الأمر لا يتوقف على من لديهم جمهور يتابعهم، بل إن الجمهور ذاته أصبح يدلي بدلوه، يصدر الأحكام القطعية، ادخل إلى أي موقع على الإنترنت، واقرأ تعليقات القراء على مقالات القراء وأخبار الصحف، ستجد نفسك أمام نوعية أخرى من الكلام، نوعية تصدر أحكاما فورية بالخيانة والعمالة والغباء والجهل، دون تدبر أو تمهل أو تقييم حقيقي لما يحدث. كيف حدث هذا؟ كيف بدأ شلال الكلام هذا في انهماره حتى كاد أن يغرقنا ، إن لم يكن أغرقنا بالفعل؟ «ملء الهواء » هو مصطلح يعرفه من عمل في الفضائيات المصرية، ويقصد به أن كل فضائية تبث 24 ساعة كل يوم عبر الأثير (الهواء)؛ لذا تحتاج إلى أن تملأ هذا «الهواء» بمواد برمجية؛ مسلسلات أو أفلام أو برامج تذاع على الهواء مباشرة، يخرج فيها المذيع لمدة ثلاث ساعات يتكلم حتى «يملأ وقت الهواء» المخصص له، فيقول كل شيء ويصدر أحكامه القطعية ليزيد جمهوره، ليس مهما ما يقول، لكن المهم أن «يملأ الهواء»؛ ألا تشعر القناة بعجزه عن تمضية الوقت بالكلام. مئات الفضائيات تملأ الهواء بكلام، كلام فقط، مجرد كلام فقط ليس له معنى. الأمر نفسه ينطبق على الصحف، التي يجب أن تسود صفحاتها كل يوم حتى تصدر للقارئ، ليس مهما ما الذي ستقدمه، لكن المهم ألا تقدم صفحة فارغة للقارئ.
وقديما قال ابن مالك في ألفيته الشهيرة، واصفا الجملة المفيدة، وسانا قاعدة لغوية ومعرفية بسيطة:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل ثم حرف الكلم
لكن المشكلة الآن أن اللفظ المفيد، والجملة المفيدة، تبدو جملة فارغة لا تقول شيئا، قعقعة بلا طحن، ولا تضيف شيئا؛ لأنها كلام، محض كلام، تماما مثل ألفية ابن مالك ذات القيمة العالية في شرح علم النحو، لكنها في النهاية نظم وليست شعرا؛ لأنها أخذت شكل الشعر وليس جوهره. وهو ما يفعله الكلام الآن، يأخذ شكل الكلام، صوته، طريقته في النطق، لكنه عبارة عن فقاقيع صابون فارغة، دخان ما يلبث أن يتبدد في الهواء.
حتى هذا المقال مجرد كلام، حروف متراصة تصنع جملا، تصنع مقالا، تنضم إلى موقع، تصنع فضاء إلكترونيا، يزخر بآلاف ومئات وملايين المقالات الهائمة في هذا الفضاء السيبري، يخرج معظمها دون أن يفكر في إضافة شيء إلى قارئ، لكنها فقط تطفئ ظمأ الرغبة الجارفة، والشهوة الحارقة إلى الكلام، كلام إلى جانب كلام، إلى جانب كلام، كلام أكثر من الهواء، أكثر مما تحتمل وتريد الحياة ذاتها.
ربما تكون الجملة الأكثر إفادة الآن هي: «اصمتوا»، اصمتوا قليلا، لحظتها ربما نكتشف إنسانيتنا الضائعة تحت أطلال الجمل المتراكمة، ربما نلتفت قليلا إلى الأطفال الذين يموتون، والمرضى الذين لا يجدون العلاج، والمدن التي دمرتها الحروب، استمتعوا بلحظة الهدوء، انعموا بالسكينة. اصمتوا قليلا حتى نستطيع أن نراكم وترونا، أيها الضائعون مثلنا في متاهات الكلام التي لا تتوقف أبدا.
رجل طيب يموت بسرعة
في مشهد من فيلم «لينكون»، يحكي الممثل دانيال دي لويس - الذي قام بدور رئيس الولايات المتحدة أبراهام لينكون، وفاز عنه بأوسكار أفضل ممثل عام 2012م - أن محاميا كان لديه ببغاء، يوقظه كل صباح، يصرخ: «اليوم هو اليوم الذي سينتهي فيه العالم كما تنبأ الكتاب المقدس.» كل يوم يفعل الشيء نفسه، وفي يوم ما أطلق المحامي النار على الببغاء من أجل السلام والهدوء، كما افترض. وبذلك تحققت النبوءة للطائر على الأقل.
1
Shafi da ba'a sani ba