فلما سمعت أرمانوسة ذلك صمتت لا تبدي حراكا وكانت قد جفت دموعها وزالت هواجسها، ولكنها عندما ذكرت بربارة الحصن والأعيرج عاودتها تلك الهواجس وعاد الانقباض إلى وجهها، وقالت بلهفة: «وهل أتى الأعيرج الآن إلى الحصن؟»
قالت: «نعم أظنه قدم ومعه كل رجاله.» قالت: «وهل جاء معه أولاده أيضا؟»
قالت: «لا أعلم، وفي كل حال، ماذا يهمنا من أولاده؟! لا أبقاه الله ولا أبقى أولاده؛ فإنهم يستوجبون النار.»
فأمسكتها أرمانوسة من يدها وقالت: «لا تلعني ولا تسخطي.»
وترقرقت الدموع في عينيها، فعجبت بربارة لهذه المظاهر ولكنها حملتها على محمل الخوف، وأنها أبت اللعن تورعا لكيلا يصاب والدها بسوء فقالت لها: «ألا تجوز اللعنة على القوم الظالمين يا بنيتي؟»
قالت: «هبي أنها تجوز ولكن ...» وصمتت وراحت تبكي.
فقالت بربارة: «ما بالك تبكين يا سيدتي؟ وما الذي حملك على البكاء ونحن لم نكد نصدق أنك كففت عنه؟»
فتنهدت تنهدا عميقا وألقت بنفسها على صدر بربارة، وقد خارت قواها وأخذ منها الهيام مأخذا عظيما، ثم تحولت إلى الغرفة وهي تقول: «إني أنشد نصحك يا خالتي فدبريني برأيك، واكتمي أمري، وساعديني في مصيبتي، فإن كانت حالتي تستحق البكاء قبل أن رويت لي حكايتك هذه، فإنها الآن تستوجب النوح والندب. آه من هذا القلب ، آه يا أركاديوس!»
فنهضت بربارة وضمتها إلى صدرها وقبلتها، ومسحت دموعها وعرقها المتساقط من جبينها، وأخذت تهون عليها، وفهمت من حديثها أنها مولعة بأركاديوس بن الأعيرج الروماني، وهو شاب جميل شجاع يحبه كل من عرفه، وكان يأتي أحيانا لزيارة المقوقس مع ما بين هذا والرومانيين من التنافر، وكان إذا التقى بأرمانوسة تسارقا اللحظ وتراسلا بالرموز وقلما تكلما. لكن بربارة تجاهلت فضمت أرمانوسة إلى صدرها قائلة: «مرحبا بك يا سيدتي وحبيبتي، إني رهينة أمرك، قولي ما بدا لك، واشرحي حالك، لا تخافي على سرك، فقد قلت لك مرارا إن هذا الصدر خزانة أسرارك، وهذه الحواس كلها تقوم على خدمتك، لا أراك الله ضيما.»
فجلست أرمانوسة على مقعد وتناولت المنديل بيدها ومسحت عينيها ووجهها، وأرسلت شعرها إلى الوراء، وكان قد استرسل على خديها عندما ترامت على مربيتها، وأجلست بربارة إلى جانبها ونظرت إليها بطرف ذابل قد تكسرت أهدابه من البكاء وغلب عليها الحياء وقالت: «ماذا أقول لك وحالي ظاهرة مع مبالغتي في إخفاء حقيقتها عنك، آه من الحب ما أحلاه وما أمره!»
Shafi da ba'a sani ba