Articles from Dorar.net
مقالات موقع الدرر السنية
Mai Buga Littafi
موقع الدرر السنية dorar.net
Nau'ikan
ـ[مقالات موقع الدرر السنية]ـ
المؤلف: مجموعة من المؤلفين
الناشر: موقع الدرر السنية dorar.net
عدد الأجزاء: ٣
[الكتاب مرقم آليا]
Shafi da ba'a sani ba
من روائع المقالات القديمة
1 / 1
السياسة الرشيدة في الإسلام
محمد الخضر حسين (ت:١٣٧٧هـ)
١ ربيع الثاني ١٤٣٣هـ
أتى على العالم حين من الدهر، وهو يتخبَّط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم- صلوات الله عليه- بعزم لا يحوم عليه كلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض؛ فأخذ يضع مكان الباطل حقًّا، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آدابًا أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلَّى بها العدل في أحسن رُواء، وأرفع سناء.
وضع الإسلام للسياسة نظامًا يقطع دابر الاستبداد، ولا يُبقي للحيف في فصل القضايا، أو الخلل في إدارة الشؤون منفذًا.
أوصى الرعاة بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وآية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٣٨].
ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، وإسدائهم النصيحة فيما تراه غير واقع على وجه الاستقامة، فقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤].
ولم يكن الأمراء الراشدون - احترامًا لهذا القانون الإلهي - يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين، وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر بن الخطاب، وهو يخطب على منبر المسجد الجامع، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأيٍ عَزَم على أن يجعله قانونًا نافذًا، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق على بينة: (أصبت)، ويرد على من أخطأ في المناقشة ردًّا جميلًا.
وإن شئت مثلًا من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته برودًا ضافية؛ فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتًا تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة، حتى اهتزَّ لها طربًا، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة، ثم قال:
يا باني الزهراء مستغرقًا
أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقًا
لو لم تكن زهرتها تذبل
فما زاد الناصر على أن قال: (إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسُقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله)، فقال منذر: (اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي).
في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطَبه التي كان يلقيها على منبر الجامع، ويتصدَّى فيها لنقد بعض أعمال الدولة، ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغرَّاء، ودرس تاريخ الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة، حتى يمتطوا منصب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكوِّنوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولِّي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مثل ذلك الخليفة العادل أن الدولة لا تحرز مجدًا خالدًا، وسمعة فاخرة، إلا أن تعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فسيحًا.
يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادها بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحقٍّ، ومعلم البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء، من وضع لطاعة الرؤساء حدًّا فاصلًا، فقال: «إنما الطاعة في المعروف»، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال صلوات الله عليه: «أيها الناس! إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها».
كم ظهر في البلاد العرب من سيد بلغ في الرياسة أن أحزر لقب مَلِك؛ كآل جفنة، وآل غسان، وربما وُجِد من بينهم من لا يقلُّ في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق ﵁، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!.
لا عجب أن يمتطي ابن خطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته، التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدولة المستبدة، وسيرة الخليفة الذي ينام في زواية من المسجد متوسِّدًا إحدى ذراعيه.
إن هو إلا الإسلام، أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمدَّ آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدع عند عشاق السياسة القيمة من مناظر الروضة الغناء.
تدرَّب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول- ﵊ من الحكم السامية؛ كحديث: «الحرب خدعة»، أو ما يشاهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجارية عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يُسمِّيه له، وقد جاء في (صحيح البخاري) وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة- ﵊ ناول عبد الله بن جحش- وهو أمير نجد- كتابًا، وقال له: «لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا»، فلما بلغ عبد الله المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضِمنه من الأمر.
إن اختلاف الأمم في عادتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها وأنظمتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها، حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئًا، أو يردها على عقبها خاسرة، وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، ويسير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]. وحديث: «البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه»، ودلَّ على كثير منها بأصول عامة يستنبطها الراسخ في العلم بمقاصد الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المقاصد والمصالح.
وإن شريعة تقوم على قواعد: (الضرر يُزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكَّمة)، ويقول أحد العظماء من فقهائها: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسات) لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله الزيغ الجامد على مناوءتها.
_________
اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط١، ١٤٣١هـ، (١٠/ ٤٥٩١).
1 / 2
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات
محمود محمد شاكر
نُشر عام ١٩٣٨م
نحن شعوب متخاذلة، قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سِنَةِ النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط، التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة، التي خُلِق من أجلها الإنسان على الأرض.
أجل .. وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يُتقنها، ويستجيدها، ويُطهِّرها من أدران البلاء، التي تعصف بإنسانية الإنسان، كما تعصف الريح بأوراق الشجر؛ فَلِمَ لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهَى بها، وتبدو في زينتها؟
هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمَّت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين، كأنما نرى معجزة تحقِّقها أيدي مَرَدَة من الجن، ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب.
إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزًا وهلعًا واستكانة ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل.
إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفًا ظاهرًا لمن يتأمل.
هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملؤها حديدًا، ونارًا، وضجيجًا في الأرض، وصخبًا طائرًا في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدَّة مهيَّأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مُقْعِيَة متربصة، تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.
إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلُّح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كلِّ ما يمسُّ الاستعداد الحربي.
ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها- مع الإسراع في تنفيذها- سوف تؤدي حتمًا إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشرِّ جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوِّه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلًا في العالمين.
ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها- لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانيةُ بانهزام الباطل، وانتصار الحق، وإن ضحَّت في سبيل ذلك بالملايين من البشر، الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمَّة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح، تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به.
ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغيٌ؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضَرَرَ العلم أكبر من نفعه [أي العلم المادي]، وأن الشقاء قرينٌ لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يُستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردَّهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!.
هذه أوربَّا التي نفضتْ على كلمة (الحرية) من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدتْ فتنةً يتهاوى في فتونها كلُّ غاوٍ وحليم- تثبتُ للناس أن (الحرية) كلمة ضامرة ضعيفة، لا معنى لها، ولا حياة فيها.
ولعل التاريخ كله لم يشهدْ عصرًا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة- مع كثرة دورانها على الألسنة- مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كلِّ ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السرِّ، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي، وحرية الضمير.
في فرنسا- باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كلِّ بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبدُّ به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة الحرية.
إن كلَّ عمل، بل كلَّ رأي، بل كلَّ فكر، بل كلَّ شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطًا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة، تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالحَ كلِّ شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوَّه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتدُّ بها إلى وحشية الغرائز الدنيا، التي تتحكَّم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا رويَّة.
هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية، التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية، وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمدُّ كلَّ هذه بأكبر أسباب الفساد، ألا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سرِّ الحقيقة في كلِّ ما تتناوله بالبحث والتحليل.
أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتزُّ، ويمتدُّ بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تُهَيِّئُه ضرورةُ الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتُهيِّئه طبيعتُه الموروثةُ للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتُهيِّئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى؛ تقوى الله في عمل الدنيا، وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يَسِمُ بها مدنيته الجديدة التي يَتهيَّأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط١، ٢٠٠٣م، (٢/ ٨٠٩)
1 / 3
حالة المسلمين
محمد البشير الإبراهيمي (ت ١٣٨٤هـ - ١٩٦٥م)
نشر عام (١٣٧٢هـ)
تردَّد على أقلام الكتَّاب العرب وعلى ألسنة خطبائهم منذ عهد قريب، كلمات: (الوعي)، (اليقظة)، (النهضة)، منسوبة إلى الإسلام أو مضافة إلى المسلمين، والكلمة الأولى منهن حديثة الاستعمال في المعنى الاصطلاحي المراد منها، وإن كانت عريقة النسبة في معناها الوضعي، و(الوعي) في معناه الاجتماعي الذي يعنيه هؤلاء الكتَّاب والخطباء؛ إدراكٌ بعد جهلٍ، و(اليقظة) في قصدهم تنبُّهٌ بعد غفلة، و(النهضة) معناها حركةٌ بعد ركود.
فهل هذه الأقلام والألسنة متهافتة في هذه الكلمات تصف حقيقة، أم تصور خيالًا؟ فإن الصفات لا تتحقق إلا بظهور آثارها في الخارج، وبشهادة الوقع الذي لا يمارى فيه لها.
والوعي الحقيقي: يصحبه رعي ويعقبه سعي، واليقظة الحقيقية: يصحبها علم لا هوينا فيه، ويتبعها عمل لا تردد فيه، والنهضة الحقيقية: يصحبها حزم لا هوينا فيه، ويتبعها عزم، ويسوقها إقدام لا إحجام فيه، إلى غاية لا اشتباه فيها، وهل هذه الآثار وهذه الدوال موجودة حقيقة في المجتمعات الإسلامية؟
لا نثبت فنكون متفائلين في موضوع لا ينفع فيه التفاؤل، ولا ننكر فنكون مثبطين في مقام ينفر فيه التثبيط، إنما نقول مقررين للواقع إن شاء الله: إن المعاني الحقيقية للألفاظ الثلاثة لا تظهر إلا إذا سبقتها إرهاصات أو أمارات، كما يسبق الفجر طلوع الشمس، وأدلُّها تقارب القلوب وتعارف الشخوص، أو تجاوب الشعور، وتجانس الأفكار، وتعاطف الأرواح، وتهيؤ الطباع إلى الاستحالة من صبغة إلى صبغة، وإلى الانسلاخ من جلدة إلى جلدة، وصدق التوجيهات من النتائج إلى المقدمات، ومن الوسائل إلى الغايات، وسهولة التغلُّب على المضائق، وسرعة الاستجابة إلى داعي الحق إذا دُعيَ إليه، وخفَّة الإقدام إلى الأمام، وتلمُّس القيادة الرشيدة، والشعور بالحاجة إلى توحيدها، وغير ذلك من العوارض التي تظهر لمثل هذه الأطوار من حياة الأمم، وهل هذه الإرهاصات موجودة؟ نعم يوجد بعضها القليل، ولكن آفته الكبرى أنه متَّجه إلى غير القبلة المشروعة، وإن الرياح تسوق سُحُبه إلى غير أرضنا!!
لنخرج من النفاق الغرَّار الخادع إلى الصدق والصراحة فنقول: الموجود من تلك الأشياء الثلاثة هو السماء مفسرة في الغالب بغير معانيها، مصوَّرة بغير صورها الحقيقية، وإذا فسد التصور فسد التصوير؛ لأننا ما زلنا نبني تصوراتنا على أُسس من الأماني، ونزجها بالفال ومعاني الفال، فلا تنتهي بنا إلى الأعمال، وإنما تنتهي إلى الخيال ثم إلى الخبال، وما زلنا على بقية من الافتتان بالتفسيرات القاموسية التي تقول لنا مثلًا: إن اليقظة هي الصحو من النوم، ولو أن نائمًا صحا من نومه صحوًا كاملًا، ولم يبق في أجفانه فتورٌ ولا ترفيفٌ، ولكنه بقي في مضجعه لم يعمل عملًا، ولم يأت شيئًا من مستلزمات الصحو ونواقض النوم، لكان هذا كافيًا في تحقيق المعنى القاموسي، ولكنه لا يفيد المعنى الاجتماعي، بل يُعد كما لو كان يغطُّ في نومه، وكذلك تقول في معنى اليقظة ومعنى النهضة، تصحيح معاني هذه الكلمات يستلزم إصلاحًا شاملًا للمفاسد النفسية، ويتغلغل إلى مكامن الأمراض فيها، فيطهرها ليبني العلاج على أصلٍ صحيحٍ وإلى عروق الشر منها، فيمتلخها ليأمن النكسة، ومردُّ ذلك كله إلى الأخلاق، فهي أول ما فسد بيننا، فتكون أول ما أفسد علينا كل شيء، فلتكن هي أول ما نصلح إن كنا جادين في تثبيت الوعي واليقظة والنهضة ... لأن الأخلاق إذا استقامت تفتَّحت البصائر للوعي وتهيَّأت الشواعر لليقظة، وانبعثت القوى للنهضة. فكان الوعي بصيرًا، وكانت اليقظة عامَّة، وكانت النهضة شاملة وكانت الحياة لذلك كله كاملة.
نعترف أن نومنا كان ثقيلًا، وبأن عمر أمراضنا كان طويلًا، نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه لا بصوتٍ يصخ أو بضرب يصك، وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم، قد يفضي إلى البتر أو القطع، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم، ومما كانوا به مثلًا في الآخرين. ولكننا لم نصحُ من نومٍ إلا لنستغرق في نومٍ، ولم ننفلت من قبضة منوِّم؛ إلا لنقع في قبضة منوِّم، صحونا من نوم الاتكال، فنُقِلنا إلى نومِ التواكل، وخرجنا من نوم الجهل ومن نوم الركود إلى طفرةٍ تدق الأعناق، وانفلتنا من تنويم تجار الدين، فوقعنا في تنويم تجار السياسة، أولئك يمنُّوننا بسعادة الآخرة من دون أن يسلكوا بنا سبيلها الواضحة، وهؤلاء أصبحوا يُغنُّون لنا .. بسعادة الدنيا دون أن يدلُّونا على نهجها الصحيح، وكانت العاقبة لذلك كله ما نرى وما نحس وما نشكو.
وما أضلنا إلا المجرمون الذين يدعونا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرَّقوه إلى مذاهب وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشُّون الذين بدَّلوا المشرب الواحد، فجعلوه مشارب .. فهل هبَّةٌ من روح الإسلام على أرواح المسلمين، تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت؟ وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق، على الأسس التي وضعها محمد ﷺ، ولا مطمع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع، فلا يرى إلا أخًا يشارك في الآلام والآمال .. فهو حقيق أن يشاركه في العمل.
إن الوسائل إلى هذه الغاية كثيرة، وأقربها نفعًا، وأجداها أثرًا أن تُربَّى الأحداث من الصبا على غير ما ربَّانا آباؤنا، وأن نحجب عليهم نقائصنا، فإن اطَّلعوا عليها سميناها باسمها، وأنها نقائص وأنها سبب هلاكنا، وحذَّرناهم من التقليد لنا فيها، فإذا شبُّوا على هذه الهداية سلكنا بهم سبيل الحق الواحدة، ووجَّهناهم بتلك القابلية إلى وجهةٍ واحدة، وحميناهم من هذه التيارات الفكرية التي تتجاذبهم، ومن الذئاب الغربية التي تتخطفهم.
إن شبابنا اليوم يتخبط في ظلماتٍ من الأفكار المتضاربة، والسبل المضلة، تتنازعه الدعايات المختلفة التي يقرأها في الجريدة والكتاب، ويسمعها في الشارع وفي المدرسة، ويرى مظاهرها في البيت وفي المسجد. وكل داعٍ إلى ضلالةٍ فكريةٍ أو إلى نحلةٍ دينيةٍ مفرِّقةٍ، يرفع صوته، ويجهر ويُزيِّن ويغري ويعد ويُمنِّي ونحن ساكتون؛ كأن أمر هؤلاء الشبَّان لا يعنينا، وكأنهم ليسوا منا ولسنا منهم! ولا عاصم من تربيةٍ صالحةٍ موحَّدةٍ، يعصمهم من التأثر بهذه الدعايات، ولا حامي من مذكِّر أو معلِّم أو مدرسة أو قانون يحميهم من الوقوع في هذه الإشراك.
إن شبابنا هم هدف هذه الدعايات، وهم ميدان الصراع، وموضوع النزاع بين دعاة الفكرة الجامعة، وصوتهم ضعيف، وعملهم ضئيل، وبين دعاة الشيوعية والإلحاد والوطنية الضيِّقة والعنصريات المحدودة وأصواتهم عالية وأسنادهم قوية، ومحركهم الأول واحد، وإن لم يشعروا به أو غالطوا أنفسهم وغالطونا فيه، وما هم إلا أسلحة في يده موجهة إلى شبابنا، إن لم يُصِب بواحد منها أصاب بالآخر، وهو الظافر على كل حال، إن لم تعالجه بما يبطل كيده ويفلُّ أسلحته كلها، وهو حماية هذا الشباب وتحصينه بالمعوذات من فضائل الإسلام وأخلاقه وروحانيته، وإن فيه العوض المضاعف عن كل ما تمنِّيه به الدعايات الخارجية.
إذا كان الشباب لا يفهم الدين من البيت ولا من المسجد ولا من المدرسة ولا من المجتمعات، فإن فهم شيئًا منه في شيء منها؛ فهِمه خلافًا وشعوذة وتخريفًا، ففي أي موضع يفهم الإسلام على حقيقته طهارة وسموًّا واتحادًا وقوة وعزة وسيادة؟ إن عاملناه بالإنصاف نقول: إنه معذور إن زلَّ وضلَّ بالانسياق مع هذه التيارات الخاطئة، التي تختلف بالأسماء والمبادئ، وتتفق في الغاية، وهي حرب الإسلام في أبنائه لتحاربه بعد ذلك بأبنائه
وإذا كان الشاب يجلس إلى أبويه وذويه فلا يسمع إلا المذهب والخلاف، ولمز المخالفين بالمذهب قبل المخالفين بالدين، ثم يجلس إلى العالم الديني فلا يسمع إلا (عندنا وعندهم)، ثم يجلس في المدرسة فلا يسمع ذكرًا للإسلام، ولا تمجيدًا لمبادئه وعظمائه وتاريخه، ولا يرى فيها شيئًا من مظاهره، بل لا يسمع إلا تحقيرًا لماضيه وغضًّا من أمجاده، إذا كان لا يسمع في مضطربه إلا هذا، ولا يرى إلا هذا، فكيف نطمع أن ينتصر مع هذه الدعايات الجارفة؟ إننا حين نطمع في هذا لفي غيٍّ بعيد
إن شبابنا لجهلهم بالإسلام أصبحوا لا يثقون بماضيه، وكيف يثقون بماضٍ مجهولٍ وهذا حاضره؟!!
أم كيف يدافعون عن هذا الماضي المجهول إذا عرض لهم الطعن فيه في الكتاب الطاعن؟ أم سمعوا اللعن له من الأستاذ اللاعن؟ أم كيف يفخرون بالمجهول إذا جُلِّيت المفاخرُ الأجنبية في كتابٍ يقرِّره قانون ويزكيه أستاذ؟!
اعذروا الشبَّان ولا تبكوا على ضياعهم، فأنتم الذين أضعتموهم، ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم!.
أهملتموهم فذوقوا وبال الإهمال، وأنزلتموهم إلى اللجة، وقلتم لهم: إياكم أن تغرقوا .. ثم استرعيتم عليهم الذئاب، ومن استرعى الذئب ظلم ..
لا أحمق منا: نلقِّن أبناءنا الخلاف في الدين والدنيا بأعمالنا؛ ونقول لهم بألسنتنا: اتحدوا!!
وإنَّ صالحةً يأخذها الابنُ عن أبيه بطريق القدوة خير من ألف نصيحة باللسان.
النهضاتُ الصادقة تبدأ من الأخلاق، وتنتهي إلى الأخلاق، وما زادت بحوث الفلسفة ماضيها وحاضرها في الأخلاق شيئًا على ما جاء به الإسلام، وأقرَّته الفطر السليمة، ويزيد الإسلام على هذه الفلسفات، ويشق بقوة العرض للفضيلة والتشويق لها وشرح آثارها في الفرد والجماعة وبيان صلتها الوثيقة بالأقانيم الثلاثة: الحق والخير والجمال.
وإن شعراء العرب الفطريين لأدقُّ تصويرًا للفضائل، وأصدقُ تعبيرًا عليها، وتفسيرًا لآثارها، وحثًّا على التحلِّي بها من جميع الفلاسفة النظريين، وقد أثَّرت المادياتُ في هذا العصر على عقول فلاسفته، ورانت عليها العصبيات الجنسية والإقليمية، حتى انعكس نظرهم في فهم الفضيلة، فسمَّوْها بغير اسمها! فأصبحت القوة فضيلة يُدعى إليها بدل الرحمة، والظلم فضيلة يتمجد بها بدل العدل، والاستعباد فضيلة يُتغنى بها بدل الحرية، وكل هذا يدل على أن الفضيلة في نظر الفلسفة العملية الجديدة هي لباسٌ للعقل، لا نبع منه، وأنها خاضعةٌ للحُكم لا للحكمة.
أما الفضائل في نظر الإسلام وحكمه: فإنها صبغةٌ لا تتحول وحقيقة لا تتغير ولا تتبدل، فالصدق في معناه الإسلامي هو الصدق؛ لا تتصرف في معناه المصالح والمنافع، ولا تتلاعب به الأهواء والمطامع، والوفاء هو الوفاء، والعدل والإحسان والرفق والعفو عند القادر، كل أولئك من الفضائل الثابتة ثبوت الحقائق، لا تنال منها تصاريف الأيام، ولا يتصور أن يأتي على الناس يوم تُجمع فيه عقول العقلاء على أن الصدق مثلًا رذيلة، تصِمُ صاحبها بالذم، إلا إذا جوَّزنا مجيء يوم يخرج فيه الكون من تدبير الله إلى تدبير الشيطان، ويكون أفضل الذكر فيه أن يقال كلما ذكر الشيطان: ﵁!!
فالموازين القرآنية للفضائل هي التي يجب أن تحكم في العقول، حتى تأمن على الفضيلة ما يجري بيننا على (الأوراق النقدية) ونحن أهل القرآن أحق الناس بالدعوة إلى هذا وتبيينه ونشره في هذا العالم المضطرب، الذي فقد الفضائل الإنسانية، فانحدر إلى حيوانيةٍ عارمةٍ، تُوشك أن تفضي به إلى الفناء.
نحن أهل القرآن الذي وضع الموازين القسط للفضائل، وحثَّ عليها، وجعلها أساسًا للسعادة، وسلَّمًا للسيادة- أولى الناس بأن نزن النهضات بحظوظها من الفضائل، وأن نبني بأيدينا أساس نهضتنا على صخرة الفضائل، طبقًا عن طبق، ونحن- لو أجَلْنا بصائرنا في القرآن- أبعد الناس عن فساد التصوُّر في تسمية هذه الحركات المتهافتة في المجتمعات الإسلامية نهضة.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) «٤/ ٢١٩»، دار الغرب الإسلامي، ط١، ١٩٩٧م.
1 / 4
وحي القبور
مصطفى صادق الرافعي (ت ١٣٥٦هـ - ١٩٣٧م)
ذهبتُ في صبُح يوم ... أحملُ نفسي بنفسي إلى المقبَرَة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيِّتٌ واحد؛ فكنت أمشي وفيَّ جنازةٌ بمُشَيِّعيها؛ من فكر يَحملُ فكرًا، وخاطر يتبع خاطرًا، ومعنىً يَبكِي، ومعنىً يُبكَي عليه.
وكذلك دأبي كلما انحدرتُ في هذه الطريق إلى غير ذلك المكان، الذي تأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب إلى بقايا.
تلك المقابر التي لا يُنَادَى أهلُها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزانَنَا!
ذهبتُ أزورُ أمواتي الأعزاء، وأتصل منهم بأطراف نفسي؛ لأحيا معهم في الموت ساعةً، أعرض فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرَّف وأتوسَّم [أستطلع]، ثم أستبطِنُ مما في بطن الأرض، وأستَظهِرُ مما على ظهرها.
وجلست هناك أُشْرِفُ من دهرٍ على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرةُ أفراحها القديمة؛ لتجعلَها مادةً جديدة لأحزانها، وانفتح لي الزمن الماضي، فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهرًا كاملًا خُلق بحوادثه وأيامه، ورُفع لعينيَّ كما ترفع الصورة المعلقة في إطارها.
أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قطُّ إلا أنهم غابوا، والحبيبُ الغائبُ لا يتغيَّرُ عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه، مهما تَراخَتْ به الأيام [امتدت]؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يُمحَى؛ لأنها هي خالدة لا تُمحى.
ذهب الأموات ذهابهم، ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مرُّوا بالدنيا ليس غيرُ، فهذه هي الحياة حين تعبِّر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها.
الحياة مدةُ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات، إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوَّغُ كل إنسان جانبًا منه، ثم يقال له: هذه الأداة فاصنع ما شئت: فضيلتَك أو رذيلتَك.
جلست في المقبرة، وأطرقت أُفكر في هذا الموت، يا عجبًا للناس! كيف لا يستشعرونه وهو يهدم من كل حي أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته، وما زال كل بنيان من الناس به كالحائط المُسَلَّطِ عليه خرابه، يتأكَّلُ من هنا، ويتناثر من هناك؟!
يا عجبًا للناس عجبًا لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاع وهي مدة عمل؟ وكيف لا تبرح تنزو النَّوازِي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تَدَافَعوا بينهم قضيةً من النزاع، فضربوا خصمًا بخصم، وردُّوا كيدًا بكيد، جاء حكم الموت تكذيبًا قاطعًا لكل من يقول لشيء: هذا لي؟
أما والله إنه ليس أعجب في السخرية بهذه الدنيا من أن يعطي الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحدًا منهم لا يملك منها شيئًا؛ إذ يأتي الآتي إليها لحمًا وعظمًا، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحمًا وعظمًا، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السِّكِّين القاطعة.
تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفرُّ فرارها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنةً فإنما مضت هذه العشرون من عمره، ولقد كان ينبغي أن تُصحَّح أعمال الحياة في الناس على هذه الأصل البيِّن، لولا الطباع المدخولة، والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة، والشهوات العارمة؛ فإنه مادام العمر مقبلًا مدبرًا في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوبًا له ومحسوبًا عليه في وقت معًا، وتكونُ الحياة في حقيقتها ليست شيئًا، إلَّا أن يكونَ الضميرُ الإنسانيُّ هو الحيَّ في الحيِّ.
وما هي هذه القبور؟ لقد رجعتْ عند أكثر الناس مع الْمَوتى أبنية ميتة؛ فما قطُّ رأوها موجودةً إلا لينسَوا أنها موجودة، ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحي المتغلغل في الحياة إلى بعيد؛ فما القبر إلا بناء قائم لفكرة النهاية والانقطاع، وهو في الطَّرَف الآخر ردٌّ على البيت الذي هو بناء قائم لفكرة البدء والاستمرار، وبين الطَّرفين المَعْبَد، وهو بناء لفكرة الضمير، الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صُلحًا أو يَقضى.
القبر كلمة الصدق مبنيةً متجسِّمةً، فكل ما حولها يَتَكَذَّب ويتأوَّل، وليس فيها هي إلا معناها لا يَدْخُلُه كذبٌ، ولا يعتريه تأويل، وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور، أو باطل، أو غفلة، أو أثرة، بقي القبر مذَكِّرًا بالكلمة، شارحًا لها بأظهر معانيها، وداعيًا إلى الاعتبار بمدلولها، مبيِّنًا بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية.
القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمرَ الماضيَ كأنه غير ماض، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة بما يملؤها من رذائله وخسائسه؛ فلا يزال دائبًا في معاني الأرض واستجماعها والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تِلْوَ الحيوان ويقْتَاسُ به، فشريعته جَوْفُه وأعضاؤه، وترجع في ذلك حيوانيتُه مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سُئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حِماري.
القبر على الأرض كلمةٌ مكتوبةٌ في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حيٌّ في قانون نهايته؛ فلينظرْ كيف ينتهي.
إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبارُ بها والجزاء عليها، فالحياةُ هي الحياةُ على طريقة السلامة لا غيرها، طريقةِ إكراه الحيوان الإنسانيِّ على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلِها أصلًا في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها؛ إذ كانت روحانيتُه في النهايات لا في بداياتها.
في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتًا تعملُ أعمالَها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمالُ الإنسان ذاتًا يُخَلَّد هو فيها؛ فهو من الخير خالدٌ في الخير، ومن الشر هو خالدٌ في الشر؛ فكأن الموتَ إنْ هو إلا ميلادٌ للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتيةً وراجعة.
وإذا كان الأمرُ للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهاياتٌ كثيرة؛ فلا يترك الشرُّ يمضي إلى نهايته بل يُحسَم في بدئه، ويُقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأنُ في كل ما لا يَحسنُ أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتدَّ: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب، وما شابه هذه أو شابَهَهَا؛ فإنها كلَّها انبعاثٌ من الوجود الحيواني، وانفجارٌ من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبرٌ كَيْ تَسْلَم للنفس الطيبة إنسانيتها إلى النهاية.
يا مَن لهم في القبور أموات!
إن رؤيةَ القبر زيادة ٌفي الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكونَ معنى القبر من معاني السلام العقليِّ في هذه الدنيا.
القبر فمٌ ينادي: أسرعوا أسرعوا، فهي مدة لو صُرِفت كلها في الخير ما وَفَتْ به؛ فكيف يضيع منها ضياع في الشر أو الإثم؟
لو ولد الإنسان، ومشى، وأيفع، وشبَّ، واكتهل، وهرم في يوم واحد فما عساه كان يُضيِّع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطولَ الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصرَ من يوم.
ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، وعليكم وقتٌ لإصلاحها؛ فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقتُ وهرب.
هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبرُ أيضًا؛ فليس ينظر في هذا عاقلٌ إلا كان نظره كأنه حُكْمُ محكمةٍ على هذه الحياة كيف تنبغي، وكيف تكون؟
في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه، وأن يسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يميت في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ للإرادة عقلها القويُّ الثابت، وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكانًا في هذا العقل، كما لا يجد الليل محلًّا في ساعات الشمس.
ثلاثةُ أرواح لا تَصلُح روحُ الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروحُ المعبد في طهارته، وروحُ القبر في موعظته.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: وحي القلم- مصطفى صادق الرافعي- راجعه واعتنى به الدكتور درويش الجويدي - المكتبة العصرية- بيروت (٢/ ١٣٢).
1 / 5
المرأة المسلمة
حسن البنا (ت ١٣٦٨هـ - ١٩٤٩م)
نشر عام ١٣٥٩هـ
ليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل، وعلاقتهما، وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟
الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشَّاها موجة ثائرة قاسية من حب التقليد الأوربي، والانغماس فيه إلى الأذقان. ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية، والنظم الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين، ومرونة أحكامه استغلالًا سيئًا، يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجًا كاملًا، ويجعلها نظمًا أخرى، لا تتصل به بحال من الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي، وكثيرًا من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم.
هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا، حتى جاءوا يتلمَّسون المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلِّ والجواز، حتى لا يتوبوا منها، ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام.
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعدَّ أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله تعالى ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة.
وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكِّر الناس بما عرفوا، وبما يجب أن يعرفوا من أحكام الإسلام في هذه الناحية.
أولًا: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات، وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها، واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: ﴿بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ١٩٥]، وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها ... وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية، له حقٌّ، وعليه واجب، يُشكر إذا أدَّى واجباته، ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا المعنى وتوضِّحه.
ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما، وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.
وقد يقال: إن الإسلام فرَّق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال، ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن يلاحظ أنه إن انتقص من حقِّ المرأة شيئًا في ناحية، فإنه قد عوَّضها خيرًا منه في ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر، وهل يستطيع أحد- كائنًا من كان- أن يدَّعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد- كائنًا من كان- أن يدَّعي أن الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟ ..
ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها، هي التعاون على حفظ النوع، واحتمال متاعب الحياة.
وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكَّاه، وصرفه عن المعنى الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي، يعظِّم غايته، ويوضِّح المقصود منه، ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله ﵎: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١].
.. هذه هي الأصول التي راعاها الإسلام وقرَّرها في نظرته إلى المرأة، وعلى أساسها جاء تشريعه الحكيم كافلًا للتعاون العام بين الجنسين، بحيث يستفيد كل منهما من الآخر، ويعينه على شئون الحياة.
والكلام على المرأة في المجتمع في نظر الإسلام يتلخَّص في هذه النقط:
أولًا: يرى الإسلام وجوب تهذيب خلق المرأة، وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ النشأة، ويحثُّ الآباء وأولياء أمور الفتيات على هذا، ويعدهم عليه الثواب الجزيل من الله، ويتوعدهم بالعقوبة إن قصروا. وفي الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦].
وفي الحديث الصحيح: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ...) ... وقال رسول الله ﷺ: (ما من مسلم له بنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة)
ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن: كالقراءة، والكتابة، والحساب، والدين، وتاريخ السلف الصالح، رجالًا ونساء، وتدبير المنزل، والشئون الصحية، ومبادئ التربية، وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها. وفي حديث البخاري ﵁: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين). وكان كثير من نساء السلف على جانب عظيم من العلم والفضل والفقه في دين الله ﵎.
أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته، فليست المرأة في حاجة إليه، وخير لها أن تصرف وقتها في النافع المفيد. ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة. وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولًا وأخيرًا. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر ودراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس.
ثانيًا: التفريق بين المرأة وبين الرجل:
يرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج؛ ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي، لا مجتمع مشترك.
سيقول دعاة الاختلاط: إن في ذلك حرمانًا للجنسين من لذة الاجتماع، وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، والتي توجِد شعورًا يستتبع كثيرًا من الآداب الاجتماعية؛ من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع .. إلخ.
وسيقولون: إن هذه المباعدة بين الجنسين ستجعل كلًاّ منهما مشوقًا أبدًا إلى الآخر؛ ولكن الاتصال بينها يقلِّل من التفكير في هذا الشأن، ويجعله أمرًا عاديًّا في النفوس (وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنع) وما ملكته اليد زهدته النفس.
كذا يقولون ويُفتن بقولهم كثير من الشبَّان، ولا سيما وهي فكرة توافق أهواء النفوس، وتساير شهواتها، ونحن نقول لهؤلاء: مع أننا نسلم بما ذكرتم في الأمر الأول نقول لكم: إن ما يعقب لذة الاجتماع بحلاوة الإنس من ضياع الأعراض، وخبث الطوايا، وفساد النفوس، وتهدُّم البيوت، وشقاء الأمر، وبلاء الجريمة، وما يستلزمه هذا الاختلاط من طراوة في الأخلاق، ولين في الرجولة، لا يقف عند حدِّ الرقَّة، بل هو يتجاوز ذلك إلى حدِّ الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر.
كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولى، ولا سيما إذا كانت المصلحة لا تعدُّ شيئًا بجانب هذا الفساد.
وأما الأمر الثاني فغير صحيح، وإنما يزيد الاختلاط قوة الميل، وقديمًا قيل: إن الطعام يقوي شهوة النهم. والرجل يعيش مع امرأته دهرًا، ويجد الميل إليها يتجدد في نفسه؛ فما باله لا تكون صلته بها مُذهبة لميله إليها، والمرأة التي تخالط الرجال تفتنُّ في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها، وهذا أيضًا أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط، وهو الإسراف في الزينة والتبرج المؤدي إلى الإفلاس والخراب والفقر. لهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، وأن للرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن. ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد، وحضور الجماعة، والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحدِّ، واشترط له شروطًا شديدة من البعد عن كل مظاهر الزينة، ومن ستر الجسم، ومن إحاطة الثياب به فلا تصف ولا تشف. ومن عدم الخلوة بأجنبي مهما كانت الظروف، وهكذا.
.ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذًا قويًّا محكمًا. فالستر في الملابس أدب من آدابه. وتحريم الخلوة بالأجنبي حكم من أحكامه. وغض الطرف واجب من واجباته. والعكوف في المنازل للمرأة حتى في الصلاة شعيرة من شعائره. والبعد عن الإغراء بالقول والإشارة وكل مظاهر الزينة، وبخاصة عند الخروج- حد من حدوده.
كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة وهي أحب الفتن إلى نفسه، وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل وهي أقرب الفتن إلى قلبها، والآيات الكريمة والأحاديث المطهرة تنطق بذلك.
يقول الله- ﵎ في سورة النور: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:٣٠ - ٣١].
وفي سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب: ٥٩]. إلى آيات أخرى كثيرة.
. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم، والمراد بدخول الأحماء على المرأة: الخلوة بها، كما قال رسول الله ﷺ: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان).
وعن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ومسلم.
وعن معقل بن يسار قال: قال رسول ﷺ: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له).
وعن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: (كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية) ... (وكل عين زانية) أي: كل عين نظرت إليها نظرة إعجاب واستحسان.
وعن ابن عباس ﵄ قال: (لعن رسول الله ﷺ المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري ... والطبراني، وعنده: (أن امرأة مرت على رسول الله ﷺ متقلدة قوسًا، فقال: لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: (لعن رسول الله ﷺ الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل).
وعن ابن مسعود ﵁ أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، فقالت له امرأة في ذلك، فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله ﷺ، وهو في كتاب الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾. [الحشر: ٧] رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة ﵂: أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي ﷺ فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية للبخاري ومسلم: (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم وغيره.
. وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي ﵄ أنها جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاة في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي. فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله ﷿. وليس بعد هذا البيان بيان
يقول كثير من الناس: إن الإسلام لم يحرم على المرأة مزاولة الأعمال العامة، وليس هناك من النصوص ما يفيد هذا، فائتوني بنص يحرم ذلك. ومثل هؤلاء مثل من يقول: إن ضرب الوالدين جائز؛ لأن المنهي عنه في الآية أن يقال لهما أفٍّ، ولا نص على الضرب.
إن الإسلام يحرم على المرأة أن تكشف عن بدنها، وأن تخلو بغيرها، وأن تخالط سواها، ويحبِّب إليها الصلاة في بيتها، ويعتبر النظرة سهمًا من سهام إبليس، وينكر عليها أن تحمل قوسًا متشبهة في ذلك بالرجل؛ أفيقال بعد هذا إن الإسلام لا ينص على حرمة مزاولة المرأة للأعمال العامة؟!
إن الإسلام يرى للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والطفل، فهي كفتاة يجب أن تُهيَّأ لمستقبلها الأسري، وهي كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها، وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء، وأن تتفرغ لهذا البيت، فهي ربته وملكته، ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على سواه؟ فإذا كان من الضرورات الاجتماعية ما يلجئ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة الطبيعية لها، فإن من واجبها حينئذ أن تراعي هذه الشرائط التي وضعها الإسلام لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة، ومن واجبها أن يكون عملها هذا بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظامًا عامًّا من حقِّ كل امرأة أن تعمل على أساسه. والكلام في هذه الناحية أكثر من أن يحاط به، ولا سيما في هذا العصر الميكانيكي الذي أصبحت فيه مشكلة البطالة، وتعطل الرجال من أعقد مشاكل المجتمعات البشرية في كل شعب، وفي كل دولة.
وللإسلام بعد ذلك آداب كريمة في حق الزوج على زوجه، والزوجة على زوجها، والوالدين على أبنائهما، والأبناء على والديهم، وما يجب أن يسود الأسرة من حب وتعاضد على الخير، وما يجب أن تقدِّمه للأمة من خدمات جلي، مما لو أخذ الناس بها لسعدوا في الحياتين ولفازوا بالعبادتين.
_________
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: مجلة المنار - عدد ربيع الثاني سنة (١٣٥٩هـ) - المجلد (٣٥) (بتصرف).
1 / 6
نحن المسلمين!
علي الطنطاوي (ت ١٤٢٠هـ - ١٩٩٩ م)
سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها ..
سلوا بطاح إفريقيا، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكل حيِّ تحت السماء ..
إن عندهم جميعا خبرًا من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا .. نحن المسلمين!!
هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟ هل زانت جنَّات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟ هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلَّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟
نحن حملنا المنار الهادي والأرض تتيه في ليل الجهل، وقلنا لأهلنا: هذا الطريق!.
نحن نصبنا موازين العدل، يوم رفعت كل أمة عصا الطغيان.
نحن بنينا للعلم دارًا يأوي إليها، حين شرده الناس عن داره.
نحن أعلنَّا المساواة، يوم كان البشر يعبدون ملوكهم، ويؤلِّهون ساداتهم.
نحن أحيينا القلوب بالإيمان، والعقول بالعلم، والناس كلَّهم بالحرية والحضارة.
نحن المسلمين!
نحن بنينا الكوفة، والبصرة، والقاهرة، وبغداد.
نحن أنشأنا حضارة الشام، والعراق، ومصر، والأندلس.
نحن شِدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر.
نحن عمرنا الأموي وقبة الصخرة، وسُرَّ من رأى، والزهراء، والحمراء، ومسجد السلطان أحمد، وتاج محل.
نحن علَّمنا أهل الأرض وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ.
نحن المسلمين!
منَّا أبو بكر، وعمر، ونور الدين، وصلاح الدين، وأورنك زيب. منَّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم، والملك الظاهر.
منَّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون.
منَّا معبد وإسحاق وزرياب .. منا كل خليفة كان الصورة الحيَّة للمثُل البشرية العليا.
وكل قائد كان سيفًا من سيوف الله مسلولًا .. وكل عالم كان من البشر كالعقل من الجسد.
منَّا مائة ألف عظيم وعظيم.
نحن المسلمين!
قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا ..
قانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا .. وضعيفنا المحقُّ قويٌّ فينا، وقويُّنا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواءٌ أمام الدين.
نحن المسلمين!
مَلَكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا فأوغلنا، وكنا الأقوياء المنصفين، سننَّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين ..
أقمنا حضارة كانت خيرًا كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمَّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا، وسقيناها نحن من دمائنا، وشدناها على جماجم شهدائنا!.
وهل خلت الأرض من شهيد لنا قضى في سبيل الإسلام والسلام، والإيمان والأمان؟
نحن المسلمين!
هل تحققت المثُل البشرية العليا إلا فينا؟
هل عرف الكون مجمعًا بشريًّا إلا مجمعنا، قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟
هل اتفق واقع الحياة، وأحلام الفلاسفة، وآمال المصلحين، إلا في صدر الإسلام؟
يوم كان الجريح المسلم يجود بروحه في المعركة، يشتهي شربةً من ماء، فإذا أخذ الكأس رأى جريحا آخر فآثره على نفسه، ومات عطشان.
يوم كانت المرأة المسلمة يموت زوجها وأخوها وأبوها، فإذا أخبرت بهم سألت: ما فعل رسول الله؟ فإذا قيل لها: هو حيٌّ، قالت: كل مصيبةٍ بعده هيِّنة.
يوم كانت العجوز ترد على عمر، وهو على المنبر في الموقف الرسمي، وعمر يحكم إحدى عشرة حكومة من حكومات اليوم.
يوم كان الواحد منَّا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة.
وكنَّا أطهارًا في أجسادنا وأرواحنا ومادتنا والمعنى.
وكنَّا لا نأتي أمرًا ولا ندعه، ولا نقوم ولا نقعد، ولا نذهب ولا نجيء إلا لله.
قد أَمَتْنَا الشهوات من نفوسنا، فكان هوانا تبعًا لما جاء به القرآن.
لقد كنَّا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية.
وجعلنا حقًّا واقعًا ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملًا بعيدًا.
نحن المسلمين!
تُنظم في مفاخرنا مائة إلياذة وألف شاهنامة.
ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تُعدُّ ولا تُحصى.
من يعدُّ معاركنا المظفرة التي خضناها؟ ... من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟
من يستقري نابغينا وأبطالنا؟ .. إلا الذي يعدُّ نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء!!.
اكتبوا (على هامش السيرة) ألف كتاب .. و(على هامش التاريخ) مثلها.
وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء، والمنجم البكر. نحن المسلمين!
لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيِّر وشرير.
ولسنا شعبًا كالشعوب، يؤلف بينهم الدم، ففي كل شعب صالح وطالح، ولكننا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل من كل أمة، تقي نقي ..
تجمع بيننا التقوى إن مصل الدم، وتوحِّد بيننا العقيدة، إن اختلفت اللغات، وتُدنينا الكعبة إن تناءت بنا الديار ..
أليس في توجُّهِنا كل يومٍ خمس مرات إلى هذه الكعبة، واجتماعنا كل عام مرة في عرفات، رمزًا إلى أن الإسلام قومية جامعة، مركزها الحجاز العربية، وإمامها النبي العربي، وكتابها القرآن العربي؟
نحن المسلمين!
ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج .. لا حُجُب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار.
هو واضح وضوح المئذنة، أفليس فيها ذلك المعنى؟
هل في الدنيا جماعة أو نِحلة تكرر مبادئها وتُذاع عشر مرات كل يوم، كما تُذاع مبادئ ديننا- نحن المسلمين- على ألسنة المؤذنين: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
نحن المسلمين!
لا نهن ولا نحزن ومعنا الله .. ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر ..
البطولة سجية فينا، وحب التضيحة يجري في عروقنا .. لا تنال من ذلك صروف الدهر، ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان ..
لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها، ويعيش أهلها من جحيمها في جنات.
لنا الشام وغوطتها التي سُقيت بالدم، لنا فيها الجبل الأشم .. لنا العراق لنا (الرميثة) وسهول الفرات .. لنا فلسطين التي فيها جبل النار.
لنا مصر دار العلم والفن ومثابة الإسلام ..
لنا المغرب كله، لنا (الريف) دار البطولات والتضحيات.
لنا القسطنطينية ذات المآذن والقباب، لنا فارس والأفغان والهند وجاوة.
لنا كل أرض يُتلى فيها القرآن، وتصدح مناراتها بالأذان.
لنا المستقبل .. المستقبل لنا إن عُدنا إلى ديننا. نحن المسلمين!
_________
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (قصص من التاريخ) - علي الطنطاوي - المكتب الإسلامي - ص ١٥.
1 / 7
الصراع بين الإسلام وأعدائه
محمد البشير الإبراهيمي
نشر عام ١٣٧٣هـ
الصراع بين الحق والباطل قديم، كان منذ خلق الله البشر، وجعل للأهواء حظًّا من السلطان على نفوسهم. ومن فروع هذا الصراع، الصراع بين الإسلام والكفر، فقد صرع الإسلام في عنفوان قوته السماوية الأولى كلَّ ما كان قائمًا من الأديان والنحل الباطلة، ومزَّق بنوره وبرهانه الضلالات التي كانت مغطية على العقول، حتى استقر في قراره من النفوس والأقطار، وضرب بجرانه في القطعة العامرة من أرض الله.
وأصبح برهانه لائحًا، وبيناته واضحة، وقوته غالبة، فإما مسلم وإما مُلقٍ بالسَّلَم، ومن كلمته العالية أنه جعل فريضة الدعوة إليه كلمة باقية في أهله، تتوجَّه إلى الضال ليهتدي، وإلى المهتدي كي لا يضلَّ.
فلما ضعفت الدعوة إلى الإسلام في المسلمين بما شاب هدايتهم من ضلال، وما خالط عزائمهم من وهن، ثم تلاشت بتفرقهم فيه، واشتغالهم بالجدل الداخلي، وغفلتهم عن فوائد الدعوة فيهم وفي غيرهم، وبعدهم عن منبع هدايته الأولى، هاجت عليهم دعايات الأديان الأخرى، وما تفرَّع عنها من مذاهب مادية، تغري بالمادة وتؤلِّهها، ومن مذاهب فكرية تغري الفكر المسلم بالمروق من الدين، وخلع رِبقته، ثم تشعبت هذه المذاهب الفكرية إلى شعبتين:
واحدة تسعى سعيها، وتبذل وسائلها لفتنة المسلم عن دينه، وإدخاله في دين آخر، وهذه الشعبة تجعل هدفها أطفال المسلمين الأحداث.
والأخرى تريد المسلم أن يخرج من الإسلام إلى الإلحاد المحض الذي يكفر بالأديان كلها، وهذه الشعبة تجعل هدفها شباب المسلمين؛ لما يصحب الشباب من قوة الإحساس، وسرعة التأثر، وتأجُّج العاطفة، والميل إلى الانطلاق.
والشعبتان معًا تلتقيان عند غاية واحدة هي فصل المسلمين- وهم قوة في العدد- عن دينهم، وهو مناط قوتهم الروحية؛ ليتمَّ للقائمين على الشعبتين استعباد أبدان المسلمين، واستغلال خيرات أوطانهم. ومَن ظنَّ مِن عقلاء المسلمين وعلمائهم أن هذه الحملة عليهم وعلى دينهم ليست مدبرة، وليست منظمة، وليست متعاونة متساندة، وليست مرصدة لوقتها، ورامية إلى هذا الهدف، مَن ظنَّ هذا فأقل درجته أنه مغفَّل جاهل مغرور.
ولو حافظ المسلمون على فريضة الدعوة في دينهم، وكانت لهم دعاية منظمة يمدُّها الأغنياء بالمال، والعقلاء بالرأي، والعلماء بالبرهان المثبت للحقائق الإسلامية، وبالتوجيه لغاية الغايات فيه، وهي إسعاد الإنسانية، وتحقيق السلام بين البشر، والقضاء على الطغيان والعدوان والظلم، وإقامة العدل بين الناس، ونشر المحبة بينهم، لو فعلوا ذلك، وحافظوا عليه في كل أطوار الزمن، لكانوا اليوم فيصلًا بين الكتلتين المتطاحنتين، وحاجزًا حصينًا بين البشرية وبين الكارثة المتوقعة، التي لا تُبقي على برٍّ ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر، بل إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لو كان للإسلام دعاة فاهمون لحقيقة الإسلام، محسنون للإبانة عنها، ولعرضها على العقول، لرجعت إليه هذه الأمم الحائرة في هذا العصر، الثائرة على أديانه وقوانينه وأوضاعه؛ لأن أديانه لم تحفظ لهم الاستقرار النفسي، والطمأنينة الروحية، ولأن قوانينه الوضعية لم تضمن لهم المصالح المادية، ولم تُقِم الموازين القسط بين طبقاتهم، ولأن الأوضاع العامة لم تحقن دماءهم، ولم تغرس المحبة بينهم، فهم لذلك تائهون، متطلِّعون إلى حال تُغيِّر هذه الأحوال، وفي الإسلام ما يقول بذلك كله، ويَرجع بالناس إليه، وإلى اختياره حكمًا، تُرضَى حكومته، لو وجد من يدعو إليه على بصيرة، ويبيِّن حقائقه، ويحسن عرضها على العقول ببرهان الواقع والمعقول.
لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عهد كهذا العهد، في قعودهم عن الدعوة إلى دينهم، وفي هجوم الدعاية الأجنبية عليهم.
والقضيتان متلازمتان في الطباع البشرية الغالبة، وفي طبيعة الاجتماع الذي هو أملك لأحوالهم.
فمن سننه أن من لم يدافع دُوفع، وأن من لم يهاجم هُوجم، وأن من سكت على الحق أنطق غيره بالباطل، ولم يمض عليهم زمن تألَّبت فيه قوى الشرِّ عليهم، وتألَّفت جنوده على ما بينها من دعوات ومناقضات، كما تألَّبت في هذا الزمن، فالأديان كاليهودية والمسيحية الغربية الاستعمارية، والبوذية والوثنية بجميع ألوانها، والمذاهب الاجتماعية المادية كلها أصبحت ألْبًا على المسلمين والإسلام، متداعية إلى ذلك عن قصد واتفاق، صادرة في ذلك عن عهد وميثاق، يسند بعضها بعضًا، ويقرض بعضها بعضًا العون والتأييد، وأن العقلاء من هذه الأمم، المتعاونة على حرب الإسلام، مسوقون بأيدي الساسة الطامعين، والقساوسة المتعصبين، والملاحدة المستهترين، حتى أصبح باطن أمرهم كظاهره، وهو أنهم قوة متحدة لحرب الإسلام، يشارك فيها ذو الدين بدينه، وذو المال بماله، وذو العقل بعقله. ويشارك فيها الساكت بسكوته. لا نلوم هؤلاء الأقوام على ما يسرون من عداوة الإسلام وما يعلنون، ولا على ما صنعوا بأهله وما يصنعون، فما اللوم برادِّهم على ما هم ماضون فيه، بعد أن ابتلوا سرائرنا، وامتحنوا ضمائرنا، فوجدوها عورات ومنافذ خالية من الحراسة التي يعرفونها عنا، ومن المناعة التي يتوقعونها منا، فسددوا الغارة على ديارنا فاكتسحوها، وشدَّدوا الحملة على خيرات أوطاننا فاستباحوها، ثم شنُّوا غارة أفجر وأنكر على عقولنا ليمسخوها، إذ بذلك وحده يضمنون التمتع بخيراتنا، والتلذذ باستعبادنا.
لا نلومهم على ذلك، فما منهم إلا موتور من هذا الإسلام في ماضية، وأحد أطوار تاريخه، فهو حاقد عليه، يتخيَّل في شبحه مفوِّتًا للعز والسلطان، ومقيِّدًا للشهوات في أتباع الشيطان، أو مانعًا من الانطلاق الحيواني في بغي الإنسان على الإنسان، وما ينقمون من الإسلام إلا أنه يقيد الغريزة الحيوانية عن الظلم والتسلط والشهوة، ويفيض عليها من النور السماوي ما يرفعها إلى أفق أسمى، وهم بعد ذلك عمون عما وراء ذلك الذي ينقمونه من خير في الإسلام ونفع، ولا نملك لهم أن يهتدوا إلى ما في الإسلام من عزٍّ بالله، وعدل في أحكامه بين عباده، رحمة بهم وإحسانًا، وإلى ما فيه من انطلاق، ولكن إلى الآفاق العليا الملكية.
إنما نلوم أنفسنا، ونلوم قومنا على التفريط والإضاعة، وعلى إهمال الدعوة لدينهم، والعرض لجماله ومحاسنه، وعلى التخاذل في وجه هذه القوة المتألبة المتكالبة عليهم وعلى دينهم، حتى أصبح سكوتنا وإهمالنا عونًا لها على هدم ديننا، ومحو فضائلنا، والقضاء على مقوماتنا، فأغنياؤنا ممسكون عن البذل في سبيل الدعوة إلى دينهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأن الدين ليس دينهم، وكأنهم لا يعلمون أن هذا التكالب إن استمر لا يبقى لهم عرضًا ولا مالًا ولا متاعًا، وقد بلغت الغفلة ببعضهم أن يُعِين الجمعيات التبشيرية المسيحية بماله، وكأنه يقلِّد عدوه سلاحًا قتَّالًا، يقتل به دينه وقومه، ولم يبق عليه من فضائح الجهل إلا أن يقول لعدوه: اقتلني به. إننا لا نكون مسلمين حقًّا، ولا نستطيع أن ندفع هذه الجيوش المغيرة علينا وعلى ديننا، تارة باسم العلم، وتارة باسم الخير والإحسان، وأخرى باسم الرحمة بالإنسان، إلا إذا علمنا ما يراد بنا، وفقهنا الغايات لهذه الغارات، وتحدَّيناها بجميع قوانا المعنوية والمادية، وحشدها في ميدان واحد، هو ميدان الدفاع عن حياتنا الروحية والمادية، ولا يتمُّ لهذا الشأن تمام إلا إذا أقمنا الدعوة إلى الله، وإلى دينه الإسلام، على أساس قوي من أحجار العالم الرباني، والخطيب الذي يتكلم بقلبه لا بلسانه، والكاتب الذي يكتب بقلمه ما يمليه عقله، والغني المستهين بماله في سبيل دينه، ثم وجهنا هذه الدعوة إلى القريب قبل الغريب، إلى المسلم الضال قبل الأجنبي، فإذا فعلت الدعوة فعلها في نفوس المسلمين، وأرجعتهم إلى ربهم، فاتصلوا به، فتمسكوا بكتابه وهدي نبيه، وتمجدوا بتاريخه وأمجاده وفضائله ولسانه، كنا قلَّدناهم سلاحًا لا يفلُّ، وأسبغنا عليهم حصانة روحية، لا تؤثر عليها هذه الدعايات المضللة، وحصانة أخرى مادية ملازمة لها، لا تهزمها الجموع المجمعة، ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
المسلمون في حاجة أكيدة إلى دعاية داخلية، تهدي ضالهم، وتصلح فاسدهم، تبتدئ من البيت، وتجاوزه إلى الجار والقرية، حتى تنتظم المجتمع كله. فإذا عمرت القلوب والبيوت والمجتمعات بمعاني الإسلام الصحيحة، أعطت ثمراتها الصحيحة، وجاء نصر الله والفتح، ربطًا للوعد بالإنجاز، ووصولًا إلى الحقيقة على المجاز، ويومئذ تزول هذه الفوارق البغيضة من تلقاء نفسها، فلا مذهب إلا مذهب الحق، ولا طريقة إلا طريق القرآن، ولا نزعة إلا نزعة المجد والسمو، ولا عاطفة إلا عاطفة المحبة والخير، ولا غاية إلا نشر السلام والطمأنينة في هذا العالم المضطرب.
لا يأس من روح الله. فهذه مخايل نصر، وهذه مبشرات القطر، وهذه طلائع الزحوف الحاملة لراية الدعوة الإسلامية، وهؤلاء عصب من علماء الإسلام قائمون بإيحاء هذه الفريضة بصدق وإخلاص وتضحية، ومن ورائهم كتائب من شباب الإسلام، تفتَّحت بصائرهم على نوره، يحملون ألسنة قوالة للحق، وعقولًا جوالة في ميدان الحق، وإن عددهم كل يوم لفي ازدياد، وإن نجاحهم فيما يمارسونه من الدعوة إلى الله لفي اطراد، فما على القاعدين إلا أن ينضموا، وما على الغافلين إلا أن يهتموا، ولا على المستيئسين إلا أن يستبشروا ويؤيدوا، وما على الغافلين عن ذاك الشرِّ المستطير إلا أن ينتبهوا إلى هذا الخير، فيعملوا على نمائه وبقائه، وإن أثمن هدية يقدمها المسلم إلى هؤلاء الدعاة هي الاهتداء إلى الحق، والاقتداء بأهل الحق.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) «٤/ ٢٨٤»، دار الغرب الإسلامي، ط١، ١٩٩٧م.
1 / 8
الغيرة على الحقائق والمصالح
محمد الخضر حسين (ت:١٣٧٧هـ)
نشر عام ١٣٤٩هـ
متى نظر الإنسانُ أو تدبر أمرًا، ووقف بأنه حقيقة أو مصلحة، وجدَ في نفسه ارتياحًا عندما يلاقي شخصًا يشاركه في الشعور به، ويكون ارتياحه أشد حيث يراه يعمل على مقتضى هذا الشعور، كما أنه يتألم حينما يشاهد أمرًا ينكر تلك الحقيقة أو المصلحة، ويكون تألمه أشد حيث يراه مجدًّا في مناوأتها، سالكًا غير سبيلها، وهذا التألم الذي يشتدُّ فيدفعك إلى أن تسهب في إيضاح وجه الحقيقة أو المصلحة، أو تعمل على أن تكفَّ يد من يبغي عليها ما أمكنك، هو ما نعنيه بالغيرة.
فإذا حدَّثك الرجل في أمر، وأراك أنه مطمئن إلى أنه حقٌّ ثم لا تلبث أن تراه متحيزًا إلى من يكيد له، ويدعو إلى من ينقضه، فاعلم أنه خالي القلب من الاطمئنان إليه، وإنما أراك ظاهرًا يخالف ما يُكنُّه صدره، وتطمئنُّ إليه نفسه، والعقل السليم لا يستطيع أن يفهم كيف يجتمع الإيمانُ بالحقِّ مع موالاة من يحاربه في السرِّ أو العلانية، فالغيرةُ على الحقِّ من مقتضيات الإيمان به، تَقْوَى بقوَّته، وتضعف بضعفه، وتُفقَد حيث لا يكون القلب مؤمنًا.
وفي الناس من يلهج بكلمة (التسامح)، يملأ بها فمه حتى لا تنكر عليه حين تراه، قد اتخذ من المضلين أو المفسدين في الأرض أولياء، يطيل التردد على أعتابهم، ويغمس لسانه أينما جلس في إطرائهم، ويجهد نفسه في تمويه باطلهم؛ والتسامح المعقول ألَّا تُؤذي من خالفك في العقيدة، فتنسب إليه زورًا، أو تنفي عنه مكرمة، أو تهضم له حقًّا، أو تنكث له عهدًا، أو تخلف له وعدًا، ومن التسامح المقبول أن تبرَّه وتقسط إليه، وتمدَّ إليه يد التعاون على المصالح المشتركة، وقد حرَّمت الشريعةُ الإسلامية الإساءةَ إلى المخالفين، الذين لم يُخرجونا من ديارنا، ولم يطعنوا في ديننا، ولم يوقدوا نارًا لحربنا، على وجه يعمُّ المخالفين المقيمين في ظلِّ الإسلام، ... وأذنت في أن نبرَّهم ونقسط إليهم قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. [الممتحنة: ٨] وقد علَّمنا رسول الله ﷺ أن نداري من ينتمون إلى الإسلام، ونعاشرهم بالمعروف، وإن عرفنا في لحن أقوالهم، أو غيره من الدلائل الخفية أنهم من طائفة المنافقين.
أما الرجل يملك قلمًا أو لسانًا أو حسامًا أو جاهًا، فيصرفه في نقض أساس ما هو دين حق، أو شريعة صالح، فذلك ما لا يتولَّاه إلا غبيٌّ لا يفرِّق بين الأعمى والبصير، أو زائغ عن سبيل الرشد، فما له من نور، وقد أنكر الله على من يتزلَّف لأشياع الغيِّ فقال: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾. [النساء: ١٣٩] وفي الآية شاهدُ صدقٍ على أن العزة بيد الله، يخلعها على من يغار على الحقائق، غير مكترث بمن يناوئونها، وإن كانوا أُولي جاهٍ أو سلطان.
فمن الغيرة على الحق أن تقاوم المبطلين أو المفسدين، قاطعًا النظر عن كل صلةٍ وعاطفة؛ ومن التسامح المقبول أن تدفعهم بالتي هي أحسن، حتى كأنك لا تعرف شيئًا من شؤونهم غير ما تصديت لمناقشتهم فيه، وذلك ما يستبين به الناس أنك لا تقصد إلا أن تكفَّ بأسهم، وتحمى النفوس من وباء دعايتهم.
تتفاضل الحقائق والمصالح من ناحية ما يتصل بها من خير، فوجود الخالق أو صدق محمد ﷺ في رسالته مثلًا، يقوم على الإيمان به من سعادة الأفراد والأقوام أكثر مما يقوم على الإيمان بعدل أبي بكر وعمر بن الخطاب. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يترتب عليها من الفلاح فوق ما يترتب على زيارة أخ أو عيادة مريض.
وكذلك الغيرة على الحقائق والمصالح تكون على قدر تفاضلها فيما يترتب عليها من العواقب، فالغيرة الصادقة أن يتألم الرجل من الجهل على مقام الأُلوهية أو الرسالة العظمى أشد مما يتألم للطعن في نفسه أو في أخٍ له أو صديق؛ ويتألم لهدم مسجد أو إلغاء مدرسة أشد مما يتألم لهدم بيت أو إهمال حديقة.
بعيدٌ من الغيرة على الحقائق ذلك الذي يسمع سوء القول في الله أو في رسوله فلا يجد في نفسه لسماع هذا السَّفه أثرًا، وإذا مُسَّ جانب مَن يتصل به نسبًا، أو يمدُّ له من متاع هذه الحياة سببًا، هاج غضبه، وارتعدت فرائصه!!
بعيدٌ من الغيرة على المصالح ذلك الذي يكون تحت يده مال فيبخل به على بناء مدرسة، يستنير فيها الناشئون، أو إقامة ملجأ يأوى إليه البائسون، ويبسط به يده في إنشاء مرقص أو ملهى، يتخذ فيه الفتيان والفتيات أنصابًا، يسفكون عليها دم الفضيلة.
ضَعفُ الغيرةِ على الحق أو فقدها نقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض.
وكذلك ينبغي للإنسان أن يملك الغيرة عند ثورتها، فلا يخرج في معاملة المنتهك لحرمة الحق عن حدود العدل، فالذي يغار على أمر جعل الشارع لمنتهكه حدًّا مفروضًا، لا يحلُّ له أن يتجاوز ما حدَّه الشارع استرسالًا مع طغيانها، فإن كان الجزاء موكولًا لاجتهاد القاضي اجتزأ القاضي بالمقدار الذي يكفي للردع؛ وليس من الغيرة المحمودة أن يتعدَّى في جزاء السيئة ما يكفي للزجر عن اقترافها، والغيرة الصادقة هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عِوجه في تثبتٍ وحزم.
الغيرة تبعث الرجل على الجهاد في الحق بأي وسيلة استطاعها، فالرئيس الغيور يذود عن الحق بما في يده من قوة، متى كان الهاجم عليه في غشاوة تمنعه من أن يفقه الحجة، والعالم الغيور لا يفتأ يذبُّ عن الحقِّ بلسانه أو قلمه، ولا يسوقه طمع أو رهبة إلى الخمول أو الصمت، وما خمول العالم وصمته سوى قلة الثقة بما وعد الله به أنصار الحقِّ من فوز وحياة طيبة، والموسر الغيور ينفق في سبيل الإصلاح باليمين واليسار؛ ومن كان صافي البصيرة يرتاح لظهور الحقِّ، وقيام المصلحة العامة، أكثر مما يرتاح لأن يكنز ذهبًا، أو تكون له قصور فيحاء وحدائق غناء.
وإذا أردت أن تميِّز فاقد الغيرة على المصالح ممن يغارون عليها، فهو الذي يجري وراء منافعه الخاصة أينما رآها أو تخيَّلها؛ يراها بجانب مصلحة عامة، فيظهر في زيِّ الداعي إلى هذه المصلحة، ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس جميعًا، داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته توًّا لا يلوي على شيء.
قد يسلك الرجل طريق العدل، محافظة على المنصب، أو رغبة في حسن الأحدوثة، ولكن الغيرة على الحق هي التي تجعل الحاكم عادلًا في كل قضية؛ فالغيرة على الحق هي التي تقف بالقاضي في حدود الإنصاف، حين تُرفع إليه خصومة بين ذي سلطان وأشعث أغبر ذي طمرين، فلا يبالي أن ينصف ذا الطمرين، ويقضي على ذي السلطان، وكذلك يفعل القضاة العادلون.
دُعي العلامة محمد بن بشير إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقًا له في قبول الولاية، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك، وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ قال: والله ما أبالي من مدحني أو ذمَّني، وما أُسَرُّ للولاية، ولا أستوحش للعزل. فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك.
وفي سيرة ابن بشير هذا ما يشهد بصدق غيرته على الحق، ويحقق ما وصف به نفسه، من أنه لا يسرُّ للولاية، ولا يستوحش من العزل.
ومن الخطر على الحقوق والمصالح أن يتولَّى أمرها محروم من الغيرة عليها، وكم من حقٍّ أُهمل ومصلحة أُميتت، والسبب في إهمال ذاك، وإماتة هذه أن أُلقي أمرهما إلى من لم يذق للغيرة عليهما طعمًا.
ماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على هتك الفتاة، إذا أُسندت إلى من تقلَّب في بيئة لا تعرف للعفاف سبيلًا؟ وماذا يكون العمل في قضية الاعتداء على الدين، إذا وُضعت بين يدي من لا يرى له حرمة، ولا يرعى للأمة التي تعتصم به ذمة؟ وكيف تدار مدرسة ترجع نظم التعليم فيها إلى مَن يُؤثر اللهو على الجدِّ، ويفتنه زخرف الحياة عن طرق الرشد، التي تخرج رجالًا يعملون صالحًا، ويبتكرون عظيمًا، ونحن نرى في الشعوب من حيل بينها وبين واجبات دينها، وأُكرهت على التعامل بغير ما تأذن به شريعتها، واستبدَّ عليها في طريقة تعليم أبنائها، ذلك لأنها وقعت تحت ذي قوة استضعفها، ولم يكن له نصيب من الغيرة على شريعتها.
إن أمة لها دين قيِّم، وشرع حكيم، ومجد لم يصف التاريخ له من نظير، لا يستقيم أمرها إلا لمن يغار على شرعها، أو يتودد لها باحترامه، والمحافظة على أصوله.
وإذا حكى لنا التاريخ أن ذا سلطان آذى أمة إسلامية في دينها، أو قهرها بالسيف أو بوسيلة التعليم على أن تنسلخ من هداية ربها، فلأنه إنما وضع سلطانه على رؤوس جماعات متفرقة غافلة، أما الأمم المتيقظة التي تقدِّر الحقَّ قدره، فليس من السهل على ذي القوة أن يؤذيها في دينها، ويستخف بالحقوق التي قرَّرها شرعها، إلا أن يكون جهولًا بالعواقب، أو غير راغب في أن يكون سلطانه ثابت القواعد.
الغيرة على الحق تتمثل فيمن ينظر إلى الدليل، ويصدع بما أراه الله، وإن كره السائلون ..
وتتمثل الغيرة على الحقِّ فيمن يفسح له بعض الوجهاء في الإكرام مكانة، ولا يمنعه ذلك من أن ينظر إلى ما أكرمه الله به من عقل، ورفعه به من علم، فلا يسكت لذلك الوجيه عما يأتي من منكر، ويذهب في تقويمه كل مذهب ممكن.
وفصل القول في هذا أن الغيرة على الحق والمصلحة ما غلبت على نفوس الأمة إلا استقامت سيرتها، وعلت في الأمم سمعتها، وحسنت في كلتا الحياتين عاقبتها، ولا حقَّ أجلى مما يدعو إليه الخلَّاق العليم، ولا مصلحة أعظم مما تهدي إليه أصول شرعه الحكيم، فإذا لم نرسم في نفوس نشئنا الغيرة على حقائق الدين، وما أرشد إليه من مصالح، وما سنَّه من آداب، ضلوا عن أسمى الحقائق، وأضاعوا أكبر المصالح، وتجرَّدوا من أسنى الآداب، وهل غير هذه العاقبة من خسران مبين؟!
فمن أهم واجباتنا أن نربِّي نشأنا على الشعور بعظمة الله، ثم لا نفتأ نذكر لهم آيات نبوة محمد ﷺ حتى يطمئنوا إلى صحتها، ولا ندع أن نقرِّر لهم أصول الشريعة على وجه يجعلهم على بصيرة من حكمتها، وهذا ما يربِّي فيهم الغيرة المهذَّبة، ويعدُّهم لأن يكونوا للحقائق والمصالح أنصارًا.
_________
اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: مجلة نور الإسلام - المجلد الأول - العدد السابع - رجب سنة ١٣٤٩هـ - ص ٤٨٣. (بتصرف)
1 / 9
الدعوة إلى الحق
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
نشر عام ١٣٧٣هـ.
هذه كلمة يستلذُّ لها كل سامع، ويأنس بها كلُّ متوحِّش نافر، وتُوزن بها المذاهب والمقالات، وينقاد لها كل منصف قصده طلب الحقيقة، ويدَّعيها كلُّ أحد محقٌّ أو غير محقٍّ، ولكن لكل حقٍّ حقيقة، ولكل دعوى برهان، ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ١١١].
فالله هو الحقُّ، ودينه حقٌّ، وكتبه المنزلة من السماء حقٌّ، ورسله حقٌّ، ووعده ووعيده حقٌّ، وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟
والحق هو الشيء الصحيح الثابت، والشيء النافع، الذي له النتائج الطيبة، والثمرات الصالحة المصلحة.
الله تعالى هو الحق الذي قامت الأدلة العقلية والنقلية على وحدانيته، وعظمته، وسعة أوصافه، وكماله المطلق الذي لا غاية فوقه، الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والمجد إلا هو. ودينه هو الحق الذي دارت أخباره على الحقائق الصادقة، والعقائد النافعة، المصلِحة للقلوب والأرواح، وأحكامه على العدل المتنوع في العبادات والمعاملات في أداء حقوقه، وحقوق الخلق، باختلاف أحوالهم، وحقوقهم ومراتبهم ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥]. صدقًا في إخبارها، عدلًا في أحكامها وأوامرها ونواهيها.
ورسله - صلوات الله وسلامه عليهم - صادقون مصدَّقون، قد تحلَّوْا بأعلى الفضائل وأكمل الصفات، وقد تخلَّوْا عن كلِّ خلق دنيء ووصف ناقص. وقد دلَّت البراهين القواطع على صدقهم، وصحة ما جاءوا به، كما دلَّت على بطلان ما ناقض هذه الأصول، التي تأسَّست عليها الحقائق.
فالدعوة إلى هذه الأصول هي الدعوة إلى الحق ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣]. ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨]. فالدعوة إلى الحق هي أفرض الفروض، وأكمل الفضائل، وصاحبها مبارك أينما كان على نفسه وعلى غيره، وخصوصًا إذا دعا نفسه قبل غيره، واتصف بما دعا إليه كما في الآية السابقة وهي: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣]. فهذا لا أحسن قولًا منه، ولا أكمل منه؛ لأنه دعا الخلق إلى الله، وقام بما دعا إليه، وانقاد للدين والطاعة من كل وجه.
وقد أمر تعالى بالدعوة إلى سبيله، وهي طريقة الرسول ودينه الذي هو الصراط المستقيم بالحكمة أي: بكل دعوة وكل وسيلة يحصل بها المقصود كله أو بعضه، وذلك متوقف على علم الداعي، ومعرفته، وبصيرته، ولا يكفي هذا حتى يعرف كيف الطريق إلى دعاية الخلق، وكيف سلوك الوسائل التي يتوصل بها إلى إيصال الحق إلى القلوب بالعلم والرفق واللين.
وأحسن الوسائل إلى ذلك وأنجحها السبل التي دعا الرسل إليها قومهم- أولياءهم وأعداءهم- فإنهم يدعون إلى الله بتوضيح الحق وبيان أدلته وبراهينه، وإبطال ما يناقضه؛ يدعون كل أحد بما يناسب حاله ويليق بمقامه، فالمستجيبون القابلون لما جاءوا به، الذين ليس عندهم معارضات لما جاءت به الرسل، يبينون لهم الحق، ويخبرونهم بمواضع مراضي الله ومواطن سخطه، فإن ما معهم من الإيمان الصادق، والانقياد الصحيح، والاستعداد لطلب الحق، أكبر داع إلى سلوك سبيله إذا بان، والانقياد له إذا اتضح؛ ولهذا يخبر الله في كتابه في- عدة آيات- أنه ﴿هدى ورحمة للمؤمنين﴾، و﴿هدى للمتقين﴾، و﴿هدى ورحمة لقوم يوقنون﴾ لأن هؤلاء لا يحتاجون إلى مجادلة، فعندهم الاستعداد الكامل لسلوك الصراط المستقيم؛ وهو الإيمان واليقين بصحة ما جاء به الرسول وصدقه.
وأما أهل الأغراض والأهواء المانعة من أتباع الحق، فإنهم يدعونهم مع التعليم والتوضيح للحقائق، بالموعظة الحسنة؛ بذكر ما في الأوامر من المصالح والخيرات، والثمرات العاجلة والآجلة.
وكانوا يجادلون المعارضين والمعاندين بالتي هي أحسن من الترغيب والترهيب؛ في اتباع الحق، بذكر فضائله ومحاسنه، والترهيب من الباطل، بذكر مضاره ومساوئه، وإقامة الأدلة والبراهين المقنعة على ذلك، بحسب الحال والمقام، وذلك كله بالرفق واللين؛ وعدم المخاشنة المنفرة؛ لأن الغرض المقصود نفع الخلق، وردهم عما هم عليه من الباطل، قال تعالى لموسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٣ - ٤٤]. وفسَّر ذلك بقوله:
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٧ - ١٩]. فتأمل حسن هذا الخطاب ورقته ولينه.
وكانوا مع هذا كله يصبرون على أذاهم، ويتحملون من المخالفين المعارضين ما لا تحمله الجبال الرواسي، ويستعينون بالله على هدايتهم بالحلم والعفو والصفح، ومقابلتهم بضد ما يقابلونهم به، لعلمهم أن العقائد الراسخة في القلوب لا تزحزحها مجرد الدعوة ومجرد النصيحة، بل لابد من الصبر والعفو والتأني، والتنقل مع المخالفين شيئًا فشيئًا.
وكان النبي محمد ﷺ مع ذلك؛ وحسن تعليمه ودعوته وصبره الذي فاق به جميع الرسل؛ يعطي المؤلفة قلوبهم شيئًا من الدنيا؛ لأنهم إذا كرهوا هذا مالوا إلى هذا، ويبقى سادات العشائر على مراتبهم ورياستهم في قومهم، ويأمر رسله بالدعوة إلى الأهم فالأهم، كما قال لمعاذ ﵁ حين بعثه إلى اليمن داعيًا ومعلمًا: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم).
وكان ﷺ يدعو كلَّ أحد بحسب ما يناسب حاله ويليق به، ويلاطف الضعفاء من الجهال والنساء والصبيان؛ ترغيبًا لهم في الخير، وترهيبًا لهم من الشر.
فمتى كانت الدعوة إلى الحق على هذا الوصف الجميل، كان لها موقعها الأكبر، وتأثيرها الجميل، ومنفعتها العظيمة، وأجرها الكثير. والله الموفق.
_________
اختيار: موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (١٣٤٣هـ - ١٣٨٣هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط١: ١٤٣١هـ. (١/ ٢٧١)
1 / 10
كلمة الحق
أحمد محمد شاكر
نشر سنة ١٣٧٠هـ
ما أَقلَّ ما قلنا (كلمةَ الحق) في مواقف الرجال، وما أكثر ما قصَّرنا في ذلك، إن لم يكن خوفًا فضعفًا، ونستغفر الله، وأَرى أَنْ قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا؛ كفَّارةً عما سَلَف من تقصير، وعما أَسْلَفْتُ من الذنوب، ليس لها إلَّا عفوُ الله ورحمته، والعمر يجري بنا سريعًا، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها.
وأَرى أنْ قد آنَ الأوانُ لنقولها ما استطعنا، وبلادُنا، وبلاد الإسلام تنحدر في مجرى السَّيْل، إلى هُوَّة لا قرار لها، هُوَّةِ الإلحاد والإباحية والانحلال، فإن لم نقف منهم موقف النذير، وإن لم نأخذ بحُجَزِهم عن النار انحدرنا معهم، وأصابنا من عَقابيل ذلك ما يصيبهم، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حُمِّلوا.
ذلك بأن الله أخذ علينا الميثاق ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧].
وذلك بأن ضرب لنا المثل بأَشقى الأُمم ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٨، ٧٩].
وذلك بأن الله وصفنا معشرَ المسلمين بأننا خيرُ الأمم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران:١١٠].
فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأُمم، كنَّا كمَثَل أشقاها، وليس من منزلة هناك بينهما.
وذلك بأن الله يقول: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: ٣٩].
وذلك بأن الرسول ﷺ قال: (أَلاَ لا يمنعنَّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحقٍّ إذا رآه الناس أو شَهِدَه؛ فإنه لا يُقرِّب من أَجَلٍ ذلك، ولا يُبَاعد من رِزْقٍ، أَنْ يقولَ بحقٍّ، أو يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ).
وذلك بأن رسول الله ﷺ قال: (لا يحقرنَّ أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أَحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقولُ فيه؛ فيقولُ الله ﷿ له يوم القيامة: ما منعك أن تقولَ فيَّ كذا وكذا؟ فيقولُ خَشْيَة الناس، فيقول: فإياي كنتَ أَحقَّ أن تَخْشَى).
نريد أن نقول (كلمة الحق) في شؤون المسلمين كلها، نريد أن ننافح عن الإسلام ما استطعنا، بالقول الفصل، والكلمة الصريحة، لا نخشى أحدًا إلاَّ الله؛ إذ نقول ما نقول في حدود ما أنزل الله لنا به، بل ما أوجب عليه أن نقوله، بهدي كتاب ربنا، وسنة رسوله.
نريد أَن نحارب الوثنية الحديثة والشرك الحديث، اللذين شاعا في بلادنا وفي أكثر بلاد الإسلام، تقليدًا لأُوربة الوثنية الملحدة، كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة، والشرك القديم.
نريد أن ننافح عن القرآن، وقد اعتاد ناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أَظهرنا، فمن متأوِّل لآياته غير ِمؤمن به، يريد أن يَقْسِرَها على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب، حتى يوافق ما آمن به، أو ما أُشْرِبتْهُ نفسه، من عقائد أُوربة ووثنيتها وإلحادها، أو يُقَرِّبه إلى عاداتهم وآدابهم، إن كانت لهم آداب؛ ليجعل الإسلام دينًا عصريًّا في نظره ونظر ساداته الذين ارتضع لبانهم، أو رُبِّي في أحضانهم!!.
ومِنْ مُنكرٍ لكل شيء من عالم الغيب، فلا يفتأ يحاور ويداور؛ ليجعل عالم الغيب كله موافقًا لظواهر ما رأى من سنن الكون، إن كان يرى، أو على الأصح لما فهم أَن أُوربة ترى!! نعم، لا بأس عليه عنده أن يؤمن بشيء مما وراء المادة، إن أثبته السادة الأُوربيون، ولو كان من خرافات استحضار الأرواح!!
ومِنْ جاهلٍ لا يفقه في الإسلام شيئًا، ثم لا يستحي أن يتلاعب بقراءات القرآن وألفاظه المعجزة السامية، فيُكذِّب كل الأئمة والحفاظ فيما حفظوا ورووا؛ تقليدًا لعصبية الإفرنج التي يريدون بها أن يهدموا هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ليجعلوه مثل ما لديهم من كتب.
وهكذا ما نرى وترون.
نريد أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن نحارب ما أحدث (النسوان) وأنصار (النسوان) من المنكرات الإباحية والمجون والفجور والدعارة، هؤلاء (النسوان) اللائي ليس لهن رجال، إلاَّ رجال (يُشْبِهْنَ) الرجال!! هذه الحركة النسائية الماجنة، التي يتزعمها المجددون وأشباه المجددين، والمخنثون من الرجال، والمترجلات من النساء، التي يهدمون بها كل خلق كريم، يتسابق أولئك وهؤلاء إلى الشهوات، وإلى الشهوات فقط.
نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين، والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة، واللاتي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصوُّن- إلى العمل الجدِّي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون، إلى حجابها الذي أمر الله به؛ طوعًا أو كرهًا.
نريد أن نثابر على ما دَعَوْنَا وندعو إليه، من العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله في قضائنا كله، في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت الإفرنجي الذي ضُرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين، والله تعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: ٦٠، ٦١]، ثم يقول: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
نريد أن نتحدث في السياسةِ العليا للأمة الإسلامية، التي تجعلهم (أمة واحدة)، كما وصفهم الله في كتابه، نسمو بها على بدعة القومية، وعلى أهواء الأحزاب.
نريد أن نُبَصِّر المسلمين وزعماءَهم بموقعهم من هذه الدنيا بين الأمم، وتكالب الأمم عليهم بغيًا وعَدْوًا، وعصبية، وكراهية الإسلام أولًا وقبل كل شيء.
نريد أن نعمل على تحرير عقول المسلمين وقلوبهم من روح التهتك والإباحية، ومن روح التمرد والإلحاد، وأن نريهم أثر ذلك في أوربة وأمريكا، اللتين يقلِّدانها تقليد القردة، وأن نريهم أثر ذلك في أنفسهم وأخلاقهم ودينهم.
نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة، التي اصطنعها كُتَّاب هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون! يظنون أن هذا من حسن السياسة، ومن الدعوة إلى الحق (بالحكمة والموعظة الحسنة) اللتين أمر الله بهما!.
وما كان هذا منهما قط، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عَرَض الحياة الدنيا.
وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتاميين أو منفِّرين، معاذ الله، و(ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء) كما قال رسول الله ﷺ.
ولكنَّا نريد أن نقول الحق واضحًا غير ملتوٍ، وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة بأحسن عبارة نستطيعها، ولكنا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نصف رجلًا يعلن عداءه للإسلام، أو يرفض شريعة الله ورسوله مثلًا بأنه (صديقنا)، والله سبحانه نهانا عن ذلك نهيًا حازمًا في كتابه.
ونربأ بأنفسنا أن نضعف ونستخذي؛ فنصف أمةً من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار، وتهتك أعراضهم، وتنتهب أموالهم، بأنها أمة (صديقة) أو بأنها أمة (الحرية والنور) إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار)! وأمثال ذلك مما يرى القارئ ويسمع كل يوم، من علمائنا ومن كبرائنا وزعمائنا ووزرائنا، والله المستعان.
نريد أن نمهِّد للمسلمين سبيل العزة التي جعلها الله لهم ومن حقهم إذا اتصفوا بما وصفهم به: أن يكونوا (مؤمنين).
نريد أن نوقظهم وندعوهم إلى دينهم بهذا الصوت الضعيف ...، ولكننا نرجو أن يدوِّي هذا الصوت الضعيف يومًا ما؛ فيملأ العالم الإسلامي، ويبلغ أطراف الأرض، بما اعتزمنا من نية صادقة نرجو أن تكون خالصة لله وحده؛ جهادًا في سبيل الله، إن شاء الله.
فإن عجزنا أو ذهبنا، فلن يعدم الإسلام رجلًا أو رجالًا خيرًا منا، يرفعون هذا اللواء، فلا يزال خَفَّاقًا إلى السماء، بإذن الله.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر)، اعتنى بها عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل - دار الرياض ١٤٢٦هـ، (١/ ٤٢١) بتصرف يسير.
1 / 11
المدنية المادية .
وهل أفلست في إسعاد البشرية؟
أبو الوفا المراغي
نشر عام ١٣٦٠هـ
وفِّق العلماء في الثلاثة القرون الأخيرة إلى مخترعات كانت مثارًا للدهش والاستغراب، فخيل إلى الناس أن حلم السعادة المنشودة قد تحقق، وأن البشرية تستقبل عصرًا مملوءًا بالهناء والرخاء، وأنها لن ترى بعد ذلك بؤسًا ولا شقاء، وأن نعيم الآخرة الذي وصف في الكتب السماوية سيتحقق في هذه الحياة، فعظم شأن العلم الطبيعي في أعينهم، ووسموا هذا العصر بعصر النور، وعنوا بالنور نور المعرفة والعلم، وغفلوا عن أن الذي يفتنهم من هذه المدنية هو الجانب الصناعي، وهو كما ولَّد الوسائل والآلات المعينة على تسهيل الحياة، وتخفيف الآلام ولَّد بجانبها البوارج والمدمرات والغواصات والطيارات والقنابل الهادمة والمحرقة والمهلكات من جميع الأنواع.
هذه هي أهم مظاهر المدنية التي اغتبط بها الناس، وظنوا بها خيرًا؛ ولكنها لم تحقق الظن فيها، فلم تفتح لهم بابًا من أبوب السعادة إلا فتحت عليهم أبوابًا من الويلات لم تعهدها البشرية في تاريخها، فما أن أخذت هذه المخترعات مكانها من الوجود وتميزت وظائفها وتوزعتها الدول، كلٌّ على قدرها، حتى تجاوبت نذر الحروب، فشهد الناس تلك المخترعات الجهنمية تصبُّ الحديد والنار في البحر والجو، وفي الأرياف والأمصار، وفي كل بقعة من البقاع حتى لم يبق بها ملاذ يعتصم به النساء والولدان وأنَّى يكون ملاذ، وقد سلطت الطائرات على الناس تمطرهم بوابل من القذائف، بلا تمييز بين محارب ومسالم، وشيخ وشاب، وسليم ومريض، وبلا رقيب ولا محاسب، وسلطت الغواصات والطرادات على مراكب المسافرين، وسفن التجارة في البحار، تغرق وتحرق ما تظفر به، من غير مبالاة بما تحمل من إنسان أو بضاعة!
وجعلت السيارات تنقل عُدد الحرب وعتاده، وتحمل أوزارًا من الذخيرة والجنود إلى ميادين الحرب أو إلى المجازر البشرية التي أحدثتها المدنية المادية، وحوَّلت المصانع بأنواعها إلى مصانع حربية، وزاحمت مظاهر الحرب مظاهر السلام، حتى أصبح العالم كله في تناحر وصيال.
كان الناس إلى ما قبل ربع قرن يعرفون أن معنى الحرب أن جنود الأمتين المتخاصمتين يقتتلون في ساحات معينة، فمن هزم خصمه أملى عليه الشروط التي يرضاها، لا أن يصبح جميع أفراد الأمم في خطوط النار حتى الهرمى والزمنى والنساء والأطفال، وكانوا يعرفون أن هناك معاهدات تحترم، وقوانين حربية لا تنقض، تحترم فيها حياة الزمنى والهرمى والنساء والولدان.
ولكنا لم نعتم أن رأينا الحرب قد انقلبت إلى تناحر حيواني بين الجماعات، قد أهدرت فيها هذه النظم، ثم انقضت تلك الحروب وخلَّفت الفوضى في نواح كثيرة بدرجة كبيرة حتى فشا الإلحاد والزندقة، وتدهورت الأخلاق، فشاع التهتك بين الرجال والنساء، وتمردوا على العادات الصالحة، والتقاليد الكريمة، وأُسيء فهم الحرية، فخيل لأهل الأهواء أن كل منكر يمكن أن يُرتكب باسم الحرية، وتحلَّل الناس من الفضائل باسم المدنية، وانعكست موازين الأشياء في نظر الناس، فصار التدين رجعية، والاحتياط لصيانة العرض رجعية، ومراقبة الأبناء في تربيتهم رجعية، وهكذا عملت المدنية المادية في الأمم عمل السوس ينخر في العظام، حتى تهدَّم كيانها، وانتقض بنيانها، ثم استفاق عقلاء الأمم على أنَّات الألم، وصيحات الفزع من هذه الأحوال، وحاولوا جبر الصدع، ورمَّ الرثِّ، فعقدت المؤتمرات للنظر فيما أعقبته الحرب من هذا التطور الشديد الخطر على الاجتماع، وعلى السلام العام، رجاء توجيهه الوجهة النافعة للبشرية.
وفي هذه الأثناء كانت المخترعات تسير في طريق الإتقان والكمال، وكان أسرعها سيرًا في هذا الطريق المخترعات الحربية، وكان كثير من الأمم في غفلة عما وراء ذلك التقدم من خطر وشرٍّ، وكانت تعلِّل النفوس بسلام يطول أمده، ويحلو مذاقه، وبينما تسبح الأمم في هذا الخيال إذا الحرب الحاضرة تقرعهم قارعتها، وتقوم عليهم قيامتها، وإذا هم يسمعون ويشاهدون من الأخطار والأهوال ما يقصر دون وصفه الخيال.
لهذا أجمع العقلاء بعد ما بلوا هذه المدنية المادية وابتلوا بها، أنها قد أفلست في إسعاد البشرية، وذهبوا في تعليل ذلك مذاهب شتى، أقربها إلى الصواب أن تلك المدنية إنما أفلست؛ لأنها فقدت أهم العناصر للوصول إلى هذه الغاية، وهو العنصر الروحي، أو عنصر الدين؛ فالمدنية إن لم تنتظم هذا العنصر فلن تصل إلى غايتها أبدا، ذلك أن الدين يطهر النفوس من الأدران والأضغان، ويكسر شرَّة الأطماع، ويحرم التطاول والطغيان، ويزيل الفوارق بين الأجناس والألوان، وينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، ويقيمها على أسس العدل والمحبة والتعاون، ويحرم سفك الدماء إلا بحق، لا لمجرد الهوى والتسلط، ويريح النفوس القلقة مما تراه من التفاوت في الأرزاق والدرجات، ويندب إلى المثل العليا في الفضائل والآداب.
تلك هي بعض مزايا الدين الذي تنبَّه العقلاء- بعد أن صهرتهم المحن وكرثتهم الخطوب- إلى وجوب توافره في بناء المدنية.
وقد يكون مما يؤذن بالخير، ويبعث على الأمل في المستقبل القريب، أن شعور هؤلاء لا يزال في ازدياد. وفي الظن أنه لا تنجلي الظلمات الحاضرة حتى يستتم يقينهم بضرورة الدين كعنصر هام في مدنية يجب أن يسودها الأمن والسلام.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: مجلة الأزهر- الجزء السادس- المجلد الثاني عشر- ١٦ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٠هـ
1 / 12
الحضارة المتبرجة
محمود بن محمد شاكر (ت:١٤١٨هـ)
نُشر عام ١٣٥٩هـ
أُعطِيت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض، من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية - على سموها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني - تتساقط وتتدنَّى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يُبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الروح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل ملل راحة واستجمامًا، بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت إليها كأنما تأوي إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحانًا من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخزِّ والديباج، نعومة ولينًا ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخفَّ ثم يتبدد.
وكانت المرأة هي فنُّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطئ الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظلَّ الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائمًا في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطئ بحرًا آخر يموج موجًا فنيًّا مغريًا يجعل السباحة المجهدة فيه ضربًا من الراحة، وتركت الظلَّ الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدَّته طريقًا بعيدًا متراميًا يسافر فيه القلب سفرًا بعيدًا في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم.
وبدأت المرأة بدءها لتجعل الحضارة فنًّا جديدًا من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد استوت ولذَّت وطابت، وتجدَّدت عقلًا وروحًا وجمالًا، وشاركت أسباب الحضارة في إيجاد حلٍّ جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكد وإرهاق وعناء، فاتخذت فنَّ العقل السامي عبدًا تصرِّفه في إنشاء لذات الحياة إنشاء عبقريًّا، تخشع لسلطانه النفس خشوعًا راضيًا، ثم تمشي في جناته. تأبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها، ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء: كوني جميلة. فتكون.
وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزيَّنت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت الغرائز كلُّها من هزَّة الأشواق وحبِّ الاستمتاع، وانحدرت في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنثة، وسطعت في كيانه كلِّه نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلَّها على كلِّ شيء ألوانًا تتخايل بالفن المنسق البديع، وصبغت كلَّ شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوى في الحياة إلا وهو من المرأة، وإلى المرأة، وفي سبيل المرأة.
وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في فلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يحسُّ ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرف، وبذلك لم يبقَ له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته.
أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فنًّا جميلًا يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثرًا ومنتظمًا، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي؛ لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، مع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استبعاد الشهوات.
ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظًّا من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدة في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد الحركة وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة، تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة، التي تتحول في نار الشهوات رمادًا بعد توقد واشتعال.
فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتدَّ بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل.
وجاء اشتراك المرأة اشتراكا عمليًّا في الحياة الأوربية العامة؛ ليقذف الروح بعيدًا في عزلتها، ويدني غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسلطان الأشواق وحدها، دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائمًا أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعمُّ ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقى من العنت والقسوة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحرارًا في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل، كما تترفع عن بغي السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة، كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكُّم طبقة في طبقة، كما تأبى ثورة طبقة على طبقة.
ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخلق الجميل الفتَّان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرد، فقام النظام كلُّه على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه، لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه، وتلك الدولة الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولًا تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمَّى المرأة.
وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى، لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوبًا، ومهما اختلفت الأساليب في هذا، فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف.
والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، هو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرَّجت لأبنائها تبرُّج الفنِّ العبقريِّ الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كلِّ حيٍّ. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس- لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد- ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضًا في سبيل هذا التفرد - وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كلِّ عمل، وصار ما يُبنى لا يكاد يتمُّ حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يُبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك.
ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت تشرف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدمًا مستعبدًا مستأثرًا باغيًا، ولما تعاندت القوة الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية، ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عامًا، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ولم يتألَّف ما تفرَّق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرق.
إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعت الحرب الماضية، كانت ترفِّه عن المكدودين ترفيهها الحلو الغني المتبرج؛ لتعطي القوى العاملة نشاطًا جديدًا من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال، ومن كل فنٍّ، ومن كل سحر؛ لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجو الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلَّت حبيبها، والبنت التي أضاعت قَيِّمها من أب أو أخ أو عم، ... وبقيت في موج الحياة حيرى متلددة [أي: واقفة متحيرة لا تدري أين تذهب]، لم تجد بدًّا من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعت [أي: أسرعت] في الطريق المجهول، وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطلبها، فلم تجد بدًّا من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيد للصائد في كلِّ وجه، حتى اصطدم العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدرى إلى أين ينتهي، ولا كيف ينتهي.
وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضًا كثيرة فاتنة حائرة، لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني! أنقذني!! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للواتي كن بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن توجد من بقايا العالم المتحطم سحرًا جديدًا لمدنية ساحرة، وبذلك يرتدُّ العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد، والفجور في الاستبداد.
ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله ﷺ في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ (يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد)، وحتى (ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلُذْن به). وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض، الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقًا من قيد الأخلاق، التي تقسره على مصلحة الجماعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجًا هائلًا يجعل العقل غريزة جديدة تشتهي، والروح خلقًا منبوذًا حائرًا يطوف على هذه الفتن، كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يرفع العلم؛ لأنه سيستعبد في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علمًا، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق، الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكَلَب، وتكون المرأة هي علم الحياة الجديد الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط١، ٢٠٠٣م، (١/ ٢١٦)
1 / 13
الفتح الإسلامي
علي الطنطاوي (ت ١٤٢٠هـ - ١٩٩٩ م)
نشر عام ١٩٣٦م
(الفتح الإسلامي) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروع أحْجيَّة من أحاجي النبوغ، وأجل مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطًا في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هيِّنة ضئيلة، بعد أن كانوا يرونها لغزًا لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كنهها. وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تاريخ البشر حادثًا أعجب وأعظم من (الفتح الإسلامي).
إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوع أشكالها، لا تعدوا أن تكون واحدة من ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدته بأسباب القوة والنضج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلًا؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلًا، أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب.
(والفتح الإسلامي) أعظم الحوادث التاريخية كلها، في أبواب العظمة كلها، لا يدانيه في ذلك حادث في تاريخ الشرق والغرب، القديم منه والحديث.
أما في الحروب فإن التاريخ يعرف كثيرًا من الفاتحين، منذ عهد الإسكندر ومن قبل الإسكندر، إلى عهد نابليون ومن بعد نابليون، ولكنه لم يعرف فتحًا أوسع ولا أسرع من (الفتح الإسلامي) الذي امتد في اثني عشر عامًا فقط من طرابلس الغرب إلى آخر بلاد العجم، وحاز مصر وسورية وفارس كلها ... على أن ميزة الفتح الإسلامي ليست في السعة والسرعة وحدهما، ولكن ميزته الكبرى أنه فتح أبدي، فلم يعرف عن المسلمين أنهم دخلوا بلادًا وخرجوا منها؛ ذلك أنهم لا يفتحون البلاد بسيوفهم شأن كل الفاتحين، ولكنهم يفتحون القلوب والعقول، بعدلهم وعلمهم، فلا تلبث البلاد المفتوحة أن تندمج بالمسلمين، وتصبح أغير على الإسلام من المسلمين الفاتحين، بينما ترى البلاد التي فتحها غيرهم تبقى خاضعة لهم ما بقي السيف مصلتًا فوق رؤوس أهلها، فإذا أحسوا من الفاتحين غرة، وآنسوا منهم ضعفًا وثبوا عليهم فطردوهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، حتى أن أميركا على رغم أنها كانت خالية إلا من قبائل لا شأن لها، وليس فيها دين يناوئ دينًا، أو عادات تصادم عادات، وعلى رغم أن أهلها الذين استعمروها إنكليز كالإنكليز الحاكمين، فإنهم وثبوا عليهم وحاربوهم حتى نالوا استقلالهم؛ ولا تجد اليوم أميركيًا واحدًا يريد الانضمام إلى إنكلترا (الأم الكبرى)، بينما تجد كل مسلم في الصين أو الهند أو جاوا أو القسطنطينية - كل مسلم صحيح - يتحسر على الوحدة الإسلامية - ويسعى إليها - ولا يقبل بها بديلًا، على رغم ما أحدثوا لهم من كذبة وبدعة الوطنيات، وما أقاموا بين الإخوان من سدود، وما فصلوا به بينهم من حدود، وما مر على هذه التفرقة من سنين وأعوام. ذلك لأن (الفتح الإسلامي) فتح أبدي، مستقر في القلوب، لا تقوى قوة بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.
أما في العلم والثقافة؛ فقد كان (الفتح الإسلامي) أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرر عقولها بالتوحيد، وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار،، والنيران والأخشاب، والقسس والأشراف. ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض، ويحفز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء فما إن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد يدرسون ويقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدثون، والفقهاء والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص والمؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدروا بعد للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوروبا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.
فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية - التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم - لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر.
ومن لعمري ينسى البخاري والطبري والأصبهاني والهمداني والشيرازي والسرخسي والمروزي والرازي والخوارزمي والنيسابوري والقزويني والدينوري والسيرافي والجرجاني والنسائي، وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم عد؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملة وأعلامها؟ ألا نحل كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألا يؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مئة حكومة من مثل الحكومة الحاضرة، التي تستن في فارس سنة (هذا الآخر ...) في تركيا.
أما في الحضارة والعمران؛ فللفتح الإسلامي أكبر الأثر في نشر الحضارة وتوطيد العمران، والعمران طبيعة في العربي المسلم، فلم يمض على فتح المسلمين بلاد العراق إلا سنوات حتى أسسوا مدينتين كبيرتين كان لهما الفضل والمنة على الحركة العلمية والأدبية في العالم كله. فضلًا عن أنهما كانتا قاعدتين حربيتين من أكبر القواعد الحربية؛ وما استقرت أقدامهم في البلاد حتى شرعوا في بناء المدن الكبيرة، والقصور العظيمة، وإنشاء أروع آثار البناء، حتى كانت بغداد وسرَّ من رأى، وكانت دمشق من قبل، والقاهرة ومدن الأندلس من بعد، أعجوبة في فن العمران، وها إن أثرًا صغيرًا من آثار العرب - ليس بأعظمها ولا أكبرها - لا يزال إلى اليوم محط ركاب الرحال من أهل العلم ورجال الأدب، ولا يزال مصدرًا ماليًا لحكومة من كبار حكومات أوروبة تعيش إلى اليوم بفضل العرب، وهي حكومة اسبانيا. ولقد حاول الإنكليز على قوتهم وغناهم - في هذا العصر الذي تيسرت فيه أسباب كل شيء - أن ينشئوا مثل (الحمراء) فأنشؤوا قصرًا في سيدنهام يعد من أعظم المباني العصرية وأجملها، ولا يزال دون الأصل بمراحل فكيف بمن بنى الأصل في ذلك العصر الغابر؟
إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها.
فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حير نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحير المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون ... إذا وجد العربي من القبيلة قافلة من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا دينًا مضحكًا سخيفًا، دين من يتخذ ربًا من التمر، فإذا جاع أكله، أو من ينحت من الصخر صنمًا ثم يعكف عليه عابدًا داعيًا، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعًا للفرس والروم وجندًا لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثًا عجيبًا يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمرًا نادرًا يلبث حديث الناس أيامًا وليالي ... فكيف يتحد العرب كلهم، عدنانيهم وقحطانيهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة للظهر، فإذا انجلى غبار المعركة نظرت فإذا المعجزة قد ظهرت على أتمها، وإذا الأرض قد بدلت غير الأرض، وإذا فارس الوثنية، وسورية النصرانية، ومصر الرومانية، قد محيت كلها محوًا، وقامت مكانها أمم إسلامية في فارس وسورية ومصر، كأنما هي لإخلاصها للعربية والإسلام لم تكن يومًا من الأيام على غير الإسلام؟
أكان هذا الانقلاب ما بين ليلة وضحاها ... أكان هذا التبدل الذي تغلغل في صميم الأمة العربية فغير كل شيء فيها وأنشأها إنشاءً جديدًا لأن رجلًا قام في مكة، يتلو كتابًا جاء به؟ أيقوى رجل مهما كان شأنه على مثل هذا العمل ويكون له في تاريخ العالم ومستقبل البشرية هذا التأثير؟
هذا هو اللغز الذي حيَّر المؤرخين من الغربيين، ولم يعرفوا له حلًا معقولًا!
على حين أن الأمر واضح والسبب ظاهر، ذلك أن هذا الأمر لم يكن عمل رجل عظيم من عظماء الناس، ولكنه عمل الله جلت قدرته، أظهره على يد سيد أنبيائه، وخاتم رسله، سيدنا محمد ﷺ.
ذلك أن (الفتح الإسلامي) معجزة من معجزاته ﷺ.
هذا وإن من الخطأ أن نعد الفتح الإسلامي، مثل ما نعرف من فتوح الأمم المختلفة في الأعصار المتباينة، لأن للفتح الإسلامي طبيعة خاصة به تجعله ممتازًا عن سائر الفتوح، وتنشئ له في التاريخ بابًا خاصًا، ذلك أن كافة الفتوح إنما كانت الغاية منها ضم البلاد المفتوحة إلى أملاك الفاتحين، والانتفاع بخيراتها ومواردها، لا نعرف فتحًا يخرج عن هذا المبدأ إلا الفتح الإسلامي، فلم تكن الغاية ضم البلدان إلى الوطن الإسلامي، وامتصاص دماء أهلها وأموالهم، واستغلال مواردها الطبيعية وخيراتها، ولكن غايته نشر الدين الإسلامي والسعي لإعلاء كلمة الله، وإذاعة هدي القرآن في الأرض كلها؛ فكانوا كلما وطئوا أرضًا عرضوا على حكومتها وشعبها الإسلام، فإن قبلوا به واتبعوه ونطقوا بكلمة الشهادة انصرفوا عنهم وعدُّوهم إخوانهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين أمير المؤمنين وآخر مسلم في أقصى الأرض؛ كلهم سواء في الحقوق الواجبات، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وإن لم يقبلوا بالإسلام عرضوا عليهم الجزية، وهي أقل بكثير مما كانوا يدفعونه إلى ملوكهم وأمرائهم، وسموهم ذميين لهم ذمة المسلمين، وأعطوهم الحرية في أمور دينهم ودنياهم، وتعهدوا لهم بالأمن الداخلي والخارجي. وإن أبوا أن يعطوا الجزية حاربوهم ... ثم لم يكرهوا أحدًا على الإسلام لأن في صحة الإسلام وفوائده في الدنيا والآخرة ما يغني في الدعوة إليه عن السيف. وما (دين محمد دين السيف) كما يهتف العامة والجاهلون، ولكنه دين العقل والمنطق والعلم، والمسلمون عامة دعاة مرشدون، ولكنهم دعاة أقوياء يحملون القرآن بيد، والسيف بالأخرى، فمن قبل فما كانوا ليحاربوه، ومن أبى وحاربهم أدبوه حتى يرجع إلى الحق، ويجنح إلى السلم.
ثم إن معاملة المسلمين للذميين، ووفاءهم بعهودهم، وصدق وعودهم وكرمهم وتسامحهم الذي شهد به الأصدقاء والأعداء؛ وصار أشهر من أن يذكر ما يؤكد طبيعة (الفتح الإسلامي) ويرفعه عن أن يقاس به فتح آخر!
وهذه هي التواريخ فاستقروها واحكموا!.
_________
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (فكر ومباحث) للشيخ علي الطنطاوي. مكتبة المنارة. مكة- الطبعة الثانية ١٤٠٨هـ، (ص١٣٥) (بتصرف يسير).
1 / 14
عِظَم الهمة
محمد الخضر حسين (ت:١٣٧٧ هـ)
نشر عام ١٣٦٤هـ
شؤون الأمم شتى، وأعز شؤونها مكارم الأخلاق. وحقوق الأمم على علمائها وزعمائها كثيرة، وأهم حقوقها القيام على هذه المكارم؛ فالجماعة التي تعمل على تقويم الأخلاق، وترقية الآداب، هي التي تحمل من أعباء حقوق الأمة ما كان أرجح وزنًا، وأكبر نفعًا.
. أتقدم إلى هذا المجمع الكريم، وألقي فيه كلمة صغيرة، أصف بها خلقًا من أجل الأخلاق، وهو عظم الهمة.
ما هو عِظَم الهمة؟
أحكم علماء الأخلاق بيان هذا الخلق، فقالوا: (هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور).
فعظيم الهمة يستخفُّ بالمرتبة السفلى، أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
وإذا كان هذا الخلق لا يقع إلا على معالي الأمور، فلا عظمة لهمم قوم يبتغون النهاية في زينة هذه الحياة، ويغرقون في التمتع بلذاتها المادية؛ كهؤلاء الذين يسرفون في الملابس المنمقة، والمطعومات الفاخرة، والمباني الشاهقة؛ فإن الزينة واللذائذ المادية لا تعد فيما تتسابق فيه الهمم من معالي الأمور:
إذا كان في لبس الفتى شرف له
فما السيف إلا غمده والحمائل
والشاعر الذي يقول:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
لم يقل صوابًا، ولم ينطق بحكمة، إلا أن يريد من البنيان: ما أقاموه لمصالح عامة؛ كأن يكون مدارس، أو مستشفيات، أو دورًا للكتب، أو مساجد يذكر فيها اسم الله، أو ملاجئ تأوي إليها اليتامى أو المساكين وابن السبيل.
يستصغر عظيم الهمة ما دون النهاية من معالي الأمور، وإذا رأى الوسائل في الخارج تخونه، وتأبى أن تساعده على إدراك النهاية، فإنه يمضي في عزمه، ويرضى بمبلغ جهده، وإن كان دون المرتبة العليا.
ومن الخطل في الرأي أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة، انصرف عنها جملة، والتحق بالطائفة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب. والذي يوافق الحكمة، ويقتضيه حق التعاون في سعادة الجماعة، أن يذهب الرجل في همه إلى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعيًا، ولا يقف دون النهاية إلا حين ينفد جهده، ولا يهتدي للمزيد على ما فعل سبيلًا.
والناس في الحقيقة أصناف:
رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا من يسمى: (عظيم الهمة)، أو (عظيم النفس).
ورجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في سفساف الأمور وصغائرها، وهذا من يسمى: (صغير الهمة)، أو (صغير النفس).
ورجل لا يكفي لعظائم الأمور، ويحس بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لأمثالها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الرجل بصير بنفسه، متواضع في سيرته.
هؤلاء ثلاثة، ورابعهم لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، مخلوق لأن يحمل أثقالها، وهذا من يسمونه: (فخورًا)، وإن شئت فسمِّه: (متعظمًا).
من أين ينشأ عظم الهمة:
يتربَّى عِظَم الهمة عن طريق الاقتداء؛ كأن ينشأ الفتى تحت رعاية ولي، أو أستاذ يطمح إلى النهايات من معالي الأمور، أو من طريق تلقين الحكمة، وبيان فضل عِظَم الهمة، وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التاريخ، والنظر في سير أعاظم الرجال، فإنا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الذين يلهج التاريخ بأسمائهم، لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على هذا الخلق الذي نسميه: (عِظَم الهمة).
والقرآن يملأ النفوس بعِظَم الهمة، وهذا العِظَم هو الذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على عروش كانت ظالمة، ونسفوها من وجه البسيطة نسفًا، ثم رفعوا لواء العدل والحرية والمساواة، وفجَّروا أنهار العلوم تفجيرًا. وإذا رأينا من بعض قرائه هممًا ضئيلة، ونفوسًا خاملة، فلأنهم لم يتدبروا آياته، ولم يتفقهوا في حكمه.
فضل عِظَم الهمة:
يسمو هذا الخلق بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدري، فإذ هو عزيز كريم. وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها، وتسل يدها من أسباب نجاتها ومنعتها.
أما صغير الهمة، فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم.
نعم، يورد هذا الخلق صاحبه موارد التعب والعناء، ولكن التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور يشبه الدواء المر، فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذبًا باردًا، وعظيم الهمة قد يشتد حرصه على الشرف، حتى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار.
وربما كان الشرف الذي يركب له الأخطار والشدائد أعزَّ وقعًا، وأدلَّ على عظم همته من الشرف الذي يناله في يسر وسهولة.
أراد أبو الوليد الباجي - حين كان يناظر أبا محمد بن حزم - أن يثبت لهمته فضلًا عن همة ابن حزم، فقال له:
أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائر السوق.
وأجابه ابن حزم قائلًا: أنت طلبت العلم في حال فاقة، رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، لا أرجو إلا علوَّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
فضَّل أبو الوليد الباجي همته على همة ابن حزم بما كان يلاقيه في سبيل طلب العلم من شدة وعناء، وفضَّل ابن حزم همته على همة أبي الوليد الباجي بأنه كان يطلب العلم لفضيلته. ولو صحَّ قول ابن حزم، وثبت ما اتهم به أبا الوليد من أنه كان يطلب العلم لليسار والرفاهية، لكان أعظم همة ممن يريد اتخاذ العلم وسيلة إلى منصب، أو وجاهة، أو مال.
يتعلق عِظَم الهمة بكل شأن رفيع، ومقام محمود، ولا تسع هذه الكلمة إلا أن نعرج فيها على عِظَم الهمة في العلم، وعِظَم الهمة في النصح والإرشاد.
عِظَم الهمة في العلم:
تتفاضل العلوم بغاياتها، وبقدر ما يكون لها من الاتصال بسعادة الإنسان. وتتفاضل همم الطلاب بالنظر إلى هذه العلوم المتفاضلة في نفسها. فلكلٍّ من علم الأخلاق وعلم العروض- مثلًا- أثر في الحياة الأدبية، ولكن علم الأخلاق أقرب إلى السعادة منزلة، وأوسع فيما ينفع الناس جولة. فمن يُعنى بالأخلاق؛ ليتحلَّى بمكارمها، يكون أرفع همة ممن يُعنى بالعروض؛ ليعرف أوزان الشعر، وما يلحقها من زخارف أو علة. وأعظم من هاتين الهمتين همة من جمع بين درس الأخلاق والعروض.
أخذ بعض أهل العلم يدرس العروض بعد أن بلغ من الكِبَر عتيًّا، ولما لامه بعض أصحابه على اشتغاله بهذا العلم الصغير، وهو شيخ كبير، قال له: شهدت مجلس قوم كانوا يتحاورون في هذا العلم، ولم أكن على معرفة به، وكان نصيبي بينهم السكوت، فأخذتني ذلة.
فمن درس علمًا فأتقنه، ثم بسط نظره في علوم أخرى، كان أعظم همة ممن درس علمًا، ثم قعد لا يلقي لغيره من العلوم بالًا، ولا يعرف لثمرها اللذيذ طعمًا.
كان لطلاب العلم في الشرق حرص على أن يستكثروا من العلم، ويضعوا أيديهم في فنون شتى، وما كانت رغبة الواحد منهم في الاطلاع على العلوم والفنون بعائقة له عن أن يرسل نظره في بعضها حتى يرسخ فيها فهمًا، ويأخذ بأطرافه علمًا، ويرقى إلى المنزلة التي تُسمَّى: (تخصصًا).
فشيخ الإسلام ابن تيمية كان طودًا راسخًا في علوم الشريعة، وأضاف إلى رسوخه في هذه العلوم أن بلغ في علوم اللغة مرتبة تخوله أن يخطِّئ سيبويه في نحو أربع عشرة مسألة في علم النحو.
وهذا حجة الإسلام الغزالي كان متضلعًا من علوم الشريعة ووسائلها، وجمع إلى تضلعه في هذه العلوم أن كان يهاجم الفلاسفة في كثير من آرائهم، ويناقشها بمنطق وروية.
وهذا القاضي عبد الوهاب بن نصر كان فقيهًا نحريرًا، وأديبًا فائقًا، وهو الذي يقول فيه أبو العلاء المعري:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمِدنا النَّأْيَ والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكًا جدلًا
وينشر المَلِك الضِّلِّيلَ إن شعرا
فعِظَم الهمة يدعو طلاب علوم الشريعة الإسلامية أن يمدوا أنظارهم إلى هذه العلوم الحديثة؛ ليكونوا منها على بصيرة، وليزدادوا بها بينة على بيناتهم المفحمة لهذه الفئة، التي تزعم أن بين الدين والعلم خلافًا، وأن من العلم ما لا يستقر مع حقائق الدين في نفس واحدة.
ومن عظم همة القائم على بعض هذه العلوم الحديثة: أن يأخذ نفسه بالاطلاع على حقائق الإسلام وآدابه؛ ليحرز بها الكمال والسعادة، وليتعالى عن أن يمشي وراء نفر يجتمعون على أن يحاربوا ما في هذا الدين القيم من حكمة وفضيلة.
تتفاوت الهمم في العلم الواحد من ناحية الاطلاع على مسائله، ثم من ناحية التصرف في هذه المسائل بتحقيق النظر، وإجادة البحث.
فطالب العلم الذي لا يدع بابًا من أبوابه إلا ولجه، ولا يغادر بحثًا من مباحثه المهمة إلا ألمَّ به، يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج فيه على كل مسألة قيمة.
وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر، ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة، يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظًا، ويتلقَّاها كما يتلقَّاها (حاكي الصدى)، لا يكلفك غير إملائها عليه.
وطالب العلم الذي يتحرَّى لُبابه، ويجول في أصوله، يكون أعظم همة ممن يقضي الزمن في قشوره، ويحبس النظر في دائرة ضيقة من فروعه.
وكذلك ترى الأستاذ النحرير يبخل بأوقاته النفيسة عن أن ينفقها في مناقشات واهية، وإنما يندفع إلى الخوض في حقائق العلم، والغوص على أسراره، وإذا توجهت إلى نقد عبارة مؤلف، فإنما يمس الخلل الذي يشوه صورة المسألة التي هي موضع البحث.
هذا والأمل معقود على أن هذه المعاهد والمدارس، تنبت لنا رجالًا تعظم هممهم، فيجمعون من العلوم ما يجعل الشرق بحرًا زاخرًا، ويسيرون في كلِّ علم سيرة الباحث الذي يفتح فيه طرقًا قيمة، ويجعل نتائجه في تجدد ونماء.
عِظَم الهمة في النصح والإرشاد:
في سبيل الدفاع عن الحق، أو الدعوة إلى الإصلاح عقبة لا يقتحمها إلا ذوو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوسًا طاغية، وأحلامًا طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت فيهم أيد باطشة، وأرجل في غير الخير ساعية.
فأنصار الحقيقة ينصبون أنفسهم أمام هذه الشرور كلِّها، وإنما تعظم هممهم على قدر ما يتوقعونه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه، فالذي ينكر على الحاكم خرقًا في السياسة، أو حيفًا في القضاء، يكون أعظم همة ممن لا يحمي الحقيقة إلا إذا عبثت بها أيدي الضعفاء، والذين لا يجدون ما ينفقون.
يتمثل لكم عِظَم الهمة في منذر بن سعيد قاضي قرطبة، حين قام في خطبة الجمعة ينكر على الخليفة عبد الرحمن الناصر إسرافه في الإنفاق على تشييد المباني وزخرفتها، وأخذ يلقي الخطبة في كلام جزل افتتحه بقوله تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨، ١٢٩]، وسلك ذلك الكلام الجزل، وهو على علم بأن الخليفة حاضر مستمع إليه، ولكن الخليفة انصرف بعد أن قُضيت الصلاة، ولم يزد على أن صار يصلي في جامع لا يخطب فيه منذر بن سعيد.
يشهد العالمان الرجل من ذوي الشأن يعمل عملًا غير صالح، وأعظمهما همة هو الذي يسبق إلى إنكار عمله، وتذكيره بسوء عاقبته.
دخل عثمان بن إدريس، ومنذر بن سعيد البلوطي على الخليفة الناصر وهو في الزهراء، فأنشد أبو عثمان أبياتًا أطرى بها الخليفة على هذا البناء، فابتهج الناصر، واهتز لهذا الإطراء، أما منذر بن سعيد، فإنه أطرق رأسه ساعة، ثم رفع رأسه وقال:
يا باني الزهراء مستغرقًا
أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقًا
لو لم تكن زهرتها تذبل
فقال الناصر: إذا هبَّ عليهم نسيم التذكار، وسقتها مدامع الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال منذر: اللهم اشهد، فإني قد بثثت ما عندي، ولم آلُ نصحًا.
وأصاب منذر فيما قال، فقد ذبلت زهرة الزهراء، وتهدمت قصورها يوم قام محمد بن هشام على بني عامر، وانتزع الملك من أيديهم، واستولى على قرطبة سنة تسع وتسعين وثلاث مئة.
وإذا كانت الدعوة من معالي الأمور، فنهايتها التي يبلغها الداعي المصلح أن يرشد إلى ما يراه حقًّا، وبحذر مما يراه منكرًا، غير حافل بما يحفل به ضعيف الإيمان، أو قليل الإخلاص من رضا الملأ الذين استكبروا.
رفع القرآن مكان الدعوة، ثم جعل الدعاة إلى حق أو إصلاح خير أمة أخرجت للناس. وقد خرج بفضل القرآن رجال عظمت هممهم، فكانوا يؤثرون الحق والنظام على منافعهم الخاصة، ويحتملون في سبيل النصح والإرشاد ما تدعوهم الحكمة إلى احتماله من فقد السراء، أو لقاء الضراء.
وسنرى - بتوفيق الله تعالى - من هذه المعاهد والمدارس رجالًا كثيرًا يقدرون عِظَم الهمة في النصح للأمة، وينهضون بهذا الواجب ضاربين بمنافعهم الخاصة إلى وراء. وإذا فاتهم أن يروا ثمرة جهادهم بأعينهم، ففي شرف الجهاد وإنارة السبيل للأجيال القابلة كفاية.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط١، ١٤٣١هـ، (٥/ ٢٠٢٣).
1 / 15
محاورة دينية اجتماعية (١/ ٢)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي (١٣٧٦هـ)
نشر عام ١٣٦٧هـ
هذه صورة محاورة بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين مسلمين يدينان الدين الحق، ويشتغلان في طلب العلم جميعًا، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا، فإذا هذا الغائب قد تغيَّرت أحواله، وتبدَّلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن ذلك، فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين، ورفض ما جاء به المرسلون، فحاوله [لعلها فحاوره] صاحبه وقلبه، لعله يرجع عن هذا الانقلاب الغريب، فأعيته الحيلة في ذلك، وعرف أن ذلك علة عظيمة، ومرض يفتقر إلى استئصال الداء، ومعالجته بأنفع الدواء، وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حوَّلته، والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة، وإلى فحصها وتمحيصها وتخليصها وتوضيحها ومقابلتها بما يضادها ويقمعها، على وجه الحكمة والسداد.
فقال لصاحبه مستكشفًا له عن الحامل له على ذلك: يا أخي ما هذه الأسباب التي حملتك على ما أرى؟ وما الذي دعاك إلى نبذ ما كنت عليه؟ فإن كان خيرا ًكنت أنا وأنت شريكين، وإن كان غير ذلك فأعرف من عقلك ودينك وأدبك أنني وأنك لا نرضى أن تقيم على ما يضرُّك.
فأجابه صاحبه قائلًا: لا أكتمك أني قد رأيت المسلمين على حالة لا يرضاها ذوو الهمم العلية؛ رأيتهم في جهل وذلٍّ وخمول، وأمورهم مُدْبرة، وأحوالهم سيئة، وأخلاقهم منحلة، وقد فقدوا روح الدين والدنيا جميعًا، ورأيت في الجانب الآخر هؤلاء الأجانب قد ترقَّوْا في هذه الحياة، وتفننوا في الفنون الراقية والمخترعات العجيبة المدهشة
والصناعات المتفوقة، فرأيتهم قد دانت لهم الأمم، وخضعت لهم الرقاب، وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفة بما شاؤوا، ويعدونهم كالعبيد والأجراء، فرأيت فيهم العزَّ الذي بهرني، والتفنن الذي أدهشني، فقلت في نفسي: لولا أن هؤلاء القوم هم القوم، وأنهم على الحق، والمسلمون على الباطل لما كانوا على هذا الوصف الذي ذكرت لك، فرأيت أن سلوكي سبيلهم واقتدائي بهم خير لي وأحسن عاقبة، فهذا الذي صيَّرني إلى ما رأيت.
فقال له صاحبه حين أبدى ما كان خافيًا: إذا كان هذا هو السبب الذي حولك إلى ما أرى، فهذا ليس من الأسباب التي يبنى عليها أولو الألباب والعقول عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ومستقبل أمرهم، فاسمع يا صديقي تمحيص هذا الأمر الذي غرك وحقيقته:
إن تأخر المسلمين فيما ذكرت ليس ناشئًا عن دينهم، فإنه قد علم كل من له أدنى نظر وبصيرة أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين وفي أمور الدنيا، ويحث على الاستعداد؛ من تعلم العلوم والفنون النافعة، ويدعو إلى تقوية القوة المعنوية والمادية لمقاومة الأعداء، والسلامة من شرهم وأضرارهم، ولم يستفد أحد منفعة دنيوية - فضلًا عن المنافع الدينية - إلا من هذا الدين، وهذه تعاليمه وإرشاداته قائمة لدينا تنادي أهلها: هلمَّ إلى الاشتغال بجميع الأسباب النافعة التي تعليكم وترقيكم في دينكم ودنياكم.
أفبتفريط المسلمين تحتجُّ على الدين؟! إن هذا لهو الظلم المبين!
أليس من قصور النظر، ومن الهوى والتعصب، النظر في أحوال المسلمين في هذه الأوقات التي تدهورت فيها علومهم وأعمالهم وأخلاقهم، وفقدوا فيها جميع مقومات دينهم، وترك النظر إليهم في زهرة الإسلام والدين في الصدر الأول، حيث كانوا قائمين بالدين، مستقيمين على الدين، سالكين كل طريق يدعو إليه الدين، فارتقت أخلاقهم وأعمالهم حتى بلغت مبلغًا ما وصل إليه ولن يصل إليه أحد من الأولين والآخرين، ودانت لهم الدنيا من مشارقها إلى مغاربها، وخضعت لهم أقوى الأمم، وذلك بالدين الحق والعدل والحكمة والرحمة، وبالأوصاف الجميلة التي كانوا عليها؟!
أليس ضعف المسلمين في هذه الأوقات يوجب لأهل البصائر والنجدة منهم أن يكون جدهم ونشاطهم وجهادهم الأكبر متضاعفًا، ويقوموا بكل ما في وسعهم؛ لينالوا المقامات الشامخة، ولينجوا من الهوة العميقة التي وقعوا فيها؟!
أليس هذا من أفرض الفرائض وألزم اللازمات في هذا الحال؟
فالجهاد في حال قوة المسلمين، وكثرة المشاركين فيه، له فضل عظيم يفوق سائر العبادات، فكيف إذا كانوا على هذه الحالة التي وصفت؟ فإن الجهاد لا يمكن التعبير عن فضائله وثمراته، ففي هذه الحال يكون الجهاد على قسمين:
أحدهما: السعي في تقويم المسلمين، وإيقاظ هممهم، وبعث عزائمهم، وتعليمهم العلوم النافعة، وتهذيبهم بالأخلاق الراقية، وهذا أشق الأمرين، وهو أنفعهما وأفضلهما.
والثاني: السعي في مقاومة الأعداء، وإعداد جميع العدد القولية والفعلية والسياسية؛ الداخلية والخارجية؛ لمناوءتهم، والسلامة من شرهم!
أفحين صار الأمر على هذا الوصف الذي ذكرت، وصار الموقف حرجًا، تتخلَّى عن إخوانك المسلمين، وتتخلف مع الجبناء والمخالفين؟ فكيف مع ذلك تنضمُّ إلى حزب المحاربين! .. الله الله يا أخي لا تكن أقل ممن قيل فيهم: ﴿تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ﴾ [آل عمران: ١٦٧]. قاتلوا لأجل دينكم، أو ادفعوا لأجل قومكم ووطنكم، لا تكن مثل هؤلاء المنافقين، فأعيذك يا أخي من هذه الحال التي لا يرضاها أهل الديانات، ولا أهل النجدات والمروءات، فهل ترضى أن تشارك قومك في حال عزِّهم وقوة عددهم وعنصرهم، وتفارقهم في حال ذلِّهم ومصائبهم، وتخذلهم في وقت اشتدت فيه الضرورة إلى نصرة الأولياء، وردِّ عدوان الأعداء؟ فهل رأيت قومًا خيرًا من قومك، أو شاهدت دينًا أفضل من دينك؟
فقال المنصوح: الأمر هو ما ذكرت لك، ونفسي تتوق إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعات، وترقوا في هذه الحياة.
فقال له صاحبه وهو يحاوره: رفضت دينًا قيمًا كامل القواعد، ثابت الأركان، مشرق البرهان، يدعو إلى كل خير، ويحث على السعادة والفلاح، ويقول لأهله: هلمَّ إلى كلِّ صلاح وإصلاح، وإلى كلِّ خير ونجاح، واسلكوا كلَّ طريق يوصلكم إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
دين مبني على الحضارة الراقية الصحيحة التي بنيت على العدل والتوحيد، وأُسِّست على الرحمة والحكمة والعلم والشفقة وأداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وسلمت من الظلم والجشع والأخلاق السافلة، وشملت بظلِّها الظليل وإحسانها الطويل وخيرها الشامل وبهائها الكامل ما بين المشارق والمغارب، وأقرَّ بذلك الموافق والمنصف المخالف، أتتركها راغبًا في حضارات ومدنيات مبنية على الكفر والإلحاد، مؤسسة على الطمع والجشع والقسوة وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورحمته، عادمة لنور العلم وحكمته؟
حضارة ظاهرها مزخرف مزوَّق، وباطنها خراب، وتظنها تعمر الموجود، وهي في الحقيقة مآلها الهلاك والتدمير، ألم تر آثارها في هذه الأوقات، وما احتوت عليه من الآفات والويلات، وما جلبته للخلائق من الهلاك والفناء والتدمير؟
فهل سمع الخلق منذ أوجدهم الله لهذه المجازر البشرية التي انتهى إليها شوط هذه الحضارة نظيرًا أو مثيلًا؟
فهل أغنت عنهم مدنيتهم وحضارتهم من عذاب الله لما جاء أمر ربك، وما زادتهم غير تتبيب؟
فلا يخدعنك ما ترى من المناظر المزخرفة، والأقوال المموهة، والدعاوى الطويلة العريضة؛ وانظر إلى بواطن الأمور وحقائقها، ولا تغرنك ظواهرها، وتأمل النتائج الوخيمة، والثمرات الذميمة، فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا حياة لهم يرجون غيرها؟ أما تراهم يتنقلون من شرٍّ إلى شرور؟! ولا يسكنون في وقت إلا وهم يتحفزون إلى شرور فظيعة ومجازر عظيمة؟
فالقوة والمدنية والحضارة والمادة بأنواعها إذا خلت من الدين الحقِّ فهذه طبيعتها، وهذه ثمراتها وويلاتها، ليس لها أصول وقواعد نافعة، ولا لها غايات صالحة.
ثم هب أنهم متعوا في حياتهم واستدرجوا فيها بالعز والرئاسة ومظاهر القوة والحياة، فهل إذا انحزت إليهم وواليتهم يشركونك في حياتهم، ويجعلونك كأبناء قومهم؟ كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك جعلوك من أرذل خدامهم، وآية ذلك أنك في ليلك ونهارك تكدح في خدمتهم، وتتكلم وتجادل وتخاصم على حسابهم، ولم ترهم رفعوك حتى ساووا معك أدنى قومهم وبني جنسهم!! فالله الله يا أخي في دينك وفي مروءتك وأخلاقك وأدبك!! والله الله في بقية رمقك!! فالانضمام إلى هؤلاء والله، هو الهلاك.
فقال له المنصوح: لقد صدقت فيما قلت، ولكن لي على هذا المذهب أصحاب مثقفون.
ولي على هذا الرأي شبيبة مهذبون، قد تعاقدت معهم على التمسك بالإلحاد، واحتقار المستمسكين بدين رب العباد، قد أخذنا نصيبًا وافرًا من اللذات، واستبحنا ما تدعو إليه النفوس من أصناف الشهوات، فأنَّى لي بمقاطعة هؤلاء السادة الغرر؟ وكيف لي بمباينتهم وقد اتصلت بهم غاية الاتصال؟!
فالآن يتنازعني داعيان: داعي الحق بعد ما بان سبيله واتضح دليله، وداعي النفس والاتصال بهؤلاء الأصحاب المنافي للحق غاية المنافاة، فكيف الطريق الذي يريحني ويشفيني، وما الذي عن هذا الأمر يسليني؟
فقال له صاحبه الناصح: ألم تعلم أن من أوجب الواجبات وأكبر فضائل الرجل اللبيب أن يتبع الحق الذي تبين له، ويدع ما هو فيه من الباطل، وخصوصًا عند المنازعات النفسية، والأغراض الدنيوية؛ وأن الموفَّق إذا وقع في المهالك طلب الوسيلة إلى تحصيل الأسباب المنجية؟
أما علمت أن من نعمة الله على العبد أن يقيض له الناصحين الذين يرشدونه إلى الخير، ويأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر، ويسعون في سعادته وفلاحه؟ ثم من تمام هذه النعمة أن يُوفَّق لطاعتهم، ولا يتشبه بمن قال الله فيهم: ﴿وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٧٩].
ثم اعلم أنه ربما كان الإنسان إذا ذاق مذهب المنحرفين، وشاهد ما فيه من الغي والضلال، ثم تراجع إلى الحق الذي هو حبيب القلوب، كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه! فارجع إلى الحق صادقًا، وثق بوعد الله ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: ٩].
فقال المنصوح: لا يخفى عليك يا أخي أن الباطل إذا دخل في القلوب وتمكن منه لا يخرج بسهولة، فأريد أن توضح لي توضيحًا تامًّا بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون، فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم؛ ليغتر به من لا بصيرة له.
فقال له الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان، وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحد من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه، فأنبئك على وجه الإجمال والتنبيه اللطيف:
إذا أردت أن تقابل بين الأشياء المتباينات فانظر إلى أساسها الذي أُسِّست عليه، وإلى قواعدها التي أنبتت عليها، وانظر إلى آثارها ونتائجها وثمراتها المتفرعة عنها، وانظر إلى أدلتها وبراهينها التي بها ثبتت، وانظر إلى ما تحتوي وتشتمل عليه من الصلاح والمنافع ومن المفاسد والمضار، فعند ذلك إذا نظرت لهذه الأمور بفهم صحيح وعقل رجيح، ظهر لك الأمر عيانًا.
فإذا عرفت هذه الأصول؛ فهذا الدين الحقُّ الذي دعت إليه الرسل عمومًا، وخاتمهم وإمامهم محمد ﷺ خصوصًا، قد بُني وأُسِّس على التوحيد والتألُّه لله وحده لا شريك له، حبًّا، وخوفًا، ورجاء، وإخلاصًا، وانقيادًا، وإذعانًا لربوبيته، واستسلامًا لعبوديته، قد دلَّ على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، ودلَّت عليه جميع الكتب السماوية، وقرَّره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة، والألباب الرزينة، والأخلاق العالية، والآداب السامية؛ كلُّ أولئك اتفقوا على أن الله منفرد بالوحدانية، منعوت بكل صفة كمال، موصوف بغاية الجلال والعظمة والكبرياء والجمال، وأنه ربُّ كلِّ شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وأنه منزَّه عن كلِّ صفة نقص وعن مماثلة المخلوقين، وأنه لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر إلا هو، فالدين الإسلامي على هذا الأصل أُسِّس، وعليه قام واستقام.
وأما ما عليه أهل الإلحاد، فإنه ينافي هذا الأصل غاية المنافاة؛ فإنه مبني على إنكار البارئ رأسًا، فضلًا عن الاعتراف له بالكمال، وعن القيام بأوجب الواجبات، وأفرض الفروض؛ وهو عبوديته وحده لا شريك له.
فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكارًا لأظهر الأشياء وأوضحها، فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف؟ ﴿فَبِأَيِ ّحَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية:٦] وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه، وعن التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع، وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلوِّ قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك، فهم أجهل الناس، وأقلُّهم بصيرة ومعرفة بشريعة الإسلام، وأصول الدين وفروعه.
فتجدهم يكتبون ويتكلمون، ويدَّعون لأنفسهم من العلم والمعرفة والثقافة واليقين ما لا يصل إليه أكابر العلماء، ولو طلب من أحدهم أن يتكلم عن أصل من أصول الدين العظيمة الذي لا يسع أحدًا جهله، أو على حكم من الأحكام في العبادات والمعاملات والأنكحة، لظهر عجزه، ولم يصل إلى ما وصل إليه كثير من صغار طلبة العلم الشرعي. فكيف يثق العاقل- فضلًا عن المؤمن- بأقوالهم عن الدين؟ فأقوالهم في مسائل الدين لا قيمة لها أصلًا، ولو سبرت حاصل ما عليه رؤساؤهم لرأيتهم قد اشتغلوا بشيء يسير من علوم العربية، وترددوا في قراءة الصحف التي على مشربهم، وتمرَّنوا على الكلام الذي من جنس أساليب كثير من هذه الصحف الرديئة الساقطة، فظنوا بأنفسهم، وظنَّ بهم أتباعهم الاضطلاع بالمعارف والعلوم، فهذا أسمى ما يصلون إليه في العلم. أما الأخلاق فلا تسأل عن أخلاق من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يعتقد الأديان الصحيحة، فإن الأخلاق نتائج الاعتقادات الصحيحة والفاسدة.
فغاية ما عند هؤلاء التملق القولي والفعلي، والخضوع الكاذب للمخلوقين، وهم مع هذا الخضوع السافل تجد عندهم من العجب والكبر واحتقار الخلق والاستنكاف عن مخالطة من يستنقصونهم شيئًا كثيرًا، فهم أوضع خلق الله وأعظمهم كبرًا وتيهًا.
ثم إنهم يستعينون على هذا الخُلق المسمَّى عندهم بالثقافة، بالتصنع والتجمل بالملابس والفرش والزخارف،، ويُفنون كثيرًا من أوقاتهم بذلك، وقلوبهم خراب خالية من الهدى والأخلاق الجميلة، فالجمال الظاهر الباطل ماذا يغني عن الجمال الحقيقي.
ثم إذا لحظت إلى غاياتهم ومقاصدهم فإذا هي أغراض دنية، ومقاصد سفلية، ومطامع شخصية، وإذا سبرت أحوالهم رأيتهم إذا اجتمعوا تظنهم أصدقاء مجتمعين، فإذا افترقوا فهم الأعداء ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: ١٤].
وما وصفت لك من أحوالهم - وأنت تعرف ذلك - قليل من كثير، فكيف ترضى أن يكون هؤلاء أحبابك وأصدقاؤك؛ ترضى لرضاهم، وتسخط لسخطهم، وتقدمهم على حظوظك الحقيقية وسعادتك الأبدية؟
فانظر إلى صفاتهم نظر التحقيق والإنصاف، وقارن بينها وبين نعوت البررة الأخيار الذين امتلأت قلوبهم من محبة الله والإنابة إليه، والإيمان وإخلاص العمل لأجله، وفاضت ألسنتهم بذكر الله والثناء عليه، واشتغلت جوارحهم في كل وسيلة تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رضوانه وثوابه ونفع الخلق، أشجع الناس قلوبًا وأصدقهم قولًا، وأطهرهم أخلاقًا وأزكاهم عملًا، وأقربهم إلى كل خير، وأبعدهم من كلِّ شرٍّ، يكفون عن الخلق الأذى، ويبذلون لهم الندى، ويصبرون منهم على الأذى.
أفتقدم على هؤلاء الأنجاب الغرر مَن مُلِئت قلوبهم من الشك والنفاق، وفاضت على ظاهرهم فاكتسوا لذلك أرذل الأخلاق، يقومون بالنفاق والرياء، ويقعدون بالتملق والإعجاب والكبرياء، وصفُهم القسوة والطمع والجشع، ونعتهم الكذب والغش والبهرجة والخنوع، قد منعوا إحسانهم لكل مخلوق، واتصفوا بكل فسوق، قد خضعوا في بحوثهم العلمية لكل مارق، وتبعوا في أخلاقهم كل رذيل وفاسق.
قال المنصوح: والله ما تعديت في وصفهم مثقال ذرة.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (١٣٤٣هـ - ١٣٨٣هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط١: ١٤٣١هـ. (١/ ٢٥١)
1 / 16
محاورة دينية اجتماعية (٢/ ٢)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي (١٣٧٦هـ)
نشر عام ١٣٦٧هـ
[قال المنصوح] .. أريد أن تدلني على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، لأن نفوس من تربَّى وتخلَّق بأخلاق هؤلاء لا ترجع عما ألفته إلا بأمر قوي؛ إما بترغيب وهوى يجذبها، وإما بترهيب وخوف يقمعها.
فقال له صاحبه الناصح: والله لقد أدركت في هذا الدين مطلوبك، وفيه والله كل مرادك ومرغوبك، فإنه الدين الذي جمع بين سعادة الدنيا والآخرة، وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية، ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية شيئًا إلا أدركته؛ ولا من أنواع المسرات شيئًا إلا حصلته، ففيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وسأوضح لك ذلك؛ فاعلم أن أصول اللذات المطلوبة:
أولًا: راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها وزوال همومها وغمومها.
ثانيًا: القناعة والطمأنينة بما أُوتيه العبد من المطالب الجسدية.
ثالثًا: استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط.
فهذه الأمور الثلاثة من رُزِقها واستعملها على وجهها فقد نال كل ما يتنافس فيه المتنافسون، وأدرك كلَّ ما تعلَّق به طمع الطامعين، فإن جميع اللذات ترجع إلى ما ذكرنا.
فأما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها؛ فإنما أصل ذلك بالإيمان التام بما دعا الله عباده إلى الإيمان به من الإيمان بتوحده بجميع نعوت الكمال، وامتلاء القلب من تعظيمه وإجلاله، ومن التأله له وعبوديته والإنابة إليه، وإخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الأعلى، وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله ومحبة الخير لهم، وبذل المقدور من نفعهم والإحسان إليهم، والإكثار من ذكر الله والاستغفار والتوبة، فمن أوتي هذه الأمور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور وزوال الأكدار والهموم والغموم ما هو نموذج من نعيم الآخرة. وأهل هذا الشأن لا يغبطون أرباب الدنيا والملوك على لذاتهم ورئاساتهم، بل يرون ما أعطوه من هذه الأمور يفوق ما أعطيه هؤلاء بأضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبي لا يعرفه حق المعرفة إلا من ذاقه وجرَّبه فإنه كما قيل:
من ذاق طعم نعيم القوم يدريه
ومن دراه غدا بالروح يشريه
فهذا إشارة لطريق هذا النعيم القلبي الذي هو أصل كل نعيم.
وأما الأمر الثاني؛ فإن الله أعطى العباد القوة والصحة، وما يتبع ذلك من مال وأهل وولد وخول [أي: حَشَمُ الرجُل وأتباعه] وغيرها. والناس بالنسبة لهذه الأشياء نوعان؛ قسم صارت هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله، والاغتباط بفضله، وتناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم، وعلموا أنها من أكبر الوسائل لهم إلى رضى ربهم وخيره وثوابه إذا استعملوها فيما هُيِّئت له وخُلِقت له، وقد رضوا بها عن الله كلَّ الرضى، فإنهم علموا أنها من عند الله الذي له الحكمة التامة في جميع أقضيته وأقداره، وله الرحمة الواسعة في جميع تدابيره، وله النعمة السابغة في كل عطاياه، وهو أرحم بهم من الخلق أجمعين، فحيث علموا العلم اليقيني صدورها ممن هذا شأنه قنعوا بما أعطوه منها؛ من قليل وكثير كلَّ القناعة، وسكنت قلوبهم عن التطلع والتطلب لما لم يقدر لهم. ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة والرضى عن الله بما أعطى فقد حصلت الحياة الطيبة، فإذا أدركت حق الإدراك نعتهم هذا عرفت أن نعيم الدنيا في الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله، وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته. إن الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الأمور؛ وهي القوة والصحة، والمال والأهل والولد، وتوابع ذلك، إلا الشيء القليل، لكان في راحة وسرور من جهتين: جهة القناعة، وعدم تطلع النفس وتشوفها للأمور التي لم تحصل، وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والآجل على هذه العبادة القلبية التي تزيد على كثير من العبادات البدنية. فإن التعبد لله بمعرفة نعمه، والاعتراف بها، والرضى بها، والرجاء لله أن يديمها ويتمها، وأن يجعلها وسيلة إلى نعم أخرى، وأن يجعلها طريقًا للسعادة الأبدية، لا ريب أن هذه الأحوال القلبية من أفضل الطاعات وأجلِّ القربات.
فكم بين سرور هذا الذي تعبَّد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة، وبين من تلقَّى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم، وشقى بهمومها وغمومها، وكان إذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به، بل تشوَّف إلى غيره، وتطلَّع لسواه، فهذا يتنقل من كدر إلى كدر آخر؛ لأن قلبه قد تعلَّق تعلقًا شديدًا بمطالب الجسد، فحيث جاءت على خلاف ما يؤمِّله ويريده، قلق أشد القلق، وهو لا يزال في قلق مستمر؛ لأن المطالب النفسية متنوعة جدًّا، فلو وافقه واحد لم يوافقه الآخر، ولو أرضاه واحد كدَّره الآخر، وربما اجتمع في الشيء الواحد سرور من وجه، وحزن من وجه آخر، فصفوه ممزوج بكدره، وسروره مختلط بحزنه، فأين الحياة الطيبة لهذا؟!
وإنما الحياة الطيبة لأرباب البصائر والحجى الذين يتلقَّونها كلها بالقبول والقناعة والرضى.
وأما الأمر الثالث، وهو جهة استعمال هذه النعم؛ فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه، والفرح بفضله، وينوي بها التقوي على ما خُلِق له من عبادة الله وطاعته، وينفقها محتسبًا بها رضى الله وفضله وخلفه العاجل والآجل. ويعلم أنه إذا أنفق على نفسه وأهله أو ولده أو من يتصل به، فإنما نفقته صادفت محلها، ووقعت موقعها، فلم يتثاقل كثرة النفقة في هذا الطريق؛ لأنه يقول معتقدًا: هذا أولى ما بذلت فيه مالي، وهذا ألزم ما قمت به من الواجبات والفروض، وهذا خير ما قمت به من المستحبات، وهذا أعظم ما أرجو له الخلف من الله، حيث يقول وهو الكريم الوفي: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: ٣٩]. ولا يزال نصب عينيه احتساب الأجر في سعيه بكسبه وفي مصرفه أجناس ذلك وأنواعه وأفراده، متفطنًا لقوله: (على أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها حتى ما تجعله في في امرأتك).
فمن كان هذا وصفه فإن لذاته الدنيوية هي اللذات الحقيقية السالمة من الأكدار مهما يرجو من الثواب العاجل والآجل من الله، ومن كانت هذه صفته سهل عليه الأخذ من حلها، ووضعها في محلها، ويسرت له أموره غاية التيسير.
وأما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر في الاعتراف بفضل الله في كل الأوقات وبنعم الله، ولم يفرح بالنعم؛ لأنها من فضل الله، بل فرح بها فقط لموافقة غرضه النفسي، ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله، ولا احتسب في نيلها وصرفها على المنفَق عليهم الأجر والثواب، فمن كان هذا وصفه، فإن الكدر والحزن له بالمرصاد؛ فإنه إذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزن، وإن أدرك ما أدركه منها، ولم يكن على ما في خاطره من كل وجه حزن، وإن أراد منه ولده ومن يتصل به نفقة أو كسوة واجبة أو مستحبة حزن، ولم تخرج منه إلا بشق الأنفس، وإن خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه؛ لأنه يحب بقاء ماله ويحزن لنقصه على أي وجه كان، وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الأمر، هذا إن كان غير بخيل، فإن كان شحيح النفس مطبوعًا على البخل، فإن حياته مع أولاده وأهله والمتصلين به حياة شقاء وعذاب وأكدار متواصلة وأحزان مستمرة، لا إيمان عنده يهون عليه النفقات، ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات، فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر! فأين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياة الطيبة بأكملها؟!
هذا كله بالنظر إلى هذه الأمور الثلاثة التي هي أصل اللذات عند العقلاء، قد اتضح لنا أن صاحب الإيمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية، وسلم من المكدرات.
ثم إذا عطفنا النظر إلى الطوارئ البشرية التي لابد لكل عبد منها؛ وهي المصيبات التي تعتري العباد من الأمراض المتنوعة، وموت الأحبة، وفقد الأموال ونقصها، ووقوع المكاره بمن تحب وزوال المحاب، وغيرها من أنواع المصائب؛ دقيقها وجليلها، رأيت المؤمن حقًّا قد تلقَّاها بقوة وصبر واحتساب، وقد قام لها بارتقاب الأجر والثواب، وعلم أنها تقدير العزيز العليم، وأنها أقضيته صدرت من الرب الرحيم؛ فهان عليه أمرها وخفت عليه وطأتها، فإنه إذا فكر فيما فيها من الآلام الشاقة قابلها بما تتضمنه من تكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفعة الدرجات، والتخلق بأخلاق الكرام والقوة والشجاعة، وإذا أنهكت بدنه وماله رآها مصلحة لقلبه وروحه.
فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه، والصبر على بلائه، وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات، واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات، فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب، والأفراح والأتراح، وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس، فأين هذه الحال من حال من تلقَّى المصيبات التي لابد للخلق منها بقلب منزعج مرعوب، وخشعت نفسه المهينة لما فيها من الشدائد والكروب، فبقيت الحسرات تنتاب قلبه وروحه، وزادت مصائب قلبه على مصائب بدنه، ليس عنده من الصبر وارتقاب الثواب ما يخفف عنه الأحزان، ولا من الإيمان ما يهون عنه الأشجان، تعتريه المصائب فلا تجد عنده ما يخففها، فتعمل عملها في قلبه وروحه وبدنه وأحواله كلها .. القلب مليء من الهم والغم والألم، والخوف السابق واللاحق قد ملأ نفسه فانحل لذلك لبه وانحطم، وقد ضعف توكله على الله غاية الضعف، حتى صار قلبه يتعلق بمن يرجو نفعه من المخلوقين، فيا لها من مصائب دنيوية اتصلت بالمصائب الدينية والخلقية، وتراكم بعضها فوق بعض حتى صار عنده أعظم من الجبال الرواسي. فوالله لو علم أهل البلاء والمصائب بما في الإيمان والروح والتسلية والحياة الطيبة لسارعوا إليه، ولو في هذه الحال التي هم فيها مضطرون إلى ما يخفف عنهم آلامها، ولا يجدونه إلا في الإيمان الصحيح الحقيقي وما يدعو إليه.
ومما يتعلق به سرور الحياة ونعيمها، أو همها وغمها، معاشرة الخلق على اختلاف طبقاتهم، فمن عاشرهم بما يدعو إليه الدين استراح، ومن عاشرهم بحسب ما تدعو إليه الأغراض النفسية، فلابد أن يكون عيشه كدرًا، وحياته منغصة.
وتوضيح ذلك أن الناس ثلاثة أصناف؛ رئيس، ومرؤوس، ونظير.
أما من له رياسة حكم، أو ثروة، وله أتباع وحاشية، فله معهم حالان؛ حالة فيما يفعله معهم، وحالة فيما يصيبه من أتباعه من خير وشر، وموافق للطبع ومخالف له، فإن هو حكم الدين والشرع في الحالتين استراح، وله أجر من الله؛ إذ استعمل العدل معهم، واستعمل النصح والإحسان، وقابل المسيء منهم بالعفو، وشكرهم على فعل المعروف والخير، مبتغيًا بذلك وجه الله.
وأيضًا فإنه إذا تأمل فيما فعله من خير اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، فأين هذا من الرئيس الذي لا يبالي بظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يبالي بسلوك طرق العدل والإنصاف، وليس له صبر على أية أذية تصيبه من رعيته، فهو مع أتباعه في نكد مستمر، ورعيته قد مُلئت قلوبهم من مقته وبغضه، يتربصون به الدوائر والفرص، حتى إذا وقع في أقلِّ شيء أعانوا عليه أعدى أعدائهم، فهو معهم غير مطمئن على حياته ولا على نعمته، لا يدري متى تفجؤه البلايا، ليلًا أو نهارًا! .. هذه حالة الرئيس على وجه الإجمال ..
وأما حالة المرؤوس؛ فإن أطاع الدين في وظيفته، وأطاع حاكمه أو سيده، أو والده، واستعمل الآداب الشرعية في معاملته، والأخلاق المرضية، فهو مع طاعته لله ولرسوله قد استراح وأراح، وطابت عنه نفس رئيسه، وأمن عقوبته، وأمَّل إحسانه وبرَّه ومحبته.
وأما من تعدى طوره وعصى متبوعه والتوى، فإنه لا يزال متوقعًا لأنواع المضار، يمشي خائفًا وجلًا، لا يقرُّ له قرار، ولا يستريح له خاطر.
وأما حالة النظير المساوي؛ فإن جمهور من تعاشرهم من الخلق إذا خالقتهم بالخلق الحسن، اطمأنت نفسك، وزالت عنك الهموم؛ لأنك تكتسب بذلك مودتهم، وتخمد عداوتهم، مع ما ترجوه من عظيم ثواب الله على هذه العشرة التي هي من أفضل العبادات، فإن العبد يبلغ بحسن خلقه، درجة الصائم القائم .. وحسن الخلق له خاصية في فرح النفس، لا يعرف ذلك حق معرفته إلا المجربون ..
فأين حال هذا ممن عاشر الناس بأسوأ الأخلاق؛ فخيره ممنوع، وشره غير مأمون، وليس له أقل صبر على ما يناله من المكدرات، فهذا قد تنغصت عليه حياته، وحضرته همومه وحسراته، فهو في عناء حاضر، ويخشى من الشقاء الآجل ..
وأما معاشرته مع أهله وأولاده ومن يتصل به، فإنه يتأكد عليه القيام بالحقوق اللازمة تامة لا نقص فيها ولا تبرم، فمن عامل هؤلاء بما أمر الله ورسوله، راجيًا بقيامه به ثواب ربه ورضاه، عاش معهم عيشة راضية، ومن كان معهم من نكد وسوء خلق؛ مع الصغير والكبير، يخرج من بيته غضبان، ويدخل على أهله وولده متكدرًا ملآن، فأي حياة لمن كانت هذه حاله؟! وما الذي يرجوه حيث ضيَّع ما فيه فرحه ومسراته؟!
وأما عشرته مع معامليه، فإن استعمل معهم النصح والصدق، وكان سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى، حصلت له الرحمة، وفاز بالشرف والاعتبار، واكتسب مودة معامليه ودوام معاملتهم، ولا يخفى ما في ذلك من طيب الحياة، وسرور النفس، وما في ضدها من سوء الحال وسقوط الشرف، وتنغص الحياة.
والفارق بين الرجلين هو الدين، فصاحب الدين منبسط النفس، مطمئن القلب. فقد تبين لك أن السعادة واللذة الحقيقية بجميع أنواعها تابعة للدين ..
واعلم يا أخي أن الدين نوعان:
أحدهما: أعمال وأحوال وأخلاق دينية ودنيوية، وكما ذكرنا أنه لا سبيل إلى حصول الحياة الطيبة إلا بالدين.
والثاني: علوم ومعارف نافعة، وهي علوم الشرع والدين، وما يعين عليها ويتوسل إليها به، فالاشتغال بها من أجلِّ العبادات، وحصول ثمرتها من أكمل اللذات، ولا يشبهه شيء من اللذات الدنيوية، واعتبر ذلك بحال الراغبين في العلم تجد أكثر أوقاتهم مصروفة في تحصيل العلم، فيمضي الوقت الطويل، وصاحبه مستغرق فيه يتمنى امتداد الزمن، وهذا عنوان اللذة، فإن المشتاق يقصر عنده الوقت الطويل، ومن ضاق صدره بشيء يطول عليه الوقت القصير؛ وذلك أن صاحب العلم في كل وقت مستفيد علومًا يزداد بها إيمانه، وتكمل بها أخلاقه، والمتصفح للكتب النافعة، لا يزال يعرض على ذهنه عقول الأولين والآخرين، ومعارفهم وأحوالهم الحميدة وضدها، ففي ذلك معتبر لأولي الألباب .. فكم من قصة تمرُّ عليك في الكتب تكتسب بها عقلًا جديدًا، وتسليك عند المصائب بما جرى على الفضلاء، وكيف تلقوها بالرضا والتسليم، واغتنموا الأجر من العليم الحكيم.
والعلم يعرفك طرقًا تدرك بها المطالب، وتدفع بها المكاره، والمضار، والعقل عقلان؛ عقل غريزي، وهو ما وضعه الله في الإنسان من قوة الذهن في أمور الدين والدنيا. وعقل مكتسب، إذا انضم إلى العقل الغريزي ازداد صاحبه حزمًا وبصيرة، فكما أن العقل الغريزي ينمو بنمو الإنسان حتى يبلغ أشده، فكذلك العقل المكتسب له مادتان للنمو؛ مادة الاجتماع بالعقلاء والاستفادة من عقولهم وتجاربهم، تارة بالاقتداء، وتارة بمشاورتهم ومباحثتهم، فكم ترقَّى الرجل بهذه الحال إلى مراقي الفلاح، ولهذا كان انزواء الرجل عن الناس يفوته خيرًا كثيرًا، ونفعًا جليلًا، مع ما يحدثه الاعتزال من الخيالات وسوء الظن بالناس، والإعجاب بالنفس الذي يعبر عن نقص الرجل، وربما ضرَّ البدن فإن مخالطة الناس تفتح أبوابًا من المصالح، والمسالك، وتقوي قلبك، وفي ضعف القلب ضرر على العقل، وضرر على الدين، وضرر على الأخلاق، وضرر على الصحة.
وينبغي للإنسان أن يعامل الناس، بحسب أحوالهم، كما كان النبي ﷺ يحسن خلقه مع الصغير والكبير، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]. أي خذ ما صفا لك من أخلاق الخلق، ودع عنك ما تعسر منها .. فيجالس أبناء الدنيا بالأدب والمروءة، والأكابر بالتوقير، والإخوان والأصحاب بالانبساط، والفقراء بالرحمة والتواضع، وأهل العلم والدين بما يليق بفضلهم .. فصاحب هذا الخلق الجليل تراه مبتهج النفس في حياة طيبة.
وأما المادة الثانية للعقل المكتسب فهي الاشتغال بالعلوم النافعة، فتستفيد بكل قضية رأيا جديدًا، وعقلًا سديدًا، ولا يزال المشتغل بالعلم يترقى في العلم والعقل والأدب.
والعلم يعرِّفك بالله، وكيف الطريق إليه، يعرفك كيف تتوسل بالأمور المباحة إلى أن تجعلها عبادة تقربك إلى الله.
والعلم يقوم مقام الرياسات والأموال، فمن أدرك العلم فقد أدرك كل شيء، ومن فاته العلم فاته كل شيء. وكل هذا في العلوم النافعة.
وأما كتب الخرافات والمجون فإنها تحلل الأخلاق وتفسد الأفكار والقلوب؛ بحَثِّها على الاقتداء بأهل الشرِّ، وهي تعمل في الإيمان والقلوب عمل النار في الهشيم.
فلما تلا النصيح لصاحبه هذه المواضيع، وبرهن عليها، قال له المنصوح: والله لقد انجلى عني ما أجد في أول موضوع تلوته علي، وانزاح عني الباطل في شرحك الأول، وإن مجلسك يا أخي ونصيحتك بهذه الطريقة النافعة تعدل عندي الدنيا وما عليها، فأحمد الله أولًا حيث قيَّضك لي، وأشكرك شكرًا كثيرًا حيث وفيت بحق الصحبة، ولم تصنع ما يصنعه أهل العقول الضيقة الذين إذا رأوا من أصحابهم ما يسوؤهم قطعوا عنهم حبل الوداد في الحال، وأعانوا الشيطان عليهم، فازداد بذلك الشرُّ عليهم، وضاع بينهم التفاهم.
وإني لا أنسى جميل معروفك حيث رأيتني سادرًا في المهامه [أي: القفار من الأرض]، مغرورًا بنفسي معجبًا برأيي فأريتني بعيني ما أنا فيه، وأوقفتني بحكمتك على الهلاك الذي وقعت فيه، فالآن أستغفر الله مما مضى وأتوب إليه، وأسأله الإعانة على سلوك مرضاته، وأفزع إليه أن يختم بالصالحات أعمالي، وأحمد الله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، فإنه مولى النعم، دافع النقم، غزير الجود والكرم.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (١٣٤٣هـ - ١٣٨٣هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط١: ١٤٣١هـ. (١/ ٢٦٠)
1 / 17
لماذا نحج؟
محب الدين الخطيب (١٣٨٩هـ)
نشر عام ١٣٧٦هـ
الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم، ومن ثم فهو تجديد للحياة، وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورًا، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر، وتوطَّدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله، إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان، والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام، حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقمًا قياسيًّا لا نظير له في التاريخ.
ولكن بقي أمر آخر يجب أن يعرفه المسلمون جميعًا، ويجب أن يؤمن به الحجاج منه ويعملوا به، وهو أن العبادات كما أن لها أركانًا ومناسك لا تتمُّ إلا بأدائها، فإن لها كذلك حكمة عالية ومقاصد سامية، هي روحها وهي سببها الأول، وهي الغاية القصوى منها.
فالصلاة وصفها الله ﷿ في سورة العنكبوت بأنها ﴿تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥]. وأن تكبير الله في إحرامها، وفي أركانها يُصغِّر أمر الدنيا كلها في نفس المصلي، حتى يرى أنها لا تساوي بخزائنها وكنوزها ارتكاب جريمة تتغير بها هذه الصفة الإلهية للصلاة، فالمصلي الذي يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يستحي من الله، وهو يعلن عن عظمته بجملة: الله أكبر، أن يكون هو الذي ينقض صفة صلاته بما يستبيحه من بعض مخازي الفحشاء والمنكر، وأكثرها شيوعًا الكذب والغش والغيبة والنميمة.
بل يستحي من ربه، وهو بين يديه يخاطبه، طالبًا منه أن يهديه الصراط المستقيم، ثم لا يكاد ينفتل من صلاته حتى يخرج بشيء من أقواله أو أفعاله عن الصراط المستقيم!
والحج هذه الشعيرة من شعائر الإسلام يقبل المسلمون على إقامتها والمسارعة إليها بشغف ونشاط وارتياح، ويدَّخرون لنفقاتها كرائم أموالهم، والحلال الطيب من نقودهم، فلماذا نقصِّر في إرشادهم إلى الحكمة الإلهية في الحج والمقاصد الإسلامية منه؟
لماذا لا نقول لهم إذا بلغوا أعلام الحرم وحدوده، وخلعوا عنهم المخيط من ملابس الحضارة، ليلتفوا بمئزر الفطرة من لباس الإحرام: إننا نخلع مع ثياب الحضارة ما أغرانا به الشيطان من آثامها وزلاتها، إننا اليوم أمام فرصة أنعم الله بها علينا لنتوب إليه توبة نصوحًا من كل ما اقترفنا قبل اليوم من إثم، وعلينا الآن أن نبرأ إليه من زلات الماضي، ونتطهر من أوضاره؛ لندخل في حياة جديدة، نعاهد الله على أن تكون حياة نظيفة، يرضاها لنا ويثيبنا عليها بسعادة الدنيا والآخرة؟
لماذا لا نقول لهم: إننا إذا هتفنا نناجي الله بكلمة (لبيك) لا معنى لذلك إلا أننا نعقد عقدًا بيننا وبين الله على الاستجابة لكل ما هدانا إليه من مبادئ الإسلام العالية وهداياته السامية، واجتناب كل ما يدنِّس حجنا، ويسخط ربنا ما دمنا أحياء، إلى أن نلقاه مع أوليائه وصفوه عباده الصالحين؟
لماذا لا نقول لهم: إننا بتوجيه كلمة (لبيك) لله وحده ﷿ نعترف لربنا ولأنفسنا بأننا لا نطلب الخير والنفع إلا منه، ولا نشرك به أحدًا غيره من نبي أو ملك أو ولي، فضلًا عن غيرهم، وأن كل ما سوى الله مخلوق له وكل مخلوقاته -على مراتبهم- محتاجون إليه، ملتمسون رحمته، ولا يكون منهم شيء إلا بإذنه؟
إن مشركي الجاهلية كانوا في حجهم يلبون كما نلبيه نحن في الإسلام، غير أنهم كانوا يستثنون فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. فجاء الإسلام ليبطل هذه المثنوية وليوجه قلوب الناس إلى الله وحده.
لماذا لا نقول لهم إذا جاءوا لرمي الجمرات في منى: إن هذه حرب يعلنها الإسلام على الشيطان وحزبه وتسويلاته، وإننا كلما خطر ببالنا بعد اليوم خاطر نعلم أنه يسخط الله يجب علينا أن نعلم أن هذا الخاطر من تسويل الشيطان، وأنه عدو لنا، وأننا آذناه بالحرب ونحن نرمي هذه الجمرات في الحج، ومن تمام الحج بعد الحج، وما دام الحاج على قيد الحياة، مواصلة مخالفة الشيطان، واعتباره العدوَّ الذي لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن وساوسه وينقاد لتسويلاته.
أهم شي في العبادات - ومنها أدعية الحج - أن نعقل معاني ألفاظها، ومن تعلَّم أن هذه المعاني تنعقد بها العهود بين المخلوق والخالق، وأن المخلوق ينبغي له عقد العزيمة على توخِّي ما يدعو الله به، وإلا فإنه لا يكون جادًّا بدعائه، ولا يكون دعاؤه مستجابًا، ولو أن كلَّ مسلم إذا قال لربه في صلاته: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾. تصور معاني هذه الكلمات، وتأمل في مدلولاتها، وعقد عزمه على توخي الصراط المستقيم في تصرفاته الشخصية، وفي معاملاته مع الناس، لكان المسلمون بهذه الكلمة وحدها أمة صدق واستقامة وخير، وكان ذلك منهم أبرع إعلان عن الإسلام في أمم الأرض، وأنه النظام الذي تبحث عنه الإنسانية ولا تزال تائهة عنه.
أيها الواعظون في الحج، أوصلوا هذا الخير إلى نفوس إخوانكم الحجاج وقلوبهم، علِّموه لهم كما تعلمونهم مناسكهم.
وإذا أفلح الحجاج - عامًا فعامًا - في الانخلاع من الماضي، والتطهر من أوضاره، ونَوَوْا صادقين أن يجدِّدوا عهدهم مع الله، وعلى تجديد حياتهم بما يرضيه، فإنهم سيعودون إن شاء الله إلى أوطانهم حاملين معهم نصيبًا مباركًا من رسالة الإسلام، كما بعث الله بها حامل أكمل رسالاته، وأرجو أن نعمل بذلك من عامنا هذا؛ ليعود إلينا النور والهدى من بلاد النور والهدى، والله ولي العاملين.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة) (١٣٤٣هـ - ١٣٨٣هـ) جمع وترتيب: أحمد الجماز وعبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء - الرياض، ط١: ١٤٣١هـ. (٣/ ٤٤) وهو جزء مقتبس من مقال نشر في مجلة الأزهر.
1 / 18
من ذكريات الحج
علي الطنطاوي (ت ١٤٢٠هـ - ١٩٩٩ م)
نشر عام ١٩٥٥
ألا ترون العروق الشعرية كيف تحمل الدم من أطراف الجسم ثم تصبه في الأوردة الكبار، حتى يدور دورته في القلب مجتمعًا، وفي الرئة منتشرًا، فيصفو بعد العكر، وينقى من الوضر، ويعود في الشرايين دمًا أحمر جديدًا، بعد أن كان في الأوردة دمًا أسود فاسدًا؟ كذلك الحج.
يأتي المسلمون من آفاق الأرض الأربعة، أفرادًا ثم ينتظمون جماعات، ثم يدورون حول الكعبة قلب الأرض المسلمة، ثم ينتشرون في عرفات رئة الجسم الإسلامي فتصفي نفوسهم من أكدار الشهوات، وتنقى أوضار الذنوب، ويعودون إلى بلادهم أطهارًا، قد استبدلوا بتلك النفوس نفوسًا جديدة كأنها ما عرفت الإثم، ولا قاربت المعاصي.
لذلك كان الحج أكبر أُمْنِية يتمناها لنفسه المسلم، ويتمناها له إخوانه وأصدقاؤه، فهم إذا دعوا له دعوة صالحة دعوا له بالحج.
وإذا كان أقصى ما يتمناه من يُقدِّر العالِم، أو يُكْبِر الكاتب، أو يهوى الحبيب، أن يزور البيت الذي ولد فيه، والعشَّ الذي خرج منه، والمواطن التي شهدت طفولته وصباه، وكهولته وموته، ويطأ الأرض التي وطئ. وينشق الهواء الذي نشق، فكيف لا يتمنى المسلم أن يزور موطن الروح، ومهوى القلب؛ الأرض التي انبلج منها فجر الإسلام، وأشرقت منها شمسه، وعاش في ربوعها أعظم العظماء، وسيد الأنبياء، حبيب قلب كلِّ مسلم، ومن هو أعزُّ عليه وأحبُّ إليه مِن أُمِّه وأبيه وولده وأهله، ويدخل من باب السلام، ويبصر البيت الحرام، ويطوف بالكعبة والحطيم، ويرى زمزم والمقام.
هنالك الفرحة الكبرى، التي لا تعدلها أفراح الدنيا، وهنالك اللقاء لا لقاء الحبيب بعد طول الهجران، وهنالك الموكب النوراني الذي يمرُّ مِن حول الكعبة، موكب الطائفين، من كلِّ جنس ولون، من بِيض وسُمر، وسُود وشُقْر، وشيوخ وفتيان، ورجال ونسوان، من كلِّ قطر من أقطار الأرض، ينادون بكلِّ لسان، يدعون ربًّا واحدًا يسألونه، وهو الكريم لا يرد سائلًا، ولا يضجره سؤال.
إنكم لتعجبون إن رأيتم موكبًا يمشي ساعات لا يقف ولا ينقطع، أو أبصرتم جيشًا يلبث أيامًا، وهو يمر لا يتريث ولا ينفد، فاعجبوا، واعجبوا أشد العجب من موكب بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، من يوم بنى إبراهيم هذه البنية، ولا يزال يمشي إلى اليوم يطوف بهذه الغرفة القائمة في وادٍ غير ذي زرع من بطن مكة، المبنية بالحجارة السود، الخالية من الصقل والتهذيب والزخارف والنقوش، ومن نعم الله على الإسلام أنها بقيت كما هي، فلم تمتدَّ إليها اليد بمثل الفنِّ الذي أراقته العبقرية الإسلامية على الأُموي وقبة الصخرة والحمراء وتاج محل؛ لأن كلَّ بارع من الفن قد يوجد ما هو أبرع منه، أما الفطرة الساذجة التي شُيِّدت بها الكعبة فستظل أبدًا نسيج وحدها، في العظمة والخلود.
هذا الموكب الذي بدأ يمشي من خمسة آلاف سنة، ولا يزال يمشي إلى اليوم، وسيقف كلُّ جيش في الدنيا مهما بلغ من القوة والعديد، وكلُّ موكب بشري مهما حوى من الفخامة والعظم، ويظلُّ هذا الموكب يمشي، يمشي ما بقي الزمان ماشيًا على طريق الأبد، يمشي في وقدة الشمس المتلظية في آب، ويمشي في قرة الشتاء في كانون، ويمشي في رأد الضحى، ويمشي في هدأة السحر، يمشي في الليل وفي النهار، يمشي في هناءة السلم، وفي غمرة الحرب، يمشي رغم النكبات والمصاعب والأهوال.
لم توقف سيره جيوش الصليبيين لما رمتنا بها أوربة، فجاءت كالسيل المنهمر، ولكنه سيل من نار مدمرة، وهلاك مبيد، ولا القرامطة لما ثاروا ثورة البركان يرمي بالحمم، وعاثوا في الأرض فسادًا وتدميرًا، وأدخلوا الموت إلى الحرم الآمن، ولطخوا بدم الطائفين أرض المطاف، ولا المغول لما هبوا كما تهب الريح الصرصر العاتية، تدمر كلَّ شيء، لا وليس في الوجود قوة بشرية تستطيع أن تقف موكب الخلود الذي يطوف أبدًا حول الكعبة البيت الحرام.
إنه ليس الخبر كالعيان، وأنا مهما أوتيت من البيان لا أستطيع أن أصف لكم ما يحسُّ به الحاج عندما يقف على باب الحرم، ويرى الكعبة لأول مرة، فقولوا: آمين! أسأل الله أن يكتب لمن يريد منكم ألا يموت حتى تكتحل عينه برؤية هذا المشهد، مشهد الكعبة، الكعبة التي تتوجهون إليها من الشام ومصر والمغرب والمشرق، وكلِّ بلد على ظهر الأرض تتخيلونها بقلوبكم من وراء الجبال والصحارى والآكام البعاد، وكلما اقتربتم منها مرحلة شعرتم بازدياد الشوق، وغلبة الجهد.
تحسون كأنكم تدنون من الحبيب ودونه الحجب والأستار، فلا تزال ترفع لكم حجابًا بعد حجاب وسترًا بعد ستر، حتى تروا طلعة الحبيب، وأين طلعته من طلعة الكعبة، قبلة الإسلام، ومهوى القلوب.
ها هي ذي الكعبة يا ناس، وهذا الحطيم وزمزم والمقام، لقد صحت الرؤى وتحققت الأحلام، وهؤلاء المسلمون صفوفًا حولها، وراءها صفوف، صفوف تمتدُّ إلى خارج الحرم إلى وراء الحجاز، إلى الدنيا كلِّها، فهذه مركز الدائرة وهذه سرة الأرض، وهنا يلتقي المكان كله، فالمشرق هنا والمغرب، والنائي من الأرض والداني، وهنا الشام ومصر والعراق والمغرب وفارس والمشرق والهند هنا، وجاوة والأرض المسلمة كلها، وقد جاء أبناؤها من كلِّ مكان، كما تصبُّ الجداول في النهر الأعظم تدور معه حتى تستقر معه في حضن البحر الرحيب، يطوفون بالكعبة ثم يمضون إلى حضن عرفات. فلا ترى إلا بحرًا يموج بالسفائن البيض، بالخيام التي تبسم طهرًا لعين الشمس.
قلت لكم إنه ليس الوصف كالعيان، ولا يستطيع قلم ولا لسان أن يصف لكم هاتيك العواطف السماوية، التي تملأ قلب المسلم إنه يطوف بالكعبة، فيخرج من حاضره، وينسى دنياه، ويرى أمامه هذا الموكب الطويل يمتدُّ خلال الزمان، فيبصر الخلفاء تمشي معه، والصالحين والعباد والأئمة، ويرى أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، ويبصر رسول الله ﷺ، فهو يمشي على أثره، يدور من حيث دار، ويضع شفتيه موضع شفتي محمد الحبيب على الحجر الأسود.
صدقوني إن كلَّ لذات الدنيا، بطعامها وشرابها ولباسها ومتع شهواتها ومناعم أموالها، لا تبلغ ذرة من اللذة الروحية التي يشعر بها الحاج وهو يلثم الحجر الأسود، الذي لثمه محمد، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم، صلى الله عليهم جميعًا. فقولوا آمين، أسأل الله أن لا يحرمكم هذه النعمة.
وعرفات، إنها لن ترى عين البشر مشهدًا آخر مثله، هيهات ما في الدنيا ثان لهذا المشهد العظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية واحتفالات التتويج في بلاد الغرب حشود من الناس وحشود، ولكن شتان ما بين الفريقين، أولئك جاؤوا للمتعة والفرجة والتجارة، وحملوا معهم دنياهم، وقصدوا بلدًا زاخرًا بأسباب اللذة والتسلية، وهؤلاء خلَّوْا دنياهم وراء ظهورهم، ونزعوها عن أجسادهم ومن قلوبهم
مشهد لو كان يجوز أن يشهده غير مسلم لاقترحت أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر، إذ هنا أُعلنت حقوق الإنسان، لا كما أُعلنت في الثورة الفرنسية، ولا كميثاق الأطلنطي الذي كُتب على الماء، أُعلنت قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، وطبقت حقيقة، يوم قام سيدنا محمد ﷺ في حجة الوداع، فأعلن الحرية والمساواة وحرمة الدماء والمساكن ووصى بالنساء، وقرَّر لهن من ذلك اليوم الاستقلال الشخصي والمالي، مع أنَّ أكثر قوانين الأرض المدنية لا تقرُّ للمتزوجة في أموالها هذا الحق، وكان هذا المشهد في كلِّ سنة دليلًا قائمًا يملأ عيون البشر وأسماعهم على أن ما قرَّره محمد قد طُبِّق أكمل التطبيق.
مشهد يهدم الفروق كلَّها، فروق الطبقات وفروق الألوان، وفروق الأجناس، الناس كلهم إخوة، لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وإذا كان اللباس الرسمي في الحفلات والمواقف الرسمية ما تعرفون، فاللباس الرسمي هنا قطعتان من قماش فقط، لا خياطة ولا أناقة ولا زخرف، ولا يفترق في هذا المقام أكبر ملك عن أصغر شحاد.
إنه مشهد عجيب، إنه أُعجوبة الأعاجيب.
عشرات وعشرات من آلاف الخيام، تحتها أقوام من كلِّ بقعة في الأرض، لا يجمعهم لون ولا لسان ولا بلد، ولكنهم لا يقفون ساعة حتى يحسَّ كلٌّ أنه أخ للآخر، أعز عليه من أخيه لأمه وأبيه، إخوان وحَّدتهم العقيدة، ووحَّدتهم القبلة، وربما عادى الأخ أخاه حقيقة، إن لم يكن دينه من دينه، ومذهبه من مذهبه؛ لأن أُخوَّة الدين والمذهب أقوى من أُخوَّة النسب.
إنهم يضجُّون بكلِّ لغة، يهتفون جميعًا: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك، دعوتنا فجئنا من أقاصي الدنيا، لم تمنعنا الجبال ولا القفار ولا البحار، ولم يمسكنا حب الأهل والولد، دعوتنا إلى القرآن لا قراءة وترنيمًا وتغييبًا، بل عملًا وتطبيقًا، فقلنا: لبيك اللهم لبيك، دعوتنا إلى العزة والوحدة والصدق في القول والعمل، فقلنا: لبيك اللهم لبيك. دعوتنا إلى الجهاد؛ جهاد النفس وجهاد الكافرين، فقلنا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك.
إن الحج هو الدورة التدريبية الكبرى، التي تقوي الأجسام والأرواح، التي تربي الأجساد والقلوب، التي تعدُّ للحقِّ جيشًا جنده متمرسون بالشدائد، حمَّالون للمصاعب، سامون بأرواحهم إلى حيث لا تستطيع أن تبلغ مداه روح.
إن الحجَّ عيش في تاريخ المجد، في سيرة الرسول، في سماء الإيمان، إنه النهر الذي يغسل أوضار الناس، إنه الرئة التي تصفي الدم، وترده أحمر نظيفًا مملوءًا بالصحة والحياة.
إنه المؤتمر الإسلامي الأكبر.
أسأل الله أن يكتبه لمن لم ينعم به منكم، وأن يجعل لي ولمن حج معادًا إليه.
_________
اختيار موقع الدرر السنية: www.dorar.net
المصدر: كتاب (من نفحات الحرم) للشيخ علي الطنطاوي. دار الفكر. دمشق - طبعة ١٤٠٠هـ، (ص٥٣). بتصرف.
1 / 19