والذى حدوا به النفس هو شيئان: حركة الانتقال، وإدراك الأشياء بالفهم والقضاء عليها. وقد يظن أن الإدراك بالفهم يشبه الإدراك بالحس (وذلك أن النفس فى الأمرين جميعا تعرف وتقضى) وكذلك رأت القدماء — منهم أنبادقلس وأوميرش الشاعر — أن الإدراك بالعقل شبيه الإدراك بالحس وأنه شىء جسمانى، وهكذا كان ظن جميعهم ؛ وإن من فهم إنما يفهم بالمثل كالحاس إذا أحس فانما يحس بالمثل كالذى فصلنا فيما تقدم من كلامنا. فالواجب كان عليهم مع هذا أن ينظروا فى الغلط العارض فى الفهم والحس، لأنه أليق بالحيوان لمكان أهليته: فذو النفس قد يقيم فى الغلط زمنا طويلا. ولا بد بالاضطرار إما أن يكون ما قال أقوام حقا: أن جميع ما ظهر من الأشياء حق، وإما أن مماسة غير المثل غلط وكذب، 〈لأن〉 هذا مضاد لإدراك المثل بالمثل. والعلم والغلط شيئان مضادان. وقد استبان بهذا أن الإدراك بالحس والإدراك بالعقل ليست حالهما حالا واحدة: وذلك أن أحد الأمرين موجود فى الجميع، والآخر لا يكون إلا فى أقل الحيوان. وليس الإدراك بالعقل (دون الإدراك إذا صح أولم يصح إدراكا واحدا، وذلك أن صحة الإدراك بالعقل فهم وعلم وثبت صادق، والإدراك به على غير صحة خلاف لهذا كله)، وليس من هذه شىء مشاكل للإدراك بالحس، ذلك أن الحس أبدا صادق فيما كان خاصا به وموجود فى جميع الحيوان — وقد يمكن أن يكون التفكر 〈كاذبا〉، ولا يكون فى من لا نطق له. — وأما التوهم فانه غير الحس وغير التفكر، ولا يكون ظن بغير توهم. ومن الظاهر البين أن التوهم ليس هو تفكرا ولا ظنا، وذلك أن التوهم إلينا (إذا شئنا نكتسبه من بين أعيننا، كالذى يفعل المذكرون لأنفسهم بنصبهم أوثانا وأمثالا بين أيديهم لئلا يذهب عليهم الذكر)، فأما الظن فليس إلينا، بل نحن مضطرون فى ذلك أن نكون إما محقين وإما كاذبين. وإذا ظننا ظنا مخيفا أو مشجعا لنا فيغيرنا ذلك الظن من ساعتنا؛ وإنما حالنا فى التوهم كحال من رأى أشياء فى صورة مخيفة أو غير مخيفة.— والظن أيضا فصول: منها علم ومنها رأى، ومنها حكم، وما كان مخالفا لهذه. والكلام فيها قول غير هذا.
ولكن إذ كان الإدراك بالفهم غير الإدراك بالحس، وبعض إدراك العقل توهم وبعضه ظن، فلنحد أولا القول فى التوهم ثم نصير إلى ما بعد ذلك. إن التوهم حال يتخيل لنا فيها شىء ليس بموجود بالحقيقة، ولا نقول إن التوهم شىء منقول اسمه فيكون واحدا من التى يقضى بها: فاما صدقا وإما كذبا. والتى يقضى بها هى الحس والظن والعلم والعقل.
Shafi 69