Arab Thought in the Renaissance Era
الفكر العربي في عصر النهضة
Mai Buga Littafi
دار النهار للنشر بيروت
Nau'ikan
ألبرت حوراني
الفكر العربي في عصر النهضة ١٧٩٨ - ١٩٣٩
دار النهار للنشر
1 / 1
ترجمه إلى العربية
كريم عزقول
1 / 2
مقدمة المترجم
بين دفتي هذا الكتاب، الموضوع أصلا في اللغة الانكليزية بقلم عالم واسع الاطلاع، دقيق الملاحظة، محكم التفكير، عرض لإنتاج الفكر العربي السياسي في الحقبة الواقعة بين أوائل القرن التاسع عشر وبدء الحرب العالمية الثانية، يسبقه وصف موجز لأصول هذا الفكر وتطوره منذ انطلاق الدعوة الإسلامية، ويختمه رسم سريع لأهم اتجاهاته منذ الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا تقريبًا. وهو بحث علمي تحليلي مفصل وموضوعي، يتوخى اطلاع القارئ الانكليزي على تاريخ هذا الفكر، متجنبًا، على العموم، إصدار حكم عليه أو إبداء تعليق حوله.
ويتبين من هذا الكتاب أن مجهود العرب الفكري السياسي قد انصبَّ، في جميع مراحله هذه، على محاولة التوفيق بين نظرية الإسلام في الحكم، على مفهومها الإسلامي الأصلي، وبين التغيرات التي طرأت على واقع الحكم، في مختلف أطوار تاريخ «الأمة» الإسلامية، نتيجة لظروف وأحوال وأوضاع جديدة، مما أسفر، مع الزمن، عن توضيح، أو تفسير، أو تأويل، أو تطوير، أو تعديل، أو تبديل لتلك النظرية، ضمن إطار التقليد الإسلامي أو خارجه. وقد جرت هذه المحاولة وما أدت إليه من تطور في نظرية الحكم، طوال قرون عديدة، تدريجًا وببطء وهدوء وبشكل يكاد لا يلحظ، حتى جابه الإسلام فجأة، في أوائل القرن التاسع عشر، عالم أوروبا الحديث، فشعر المسلمون شعورًا حادًا بضرورة القيام بمحاولة جديدة للتوفيق
1 / 5
بين آخر ما كانت قد وصلت إليه النظرية الإسلامية في الحكم وبين هذا الحدث الجديد الكبير، أملًا بردّ تحديه المحرج الخطير. وهكذا نشأت حركة فكرية واسعة ونشيطة، جاء هذا الكتاب يبسط مجالها وتياراتها واتجاهاتها وتفرعاتها وأسبابها ونتائجها.
وفيما كانت هذه المحاولة آخذة مجراها الطبيعي وسائرة سيرها الحثيث، إذا بالعالم الغربي الحديث، بسرعة تفوق سرعتها. يحتاج العالم العربي بأفكاره ونظمه ومؤسساته، فيتخطى تلك المحاولة تخطيًا جعل الشق بين نظرية الإسلام في الحكم وبين واقع الحال يتسع ويعمق يومًا بعد يوم.
وكأن هذا السبق، الذي أحرزه التطور العملي في واقع البلدان العربية على التطور النظري في أفكار المحاولين ضبطه وتوجيهه. قد أدخل نوعًا من اليأس في نفوسهم من اللحاق على الصعيد النظري بهذا التطور العملي، فإذا بعزمهم يضعف، ويزخمهم يتراخى، وإذا بالتقاعس يدب في متابعتهم هذه المحاولة، فيتسلمها عنهم مفكرون «علمانيون» لم يكونوا، وإن مسلمين، ليمثلوا، على وجه الدقة، أصالة الدين الإسلامي أو لينطقوا باسمه. ذلك أنهم لم ينطلقوا، على ما يبدو من الإسلام نفسه لمجابهة التطور الحديث وتقييمه على ضوء مبادئ الإسلام ومقتضياته، بل انطلقوا، بالأحرى، من واقع التطور الحديث لتفسير الإسلام وتطويره وفقًا لمقتضيات هذا الواقع. فجاءت محاولتهم هذه كأنها غير صادرة عن صميم التقليد الإسلامي، وبدت، لذلك، غير مؤهلة للفعل فيه من الداخل، كمن له سلطان.
وهكذا، أمام هذا الفراغ العقائدي، وجد المسلم نفسه اليوم في وضع شاذ غريب وفريد من نوعه:
فهو يعيش. داخليًا، وفي ضميره ولاء للدولة المهتدية بهدي
1 / 6
الله، والمذعنة لأوامره ونواهيه، والمنفذة شرائعه على الأرض؛ وهو يعيش، خارجيًا، ضمن دولة دينها الإسلام، ومفروض فيها، لذلك، أن تجسد الدولة الإسلامية في سلطتها وحكمها ومؤسساتها وشرائعها. بينما هو يعيش، بالواقع، ضمن دولة كل ما فيها تقريبًا مستورد من مصدر غير إسلامي، قد يتلاءم مع الإسلام أو لا يتلاءم معه، لا بل قد يكون مخالفًا له في روحه وفي أسسه وفي أهدافه. فهل يستطيع هذا المسلم، وهو في شك على الأقل من «شرعية» هذه الدولة، أن يهبها ولاءه بلا تحفظ، فيضع مصلحتها فوق مصلحته، ويندفع في خدمتها بإخلاص وتفان، ويضحي في سبيلها بكل ما لديه؟ وإن هو فعل، أفلا يخامره الشك ويساوره الخوف من أن يكون فاعلًا ما قد لا يرضي الله، لا بل ما قد يستحق سخطه ويستدعي عقابه؟
قد يكون هذا التمزق الداخلي في وجدان المواطن سر الحالة المخيفة التي تتخبط فيها الشعوب العربية اليوم؛ وقد تكون القضية الأساسية الأولى المطروحة أمامها الآن إنما هي إعادة الصلة الروحية بين الحاكم والمحكوم، بين المواطن والدولة، بحيث يصبح بإمكان هذا المواطن، بلا تردد ولا تحفظ، لا بل باندفاع وغيرة وحماس، أن يطيع من يجب أن يطاع وأن يمنح الولاء لمن له الولاء.
كذلك قد يكون الاطلاع على المجهود العظيم الذي قام به في هذا السبيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم ممن انصرفوا إلى معالجة هذه القضية من داخل التيار الرئيسي للتقليد الإسلامي أو من خارجه حافزًا على استئناف هذه المحاولة الكبرى التي حاولها هؤلاء المسلمون العظام وعلى توسيعها وتعميقها والدفع بها إلى نتائجها المنطقية.
لهذا أقدمت على ترجمة هذا الكتاب.
1 / 7
أما بشأن هذه الترجمة، فقد توخيت الدقة في إداء أفكار المؤلف والمحافظة على طريقة تفكيره وتعبيره، أكثر مما توخيت الرشاقة والسلاسة التي يجب أن يتحلى بها الإنشاء العربي. وقد سهل مهمتي هذه الأستاذ الدكتور ماجد فخري، رئيس قسم الفلسفة في جامعة بيروت الأميركية، الذي تفضل، مشكورًا، بمراجعة النص العربي.
بيروت في ٢٠ آب ١٩٦٨ ... كريم عز قول
1 / 8
مقدمة المؤلف
ليس هذا الكتاب تاريخًا عامًا للفكر العربي الحديث، إنما هو دراسة لذلك التيار من الفكر السياسي والاجتماعي الذي أخذ يظهر، عندما تنبه المثقفون في البلاد الناطقة بالضاد، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى أفكار أوروبا الحديثة ومؤسساتها وبدأوا، في النصف الثاني منه، يشعرون بقوتها. فقد كانوا يتساءلون عما يجب عليهم وعما يمكنهم أن يأخذوه عن الغرب لإحياء مجتمعهم. كما كانوا يتساءلون بأي معنى يظلون عربًا، ويظلون مسلمين، إذا ما تأثروا بالغرب واقتبسوا عنه. وقد حاولت أن أبين كيف عبرت هذه التساؤلات عن نفسها، وأن استعرض بعض الأجوبة التي أعطيت عنها. على أني لم أحاول الإتيان على كل شيء، بل انتقيت ما بدا لي ملائمًا لإيضاح موضوعي.
فتوسعت في عرض التكاوين الفكرية الأولى أكثر من الأخيرة، وفي ما كتب في القاهرة وبيروت أكثر مما كتب في أماكن أخرى. ووجهت اهتمامي الرئيسي نحو مؤلفات عدد قليل من المفكرين الذين بدوا لي جديرين بالدراسة أكثر من سواهم، محاولًا سرد تفاصيل كافية عن حياتهم وعن العالم الذي عاشوا فيه، كي يتضح لماذا طرحوا أسئلتهم كما فعلوا. هذا مع العلم بأن التمييز بين «الشرق» و«الغرب» لم يعد، بعد ١٩٤٥، صحيحًا بمقدار ما كان كذلك من قبل، وأن قضية «محاكاة الغرب» لم تعد محور التفكير، اكتفيت بالإشارة إليه من بعيد في خاتمة الكتاب.
ولا بد هنا من أن أعرب عن عميق امتناني للمؤسسات
1 / 9
والأشخاص الذين ساعدوني. أخص بالذكر منهم رئيس كلية مريم المجدلية وطلابها في أكسفورد، الذين اختاروني لمنحة دراسية أتاحت لي الوقت الكافي لوضع هذا الكتاب، الذي كان جزءً من موضوعًا لمحاضرات ألقيتها في جامعة بيروت الأميركية (١٩٥٦ - ١٩٥٧)، وفي معهد الآداب والعلوم في بغداد (١٩٥٧)، وفي جامعة أكسفورد (١٩٥٨ - ١٩٥٩)، وفي معهد الدراسات العليا في تونس (١٩٥٩). فأشكر الذين سهلوا لي إلقاء هذه المحاضرات، كما أشكر الطلاب الذين، بأسئلتهم أو بصمتهم، ساعدوني على اكتشاف ما كان فيها واضحًا أو ما لم يكن.
وأريد أن أخص بالذكر أيضًا الآنسة مرغريت كليف، سكرتيرة المعهد الملكي للشؤون الخارجية سابقًا، ولخلفها السيد أ. س. ب. أولفر، لما لقيت منهما من تشجيع واهتمام. كذلك أولئك الأصدقاء الذين قرأوا الكتاب، كليًا أو جزئيًا، وانتقدوه، منهم ريتشارد فالزر، وبرنارد لويس، وشارل عيساوي، ووليد خالدي، ومالكولم كير، وإيليا خدوري وزوجته. كما أني مدين بنوع خاص إلى للآنسة أورسولا جبسون التي طبعت المخطوطة على الآلة الكاتبة، والآنسة هرميا أوليفر من أسرة تحرير تشاتم هاوز التي أحاطت مخطوطتي، كما أحاطت مخطوطات عديدة أخرى، بعطف حار.
كانون الأول ١٩٦١ ... ألبرت حوراني
1 / 10
الفصل الأول
الدولة الإسلامية
العرب أشد شعوب الأرض إحساسًا بلغتهم (١). فهي ليست، في نظرهم، أعظم فنونهم وحسب، بل خيرهم المشترك. ولو سألت معظمهم تعريف ما يعنونه «بالأمة العربية»، لبادروك إلى القول أنها تشمل جميع الناطقين بالضاد. لكن سرعان ما يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيقولون إنها تشمل جميع من يدعون صلة ما بقبائل الجزيرة العربية، إن بالتحدر منها، أو بالانتساب إليها، أو باقتباس مثلها الأعلى، عن طريق اللغة والأدب، في كمال الإنسان ومقاييس الجمال. أما تعريف الأمة العربية تعريفًا كاملًا، فلا بد من الرجوع فيه إلى حقبة تاريخية لعب فيها العرب دورًا قياديًا كان خطيرًا، لا لهم فحسب، بل للعالم أجمع، بحيث حق لهم الادعاء بأنهم كانوا، في تاريخ البشر، شيئًا يذكر.
تبدأ تلك الحقبة حين دعا محمد، وهو من آل قريش، إلى رسالة آمن بأن الله عهد بها إليه بواسطة الملاك جبرائيل. كانت هذه الرسالة، في نظر أتباعه، من الخطورة بحيث أنها غيرت وجه التاريخ. دعا محمد الناس إلى التوبة قبل فوات الأوان، وإلى السعي وراء ما يرضي الله، كما أنه حدد العقائد والأفعال التي يأمر بها الله. وقد علم أن على الناس أن يؤمنوا بأن الله أحد، وبأنه أعلن إرادته بواسطة الأنبياء، وبأن محمدًا خاتمتهم، وبأن الرسالة المنزلة عليه، وهي القرآن، إنما هي كلام الله المنصوص المعبر عن مشيئته من أجل البشر، وبأن على البشر أن يعملوا بالأوامر الواردة فيه، وبأن
1 / 11
العالم سينتهي بيوم حساب تقوم فيه أعمالهم وعليها يحاسبون.
بدا جليًا لأتباع النبي أن لا بد للوحي الذي كان هو أداة تبليغه أن يكون الأتم لأنه الأخير، وأن لا بد للقرآن من أن يشتمل، هو وتعاليم النبي وسيرته، تصريحًا أو تضمينًا، على كل ما كان ضروريًا للحياة الصالحة. وعلى مرور الزمن، أثبت نص القرآن، وجمعت الأحاديث عما فعله النبي وعما تفوه به (سنة الرسول)، ثم محصت على يد علماء انصرفوا بكليتهم إلى التمييز بين الصحيح منها والمنحول. وعلى مرور الزمن أيضًا، نشأ عن القرآن والحديث نظام شامل للخلقية المثلى، كان بمثابة تصنيف خلقي للأفعال البشرية يوضح السبيل (الشريعة) الذي في إتباعه إرضاء لله وأمل في بلوغ الجنة. لم يكن ذلك عسيرًا في الأفعال التي نزل فيها نص من القرآن صريح أو ورد بها حديث مقبول. أما في غير ذلك، فكان لا بد لذوي العقول والخبرة اللازمة من استنطاق النصوص عنه، وفقًا لقواعد القياس الدقيق، أو لقواعد طريقة أخرى من طرق التعليل (الاجتهاد). وهكذا غدا نتاج هذه العملية مقبولًا على العموم لدى جمهور العلماء (الإجماع)، واكتسبت الأحكام أو الشرائع المجمع عليها سلطة لا تقل إلزامًا عن القرآن والحديث. إلا أن الآراء بقيت متباينة في كيفية إثبات وقوع الإجماع، وفي الأمور التي يضفي عليها الإجماع طابع الشرعية، كما بقيت الآراء متباينة أيضًا، خارج نطاق الإجماع، في طرق استخدام العقل البشري، وفي النتائج التي يفضي إليها استخدامه. وقد انتظمت، مع الزمن، هذه الخلافات في مذاهب اعتبرت جميعها متساوية في الشرعية، يحق للمؤمن إتباع أي منها.
أحدث نظام الخلقية المثلى هذا، على مختلف أشكاله، مجتمعًا جديدًا، كما خلق أيضًا إنسانا جديدًا. إذ كان لكل فعل جوهري من أفعال العبادة طابعه الاجتماعي. فكان المسلمون يصلون معًا في الجامع يوم الجمعة؛ وكان لصيامهم السنوي، في شهر رمضان،
1 / 12
طابع خاص يجعل منه ليس فعلًا فرديًا للترويض الذاتي فحسب، بل احتفالًا جماعيًا كبيرًا، وكانوا يؤدون معًا، في بياض ألبسة التوبة، فريضة الحج إلى مكة في أوقاتها؛ ويودعون الصدقات المفروضة بيت المال المشترك. وكانت الشريعة لا تقتصر على علاقة الإنسان بالله (العبادات)، بل تعنى أيضًا بالعلاقات بين الناس (المعاملات)، جاعلة منها أفعالًا ذات معنى ديني، يؤمر بها وينهي عنها. فالامتناع عن إيفاء الرسوم الشرعية ونفي وجوب أدائها هو جحود لا يقل عن إنكار وجود الله أو الطعن في صدق الرسالة النبوية (٢). ولم يقم الدين الإسلامي جهازًا من الحقوق والواجبات فحسب، بل خلق أيضًا تضامنًا خلقيًا لدعمه. لقد آمن المسلم بأن عليه أن يعنى بضميره وضمير جاره معًا، كما أن عليه أيضًا أن لا يكتفي بعمل الصالحات، بل أن يحث غيره عليها ويساعده فيها.
لا يخفى أن العرب كانوا أول من دعا إلى الإسلام، وأن بعضهم على الأقل كان يعتبره دينًا عربيًا صرفًا. إلا أن هذا الحديث: «ما من نبي إلا أرسل لقومه، وأنا أرسلت للناس جميعًا»، صحيحًا كان أم منحولًا، إنما يعبر عن النظرة التي توصل المسلمون، مع الزمن، إلى تكوينها حول دينهم. فقد أرسل الأنبياء السابقون، في بادئ الأمر، كل إلى أمة معينة لإنذارها وهدايتها. فكانت تتقبل الرسالة ثم تتنكر لها، أو تسيء فهمها، لا بل تعبث بنصوصها. لذلك نشأت الحاجة إلى تكرار الوحي. أما الوحي الأخير، الوحي النازل على محمد، فإنه يتميز عما قبله من وجهين: فهو رسالة إلى العالم أجمع، كما أنه يحمل في طياته ضمانة صدق تلك الرسالة وأمانة نقلها. والحديث: «لن تجمع أمتي على خطأ»، يعبر أيضًا، مهما يكن من أمر ثبوته، عما استقر عليه رأي المسلمين. فالوحي المحمدي يعتبر نفسه حقيقة أزلية جاءت لتحل محل كل وحي سابق. لذلك كانت الأمة الإسلامية، إمكانيًا، أمة عالمية. وبما أنها عالمية،
1 / 13
فهي متحدة أيضًا وأعضاؤها متساوون. فالمسلمون كلهم، أيًا كانت ثقافتهم أو عرقهم، إنما ينتمون إلى الأمة بالتساوي، لهم حقوق واحدة وعليهم مسؤوليات واحدة. وقد جمعت هذه الوحدة المعنوية حتى بين من تباينت مذاهبهم في حقيقة الإسلام وقضايا النهج والعقيدة، منذ أن ظهرت فرقة الخوارج احتجاجًا على الميل إلى تضحية المبادئ في سبيل الغايات؛ كما كان قد برز الانقسام الكبير بين السنة والشيعة، الذي نشأ أصلًا عن نزاع سياسي حول خلافة الرسول، ثم امتد تدريجًا إلى ظلال من الفوارق في العقيدة والشرع والعرف؛ وعن الشيعة نفسها كان قد انبثق عدد من الفرق، كالإسماعيلية والنصيرية والدروز، غالت في بعض العقائد الشيعية وأدخلت عليها عقائد أخرى مستمدة من مصادر غريبة. نعم، كان المتزمتون من المسلمين السنيين يميلون إلى إخراج هذه الفرق من حظيرة التساهل، لما كانوا يرونه في تعاليمها من تهديد لتعاليم الإسلام الجوهرية؛ إلا أنه كان هناك شعور مشترك، لدى السنة والشيعة وتفرعات كل منهما، بالانتماء معًا إلى الجماعة الواحدة، شعور قائم على اعتقاد راسخ لدى المسلمين بأن وحدة العيش معًا إنما هي أهم من الدفع بالخلافات العقائدية إلى نتائجها المنطقية. وكان هذا يصح أيضًا على جماعات النصارى واليهود الذين استمروا على العيش تحت الحكم الإسلامي، في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأقطار. نعم، لم يعتبروا جزءًا من الأمة الإسلامية، إلا أنه كان معترفًا لهم، وهم «أهل الكتاب»، بأنهم أصحاب وحي حقيقي، يؤمنون بالله وبالأنبياء وباليوم الآخر، وإنهم بالتالي ينتمون أيضًا إلى الأسرة الروحية الواحدة التي ينتمي إليها المسلمون. وعلى هذا كانوا، وهم «أهل الذمة»، يتمتعون بالحياة وبالتملك وبممارسة دينهم وبالمحافظة على شرائعهم وعاداتهم، مقابل الولاء وإيفاء الجزية.
حددت الشريعة للناس ماهية العمل الصالح، كما فرضت عقوبات دنيوية معينة على العمل القبيح. فكانت الشريعة، بذلك،
1 / 14
نظامًا للشرائع ونظامًا للخلقية على حد سواء. لكنه كان لا بد، لحراسة الشريعة، وفرض العقوبات، والسهر على تنفيذ جميع الواجبات المأمور بها من الله، والدفاع عن الأمة ضد أعدائها، وتوسيع حدود الإيمان بالجهاد، أن يكون على رأس الأمة قائد ذو سلطة، أو بتعبير آخر أن يكون هناك سلطة سياسية. لذلك كان من المتعذر على المجتمع الإسلامي أن يكون تامًا، ما لم يكن دولة. وهكذا غدا العمل السياسي نوعًا من التعبد لله. «فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله» (٣).
وعلى هذا أصبحت مهمة تأسيس المجتمع وقيادته، في نظر معظم المسلمين، جزءًا من وظيفة النبي الجوهرية وخلفائه الشرعيين. إلا أنهم لم يجمعوا على خلافة الرسول. فذهبت الشيعة إلى أن سلطة محمد قد انتقلت، في بادئ الأمر، إلى صهره علي، ثم إلى سلسلة المتحدرين منه الذين اختفى أخيرهم، (وإن اختلف في أيهم كان هذا الأخير: الخامس أم السابع أم الثاني عشر)، ناسبة إلى أعضاء هذه السلسلة، وهم الأئمة، لا السلطة السياسية فحسب، بل العصمة في تأويل القرآن.
أما أهل السنة، فإنهم قالوا بانتقال سلطة محمد إلى الخلفاء من بعده، أي إلى أولئك القادة الذين بايعتهم الجماعة، فخلفوا النبي، لكن في جزء فقط من وظائفه وصلاحياته. إذ أن السيادة الحقيقية في الأمة إنما هي لله، بمعنى أن الله ليس هو مصدر كل سلطة فحسب، بل الممارس لتلك السلطة. فالحكام، كسائر الناس، ما هم بفاعلين مستقلين، إنما هم وسائل الله في عمله. وأن يكون الحاكم، كسائر المسلمين، صالحًا أو طالحًا، هو أن يخضع لمقاصد الله أو أن يخرج عليها. لذلك كانت الشريعة، أي التعبير عن الإرادة الإلهية، العنصر الأساسي في المجتمع، وكان شطر كبير من العمل السياسي، أي التشريع، خارجًا، من حيث المبدأ، عن صلاحية الحاكم. ولم يكن للخلفاء، نظريًا، لا قدرة الله على سن
1 / 15
الشرائع، ولا وظيفة النبي في إعلانها؛ وإنما كل ما في الأمر أن الصلاحيات القضائية والتنفيذية قد انتقلت منه إليهم. فكان على الخليفة، في الاعتقاد السائد، أن يقود الجماعة في السلم والحرب، ويستوفي الأموال الشرعية، ويشرف على تطبيق الشرائع؛ وهو، فضلًا عن ذلك، إمام الصلاة، وعليه أن يكون متضلعًا في علم الشريعة ومؤهلًا لممارسة سلطة الاجتهاد. فهو، بهذا المعنى المحصور فقط، خليفة للرسول. إلا أنه، حتى في هذا المعنى، لا غنى للجماعة عنه، كحاكم بحق إلهي يتولى، مبدئيًا، أمور الجماعة بكاملها. ذلك أن معظم الفقهاء، إن لم يكن كلهم، قالوا بأن وحدة الأمة تستلزم وحدة السلطة السياسية. «إن من مات على جهل خليفة زمانه كمن مات في عصر الجاهلية».
كان الرأي المجمع عليه لدى أهل السنة أن لحاكم الأمة وحده، من دون الله، مسؤولية الحكم. فهو ليس مسؤولًا، في آخر الأمر، إلا أمام الله وأمام ضميره. أما طريقة تسلم الحكم، فكانت تتم، في عصر الإسلام الأول، بالشورى، أي باختيار، أعيان الجماعة. وقد بقيت فكرة الاختيار هذه حية مع الزمن، ترمز إليها دومًا مراسم البيعة، التي كان فيها يتم الاعتراف الرسمي بالخليفة الجديد، وبها يتم له ولاء أعيان الأمة. إلا أن البيعة تحولت، بعد انصرام العصر الأول، إلى مظهر شكلي فقدت فيه حتى نظريًا معنى الاختيار وغدت، بالأحرى، مناسبة للاعتراف بالخليفة لا لاختياره. إذ لم تكن الجماعة، في رأي معظم المفكرين، لتمنح السلطة بالبيعة، بل لتقبل بها. وهذا ما استلزم أن تكون طاعة الحاكم واجب الجماعة الأول نحوه. إلا أن هذه الطاعة ليست عمياء وبلا قيد. بل كان على الحاكم، في الرأي السائد، أن يستشير أعيان الجماعة (الشورى)، وكان عليهم أن يسدوا إليه المشورة. على أنه لم يكن واضحًا بالضبط ممن كان على الحاكم أن يلتمس المشورة والنصح، كما لم يكن واضحًا أيضًا مقدار التزامه بالأخذ بهما. كان أئمة العصور الباكرة
1 / 16
يقولون إن واجب الطاعة يبقى قائمًا ما دام الحاكم لا يأمر بما يخالف الشريعة. لكننا سنرى أن التفكير قد مال، في العصور المتأخرة، إلى تحويل الطاعة إلى واجب مطلق، لا بل إلى اعتبار الحاكم الظالم خيرًا من انعدامه أصلًا. ولم يبق بين المتأخرين سوى أقلية تجيز الثورة. بيد أن الأكثرية نفسها، التي رأت أن تكون للطاعة عامة، لم تذهب إلى حد الإصرار بأن تكون بلا تحفظ. فقال الغزالي (١٠٥٨ - ١١١١)، بعد شرح واجب الطاعة للحاكم الظالم، بأن على المطيع أن لا يؤيد الظلم بطاعته. فالمسلم الورع، في نظره، هو من يبتعد عن بلاط الحاكم الظالم، ويتجنب عشرته، ويصده، إما بالكلام إذا استطاعه بأمان، وإما بالصمت إذا خشي أن يشجع الكلام على الفتنة (٤).
لقد انطوت النظرة الإسلامية إلى المجتمع الحق على سلسلة من المفارقات المترابطة. أولها وأشدها عمقًا أن المسلمين جاؤوا، حين كان العالم يعبد الأوثان أو يشرك في عبادة الله (الشرك)، يعلنون أن لا إله إلا الله وأنهم لا يعبدون سواه (التوحيد)؛ وثانيها، وهذا مرتبط بالأول، يتعلق بتنظيم المجتمع: فبينما كان المجتمع الجاهل للإسلام خاضعًا لحكم العادة التي تعارف عليها الناس لأغراضهم الخاصة وعن جهل لوصايا الله (الجاهلية تعني جهل حقائق الدين)، جاء المجتمع الإسلامي يخضع لحكم الشريعة، كما خضعت لها أيضًا المجتمعات التي أسسها الأنبياء الأقدمون بمقدار ما بقيت كتبهم سالمة من التحريف؛ وثالثها أنه، بينما كانت الصلة بين البشر في مجتمعات ما قبل الإسلام من نوع الروابط الطبيعية القائمة على العرق او الشبيهة بما يقوم على العرق، كتضامن القبيلة أو العشيرة (العصبية)، كان ما يجمع بين المسلمين في الأمة صلة روحية هي الطاعة المشتركة للشريعة، والقبول بالحقوق والواجبات المتبادلة المعينة فيها، والتعاضد والتناصح في تنفيذها. ورابعها أنه، بينما كانت السلطة السياسية في مجتمعات ما قبل الإسلام تستند
1 / 17
إلى اعتبارات بشرية تهيمن عليها مشاعر بشرية أو مجرد حسابات بشرية للغايات والوسائل وتنصرف إلى أهداف أرضية (الملك)، جاءت السلطة في الأمة الإسلامية ولاية من الله، تخضع لإرادته، وتستهدف سعادة المسلمين في الحياة الآخرة أكثر مما تستهدف سعادتهم في الحياة الدنيا.
يرى المسلم السني أن التاريخ حركة صراع حل بفعلها المجتمع الإسلامي الأمثل محل مجتمع الجهل الديني الساعي وراء الأهداف الدنيوية، والمتحد بالتضامن الطبيعي، والخاضع لحكم الملوك. وعنده أن هذا الصراع قد استمر، بمعنى من المعاني، طوال التاريخ، في كل زمان وكل مكان أرسل الله فيهما أنبياءه إلى أمم معينة، وأنه لا يزال، بمعنى من المعاني أيضًا، مستمرًا حيثما تجابه الأمة الإسلامية العالم الذي لم يهتد بعد. إلا أن المسلم السني ينسب إلى حقبة معينة من التاريخ أهمية خاصة، هي تلك الحقبة التي تم خلالها تجسيد الوحي الأخير في مؤسسات المجتمع. خلال تلك الحقبة وفيما بعدها، تراءى للمسلم الورع أن معنى خاصًا يكمن في تاريخ الإسلام الأول، يوم كانت الجماعة على توسع وازدهار، وكان القرآن وأقوال النبي بمثابة مبادئ للعمل، وكانت الأمة واحدة، لا بالروح فحسب، بل بمظهرها الخارجي أيضًا. وبدت قرون الإسلام الأولى لمخيلة المسلم الخلقية كأنها دراما مثيرة مؤلفة من ثلاثة فصول: عصر النبي وخلفائه الأولين، وهو عصر الأمة الذهبي الذي كانت فيه على ما ينبغي أن تكون؛ والعصر الأموي، الذي طغت فيه على مبادئ الدولة الإسلامية نزعة الطبع البشري إلى الحكم الملكي المدني؛ وأخيرًا، العصر العباسي الأول، الذي عادت فيه مبادئ الأمة فتأكدت من جديد، وتجسدت في مؤسسات إمبراطورية عالمية تسودها الشريعة، وتقوم على المساواة بين جميع المؤمنين، وترتع في بحبوحة القوة والثروة والثقافة التي إنما هي ثواب الطاعة. وقد غدت هذه الحقبة التاريخية، خلال العصور المتأخرة، مثالًا
1 / 18
للحكام والمحكومين جميعًا، وأمثولة لما أنعم الله به على قومه، كما أصبحت درسًا في شرور التفرقة وعصيان مشيئة الله. لقد كانت، بالحقيقة، مادة للتفكير في القضايا الخلقية التي تعانيها الأمة في حياتها المشتركة: فالصراع على الخلافة بين علي ومعاوية، ثم بين الأمويين والعباسيين، ومصرع الحسن والحسين، وتقتيل الأمويين، وانسحاب الخوارج من صفوف الجماعة وقد اعتبروها متورطة في الخطيئة بلا أمل الرجعة عنها، وحركة الانقسام بين السنة والشيعة، كل هذه الأحداث إنما تعيش حية في الوجدان الإسلامي، فتجعله يعي الصعوبات التي تعترض تجسيد المشيئة الإلهية في حياة المجتمع، كما تحمله على الاعتقاد بأن ما له من معنى في التاريخ قد بلغ نهايته بتجسد رسالة محمد في جماعة عالمية تصدع للأمر الإلهي، وأنه لم يعد بوسع التاريخ من بعد أن يلقي على البشر دروسًا جديدة، وأنه إذا حدث التغير فلن يفضي إلا إلى الأسوأ، وأنه لا يمكن إصلاح الأسوأ بإيجاد شيء جديد، بل ببعث ما وجد من قبل. إن هذه النظرة إلى الماضي تنطوي في جوهرها على فكرة الانحدار: فقد قال الرسول في حديث مشهور: «خير القرون القرن الذي أنتم فيه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه». غير أن ما كان يعزي قلوب العامة إيمانها بظهور مصلح أو مجدد في كل قرن، وترقبها لمجيء المهدي المرسل من الله لاستئناف حكم الأولياء وتمهيد السبيل لمجيء عيسى ونهاية العالم.
التاريخ هو ما يحتاج الناس إلى تذكره من أحداث الماضي. والتحسس بالتاريخ لا يثير الرغبة في إعادة بناء الماضي بكامله إلا في أوقات نادرة ولدى جماعات صغيرة. لقد نظر المسلمون إلى عصر الإسلام الأول العظيم كأنه صورة لما ينبغي للعالم أن يكون عليه. وإذا طرحنا أسئلة مختلفة عن الماضي، أمكننا أن نرى ما كان منها. بمعنى من المعاني، غير وارد في نظرهم: واقع التطور التاريخي. فعلى ضوء هذا الواقع تخف حدة التباين. نعم، لا يزال بإمكان
1 / 19
المسلم أن يصر على القول بأن مبادئ الإسلام قد تجسدت في الجماعة على عهد الخلافة؛ غير أنه بوسعنا أن نرى عن كثب حركة التطور التي تم بها ذلك. ففي صميم حركة التطور هذه نجد التقليد الحي لأهل السنة والجماعة، تلك الفئة التي، بدون تنظيم وترتيب، ولت نفسها بنفسها واعترفت لنفسها بهذه الولاية، والتي كان قوامها أولئك المسلمين الغيارى، المؤمنين بالوحي المحمدي، الحريصين على صيانته من التحوير والتغيير وسط تقلبات الزمن، المستهدين به في القضايا الناشئة عن هذه التقلبات، المدافعين عنه، المستخرجين منه ما تضمنه من مستلزمات استخراجًا لا يرفض ما كان جديدًا، بل بالأحرى يميز بين ما يمكن أو لا يمكن للإسلام أن يتقبله. فهؤلاء هم الذين بنوا نظام المعتقدات السنية، ردًا على سلسلة من التحديات الصادرة عن الفلسفة الإغريقية، وعن الطريقة الصوفية ومذهبها الكلامي، وعن الشيعة وتفرعاتها. فمن الفلسفة الإغريقية اقتبسوا فن المنطق وبعض مفاهيم اللاهوت الطبيعي، بينما قاوموا نزوعها إلى تحويل الإله الحي، إله التوراة والقرآن، إلى مبدأ مجرد أو مقتضى فكري؛ وعن التصوف أخذوا حرصه على التعبد الداخلي وعلى إخلاص النية مع صحة الفعل، بينما نظروا بحذر إلى مذهبه في وحدة الوجود الذي يحجب التمييز بين الله ومخلوقاته، وقبحوا كل فكرة توحي بأن معرفة الله بالاختبار المباشر هي أهم من التقيد بشرائعه؛ ومن الشيعة استمدوا شعور الإجلال لأهل البيت بينما أدانوا الآراء العرفانية الكامنة بين طيات تعاليم غلاة الشيعة، وبنوع خاص نزوعها إلى إحلال فكرة الفيض الإلهي محل فكرة النبي الإنسان.
وقد جرت عملية تطور مماثلة على صعيد آخر. فقد أخذت العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمع الإسلامي الأول، والتي كان الكثير منها متوارثًا عن عوالم ما قبل الإسلام البيزنطية والفارسية والعربية والجاهلية، تنساب تدريجًا إلى جسم الشرع الإسلامي. أو
1 / 20
قد يكون من الأصح القول بأن الشرع الإسلامي إنما نشأ عن امتزاج تلك العادات والتقاليد بالمبادئ والأحكام المستمدة من القرآن والحديث الصحيح. وقد اقتضت هذه العملية، ولا شك، بعض التعديل في الشرع والتقليد، كان من شأنه أن يحدث تقاليد جديدة تضفي بعض الجلال الإسلامي على ما لم يكن إسلاميًا في الأصل. غير أن الاتجاه المعاكس فعل فعله أيضًا، فجرت عملية انتقاء من بين العادات والتقاليد، فرفض البعض، وقبل البعض الآخر، وعدل حتى في البعض المقبول، على ضوء تعاليم الإسلام. بهذا التطور البطيء، الذي لم يكتمل قط، والذي لا يمكن بالفعل أن يكتمل أبدًا، تشبعت بمثل الإسلام الخلقية العليا تلك الأنظمة الاجتماعية التي كانت سائدة في البلدان العديدة المهتدية إليه، ونشأ مجتمع إسلامي عميق الوحدة.
لا ندري هل كان بوسع هذا التطور أن يحصل لو لم يكن للجماعة، في المرحلة الأولى من تكوينها، بناء سياسي وإداري موحد. لكننا نعلم أن المجتمع والشرع الإسلاميان الصرف لم يترعرعا إلا في عهد الخلفاء وبفضل سلطتهم. فليس مستغربًا، إذن، أن نعتبر الخلافة، يومئذ وإلى فترة طويلة، شرطًا ضروريًا للمحافظة على الشرع والمجتمع. ولم يكن من الضروري الدفاع عن وجوبها يوم كانت قائمة ومزدهرة. لكن، ابتداءً من القرن التاسع، أخذت وحدة الإسلام السياسية تتفكك، أو على الأقل، تتغير في شكلها. فأخذ جنود المرتزقة من الأتراك، الذين انتهى الأمر بالخلفاء العباسيين إلى الاعتماد عليهم، يمارسون سلطة كانت تتزايد يومًا عن يوم في العاصمة، فيولون الخلفاء ويخلعونهم ويتدخلون في السياسة والحكم. وأخذت تظهر في الأقاليم أسر حاكمة جديدة، بقيت تعترف مبدئيًا بسيادة الخليفة وتحكم باسمه، إلا أنها كانت عمليًا مستقلة في حكم دويلات محدودة المساحة. وتحدت الشيعة، التي عادت منتعشة في صيغتها الإسماعيلية، حق الخليفة في الحكم ونوع النظام الإسلامي
1 / 21
الذي كان يدافع عنه. ففي هذه الظروف اضطر المسلمون القائلون بوجوب سلطة الخليفة أن يشرحوا، بصراحة والمرة الأولى، حقيقة الخلافة ودواعي وجودها. وكان أشهر هذه الشروح شرح الماوردي (٩٩١ - ١٠٣١) في كتابه «الأحكام السلطانية». ففيه يعرف الماوردي الخلافة بأنها ضرورة مستمدة بالأحرى من الشرع لا من العقل. فالقرآن يفرض على الناس طاعة أولي الأمر منهم (٥)، وهذا يستلزم وجود من يخلف النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا، مما يجعل مهام الخليفة دينية وسياسية على حد سواء: فهو يعني بالحفاظ على الدين الحنيف، وبتنفيذ الأحكام الشرعية، وبحماية تخوم الإسلام، وبجهاد من يرفضون الإسلام بعد الدعوة، وباستيفاء الأموال الشرعية. وعلى العموم، فالخليفة معني بالإشراف على تدبير الأمور بنفسه، دون الإفراط في تفويض السلطة لغيره. وكان من واجبه أن يتحلى بصفات معينة، جسدية وعقلية وروحية، وأن يتوافر فيه أيضًا شرط خارجي: الانتساب إلى قبيلة النبي، قريش. وكان عليه أن يتسلم الخلافة من غيره، إما باختيار من أعيان الجماعة، «أهل الحل والعقد»، وإما بعهد من الخليفة السابق. وكان على الناس، بعد توليه، أن يقوموا بواجب الطاعة له، ولا يسقط عنهم هذا الواجب إلا إذا كان الخليفة فاسقًا، أو دان بآراء منحرفة، أو كان على عاهات جسدية تحول بينه وبين قيامه بواجباته (٦).
ما أن أعرب عن هذه العقيدة في السلطة حتى جاءت حركة التاريخ تتخطاها. ذلك أن انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي كان قد أصبح أمرًا نهائيًا لا مرد له، كما لم يكن من مرد لانتقال الحكم من بغداد إلى عواصم أخرى. فبعد تدمير بغداد على يد المغول في منتصف القرن الثالث عشر، استمر الخليفة عائشًا، لكن كالظل، في بلاط سلاطين المماليك في مصر، وكان عدد قليل فقط من الفقهاء على استعداد للاعتراف بما يدعيه من
1 / 22