فقال جرجس: «أما العرب فقد تحققنا قدومهم لحربنا، ونرى جنودنا في استعداد لملاقاتهم، ولكنهم لم يبلغوا الحدود بعد، وقد أرسل مولانا المقوقس جانبا من الحامية إلى الحدود، وأقام جانبا آخر في حصن بابل ليدفع بهم الأعداء عن مدينة منف.»
فتبسم القسيس متهكما ولم يجب، فقال له جرجس: «وما الذي أوجب تبسمك أيها الأب المحترم ؟»
قال: «أبتسم لقولك أن المقوقس يعد رجاله لدفع العرب، والظاهر أنكم على كونكم من رجاله لا تعرفون حقيقة مقصده!»
فتجاهل جرجس خفة أن يكون في مجاهرته ضرر عليه لأنه من الجند، فقال: «وما الذي يعلمنا؟ وهل لمثلنا أن يعلم بمقاصد رئيسه السرية؟ نحن نعلم أننا نتهيأ للدفاع عن بلادنا ومحاربة العرب إذا جاءونا، هذا ما يظهر لنا من غرضه.»
فقال القسيس: «أما مقاصده الحقيقية يا أولادي فهي أن يسلم هذه البلاد لأي فاتح كان تخلصا من جور الروم وسوء معاملتهم لنا معاشر الأقباط.» فبالغ جرجس في التجاهل لكي يتحقق ما سمعه فقال: «ربما كان قولك مبنيا على الحدس؛ لأن الظواهر الحالية تنفي هذا القول، فإن المندقور الأعيرج بعدته ورجاله الروم ورجالنا الوطنيين قد تحصنوا جميعا في حصن بابل، فكيف تكون مقاصده كما تقول؟»
فهز القسيس رأسه مستهزئا وقال: «يظهر يا ولدي أنك لم تختبر الدنيا، أتحسب هذه الظواهر دليلا على حب المقوقس الدفاع؟ ألا تعلم أنه إنما يفعل ذلك خوفا من الأعيرج قائد الحامية الرومانية؟ وقد قلت لي في أثناء حديثك أن جنود الرومان في الحصن مع الوطنيين، وهل من الوطنيين جند في مصر؟!»
قال: «أريد حاشية مولانا المقوقس.»
قال: «أما حاشية المقوقس فشرذمة لا يعتد بها، إنما العمدة على الجند الرومان، فهم حامية البلاد، فإذا علموا بسريرة المقوقس قتلوه لا محالة، وأنا أخبرك اليقين وأؤيد قولي بالبرهان، ولكنني أطلب منكم حفظ ذلك سرا.» ثم خفت صوته وتطاول بعنقه نحوهما وقال: «إن المقوقس جمعنا نحن القسس الأقباط في اجتماع سري لم يعلم به أحد، وأطلعنا على مقاصده الحقيقية وأوصانا بالكتمان، ودربنا على الطريقة التي نتصرف بها عند الاقتضاء، فما رأيك بعد ذلك؟» فقال جرجس: «أما وقد قلت هذا فأنت أعلم بالحقيقة.»
وكان مرقس في أثناء تلك المحادثة غارقا في بحار الهواجس، وأفكاره مشتغلة بأمر حبيبته ووالديها والطريقة المثلى لإنقاذها من هذا الشرك، فأدرك القسيس ارتباكه فقال له: «مالي أراك صامتا يا ولدي؟» فقال وقد أفاق من هواجسه: «إني أفكر في تلك الفتاة وما وقع عليها من الظلم، وأراني شديد الميل لنصرتها، وأعلم أني إذا فعلت ذلك أنقذت نفسا من القتل.»
قال: «نعم يا ولدي وحبذا لو كان ذلك بيدي فلا أتوقف لحظة عن إغاثتها، ولكنني إذا أظهرت هذا الميل وقعت في شر مثل شرها؛ لأن حاكمنا ينتمي إلى الروم، وهم يصغون إلى ما يقوله ويعملون برأيه، وزد على ذلك أن الوقت قد فات، ولا وسيلة لإنقاذ الفتاة إلا بأمر من المقوقس نفسه وتصديق الأعيرج عليه، أما المقوقس فبعيد منا الآن؛ لأنه كان في بلبيس، ورأيناه عائدا منها في هذا المساء جنوبا، وأظنه يريد منف ولا حيلة في الأمر.»
Shafi da ba'a sani ba