انتهى الطبيب من استعراضه في لمح البصر، واستقرت عينه على الشيء الذي يهمه من كل هذا، على ورقة المستشفى البالية المتسخة، وقد استماتت قبضة الرجل عليها. وفي الحال شد منه الورقة، وقلبها في اشمئزاز، ثم انفرجت أساريره فجأة، وزأر في الرجل: يا بني آدم، أنا مش محولك من أسبوع لعيادة الجراحة، إيه اللي جابك هنا تاني؟ هنا يا مغفل حاجة اسمها الاستقبال بس، فاهم؟
وقفز «التومرجي» يشاطر في الزئير ويقول: دا مكتوب له، يحول في عربة كمان، أما ناس ما بتختشيش.
وكاد الرجل أن يبتسم لولا أن وجهه خانه، فبدأ يغمغم: يا خيه يا سعادة البيه، ما الجراحة حولت لباطنية، وباطنية حولت لسرية، وسرية حولت لجدية، وآديني رجعت تاني، وبقالي أسبوع يا سعادة البيه بارقد على الرصيف، وآخ...
ورد الطبيب بسرعة وغضب: طاب، وحاعملك إيه؟ وأنا مالي يا أخي؟ أنا ملزوم؟ أنا ملجأ؟ أنا لوكاندة؟ اسمع، مش عايز دوشة، أنا حاحولك الجراحة تاني في عربية برضه، إنما وشرفي لو شفت وشك بعد كده ...
ورفع الرجل يده الفارغة، وأمال جسده حتى كاد يلمس المنضدة التي يجلس إليها الطبيب، واندفع يقول ولا شيء يوقفه: لا لا لا، والنبي يا بيه، أنا مش عايز علاج واصل، والنبي يا بيه دانا ...
وانفجر الطبيب كالبركان: أمال عايز إيه؟!
وكان انفجاره هو إشارة البدء لأيدي «التومرجية» لكي تلتف في جبروت حول الرجل، وتقتلعه من الغرفة، فناضل بكل ما يملك ضعفه من قوة يحاول تخليص نفسه، وقال في وهن ومسكنة: والنبي يا بيه، والنبي وحياة والدك، مش عايز الجراحة، حولني على بلدي، حولني على سيوط.
أبو سيد
الدنيا كلها سكون، والصوت الوحيد الذي يتسرب إلى الحجرة كان ينبعث من «وابور الجاز» وهو يون في ضعف مستمر واهن، وكأنه نواح طفل عنيد مسلول، ولا يقطع ألون الشاحب البعيد إلا زحف «الكوز» على أرض الحمام، ثم صوته وهو يبتلع الماء ويصبه بعد ذلك في ضوضاء مكتومة.
واستمر الوابور يزن، والكوز يحف ويبتلع وينصب ماؤه، وصفيحة الماء تقرقع، استمرت الأصوات كلها تتضارب وتحلق كالوطاويط في سماء الحجرة، حتى جاد الوابور بآخر أنفاسه، وانطفأ، وعاد المكان إلى سكون الدنيا الثقيل.
Shafi da ba'a sani ba