كريستوفر نولان سارد ماهر، وحكاء يعرف كيف يجذب متلقيه، يجيد استخدام كل تقنيات الفن الروائي في أفلامه، خاصة أنه يشارك في كتابة كل أفلامه، بل يقوم أيضا بارتجال مشاهد جديدة أثناء التصوير بحسب ما قالت النجمة آن هاثاواي التي شاركت في فيلمه الأخير، ويقدم شخصيات مركبة، تشهد صراعا نفسيا مستمرا؛ لذا يبدو من الصعب الحكم عليها هل هي شريرة أم خيرة، هل تنحاز إليها أم ضدها، معظمها مدفوع بدافع الانتقام فيتداخل الخير مع الشر من أجل تحقيق الدافع. يقول هارفي دنت في فيلم فارس الظلام: «إما أن تموت بطلا، وإما أن تعيش طويلا بما يكفي لترى نفسك تصبح شريرا.» وهذه الجملة تبدو كاشفة لتناول الخير والشر في أفلام نولان؛ ففي فيلم «التابع
Following » نحن أمام ما يمكن اعتباره الجريمة الكاملة؛ حيث يترك الشر ينتصر في النهاية عبر نص معقد لا تظهر تفاصيله إلا في اللحظات الأخيرة، وهي تيمة سينمائية قلما استخدمت في السينما، ولعل أحد أبرز أمثلتها فيلم «نقطة المباراة
Match Point » للمخرج وودي آلان، لا يطرح الشر هنا باعتباره شرا محضا، فنحن أمام كاتب شاب يقرر تتبع الناس في الشوارع بحثا عن شخصيات لكتابته، ثم لا يلبث أن يتورط في اقتحام بيوت لا للسرقة، بل للمتعة فقط، لاكتشاف ما يخبئه الآخرون؛ وفي «استهلال» شر من نوع جديد، يتيح الدخول إلى الأحلام وعالم اللاوعي وسرقتها، لكن ذلك ليس بمعزل أيضا عن صراع نفسي كبير داخل نفس البطل.
أما في «أرق»، فنحن أمام الضحية والجلاد في شخص واحد، مفتش الشرطة الذي يقتل زميله بالخطأ، ولا يراه سوى المجرم الذي يبحث عنه، ليضع المشاهد في مأزق نفسي، بين تواطئه لإخفاء جريمة القتل التي قام بها المفتش، وتواطئه ضد الكشف عن المجرم الذي رأى الجريمة. في فيلم «العظمة» نحن أمام ساحر لا يعرف هل دبر لجريمة قتل أم لا، وفي النهاية يقتل الساحر المدفوع بالانتقام نفسه كل يوم، وهي الفكرة التي تتقاطع مع فيلم قصير لنولان اسمه
Doodlebug
مدته ثلاث دقائق، ويحكي عن رجل يحاول قتل حشرة بحذائه، وحين يقتلها يكتشف أن الحشرة ما هي إلا نفسه.
في مشهد مهم في «النجومي»، يقوم «مات ديمون» بمحاولة قتل الملاح «ماثيو ماكونهي»، في محاولة لإنقاذ الأرض من وجهة نظره، لكن لا يعرف المشاهد من المحق؟ من الذي على صواب هنا: القاتل أم المقتول؟ من يستحق أن يقف معه وينحاز إليه؟ وهي الحيرة واللعبة النفسية التي يجيدها نولان، في رحلته إلى أغوار النفس البشرية مستخدما كل العقد الموجودة في علم النفس من «أوديب» إلى «إليكترا»؛ لذا يبدو مفهوما الخير والشر أنفسهما مفهومين متغيرين، وقابلين للتغير طوال الوقت، وربما يبرر هذا سبب النجاح اللافت لثلاثية «فارس الظلام»؛ حيث يطرح مفهوما مختلفا للصراع بين الخير والشر من منظور أكثر جدية وتطورا وإنسانية، على عكس المفهوم الذي طرحه تيم برتون أو جويل شوماخر، في الإصدار الأول لباتمان في أفلام الثمانينيات والتسعينيات؛ حيث يبدو الشر شرا محضا وخالصا، من خلال أبطال تقليديين مثل: الجوكر أو فريز أو ذي الوجهين أو رجل الألغاز، كانت تبدو أقرب للقصص الكوميكس منها لأي شيء آخر. هذا المعنى؛ معنى السفر إلى أغوار النفس البشرية ، موجود أيضا بشكل واضح حتى في الأفلام التي أنتجها نولان، مثل فيلم «تسام» الذي قام ببطولته النجم جوني ديب، والذي يطرح في النهاية سؤالا حول الهدف مما يحدث؛ إنقاذ الأرض أم تدميرها.
بالإضافة إلى ذلك لا يقدم كريستوفر نولان مجرد أفلام للتسلية، حتى لو كانت تندرج تحت بند الإثارة والخيال العلمي، فبالإضافة إلى تقديم تصور إنساني درامي مختلف في ثلاثية باتمان، نجده في فيلمه الأخير يقدم نظرية فيزيائية محضة للعالم الفيزيائي «كيب ثورن»، من خلال قالب فلسفي يختلف عن كل الأفلام الكارثية التي قدمت عن نهاية العالم، بل إنه درس الفيزياء لمدة ثمانية أشهر، ليأخذ المشاهد بعد ذلك في رحلة عبر ثقب دودي في الفضاء للبحث عن أرض بديلة للبشر، ربما تكون أنسنة للعلم كما في «النجومي»، أو أنسنة للخيال كما في «استهلال»، أو أنسنة للأبطال الخارقين كما في «باتمان».
ثمة شيء آخر يميز أفلام الخيال العلمي التي يخرجها نولان؛ أنها لا تبدو مفتعلة مطلقا، حتى لو كانت تدور في عالم كامل من الخيال، مثلما حدث في «استهلال»، والسبب أن في كل هذه الأفلام رحلة داخل العقل البشري، وهي رحلة موجودة في معظم أفلام نولان، بداية من «تذكار» وتقديم شخص فاقد للذاكرة، مرورا بتقديم قراءة نفسية لشخصية «باتمان»، ثم «استهلال» الذي يخلق فيه عالما كاملا داخل العقل البشري، رابطا إياه بأسئلة فلسفية حول الضمير والتطهير النفسي وعمليات غسيل المخ والعلاقة بين العالمين المتوازيين، فضلا عن استخدامه أفكارا وردت في لوحات رسامين عالميين، ورغم كل هذه الأسئلة فإنها لا تخلو من الإمتاع الذي يجعل ذهنك مشحوذا وممتلئا بالأفكار أثناء مشاهدة الفيلم وبعده، والأفلام التي تفعل ذلك قليلة، خاصة إذا كانت من نوعية الأفلام التي قد يراها البعض «خفيفة»؛ لأنها تدور في عوالم الإثارة والخيال العلمي.
ما بعد الكارثة
Shafi da ba'a sani ba