستغطي سيرابيس أيها البحر؟» بالطبع لم يجبني لكنه تعمد منحي بعض البلل بزفرة طويلة لأمواجه طالتني حيث جلست على مقعد حجري مواجها لبيتها، تمتمت ثانية: «هل يطعن سيرابيس من الخلف؟» وربما كانت الحقيقة أنني أحتاج تلك الزفرة في هذا النهار الحار، لم أكن أفهم كيف يراني سيرابيس بعد.
لم يكن الانتظار متعبا رغم طوله؛ فكنت أشعر أنني الأمير «باريس» في انتظار رؤية «هيلينا» لأبحر بها من إسبرطة، لم أثق قط في أفروديت، هي كعشتار، تملك تام، ثم تخل تام، أميل أكثر لأثينا، وربما هيرا أيضا، لكنني الآن في انتظارها، عاشقة سيرابيس الغارق، سعيد بهذا السيرابيس؛ فلا يوجد له ذكر إلا بهذا المعبد الغارق خلفي، ولا يعرفه أحد سوانا وبطليموس الأول، أعتقد أن بطليموس سيحفظ السر؛ فلن أشعر براحة، ونحن سويا، والبطالمة يتهامسون أنها معشوقة سيرابيس.
كنت أراقب سيارات الأجرة التي تقف أمام البيت؛ فمن إحداها ستخرج أمل؛ نسمة برية تنفلت من إعصار، انتظرت لما بعد انتصاف النهار ولم تأت، توقفت سيارة سوداء، فارهة، حديثة، لا تتناغم مع المبنى بأي حال من الأحوال، ونزلت منها سيدة، أمل؟ لا ليست هي، نعم هي، لم أفهم تلك الخدعة، لم ترتدي هذه الملابس الغريبة؟ قميصا بأكمام بلون بنفسجي، شالا على رقبتها، يبدو من الحرير البرتقالي، وتنورة سوداء، واسعة، وتصل لكعبيها، حذاء بكعب؟ لا أتحمل سخافة ما يحدث، لا أتحمل ما فعلته بشعرها، عبرت الشارع دون تردد، لألحق بها قبل أن تدخل المبنى: «أمل، ما هذا؟» قلتها بصوت خافت لكنه حاد ... التفتت مندهشة قائلة: «عفوا!» اتسعت حدقتاي رغما عني، لم تكن عيني أمل، ليست عينيها، ليست هي، تمتمت معتذرا، وهمهمت هي غاضبة، واختفت داخل المبنى، سمعت صوت محرك السيارة فالتفت وهي تختفي بجراج المبنى المجاور، لم أجد من أوجه له دهشتي سوى البحر.
عبرت الطريق مرة أخرى وجلست في مقعدي الحجري، في مواجهة البحر هذه المرة، ومفاجأتي خلفي، كان البحر يبدو ساخرا، باسما، وشعرت أن سيرابيس يرقص في أعماقه، وددت لو بوسايدون يزيده غرقا فوق غرقه، يكفي أنه كان مسخا؛ فلم يكن إغريقيا نقيا، ولم يكن مصريا نقيا، بل كان مجرد شذوذ بعض الآلهة بعقل بطليموس الأول، من هي؟ اللعنة على الأوليمبس وعلاقتها بهم، مرت برأسي كل ألاعيب آلهة الإغريق، حتى أفروديت اللعوب ذات الألف وجه، هي كوثيريا، وإروكينا، وكوبريس، وبافيا، وأورانيا، وبنديموس، وبيلاجيا، وأنادوميني، ولدت من زبد هذا البحر، المخلوط بأعضاء أورانوس المبتورة، لم لا تكون أمل مثلها؟ بألف وجه كأفروديت، لم أكن لأتصرف بعند أدونس، وأرفض أن أترك الصيد أمام جبروت جمالها، كنت سأتركه، كنت سأترك كل شيء لعينيها، لكنه كان أيضا محظوظا فعاش نصف حياته بصحبة أفروديت، والنصف الآخر بالعالم السفلي، مرة أخرى يتوقف عقلي عند فكرة الحياتين، حياة، وحياة، هي مستها لعنة الأساطير الإغريقية فصارت لها حياتان: حياة برفقتي، والأخرى برفقة سيرابيس؟ هل يقبل سيرابيس هذا الذوق الرديء؟ شالا من الحرير البرتقالي؟
كعادته لم يجب البحر تساؤلاتي، وكأن بوسايدون أمره أن يلتزم الصمت، كانت الأفكار تتزاحم برأسي وأنا أسير بمحاذاة البحر، انتقلت من صدمة المفاجأة لاستعذاب الفكرة في مسافة ليست بالطويلة؛ فعلى مشارف محطة الرمل كنت شبه مبتسم للفكرة؛ فبعد خوفي من عدم الاكتفاء بأمل أصبح هناك اثنتان منها؛ من السهل أن أراها أرتيميس إلهة الصيد وربة القمر، في الصباح ترتدي رداء الصيد القصير بدون أكمام، وفي الليل ترتدي رداء طويلا وخمارا على الرأس، كنت أتساءل عن مدى معرفة إلهة الصيد بربة القمر، هي لم تتعرف علي بشالها البرتقالي، فقط يجب الاطمئنان أنهما لا تشكلان خطرا عليه، عرفت ما يجب فعله.
كنت أشعر بجزء مني يتحول لمحلل نفسي، وينزوي جانبا بعيدا عن بدائية الفنان وهمجيته كما يراها، وجزء آخر يتحول لمسئول إداري يحدد الاحتياجات المطلوبة للخطة، ولم يختف مني الفنان؛ فكان له دور البطولة في إلياذتي الخاصة، عدت ثانية لبيت أمل، لم يكن الحصول على شقة مقابلة لشقتها بالمبنى المجاور بالأمر الصعب، كانت شقة عمودية على البحر لها شرفة كبيرة على البحر وكل نوافذها تطل على شقة أمل، طابق أعلى يتيح المراقبة، لم يكن بها هاتف، أثاثها فقير، لكنها تفي بالغرض تماما، استأجرتها لعام، نزلت مرة أخرى وتركت لمدير الاحتياجات تولي الأمور، بداية من مخزون الطعام والعصائر والنبيذ، حتى أوراق الرسم وأصابع الفحم والألوان وريشات الرسم، ثم تولى المحلل النفسي شراء مجموعة من الكتب والمراجع، ولم يحرم المخبر السري فرصته بالحصول على آلة تصوير حديثة وحامل وتليسكوب، وفي لا وقت يذكر حولت شقتي الجديدة لورشة لا تختلف محتوياتها كثيرا عن ورشتي في القاهرة.
كانت الرؤية واضحة من خلف عدسة التليسكوب، أراها الآن داخل بيتها، أمل كما أعرفها، أرتيميس إلهة الصيد، قميص بدون أكمام يرتفع عن الركبة بقليل، حافية القدمين، تتحرك بحرية بعد غياب الشمس، أعدت طعاما خفيفا؛ بعض الخضروات غير كاملة النضج وكأنها نباتية، ثم طهت قطعة من اللحم بمشواة مستوية بمطبخها وكأنها من الكواسر، وضعت طبقيها على طاولة بفراغ المعيشة، ثم توجهت لباب الشرفة المطلة على البحر، فتحتها، ورجعت خطوة للخلف، وقفت، وأسقطت قميصها، لم تكن ترتدي شيئا تحته، وقفت لحظات وكأنها تقوم بطقس خاص، ربما صلاة الطعام، تطلب بركة بوسايدون أو ربما معشوقها سيرابيس، كنت أتأملها في لحظات صلاتها الصامتة، لم يكن عريها مثيرا بقدر ما كان جميلا، أثارت بدائيتها يدي لتتحرك بأصابع الفحم بسرعة على الأوراق لترسم أمل عارية تواجه البحر، لا تختلف في وقفتها عن أفروديت، فقط أكثر سمرة، ذهبية هي. قبل أن أنتهي من تفاصيل ما أرسم انثنت ركبتاها لتلتقط قميصها، لتصنع تمثالا جديدا، وكأنها أندروميدا مقيدة بالصخرة قبل أن ينقذها بيرسيوس من الوحش، لم أتمكن إلا من رسم خطوطها الخارجية دون تفاصيل، أدارت بعض الموسيقى، لم أكن أسمع ما تسمعه لكنني كنت أشعر بها، جلست، تناولت طعامها باستمتاع، غسلت الأطباق، عادت فأغلقت الشرفة، وتحركت، بيدها كتاب، لغرفة جدتها، تمددت بالفراش، قرأت قرابة الساعة ثم وضعت الكتاب بجوارها، وابتسمت لسقف الغرفة وكأنها تلقي التحية على هوبنوس إله النوم ثم تغمض عينيها.
كنت أدون ما تفعله في دفتري بعدما قسمته لقسمين: أحدهما بعنوان «أرتيميس إلهة الصيد»، والآخر بعنوان «أرتيميس ربة القمر».
Shafi da ba'a sani ba