موغل في القدم لما قبل كعب بن زهير الذي توقف يوما وهو يكتب قصيدة جديدة قائلا في أسف:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من قولنا مكرورا
هل كرر هنا كعب ما قاله عنترة؟ هل سرق فكرته؟ أم إنه أدرك فجأة - تماما كما أدرك عنترة - أن منبع الأفكار واحد، أن ثيمات الكتابة معروفة ومحددة؛ كل ما في الأمر فقط هو كيف نتناولها، كيف نأتي بوجه جديد لها؟ هذا هو مأزق كل شاعر وكاتب، مأزق من يسعى إلى «خلق» شيء جديد، لغة جديدة، معنى جديد.
هذا هو وجع كل شاعر، كل فنان، ذنبه، لعنته التي تطارده حتى يموت، كلما فكر أن يكتب نصا جديدا - لم تطأه قدم بشر من قبل - يكتشف في آخر حرف أنه لم يقل إلا ما قيل فعلا، فيبدو كالبطل الإغريقي «سيزيف» الذي حكم عليه أن يدفع صخرة عظيمة إلى أعلى الجبل، فإذا وصل إلى القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها نحو القمة، ويظل هكذا حتى الأبد؛ فأصبح رمز العذاب الأبدي.
مضى الوقت الذي كان يمكننا فيه أن نكون «الأول»؛ أول من كتب قصيدة، أول من كتب رواية، أول من نحت شيئا جديدا. هل انتهت إذن الحبكات السينمائية، والثيمات الموسيقية، والعقد الروائية، والمناسبات الشعرية؟ ما زالت هناك فرص جديدة، يمكن الوصول إليها باستعارة المثل القديم الذي يضربه النقاد دائما بكلام عمرو بن بحر الجاحظ: «المعاني ملقاة على قارعة الطريق يعرفها العربي والأعجمي، والعبرة بالألفاظ.» أي إن الكلمات ملك للجميع، لكن العبرة في النهاية بكيف نعيد صياغة هذه الكلمات في نصوص جديدة.
يرد النقاد الأمر إلى «التناص»، و«التلاص»، و «الشيوع»، و«التوليد»، و«المشتركات»، و«الالتقاط»، و«توارد الخواطر»؛ رغم ما قاله الجاحظ، لكن ثمة من يرى أننا بالفعل نعيد كتابة ما كتب، لكن في ظني ربما يجب أن نضيف إلى ما مضى التقاطع الزماني والمكاني مع النصوص ذاتها؛ فلكل زمن ولكل مكان قواعده التي تجعل إعادة قول ما قيل مختلفة عما سبق، إذا وضعنا تطور الثلاثة مسارات بشكل متجاور: «مسار الفن، مسار الزمان، مسار المكان»، أضف إلى ذلك: التطور البشري، وتطور العقل البشري، وتطور العلاقات البشرية. ويمكننا هنا أن نستعير فكرة «هيجل» باستخدام مفهوم الكائن الحي أو العضوي في وصفه الفلسفة، باعتباره أن كل الفلسفات عبارة عن أجزاء أو مراحل تطور لهذا الكائن العضوي؛ لذا يصف «هيجل» الزمن الذي يعيش فيه بأنه: «زمن ميلاد وانتقال نحو حقبة جديدة.» بهذا الشكل يمكننا أيضا أن نقول إن الفن - بأشكاله المتعددة - هو كائن حي، حياته هي عمر البشرية، ومراحل الكتابة ليست إلا مراحل عمرية له.
تطور الزمان والمكان يؤدي بالتبعية إلى تطور الخيال؛ ومن ثم يخرج الفن من كونه تصويرا فحسب للمشاعر التي تتحرك عبر الزمن ببطء؛ فبذلك يصبح التعبير عنها أقل تطورا. إذن يمكن أن نربط تطور الفن ومفارقته - ليس بشكل كامل بطبيعة الحال - بتطور الفكر والخيال، وبحسب «ديكارت» فإن «النقلة من المستوى الخيالي إلى الفكري تتم بما يشبه الوثبة؛ إذ تصبح الذات في فاعلية خاصة ناجمة عن توحيد آليات التفكير بشيء وآليات تخيله ضمن إطار موحد من الوعي.» لذا يعتبر «كانط» أن الخيال قوة تركيبية مثله مثل فعل التفكير الذي هو في حقيقته فعل تركيبي. وقد اعتبر أغلب فلاسفة القرن السادس عشر كل إحساس مجرد خيال، لكن «كانط» اعتبر أن الاختلاف بينهما اختلاف في الدرجة، وأن المحسوس الحق هو الذي يفسر بواسطة الفهم باعتباره وحده الجدير بأن يتصف بالحقيقة.
الخيال إذن هو الإجابة على هذه الأسئلة: ما الذي يجعلنا نشاهد عشرات العروض المسرحية عن «هاملت» ولا نمل؟ ما الذي يعنيه إعادة التوزيع الموسيقي؟ لماذا نقرأ عشرات الروايات التاريخية عن الحدث نفسه ونستمتع بها؟ بل لماذا نعيد قراءة العمل نفسه أكثر من مرة؟ هل يشبه الأمر الترجمات المختلفة للرواية الواحدة إلى نفس اللغة؟
يقول «بول فاليري» إن «الليث هو عبارة عن خراف مهضومة.» وبهذا المعنى يمكن أن ننظر إلى كل الأعمال الفنية الموجودة، والتي وجدت، والتي ستوجد. وبهذا أيضا يمكن أن نرد على الأسئلة السابقة، وعلى سؤال عنترة. غير أن الأمر هنا يتوقف دائما على شكل هذا «الليث»؛ ما يقوله، وما يعنيه. إن مهمة الفن هي الخلق، حتى لو كان هذا الخلق نتاج خراف مهضومة. والخلق يعني الخصوصية؛ الخصوصية التي يسعى إليها الكاتب، والخصوصية للقارئ. يقول «تشارلز بوكوفسكي» في قصيدة له:
Shafi da ba'a sani ba