فأفحم أركاديوس وسكت، ثم تحول مرقس إلى زياد فسلم عليه وأطنب في حسن ترجمته، ثم ودع وانصرف، ولم يكن أركاديوس قد رأى زيادا في الإسكندرية منذ رجوعه إليها، فلما لقيه دعاه إليه وقال له: «عهدتك في جند العرب، فما الذي جاء بك؟» قال: «عدت إلى بلدي، فقد كنت في جند العرب لمهمة ورجعت.» فلم يشأ أركاديوس أن يطيل الحديث لعلمه باطلاع زياد على كثير من سرائره في حب أرمانوسة.
وخرج عمرو من السور ومعه رفيقاه وكأنه في حلم لا يكاد يصدق أنهم نجوا ثم التفت إلى وردان وقال له: «ألم تر يا وردان رجلا قبطيا كنت أعهده في خدمة المقوقس، وأخالني رأيته مرارا؟»
فقال رودان: «نعم رأيته وعرفته فهو مرقس الذي جاءنا مع زياد العربي يوم وصلنا الفرما. ورأيت زيادا وهو يترجم كلامك للبطريق، لقد سررت والله بترجمته، لأني رأيته يترجم ويفسر على هوانا، ولكنني رأيت رجلا بالقرب من مرقس لا أظنك عرفته، أما أنا فأراني عرفته من قبل، ولعله الرجل الذي قبضنا عليه خارج بلبيس ولم نعرف حقيقته، ثم فر منا أثناء الهجوم، ويلوح لي أنه من كبار القواد، ويستدل على كبر نفسه من كتمانه أمرك، ولا ريب في أنه عرف أنك الأمير، وتلك مروءة أهل الوفاء.» ووصلوا إلى المعسكر والجند يبحث عنهم، فسروا بقدومهم، فجلسوا يقصون الخبر عليهم وهم فرحون. •••
وكان بعض أهالي الإسكندرية قد ملوا الحصار، فأخذوا في الفرار بالسفن والزوارق، ولم يكن أركاديوس غافلا عن حال الإسكندريين وضعفهم وخوفهم وهجرتهم، ولكنه بقي ثابت الجأش صابرا على أداء واجبه، مع علمه بأنه لا يستطيع فرارا، ولا هو يبغيه؛ لأن قلبه عالق بمصر، فقضى الشهر الأخير من الحصار في قلق شديد، ظل ليلته ساهرا يفكر في حاله وحال الإسكندرية، فإذا خيل إليه أن العرب فتحوها تحير في أمره وعز عليه أن يقابل أرمانوسة مغلوبا على أمره، كما يعز عليه أن يرى أباها وهو الذي خانهم ونصر عدوهم، وفي ليلة من الليالي المقمرة طال الليل على أركاديوس، وعز نومه، فخرج إلى السور، واتجه إلى الشاطئ يصرف هواجسه باستنشاق نسائمه لعل النعاس يأتيه، فمر في الأسواق، وأهلها نيام، لم يسمع غير نداء الحراس ينبه بعضهم بعضا بشعار الليل، حتى انتهى إلى الشاطئ فأحس برودة الهواء، وتنسم رائحة البحر، والتف بعباءته وجلس على صخرة ناتئة، ونظر إلى البر ونور القمر ينعكس على سطحه فينكسر بتحرك الأمواج وينتقل بريقه من موجة إلى أخرى، وحركة الموج تبدأ ضعيفة خافتة فإذا دنت من الشاطئ تعاظم صوتها وأزبدت وتصاعدت منها فقاعات صغيرة تزداد بها رائحة البحر حرافة، فإذا لطمت الصخور وعادت متقهقرة وقد تحول إرعادها إلى دمدمة، كجيش ضعيف هاجم جيشا قويا، فلما دنا منه أطلق قنابله وكر راجعا وعدوه ثابت لا يكترث به، وقد سرى هذا عنه برهة ثم عادت إليه همومه، وظل يفكر في أمره وفي الحرب وأرمانوسة حتى شعر بالبرد القارس وبالنعاس فنهض وعاد يلتمس حجرته فوق السور.
فلما وصل إلى الحجرة وقف له الحراس فسلم وهم بالدخول، فاقترب منه أحدهم فعلم أنه يبغي أمرا فوقف مصغيا، فقال الحارس: «إن رجلا أظنه من أعيان الإسكندرية افتقدك، وهو في انتظارك.»
قال: «وأين هو؟» قال: «هو في غرفة الحراس.» قال: «ادعه.»
ودخل حجرته وقد أضاءها بالشمع، ولم يكد ينزع القباء والخوذة حتى عاد الحارس ومعه رجل قصير الهامة نحيل الجسم متجعد الوجه طويل شعر اللحية عريضها وقد وخطها الشيب، غائر العينين، وعلى رأسه قلنسوة العلماء وفي وجهه ملامح الرومانيين، تدل قيافته على الزهد والتقشف، فلما دخل تهيبه أركاديوس فوقف وتلقاه بالتحية ورحب به، وأجلسه ، وتأمل في وجهه فلم يعرفه، فعجب لقدومه إليه في الليل، واشتدت رغبته في استطلاع حقيقة أمره، ولبث برهة والرجل يردد أنفاسه يلتمس الراحة من تعب الطريق، ويتهيأ للكلام، ثم نظر إلى وجه أركاديوس وقال: «أأنت أركاديوس بن الأعيرج؟» قال: «نعم، ومن أنت؟» قال: «سوف تعلم، ولكنني أستحلفك بشرفك وبمن تحب أن تسمع حديثي إلى آخره، فإذا لم تر العمل به أطلقت سراحي فأعود من حيث أتيت، فهل تعدني بذلك؟» قال أركاديوس: «فمن أنت؟» قال: «لا شك أنك إذا عرفتني استغربت جرأتي في القدوم إليك، ولكنني جئت ناصحا، فإذا لم تنتصح عدت وما علي بأس.»
فقال أركاديوس: «قل ما تريد، ولكن ما اسمك؟» قال: «قلت لك يا ولدي أني سأطلعك على اسمي، وغاية ما أرجوه منك أن تجيبني عن بعض الأسئلة قبل أن أبوح لك باسمي، وأنا على الحالين بين يديك.» قال: «اسأل.»
فتنحنح الشيخ ومسح وجهه بيده إلى أسفل لحيته، وهو يتفرس في أركاديوس ويبتسم ابتساما مقرونا بالحزن، وقال: «ألست القائد أركاديوس بن الأعيرج قائد حامية الروم في مصر؟» قال: «قلت لك إني هو.» قال: «ولماذا؟»
قال: «لا أدري، ولعله ذهب إليها ليسأل عن سبب سقوط الحصن في أيدي العرب وهو قائد حاميته.»
Shafi da ba'a sani ba