قبل أن أحاول اقتراح إجابة عن السؤال، أود أن أذكر بحالة النوستالجيا التي تنتاب الكثيرين تجاه كل ما قدم في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من مشاركة ونشر لأغان وبرامج وصور ومسلسلات وأفلام لتلك الفترة، والتي إذا أزحنا منها جانب «الحنين إلى الماضي»، فسنكون في كثير من الأحيان أمام أعمال ضعيفة فنيا.
قد يجيب البعض بأن أعمال تلك الفترة أفضل فنيا من أعمال المرحلة الحالية، وقد يكون هذا صحيحا، لكن هل الأفضل أن نقارنها بالأسوأ أم بالأفضل؟ بما سبقها أم بما تلاها؟ وهل هذا يعني أيضا أن كل ما تلاها سيئ؟
أتذكر في التسعينيات المقالات التي كانت تدبج في الصحف والمجلات لمهاجمة ما أطلق عليه وقتها «الأغنية الشبابية»، وكان بعض الكتاب الساخرين يسمونها «الأغنية الهبابية»، ساخرين من إيقاع «الطبلة» و«التصفيق» الذي يصاحب تلك الأغنيات القصيرة التي لم تخرج من عباءة «التراث الموسيقي العريق». بعد حوالي عشرين عاما من هذه التسمية وهذه السخرية، تحول مقدمو هذه الأغاني إلى مطربين كبار، وتحولت هذه الأغاني بالفعل إلى كلاسيكيات في نظر من يستمعون إليها الآن، أو في نظر الأجيال الجديدة التي تستمع إلى نوع آخر من الموسيقى، أو بحكم الزمن.
ينطبق هذا الكلام بالمناسبة على الأفلام التي قدمت في بداية الألفية وأطلق عليها: «السينما الشبابية»، وتحولت مع الوقت إلى أفلام قديمة. وما تجدر الإشارة هنا إليه أنه مع سرعة إيقاع العصر، ومع كثرة ما يقدم، أصبحت «المواد الفنية» تذهب إلى «مفرمة» الزمن والتاريخ بشكل أسرع، وإن كانت مواقع الفيديو والفضائيات الكثيرة حفظتها قليلا من النسيان.
هذا يطرح سؤالا آخر: هل يكشف هذا أننا أمام تراجع مستمر فيما يقدم من أعمال فنية، وربما لهذا نحن نرى أن الماضي - رغم سوئه - أفضل من الحالي؟ ربما إذا أجبنا عن هذا السؤال ب «نعم» فيمكننا الاستدلال - ما دمنا تحدثنا عن الأغاني - ببعض ما يقوله محبو محمد منير وعمرو دياب، من أنهم يفضلون سماع أعمالهم القديمة لأنها أعلى قيمة وأكثر تعبيرا عنهم، على عكس الأغاني الجديدة التي يرون أنها أقل فنيا. الطريف أن هذا الكلام كان يتردد في أواخر السبعينيات أيضا عن عبد الحليم حافظ، الذي رآه البعض تخلى عن الأعمال الأصيلة التي كان يقدمها في بداياته، وهو ما يطرح سؤالا آخر حول ما يقدمه الفنان عموما في بداياته وخواتيمه، وأيهما أكثر تعبيرا عنه.
هذا الأمر تكرر مع عدد من المطربين القدامى الذين حاولوا العودة لجمهورهم، وتقديم أعمال جديدة في التسعينيات، مثلما فعلت وردة، أو محاولة محمد رشدي ومحمد العزبي إعادة توزيع أغان قديمة، بحجة «مواكبة العصر»، وفي ظني أن هذه الجملة تحديدا يمكن أن تجيب عن كثير من الأسئلة المنبثقة فيما مضى، وهي أن العصر يفرض متطلباته، وكل جيل يفرض ذوقه. لكن هل بالضرورة أن كل جيل جديد يكون ذوقه أقل من الجيل الذي يليه؟ أم إنه يستجيب لما يقدم له منذ صغره؛ فيكبر عليه ويكون ولاؤه له، فلا يقبل تغييره ويشعر بالحنين إليه عندما يكبر؟ «الذوق»، حسبما أطرحه هنا، هو جزء من الثقافة العامة. وإذا كان ثمة ما يقدم للوعي الجمعي بانتظام، فإنه هو ما يشكل «الذوق العام»، وهو ما يصنع الثقافة العامة، وهذا دور مؤسسات تقدم أعمالا وأخرى تقيم. ويمكنك أن تربط هذا الكلام بما يحب الكاتب محمد حسنين هيكل تسميته «القوة الناعمة لمصر»؛ أي تأثير مصر الثقافي في محيطها، والذي - لا شك - تراجع مع تراجع المنتج الثقافي المقدم من مصر، بعد تراجع اهتمام المؤسسات المعنية بالثقافة بهذا الدور. وإذا كان المحيط المصري العربي أوجد بدائل لهذه «القوة الناعمة» - قد تكون منتجات داخلية، أو من ثقافات أخرى - فهو في النهاية ليس مجبرا على تلقي ما يقدم في مصر إذا لم يكن جيدا، فإن المتلقي المصري ظل حبيسا داخلها، تدفعه وتدفع ذوقه إلى مزيد من التدني والانحدار.
أود الإشارة هنا إلى مفارقة: إنه على الرغم من تراجع القوة المصرية الناعمة لأسباب كثيرة، فإن جزءا من تراجع السينما المصرية في الثمانينيات والتسعينيات، كان ما سمي ب «السوق الخليجية»؛ إذ لجأ عدد من المنتجين إلى تعليب أفلام في شرائط فيديو - أطلق عليها اسم «أفلام المقاولات» - وبيعها مباشرة إلى السوق الخليجية دون أن تمر على قاعات السينما المصرية، ويمكن مشاهدة بعضها وملاحظة انعدام القيمة الفنية بها، عندما تعاد الآن في بعض القنوات الفضائية التي تقدم أيضا صورة أخرى للتردي الإعلامي.
بالتأكيد قدم جيل الثمانينيات - وأخص بالذكر حميد الشاعري - مشروعا موسيقيا، حتى لو كان مرفوضا في عصره، تماما كما فعل عبد الحليم حافظ الذي كان مرفوضا في بدايته، وأعتقد أن كل شخص يقدم شيئا جديدا يحاول أن يسبق عصره أو يواكبه سيرفض في البداية، لكن هل هذه قاعدة أم استثناء؟ سؤال آخر: هل كل ما مضى عليه عدد من السنوات يتحول إلى تراث؟ وبأي ذوق إذن نحكم على الفن ما دام كل شيء - حتى الفن نفسه - يتطور؟ حسنا؛ هذه أسئلة يمكننا أن نجيب عنها إذا عرفنا ماهية الفن، وماهية الزمن.
زمن التدوين الجميل
قبل أكثر من عام ونصف العام، أعلنت شركة «ياهو» إغلاق مدونات «مكتوب» الشهيرة المملوكة لها؛ وهو الأمر الذي مثل صدمة لعدد كبير من المدونين، لدرجة أنهم اتهموا الشركة بتدمير المحتوى العربي. لكن لو نظرنا للأمر من زاوية أخرى، واعتبرنا «ياهو» مجرد شركة تجارية تبحث عن الربح، وأدركت أن مشروعها التجاري لم يعد مربحا، فإن هذا سيجعلنا نطرح سؤالا مهما: هل انتهى بالفعل زمن التدوين؟
Shafi da ba'a sani ba