وفي ضوء هذه التفرقة بين طريقتي تطور الفلسفة والعلم، نستطيع أن نحكم على نقد «كانت» السابق لطريقة تطور الفلسفة؛ فهو لم يكن يقبل إلا طريقة واحدة، وهو قد عاب على الفلسفة عجزها عن سلوك طريق العلم هذا، واستهدف بتفكيره ومذهبه النقدي أن يخلصها من هذا العجز، ويحقق لها تطورا مماثلا لتطور العلم، ولم يدر بخلده أن الفلسفة تستطيع أن تظل حية ومزدهرة، مع احتفاظها بطريقتها الخاصة في التطور، تلك الطريقة التي تظل فيها النظريات والمذاهب السابقة معترفا بها ومحتفظة بأهميتها، على الرغم من كونها تتناقض فيما بينها، ولا تتكامل أو تتواءم على أي نحو، أي إنه - بالاختصار - أصر على أن تتحول الفلسفة - في طريقة تطورها - إلى علم، برغم علمه أن الموضوعات التي تعالجها لا تنتمي إلى مجال العلم بمعناه الدقيق، أما إذا حاولت الفلسفة أن تحتفظ بأسلوبها الخاص في التطور، فإن هذا يؤدي في رأيه إلى طريق مسدود لا مخرج لها منه، وغني عن البيان أن كل التاريخ اللاحق للفلسفة إنما كان تفنيدا مفصلا لرأي «كانت» هذا؛ إذ إن الفلسفة ظلت مزدهرة، وفي الوقت ذاته ظلت مذاهبها واتجاهاتها تتعدد وتتشعب في خط أفقي مغاير تماما لخط التقدم العلمي. •••
وعلى أساس وجهتي النظر السابقتين نستطيع أن نقول بوجود نوع من «النقيضة» في نظرة المشتغلين بالفلسفة إلى طريقة تطورها التاريخي؛ فقد رأينا أولا أن الفلسفة لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها، وأن التاريخ الفلسفي حي على الدوام، يكون جزءا لا يتجزأ من موضوع الفلسفة، وينبغي أن يحسب له حساب في كل محاولة جديدة للتفلسف، ورأينا ثانيا أن من الممكن - من وجهة نظر أخرى - القول بأن تاريخ الفلسفة لا أهمية له على الإطلاق من حيث هو تاريخ؛ فهو ليس تاريخا منظما كتاريخ العلوم، بل إنه ليس تاريخا على الإطلاق، وإنما هو محاولات لا يكاد أن يكون للعنصر الزمني فيها أدنى تأثير، ومن الممكن في أية حالة أن يختار المرء للمناقشة أية مرحلة سابقة في هذا التاريخ دون تمييز، كما أنه يستطيع - كما حدث بالفعل في بعض الحالات - أن يتجاهل المراحل السابقة ويبدأ من جديد، وبهذا المعنى لا يكون للفلسفة تاريخ، أي إنها لا تتطور زمنيا وفقا لمنطق محدد.
فكيف إذن يمكن حل هذا الإشكال ، الذي يكون فيه للتاريخ أهمية أساسية في الفلسفة، ولا تكون له - في الوقت ذاته - أهمية على الإطلاق؟
نستطيع أن نقول أولا إن هذه النقيضة إنما هي نقيضة تتمثل في كل تاريخ بوجه عام، لا في التاريخ الفلسفي وحده؛ فالتاريخ لا تصبح له أهمية في العلم الذي يسير تطوره بانتظام وفي مسار منطقي محدد، على حين أن أهميته تزداد في العلم الذي لا يخضع مساره لمثل هذا الانتظام، ولنعد ثانية إلى مقارنة التطور في علم الكيمياء بتطور الفلسفة؛ ففي التطور المنتظم للكيمياء لا نحتاج إلى التاريخ؛ لأن القديم في هذا العلم موجود ضمنا في الجديد، بحيث تغنينا معرفة الجديد عن القديم، فحسبنا في هذه الحالة أن نعرف آخر تطورات العلم لنستدل منها - بطريقة منطقية إلى حد بعيد - على تطوراته السابقة، وفي هذه الحالة لا يكون لتاريخ هذا العلم قيمة في ذاته، بل يستدل عليه بسهولة من خلال الحالة الراهنة لذلك العلم، أما في حالة الفلسفة - التي لا يخضع تطورها لمثل هذا الانتظام - فإن لكل مرحلة في التاريخ قيمتها الأساسية، ولا مفر من معرفة هذه المراحل من أجل معرفة الفلسفة.
على أن التاريخ الذي يخضع لمسار منطقي هو وحده التاريخ بمعناه الصحيح، أي هو التاريخ الذي يكون تعاقب الزمان فيه عنصرا أساسيا، ويكون للماضي فيه موقعه المحدد إزاء الحاضر، دون أن يكون في وسع أحد إحلال أحدهما محل الآخر، أما التاريخ الذي لا يخضع لمسار منطقي فليس تاريخا بالمعنى الصحيح ، وإنما هو سلسلة غير منتظمة من المراحل فحسب.
وهكذا تظهر النقيضة التي أشرنا إليها من قبل بوضوح كامل؛ فالتاريخ لا تكون له أهمية رئيسية عندما يكون لموضوعه تاريخ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي حين يكون تطور هذا الموضوع منطقيا تفضي كل مرحلة فيه إلى الأخرى على نحو ضروري، وفي مقابل ذلك تصبح للتاريخ أهمية كبرى عندما لا يكون لموضوعه تاريخ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي حين يفتقر تطور هذا الموضوع إلى منطق دقيق يسري من بدايته إلى نهايته.
ومما يثبت ذلك أن علم التاريخ نفسه من حيث هو علم مستقل، ينصب في كثير من الأحيان على حوادث يصعب إلى حد بعيد كشف التسلسل المنطقي بينها، بل يكون لكل منها قيمته في ذاته، من حيث هو ظاهرة لها موقعها الفريد في الزمان والمكان، أي إنه يتعلق عندئذ بحوادث يضعف فيها العامل «التاريخي» - بمعنى التسلسل المنطقي من القديم إلى الجديد - إلى حد بعيد، ولو كان مسار التاريخ منطقيا إلى حد كامل، أعني لو كان السابق يؤدي إلى اللاحق بدقة تامة، أو بتعبير آخر: لو كان مساره «تاريخيا» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لما كانت لدراسة التاريخ مثل هذه الأهمية، ولتضاءل مجال هذا العلم وضاق نطاقه إلى حد بعيد؛ لأننا عندئذ نستطيع أن نقرأ الماضي دون عناء على صفحة الحاضر. •••
هذه النقيضة تفترض مقدما - كما هو واضح - إمكان وجود تاريخ يتألف من حوادث فردية لا رابط بينها، وتطبق هذا الفهم على تطور الفلسفة فتراه انتقالا بين مذاهب منفصلة يستقل كل منها عن الآخرين، غير أن البحث التاريخي ذاته يميل رويدا رويدا إلى إنكار مثل هذا الموضوع الفردي البحت للتاريخ، ويتجه على نحو متزايد إلى الكشف عن عناصر الانتظام في التطور التاريخي؛ ففي مجال التاريخ السياسي والاجتماعي، أخذ يختفي بالتدريج ذلك الرأي الذي يفترض أن الحوادث فردية لا تتكرر، وأن كل مرحلة قائمة بذاتها لا تؤدي إلى الأخرى، وأخذ يحل محله رأي آخر يؤكد وجود منطق خاص للانتقال من مرحلة إلى المرحلة التالية.
وكما يطبق هذا الرأي على مجال السياسة والمجتمع، فإنه يطبق أيضا على ميدان الفكر الفلسفي بوصفه تعبيرا عن الحالة العقلية للإنسانية في مراحل التاريخ المتعاقبة، على أنه من المعترف به أن الاهتداء إلى منطق التطور - في كل هذه المجالات الإنسانية - أمر بالغ الصعوبة؛ لأن هذه المجالات شديدة التعقد بالقياس إلى الظواهر الطبيعية، فضلا عن أن الكشف عن نمط منتظم للتطور يقتضي الجمع بين فترات زمنية كبيرة واختبارها كلها من منظور واحد، ولا يتعلق بحوادث قريبة من متناول أيدينا، كما هي الحال في الحوادث الطبيعية .
وإذن ففي تاريخ الفلسفة نوع خاص من التعاقب المنتظم، يحتاج الكشف عنه إلى جهد كبير، ولا يمكن أن يصل في نهاية الأمر إلى نفس القدر من الدقة الذي نجده في تاريخ العلوم، ووجود مثل هذا التعاقب المنتظم الذي يكشف عن نفسه - في الوقت ذاته - بصعوبة شديدة، وهو الذي يخلصنا من تلك النقيضة التي أشرنا إليها من قبل؛ فللفلسفة تاريخ، ولكنه ليس تاريخا واضحا ضروري المسار كذلك الذي نجده في العلم، وهو في الوقت ذاته ليس تاريخا متخبطا يمكن أن نتأمله من أية نقطة فيه، أو يمكن أن نتصوره راجعا القهقرى، أو نمحو منه كل أثر للتطور الزمني، إنه تاريخ علينا نحن أن نكتشف عنصر الانتظام فيه، وحين نصل إلى هذا الكشف بعد مجهود شاق، لا نستطيع أن نقول إن التطور الماضي كان منطقيا تماما، كما هي الحال في تطور العلوم الدقيقة، إنه تاريخ يدعونا إلى دراسته، وإلى كشف عنصر النظام فيه، أو بناء هذا العنصر وخلقه من جديد، وبفضل هذه الصفة تعلو دراسة تاريخ الفلسفة على نقيضة التاريخ التي كان علينا فيها أن نختار بين تاريخ حقيقي - أي منطقي دقيق في مساره - لا ضرورة لدراسته في تفاصيله؛ لأنه يكشف عن نفسه من خلال مرحلته الحاضرة، وتاريخ لا يستحق هذا الاسم - لتخبطه وعدم انتظامه - هو وحده الذي لا نجد مفرا من دراسته بكل ما فيه من تفاصيل؛ لأن حاضره لا ينبئ عن ماضيه.
Shafi da ba'a sani ba