وفي أوائل القرن السابع الميلادي ، كان يحكم مصر وال يوناني الأصل. اسمه المقوقس حنا بن قرقت، وقد يدعونه بأسماء أخرى، وكان متشيعا لأهلها ومذهبهم وتقاليدهم، وأقام بالإسكندرية شأن ولاة الرومانيين إلى ذلك العهد؛ لأنها كانت عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة فيها. ولم تكن القاهرة قد وجدت بعد، بل كان في مكانها بساتين وغياض يتخللها بعض الأديرة والكنائس، وقليل من البيوت مبعثرة بين جبل المقطم والنيل، وإلى جنوبها بلدة صغيرة اسمها بابل، بناها الفرس حين قدموا مصر قبل الميلاد ودعوها باسم عاصمة دولتهم، وكان موقعها فيما هو الآن دير مار جرجس وما جاوره من البيوت، وجامع عمرو بن العاص، وبعض مصر القديمة. •••
وكان في وسط تلك البلدة حصن كبير يدعى حصن بابل، أو قصر الشمع، مبني على الطراز الروماني، هو الذي يقوم في مكانه الآن دير مار جرجس، وكان النيل يجري أمامه، وتلاطم أمواجه بابا كبيرا من أبوابه، ما زال رسمه باقيا في سوره الغربي حتى الآن، وقد طمرت الأتربة أسفله حتى لم يعد ظاهرا منه إلا عتبته العليا، إلى أن أزالت الحكومة تلك الأتربة، فظهر الباب كله. وهو قائم بين برجين كبيرين مستديري الشكل، في أحدهما كنيسة المعلقة حتى الآن ولكن بناءها تهدم. •••
أما مصر القديمة - ما بين هذا الحصن إلى النيل - فلم يكن لها أثر البتة؛ لأن النيل كان يجري في موضعها بجانب الحصن كما قدمنا، وكان بين هذا الحصن وجزيرة الروضة جسر من السفن، يمر عليه الناس من البر الشرقي إلى الجزيرة، وجسر آخر من الجزيرة إلى البر الغربي يمرون عليه إلى الجزيرة ومنها يذهبون إلى منف - عاصمة مصر القديمة - حيث كان المقوقس يقيم بعض أشهر الشتاء. برغم أنها في عهده كانت قد انحطت وكادت تئول إلى الخراب.
ولم يكن للأقباط هم في تلك الأيام إلا التخلص من الرومانيين والتحدث بفظائع أعمالهم وظلمهم واستبدادهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بعداوتهم، خوفا من سخطهم وزيادة الضغط عليهم.
الفصل الثاني
أرمانوسة بنت المقوقس
كان للمقوقس ابنة في ريعان الشباب، جمعت بين الجمال الروماني واللطف المصري اسمها «أرمانوسة»، وقد خصها الله بلين الجانب وحسن الخلق حتى ضرب المثل بجمالها وذكائها، وكان والدها يحبها حبا جما؛ لأنه لم يكن له إلا هي وابن اسمه أرسطوليس، فأباح لها التصرف في بيته وجعل لها الأمر والنهي في خدمه وحاشيته، وكان هرقل إمبراطور الرومانيين قد سمع بها فخطبها لابنه قسطنطين، وشاع ذلك وذاع حتى تحدث به الخاص والعام وحسدها الناس عليه، لكنها لم تكن راضية بهذا الزواج وإن لم تظهر شعورها لئلا يصيبها أو يصيب والدها سوء، بل كظمت غيظها وصبرت على مضض، حتى يأتي الله بأمر من عنده.
وفي سنة 640 للميلاد كان المقوقس مقيما بالإسكندرية على عادته ومعه حاشيته، وكلها من المصريين والمصريات وبعض الأحباش، وليس فيها أحد من الروم، وكانت أرمانوسة في قصره بمنف، في البر الغربي من النيل وراء الجيزة، وكان ذلك القصر فخما عظيما أقيم بأنقاض بعض هياكل المصريين القدماء ويشرف على النيل، وتحف به حديقة غناء، وفيها من أغراس الكرم والنخيل والشجر ذي الثمر والرياحين ما يبهج النظر، وبينا هي في قصرها ذات ليلة صافية الجو إذ أحبت الخروج للتنزه في النيل، فكلفت خادمتها الخاصة - واسمها بربارة - أن تكلف بعض الخدم بإعداد قارب تنزل فيه، فأعدوه لها، ونزلت وقد لبست ثوبا سماوي اللون يجر ذيله وراءها، وضفرت شعرها من أعلاه ضفيرة واحدة بإكليل صغير من الحجارة الثمينة مصنوع على شكل رأس الحية مثلما صنع قدماء المصريين، وأرخت الضفيرة على كتفيها، والجواري محدقات بها، وخادمتها الخاصة تحمل طرف ثوبها من ورائها لئلا يمس الأرض، ولو أنه مسها لا خوف عليه؛ لأنها مرصفة بالرخام النقي، ولأن طرق الحديقة مرصوصة بالفسيفساء، فتجاوزت الحديقة إلى بابها الشرقي، وكان شاهقا قد نقش على عتبته العليا رسم أوزيريس باسطا جناحيه، ومصراعاه من خشب الجميز الصلب، وعليه من النقوش البديعة ما يشغل النظر، وأمامه من الناحيتين تمثالان كبيران لأبي الهول، وسارت بين صفين من شجر الجميز حتى أتت الشاطئ، فنزلت إلى القارب على رصيف قديم البناء عليه نقوش هيروغليفية، وكان القارب مفروشا بالبسط المزركشة، فجلست في صدره وبين يديها جواريها، وقد أرخى النوتية الشراع فسار القارب الهوينى يخترق عباب النيل، والجو صاف وأشعة القمر تنعكس على سطح الماء وتتكسر وتتلألأ، وإلى كل من جانبي النيل غياض ومغارس للنخيل والدوم، ومن ورائها كروم العنب وغيرها، تتخللها قرى صغيرة وأبنية فخمة معظمها من الهياكل والتماثيل، وأعظمها قصور منف تتخللها الهياكل والأصنام العظيمة؛ لأن هذه المدينة برغم عوامل الحدثان كانت ما زالت أبنيتها شامخة تناطح السحاب، وبخاصة أهرامها المعروفة الآن بأهرام سقارة.
وسار القارب بأرمانوسة وجواريها بين يديها، وقد أخذن يعزفن على الآلات، وعلى ضفة النيل شجر البردي متكاثف يتمايل كالسكارى، ولم يكن يسمع عند مسير القارب إلا صوت الموسيقى يتخلله حفيف ورق البردي ونقيق الضفادع بين أغصانه، وقد اختفى بين هذا وذاك صوت القارب في اختراقه عباب الماء، والطبيعة هادئة والنسيم لطيف، وبربارة لا تفتر لحظة عن تسلية سيدتها بطريف حديثها وغريب قصصها. أما أرمانوسة فكانت مضطربة البال لا تبتسم إلا تكلفا، كأنها تريد نسيان ما يخامرها من الهواجس، وتود الانشغال عنها بمناظر الطبيعة، فلما أدركت وصيفتها ذلك جعلت تبالغ في تسليتها، تارة بالأحاديث المضحكة، وطورا بالإطناب في جمالها، وقد لحظت انقباضها من قبل وحاولت استطلاع كنهه فلم تستطع.
وبعد أن سار القارب مسافة، رأت أرمانوسة أنها قد بعدت عن المدينة فخافت أن يهاجم التمساح القارب فأمرت النوتية بالرجوع، فأداروا الدفة وعادوا، وكفت العازفات عن العزف فاستولى السكون على الجمع كأنهن شاركن الطبيعة صمتها، وكل منهن تنظر إلى ما حولها من الماء والشاطئ، تتأمل ذلك المنظر وتستأنس بنقيق الضفادع، وعلى وجوههن أمارات السرور إلا أرمانوسة، فإنها ما برحت منقبضة النفس، ثابتة النظر إلى جهة من جهات الشاطئ عن بعد، وبربارة تسارقها اللحظ وتراقب حركاتها وسكناتها، فإذا بها قد أخرجت منديلا من جيبها مسحت به عينيها وهي تحذر أن يراها أحد، فأمعنت بربارة النظر في تينك العينين المكحلتين بالسواد فإذا بهما تتلألآن وقد تناثرت الدموع منهما بغتة، فاضطرب قلبها وأرادت الاستفهام منها عن السبب، ولكنها أمسكت حتى لا تحرجها، وعولت على استطلاع الحقيقة عند عودتهن إلى القصر، على أنها أخذت تتقاذفها الهواجس؛ إذ لم تدر موجبا لبكاء سيدتها وقد توافرت لها كل أسباب السعادة، وليس في وادي النيل فتاة أحسن حالا ولا أسعد حظا منها؛ فإنها ابنة الحاكم الآمرة الناهية، وكل أهل البلاد في خدمتها، وقد خصتها العناية الإلهية بجمال وصحة وسعة عيش حتى نالت حظوة في عيني إمبراطور الرومان فخطبها لابنه، فخافت بربارة أن يكون أمرا ذا بال. •••
Shafi da ba'a sani ba