فأسكتهم وقال لأركاديوس: «إني لأعجب بشجاعتك، ولم ألق بين جند الروم مثل هذه الجرأة. ولذلك فإني أبقي عليك بشرط أن تخلص لنا الخدمة.»
فقال أركاديوس: «أما ما ترجوه من خيانتي فبعيد المنال، فتعجيلك بقتلي أجمل بك وبي .»
فمال عمرو إلى معرفة حقيقة حاله، فأجل الأمر إلى فرصة أخرى، وقال لوردان: «خذوه إلى مكان أمين، وليكن هناك حتى أطلبه.» فساقوه إلى بعض الخيام موثقا، فصار يفكر في حاله، وما أحدق به من الخطر. •••
أما أرمانوسة فإنها روضت نفسها على الصبر، وارتاح بالها، وسرت بمقابلة أركاديوس، وأعجبت بشهامته وبسالته، ولما توارى عن نظرها عادت على بربارة وتنفست الصعداء قائلة: «نحمد الله تعالى على ما أولانا من النعم، فقد تخلصنا من الموت، وشاهدت حبيبي وكلمته وتحققت ثباته، أما قسطنطين، فلا أظنه يجسر على دخول هذه البلاد ولو كان حيا، وقد دخلها العرب، هي في حرب معهم، فأطلب إليه تعالى أن يطيل إقامتهم بيننا منعا لذلك الرجل من دخول هذه البلاد إلى أن يقضي الله بما يشاء.»
فتبسمت بربارة وقالت لها: «ألم أقل لك يا سيدتي إن أركاديوس شهم باسل حازم أمين، وكم تقدمت إليك أن تلقي حملك على الله، وهو ينقذك من مخالب الموت كما أنقذ مارية لخطيبها، فإنها كادت تذوق كأس المنون مرتين، والفضل في إنقاذها بعد الله لحبيبك أركاديوس. متعك الله به! هلم بنا ننزل إلى الحديقة ترويحا للنفس بعد أن اطمأن بالك وسكن روعك.»
فنزعت أرمانوسة ثيابها، ولبست رداء سماوي اللون، وجعلت على رأسها شبكة من اللؤلؤ، وفي صدرها عروة من الذهب المرصع، وبيدها الأساور، وتطيبت، وأرخت ذوائبها على كتفيها، ومشت تجر ذيل ردائها ورائها، وبربارة تمشي إلى يسارها، فخرجت من الغرفة، ونزلت إلى رحبة الدار، ومنها إلى الحديقة، وبعثت إلى الجواري ألا يبرحن مكانهن؛ لأنها تفضل النزهة على انفراد، فدخلت الحديقة وجعلت تخطر بين الرياحين والأزهار، فلم تكد تمشي خطوتين حتى علت الضوضاء في المدينة، وهرول الحاكم مسرعا يطلب مقابلتها، فأذنت له، فدخل وعلى وجهه أمارات الانقباض والبغتة، وحياها وهو مرتبك، فسألته فقال: «يسوءني أن أبلغك خبر مجيء العرب إلينا بعدتهم ورجالهم وخيلهم، وقد تصاعد غبارهم حتى بلغ عنان السماء.»
فلما سمعت أرمانوسة ذلك اضطرب قلبها، ولكنها حمدت الله على ذهاب أركاديوس فقالت: «وهل وصل الجند ؟»
قال: «نعم يا سيدتي، وقد جاءني رسول منهم ومعه كتاب من أميرهم، يطلب إلينا أن نسلم المدينة.» فقالت: «وبم أجبته؟» قال: «أنتظر أمرك يا مولاتي؛ لأن مولاي المقوقس أوصاني بألا آتي أمرا إلا بعد استشارتك، وها أنا ذا بين يديك.»
فقالت: «وكيف نسلم لهم وعندنا العدة والرجال؟! وهل بعثت إلى أبي في شأنهم؟»
قال: «قد بعثت إليه غير مرة منذ وصلوا إلى الفرما، وهو عالم بقدومهم، ولا أدري ماذا أعد لدفعهم؟»
Shafi da ba'a sani ba