ولكني انطلقت أحدثه عن الأيام التي مضت، والسنين التي لم تغير في مظهره، ولم تضف إلى علامات العمر فيه علامات جديدة، وحدثته عن الكلمات الصغيرة السريعة التي كان يغمرني بها، والتي أصبحت علامات بيضاء دفعتني قويا في طريق الحياة، وعن التقدير الذي أختزنه له من زمن.
وتعجب قليلا، وبعد أن كان واضحا أنه يضن بالكلام، بدأ يحدثني حديث الإنسان عن المدارس التي تنقل فيها، وعن الوزارة التي تضن عليه بالدرجة، وعن زملائه الذين أصبحوا نظارا، وهو لا يزال مدرسا، وعن امرأته التي طلقها، ونفقتها التي تستغرق مرتبه، وابنه الذي ترك المدارس، وذهب يمثل في السينما.
وسألته عن طلبة هذه الأيام وأنا أضحك، فلم يجبني، وإنما أخرج منديله العتيد من جيبه، ودعك أسنانه، ثم بصق من النافذة.
وذكرته بحكاية زعيم الكيمياء، فابتسم لأول مرة، وأخذ ينصت باهتمام حين قصصت عليه كيف دخلت مسابقة الكيمياء وكنت الأول، وكيف التحقت بكلية الطب وتخرجت، ولي سنين وأنا طبيب.
وحين وصلت إلى هذا الحد، انفجر في ضحكة طويلة اهتزت لها كل أرجاء جسده، وزغدني في كتفي وهو يقول: يا شيخ اتلهي، اتلهي!
وحتى حين أطلعته على بطاقتي الشخصية وأنا أقول له: كل ده بفضلك.
بان عليه حرج كبير، وضرب كفا بكف، وهو يقول: في المدة القصيرة دي، تبقى دكتور! دكتور!
فقلت مرة أخرى: كل ده بفضلك.
وكنت أقولها في حماس الصبي الذي كان في دمياط، وفي رهبة الفتى أمام أستاذه، وفي تلعثم المبتدئ حين يقابل الفنان الذي وصل.
وطول المدة التي أمضاها في مدرستنا ما رأيت الحفني أفندي سعيدا أبدا؛ ولذلك تفرست في ملامحه، وقد بان فيها تعبير بدائي عن سعادة تطرق وجهه ربما لأول مرة.
Shafi da ba'a sani ba