يقسم بعض المفكرين العصر الصناعي إلى فترات منفصلة: الأولى فترة «الفحم والحديد» منذ بداية الثورة الصناعية حتى أواسط القرن التاسع عشر، والثانية فترة الكهرباء، والثالثة فترة الطاقة النووية والآلات الإلكترونية، والواقع أن كل عهد من هذه العهود يمثل ثورة حقيقية على العهد السابق عليه؛ ففي عصر الكهرباء تخلص الإنسان من كثير من مظاهر القبح التي كانت تلازم العمل في العصر الصناعي الأول، وأصبحت الآلة أدق وأبسط وأنظف وأقوى بكثير مما كانت عليه من قبل، غير أن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الثورة الحاسمة؛ ثورة الطاقة النووية والسيبرنطيقا والتسيير الذاتي والعقول الإلكترونية، وكان لهذا النوع الجديد من الآلات مزاياه الهائلة؛ فهي تقتضي حدا أدنى من تدخل الإنسان، وتوفر الطاقة البشرية إلى حد لم يكن أحد يحلم به من قبل، وتستطيع القيام بكثير من الأعمال الرتيبة التي كانت تحط من إنسانية العامل في العصر الصناعي الأول، والأهم من ذلك كله أن قدرتها الإنتاجية الهائلة قد أتاحت زيادة الثروة في البلاد الصناعية المتقدمة إلى حد ارتفع معه مستوى حياة العامل ارتفاعا كبيرا، وازدادت معه قدرة المجتمع الصناعي على توزيع ثمار العمل والإنتاج على عدد متزايد من الناس.
هذه كلها حقائق واضحة لا تحتاج إلى مزيد من التفصيل، ولكن الأمر الذي يبدو أقل وضوحا هو أن هذا العصر الصناعي الجديد قد خلق مشكلاته الإنسانية الخاصة التي لم يعرف كيف يتخلص منها حتى اليوم؛ ففي رأي الباحثين - مثلا - أن الآلات الإلكترونية ستنتزع الإنسان عن عرشه، وتحل محله كائنات آلية تنافسه في القيام بالأعمال التي كان ينفرد بها من قبل؛ فهم يرون أن الإنسان - في عصر السيبرنطيقا - قد أصبح يعهد إلى الآلة بعمليات تزيد على ما ينبغي أن يكلفها به، فأية عملية حسابية معقدة إلى حد ما تترك للآلات الحاسبة، على حين كان العلماء في العصور السابقة يقومون بأنفسهم بكثير من هذه العمليات فيزيد هذا من شحذ أذهانهم وينمي قدرتهم على التفكير، وبعبارة أخرى فإن البعض يخشون من أن تعتاد الأذهان الخلاقة هذا الكسل العقلي إلى حد لا تعود معه قادرة على الاعتماد على قدراتها الخاصة في حل ما يواجهها من المشكلات العقلية.
ومن جهة أخرى، فإن الآلات الإلكترونية الحديثة لما كانت تنظم نفسها بنفسها، وتستطيع الاختيار بين عدة ممكنات، فإنها تبدو كما لو كانت تقوم ببعض الوظائف الفكرية ... وليس هذا اعتقادا يشيع بين عامة الناس فحسب، بل إن بعض الفلاسفة المتخصصين يشاركون فيه؛ فقد خصص أحد أعداد مجلة «الفلسفة» (عدد يناير-أبريل 1957م) للآلات الإلكترونية، وكان السؤال الرئيسي الذي تناوله الباحثون: هل تستطيع هذه الآلات أن تفكر بالفعل؟ وهل يستطيع الإنسان أن يدافع عن نفسه ضد منافسة هذه الآلات؟ وهكذا يقف الإنسان لأول مرة موقف المدافع عن قدرته الفكرية أمام شيء صنعه هو ذاته، وإذا كان هناك من ينكرون جدية هذه المشكلة، فليذكر هؤلاء أن الفترة الصناعية كلها قصيرة العمر جدا بالنسبة إلى تاريخ البشرية، وأن الثورة الصناعية الثالثة - ثورة العقول الإلكترونية - لم تتعد عشرين أو ثلاثين عاما، فما الذي يمكن أن يأتي به التطور في هذا الاتجاه بعد مائة عام مثلا، مع عمل حساب التزايد المستمر في معدلات النمو والتقدم؟
على أن هذه - باعتراف الجميع - ليست أخطر المشكلات الإنسانية التي يواجهها العصر الصناعي، وإنما الخطير هو إدراك كثير من المفكرين أن الهوة بين العمل اليدوي والعمل العقلي ما زالت قائمة، وربما زادت اتساعا، وأن كل ما حدث من تقدم آلي لم يصبغ العمل بالصبغة الإنسانية المنشودة، فما زال كثير من المفكرين الاجتماعيين يؤكدون أن الاتصال المستمر بين العامل وبين المادة أو الآلة يجعله يفقد - بحكم طبيعة عمله ذاتها - شيئا من إنسانيته، ويزداد عجزا عن التكيف مع كل عناصر الحياة الاجتماعية.
فالكاتبة «سيمون فيل» تؤكد أن الإنسان الذي يقف أمام الآلة في مصنع كبير هادر، هو إنسان منعزل تماما، حتى على الرغم من كل ما يحيط به من مظاهر الحياة الصاخبة، وهي تؤكد أنه لا شيء يجعل الإنسان عاجزا عن تهذيب نفسه أكثر من الاتصال المستمر بالآلة؛ إذ إن عليه أن يطيعها في صمت، بل إن هذه الكاتبة لتذهب إلى أن أية ثورة اجتماعية تعجز عن أن تفعل شيئا حيال هذا الوضع؛ «ففي العمل اليدوي ... عنصر ضروري من العبودية لا يمكن أن تمحوه العدالة الاجتماعية الكاملة ذاتها.»
وقد يكون في هذا الرأي نوع من التطرف، ولكن من الواجب ألا يستخف به المرء ويتمسك بالنظرة الرومانسية التي كان اشتراكيو القرن التاسع عشر يمجدون بها العمل ويجعلونه مصدرا للمتعة وللثقافة، بل وللفن والجمال، فهل يستطيع أحد أن ينكر أن هناك مشكلة حقيقية تتمثل في التفاوت الشاسع بين العمل الخلاق الذي يقوم به العالم أو المفكر أو الكاتب أو الباحث، وبين العمل المتكرر الذي يؤديه العامل دون تغيير - أمام رصيف متحرك - آلاف المرات في اليوم، ومئات الأيام في السنة، وعشرات السنين خلال حياته؟ صحيح أن العمل ذاته قد أصبح أبسط، ولم تعد المشكلة مشكلة إجهاد جسمي، وهذا يمكن أن يعد تقدما من وجهة نظر معينة، ولكن هناك الإجهاد النفسي والتوتر العصبي الشديد الذي يتولد عن السأم، وعن سرعة إيقاع العمل، وعدم التنوع فيه، وتلك مشكلات قد لا تقل في نظر البعض خطورة عن المشكلات القديمة.
إن العمل - لكي يكون إنسانيا بحق - ينبغي أن يكون خلاقا متنوعا جذابا، وتلك صفات لا تتوافر في كثير من الأعمال الآلية التي يؤديها الإنسان المعاصر، صحيح أن تقدم الآلية يخفف تدريجيا من وطأة الأعمال المرهقة، ويقتضي تدريب أعداد متزايدة من العاملين المهرة، وإحلال مزيد من الأعمال العقلية محل الأعمال اليدوية، والاستعاضة بالآلات عن الإنسان في كثير من الأعمال التي تتم في ظروف قاسية كالتعدين مثلا، ومع ذلك فما زال الألوف من العمال، في كل بلاد العالم المتقدمة في التصنيع، وفي كل الأنظمة الاجتماعية يقفون أمام الآلة كل يوم ليؤدوا نفس الأعمال المتكررة التي لا تثير خيالا ولا تقتضي أية قدرة خالقة، فهل ينكر أحد مدى اتساع الهوة بين هذه الأعمال وبين الأعمال العقلية الخلاقة؟
إن بعض الباحثين يرون أن الحل إنما يكمن في توزيع الإنسان لجهده بين العمل العقلي واليدوي، وهم يرون أن آلات المستقبل ستبلغ من الكمال حدا يجعل تشغيلها أمرا هينا يستطيع أي إنسان القيام به، وعندئذ يمكن الأخذ بنظام «التناوب» بحيث يقوم المرء بالأعمال الآلية جزءا معينا من الوقت، ثم يتركها إلى الأعمال العقلية أو يتنقل بين أنواع متعددة من الآلات حتى لا يتملكه الملل، وبذلك تزداد طرافة العمل بالنسبة إليه، فهؤلاء يحلمون بانتهاء عهد «التخصص» الضيق نتيجة لبلوغ الآلات مرحلة الكمال، ولتزايد بساطة الدور الذي يقوم به الإنسان إزاءها، ولكن إمكان الاعتماد على هذا الحل يتوقف - بطبيعة الحال - على الاتجاه الفعلي الذي سيسير فيه التطور، وليس هناك أي نوع من الإجماع على الرأي القائل بأن هذا التطور يسير نحو الاستغناء عن التخصص الدقيق، أو القضاء على فكرة تقسيم العمل التقليدية، ويرجح الكثيرون أن الإنسان سيظل يعتمد طويلا - في إتقانه لعمله - على التدريب الطويل في ميدان محدد، وسيظل التخصص هو سبيله لرفع مستوى معرفته النظرية وإنتاجه العملي، وإذن فأقل ما يقال عن هذا الحل أنه غير مضمون.
ولا شك أن الحل الأكثر واقعية هو تعويض ما يفقده العامل عن طريق زيادة أوقات فراغه والإفادة من هذه الأوقات إلى أقصى حد، وبالفعل نجد أن وقت الفراغ في حياة العامل الحديث يزداد اتساعا؛ فبفضل تراكم ثمار العمل استطاع الإنسان أن يقلل ساعات عمله ويزيد أجره ويخترع الوسائل التي تكفل له الاستمتاع بهذا الوقت، وترتب على ذلك أن ازدادت أهمية المشاغل التي يقضي بها الإنسان وقت فراغه كالرياضة واللهو والترويح عن النفس ... وظهرت فنون لا تصلح إلا لعصر يخرج فيه العامل من عمله مكدودا، ويسعى إلى الترفيه بأي ثمن، كموسيقى الجاز الصاخبة والرقص الهستيري الذي يخفف على الأقل من التوتر العصبي للعامل المرهق نفسيا.
ولكن هل يستطيع أحد أن يقول إن الإفادة من وقت الفراغ - حتى لو كان ذلك بطريقة أسلم وأخصب من الطريقة السابقة - تعد حلا حاسما للمشكلات الإنسانية في العمل؟ الواقع أن كل ما يفعله الإنسان في وقت فراغه إنما هو شيء يتعلق بما يترتب على عمله لا بعمله ذاته؛ فنحن في هذه الحالة نعالج مشكلات «ما بعد العمل» لا العمل نفسه، وإذا كنا نعقد آمالنا على الإفادة من أوقات الفراغ في حل مشكلات العمل، فمعنى ذلك أن العامل لا يبدأ في الاستمتاع بوقته ولا يشعر بإنسانيته حقا إلا بعد أن ينتهي يوم عمله، وتلك - بلا شك - ميزة غير قليلة، ولكنها لا تدل على أن مشكلة العمل ذاتها قد حلت؛ إذ يعد العمل في هذه الحالة مجرد وسيلة شاقة مرهقة من أجل غاية أخرى تتجاوزه، دون أن يكون غاية في ذاته، فإذا كان العمل ذاته يزداد رتابة وإملالا، وتزداد آفاقه ضيقا، على حين أن الفراغ يزداد اتساعا، فلا بد أن يحدث توتر آخر بين هذا الضيق وذاك الاتساع. ومن جهة أخرى فمن الواجب أن تقدر قيمة أوقات الفراغ في ضوء الحياة الكاملة التي يحياها الإنسان؛ فمن الصعب أن نتصور إنسانا يشعر بالسأم من عمله المتكرر، ومع ذلك يستطيع أن يقضي أوقات فراغه بطريقة سليمة مثمرة، وإنما الأرجح أن يكون ما يفعله بوقت فراغه رد فعل على عمله الذي يضيق به، أي إن سأمه وملله وضيقه هو الذي يتحكم في طريقة شغله لأوقات فراغه، ومعنى ذلك - بعبارة أخرى - أنه لا بد من حل مشكلة العمل ذاتها حتى يستطيع العامل أن يجني كل الفوائد الممكنة من أوقات فراغه.
Shafi da ba'a sani ba