هناك حقيقة لا يستطيع الكثيرون ممن تشغلهم مشكلات العلم ومناهجه أن يدركوها، على الرغم من وضوحها البين، هي أن الاعتراف بفكرة الحتمية من حيث المبدأ لا يتعارض على الإطلاق مع إدراك صعوبة تطبيقها في مجالات معينة، وأبسط مثل لذلك هو مجال علم الأرصاد الجوية؛ فمنذ عهد بعيد تخلت الإنسانية عن التفسيرات الأسطورية والغائية لتقلبات الجو، وأصبح هناك اعتراف عام بأن ما يطرأ على الجو من تغيرات هو أمر خاضع لحتمية دقيقة، وبأن حالة الجو في أية لحظة معينة هي محصلة عوامل متعددة نستطيع - إذا عرفناها معرفة كاملة - أن نتنبأ بدقة بما ستكون عليه الأحوال الجوية في المستقبل القريب وربما البعيد أيضا، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر - في الوقت ذاته - أن علم الأرصاد الجوية ما زال بعيدا عن إدراك كل العوامل التي تتحكم في حالة الجو في لحظة معينة إدراكا كاملا، وحساب تأثيرها بدقة، بدليل أن التنبؤات الجوية ما زالت معرضة لأخطاء كثيرة، وأن هذه الأخطاء تزداد كلما كان مدى التنبؤ بعيدا، فهل يمكن أن يحكم على الشخص الذي يؤكد وجود حدود لا تتعداها القدرة على التنبؤ بحالة الجو - في الحالة الراهنة لعلم الأرصاد الجوية - بأنه لا يؤمن بسيادة الحتمية في هذا المجال؟ من الواضح أنه لا تعارض على الإطلاق بين الإيمان بالحتمية من حيث المبدأ، وبين إدراك الحدود التي لا تتعداها الحتمية في هذا المجال، ومن جهة أخرى فليس من حق المرء أن يستخدم الإيمان بمبدأ الحتمية مبررا لتأكيد ضرورة الوثوق من التنبؤات الجوية إلى حد يزيد على ما تسمح به الحالة الراهنة لعلم الأرصاد، وليس من حق مثل هذا الشخص أن يقيس مدى «علمية» الآخرين بمقدار إيمانهم أو عدم إيمانهم بصحة التنبؤات الجوية، ما دام من المعترف به أن ظاهرة مثل الحالة الجوية ما زالت من التعقيد بحيث لا يمكن - في ضوء معرفتنا الراهنة - إدراك كل أبعادها وجوانبها والعوامل المتحكمة فيها إدراكا تاما.
وأخشى أن أقول إن شيئا من هذا القبيل يحدث في مجال العلوم الإنسانية؛ ذلك لأن هذه العلوم قد كافحت - في مبدأ الأمر - كفاحا مريرا من أجل تأكيد انطباق مبدأ «الحتمية» على السلوك البشري، وما زال الكثيرون غير معترفين بهذا الانطباق، أي إنهم ما زالوا يتمسكون بشكل من أشكال ذلك التقسيم المشهور الذي قسم به «كانت» مجالات المعرفة إلى عالم للضرورة - هو عالم الطبيعة - وعالم للحرية - هو عالم الإنسان، ولسنا نود أن نخوض الآن هذه المعركة؛ لأنها ستغرقنا في متاهات كفيلة بإبعادنا عن الفكرة الأصلية التي نرمي إلى إثباتها، ولذلك فسوف نسلم بأن الحتمية تسري - من حيث المبدأ - على السلوك الإنساني، وأن هذا السلوك قابل لأن يتنبأ به إذا ما عرفت كل العوامل المتحكمة فيه معرفة دقيقة، ومع ذلك - وبرغم التسليم بهذا المبدأ - فإن الظواهر البشرية تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه - في معظم الأحيان - إدراك كل العوامل التي يمكن بواسطتها تطبيق مبدأ الحتمية تطبيقا مؤكدا.
على أن الأمور التي لا يمكن أن تفوت الملاحظ المدقق أن لدى المشتغلين بالعلوم الإنسانية ميلا إلى تعجل التطبيق يزيد بكثير عن ذلك الميل الذي نجده لدى أصحاب العلوم الأخرى؛ ففي الطب - مثلا - لا يستخدم عقار جديد إلا إذا ثبتت فائدته - في الحالات التي ينطبق عليها - ثبوتا مؤكدا، وصحيح أنه قد تحدث من آن لآخر حالات سوء استخدام للعقاقير الطبية، أو تعجل في تطبيقها، غير أن هذه الحالات تمثل الاستثناء لا القاعدة، فضلا عن أنها لا تعبر عن موقف العلماء في هذا الميدان، بل تمليها المصالح التجارية للشركات الساعية إلى الربح أو أي دافع آخر غير علمي.
أما في حالة العلوم الإنسانية، فإن هذا الميل إلى التطبيق المتعجل - دون أن تكون قد توافرت بعد كل الشروط الكفيلة بالاطمئنان إلى أن كافة شروط الحتمية قد توافرت - ظاهر كل الظهور، وصحيح أن هذه العلوم تتخلى - في كثير من الأحيان - عن المفهوم التقليدي للحتمية، أعني مفهوم العلاقة الحتمية بين سبب ونتيجة، وتستعيض عنه بمفاهيم أكثر ملاءمة لمجال معقد كمجال الظواهر البشرية، مثل مفهوم الارتباط الإحصائي بين الظواهر، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن التلهف على إخضاع دراسة السلوك البشري للمنهج العلمي - وهو تلهف مشروع تماما - قد أدى في أحيان غير قليلة إلى تسرع في التطبيق لم يتوخ علماء الإنسانيات فيه من الحذر بقدر ما يتوخاه علماء الطبيعة أو الطب - مثلا - حين يشرعون في تطبيق كشف جديد.
وربما كان الأهم من هذه الملاحظة أن علماء الإنسانيات كثيرا ما ينظرون بعين الريبة إلى كل من ينبه إلى ظاهرة التعجل هذه، وقد يكون لهم في ذلك بعض العذر؛ ذلك لأن هناك من يشكك في قيمة التطبيقات التي تقوم بها هذه العلوم؛ لأنه غير مؤمن أصلا بإمكان خضوع الظواهر الإنسانية للبحث العلمي الدقيق، وبالتالي فهو غير مقتنع بأن من الممكن استخلاص تطبيقات منها، ولكن الواجب تجنب الخلط بين أصحاب هذا الرأي وأصحاب الرأي المخالف، القائل إن مبدأ قابلية الظواهر الإنسانية للبحث العلمي مبدأ سليم، ومع ذلك فإن تطبيق هذه العلوم ينبغي أن يواكب مستوى التقدم النظري الذي تحققه لا أن يسبقه. ولما كان استكشاف الظواهر البشرية ما زال أمرا حديث العهد، وما زلنا في أول مراحل البحث في هذا الميدان الشديد التعقيد، فإن للمرء الحق في أن يأخذ على بعض العلوم الإنسانية أنها تتسرع إلى حد ما في التطبيق، فتلجأ إلى «العلاج» بمجرد أن تكتشف نظرية جديدة، وتسارع بتقديم «تفسير» دون أن تكون قد توافرت لديها سوى معطيات قليلة.
وحسبنا - في هذا الصدد - أن نضرب مثلا بالجهود التي يبذلها أنصار التفسير الاجتماعي والاقتصادي للظواهر الثقافية والفنية، وكل ما ينتمي إلى «البناء الأعلى
Superstructure » في حياة الإنسان؛ فمن الممكن أن يكون المرء مؤمنا بتأثير البناء الأدنى في البناء الأعلى، ومعترفا اعترافا كاملا بالمبدأ القائل بوجود علاقة متبادلة بينهما، ولكن لا يلزم عن ذلك أن يعترف بتطبيق هذا المبدأ في كل حالة على حدة؛ فلكي يطبق هذا المبدأ تطبيقا صحيحا لا بد أن تكون المعطيات كاملة أو قريبة من الكمال، أما في الحالات التي لا نعرف عنها إلا وقائع قليلة، فإن من حق المرء أن يعترض على التسرع في تطبيق المبدأ، لا لعدم إيمانه به، بل لعدم توافر الشروط الكافية لتطبيقه، ولكن الذي يحدث أن أنصار هذا المبدأ يسارعون بتطبيقه بناء على أبسط المعطيات، كما هي الحال في تطبيقه على عصور سحيقة في القدم، لم تتوافر لدينا عنها سوى معلومات هزيلة، ويظنون أنهم قد وصلوا بذلك إلى كل العوامل المتحكمة في الظاهرة موضوع بحثهم، وكثيرا ما يترتب على ذلك أن تفسر الظاهرة الواحدة تفسيرين مختلفين كل الاختلاف في كتابات مفكرين يؤمن كل منهما بنفس المبدأ، ويطبق نفس المنهج، وما هذا إلا مثل واحد - من بين أمثلة عديدة - لظاهرة التعجل في التطبيق العملي قبل أن يتوافر الأساس النظري الكافي.
فكرة القانون
ترتبط فكرة القانون بفكرة الحتمية - مفهومة بأعم معانيها - ارتباطا وثيقا. ولقد كان من أبرز مظاهر التقدم في العلوم الإنسانية، تأكيدها خضوع الإنسان لقوانين يمكن صياغتها واستخدامها في السيطرة على الظواهر البشرية والتنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل، وصحيح أن هناك علوما إنسانية ما زال يدور بشأنها جدل حول إمكان وجود قوانين - بالمعنى العلمي - فيها، ولكن علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ (في بعض مذاهبه على الأقل) يستخدمون فكرة القانون منذ عهد ليس بالقريب، ويحققون بذلك نجاحا لا بأس به في فهم الظواهر التي يتناولونها بالبحث.
ومع ذلك فإن المعنى الذي يستخدم به مفهوم «القانون» في العلوم الإنسانية، يحتاج إلى تخصيص يلائم طبيعة هذه العلوم، وإن كان كثير من المشتغلين بها ينظرون إلى معنى «القانون» في علومهم كما لو كان مكافئا لمعناه في العلوم الطبيعية والتجريبية، وأساس هذا الإصرار على توحيد معنى «القانون» في الحالتين هو الرغبة في ضمان صفة العلمية للدراسات الإنسانية، وهي في ذاتها رغبة مشكورة، ولكن الأماني والغايات - كما نعلم جميعا - لا ينبغي أن تفرض ذاتها على الواقع أو تحاول تشكيله على هواها، وواقع العلوم الإنسانية يشهد بأن فكرة «القانون» فيها تتخذ - في بعض الحالات على الأقل - معنى لا يمكن أن يكون مساويا كل المساواة لمعناها في العلوم الطبيعية.
Shafi da ba'a sani ba