ويبدو أن الأمور ظلت تسير على هذا النحو إلى أن وقع - في أواخر القرن الثامن عشر - حادث تاريخي مشهور كان له أثره في ظهور المعنى الحديث لليمين واليسار؛ ففي آخر اجتماع ل «مجلس الطوائف
Etats généraux » الفرنسي قبل الثورة الفرنسية مباشرة أصر نواب «الطائفة الثالثة»
tiers-état
على أن يجتمع ممثلو الشعب كلهم ويقترعوا سويا، بدلا من أن تقترع كل طائفة على حدة، وانتقل نواب هذه الطائفة إلى يسار رئيس المجلس، تعبيرا عن معارضتهم للملك.
ومنذ ذلك الحين أصبح لليسار معنى جديد، معنى معارضة الأوضاع القديمة السائدة، والسعي إلى تغيير ظروف الحياة في سبيل تحقيق مزيد من التقدم للمجتمع.
ولقد أردت بهذا التمهيد اللغوي والتاريخي أن أوضح كيف تغير معنى اليسار في ضمير الإنسان من التعبير عن الانحراف المرذول إلى التعبير عن الرغبة الثورية في تغيير الأوضاع، وكيف أن اليمين الذي كان «مستقيما وصحيحا»، وقد أصبح في ذهن الإنسان الحديث يعني الجمود والتخلف والاتجاه إلى المحافظة على أوضاع عتيقة، ولهذا التحول - دون شك - دلالة فكرية واضحة؛ فالمحافظة على القديم ظلت تعد «صوابا واستقامة» حتى جاءت فترة حاسمة في تاريخ الإنسان، مارست فيها إرادة التغيير نفسها في شكل ثورة كبرى أطاحت بعروش وطبقات اجتماعية ونظم كاملة في القيم، ومنذ ذلك الحين أصبح «اليسار» مبشرا بالتقدم ومتطلعا إليه، أما اليمين فهو دائما محافظ على ما هو قائم من الأوضاع. •••
وفي وسعنا أن نستخلص من التمهيد السابق نتيجة هامة، هي أن المعنى الحديث للتقابل بين اليمين واليسار قد استمد أصلا من مجال السياسة، وارتبط منذ البداية بفكرة الصراع بين الطبقات، ويمكن القول إن هذا الأصل قد طبع هذا التقابل بطابعه الخاص حتى اليوم، وإن هناك نغمة سياسية - مباشرة أو غير مباشرة - من وراء كل مقارنة بين اليمين واليسار في أي مجال من المجالات.
ومعنى ذلك أن موضوع اليمين واليسار في الفلسفة يمس نقطة الاتصال بين الفلسفة والسياسة؛ فالفلسفة اليمينية هي التي تؤدي آخر الأمر إلى دعم القوى المحافظة في المجتمع، على حين أن الفلسفة اليسارية تتحدث بلسان القوى الثورية فيه.
وعلى الرغم من أن تعبير «الفلسفة اليمينية أو اليسارية» لم يستخدم على نطاق واسع إلا في الآونة الأخيرة، فإن الفلسفة قد عرفت منذ عهد بعيد مواقف يمكن أن ينطبق عليها هذا التعبير، مع شيء من التجاوز بطبيعة الحال؛ ذلك لأن تاريخ الفلسفة كان يشهد من آن لآخر تيارات مضادة يمكن أن يوصف موقفها من الاتجاهات السائدة بأنه موقف يساري؛ فمنذ أقدم العهود كانت فلسفة هرقليطس - في دعوتها إلى التغير الدائم - تتخذ موقفا يمكن أن يسمى يساريا بالقياس إلى فلسفات تؤكد فكرة الثبات كفلسفة بارمنيدس ومدرسته، كذلك كانت المذاهب المادية القديمة عند ديمقريطس - ومن بعده أبيقور ولوكريتيوس - تقف في تاريخ الفلسفة إلى يسار ذلك التيار الروحي الذي سيطر على جزء كبير من تاريخ الفلسفة اليونانية، ابتداء من فيثاغورس إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبالمثل نجد في بداية العصر الحديث اتجاهات فلسفية يمكن أن توصف بأنها «يسارية» إذا ما قورنت بالأوضاع الفكرية «اليمينية» السائدة بين المفكرين اللاهوتيين في ذلك الحين، وإلا فكيف نصف المعارضة التي وجهها إلى التفكير التقليدي الموروث فلاسفة مثل بيكن في حملته الشديدة على سلطة أرسطو والفلسفة المدرسية بأسرها، أو مثل ديكارت في تأكيده أن «العقل السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس» أو اسبينوزا في تمجيده للعقل على حساب الوحي والإيمان؟ تلك كلها كانت - بالنسبة إلى الجو الفكري السائد في القرن السابع عشر - اتجاهات «يسارية» دون شك، حتى قبل أن يعرف التقابل الحديث بين التفكير اليميني والتفكير اليساري.
على أن قضية اليمين واليسار في الفلسفة لم تطرح بكل أبعادها إلا منذ القرن التاسع عشر، وربما أمكن القول إن معالمها لم تتضح كل الوضوح إلا في القرن العشرين، ولم تكن تطورات الفلسفة ذاتها - من حيث هي مبحث فكري قائم بذاته - هي التي أدت إلى ظهور هذه القضية، بل إن تطورات الأحداث السياسية والاجتماعية هي التي جرفت معها الفلسفة وفرضت عليها أن تواجه مشكلة اليمين واليسار بكل حدتها.
Shafi da ba'a sani ba