وعلى أية حال، ففي عالم اليوم من التغيرات ما يجعل من الضروري على المفكرين الاشتراكيين أن يعيدوا النظر في فكرة التعارض الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا، وفي الشعارات التي تجعل من هذه الطبقة الأخيرة القوة التقدمية الوحيدة التي يمكنها أن تحمل لواء الدعوة الاشتراكية، وليس معنى ذلك أن هذه الشعارات باطلة، بل معناه أن الواقع الحالي - في تعقده الشديد - يحتاج إلى مراجعة وتعديل لهذه الأفكار التي ظهرت في ظل واقع أبسط بكثير.
ولقد أدى التفاوت الشديد بين مستوى الطبقات العاملة في البلدان المختلفة إلى جعل الفوارق القومية - في بعض الأحيان - أشد تأثيرا من الفوارق الطبقية؛ فالدول نفسها أصبحت تكون طبقات فيما بينها، وهناك دول «رأسمالية» حتى بطبقاتها العاملة ودول أخرى «بروليتارية» حتى بطبقاتها البورجوازية، ويؤدي التباين الهائل في المستوى العلمي والتكنولوجي بين هذه الدول إلى مزيد من التعقيد في معنى الصراع الطبقي؛ إذ إن طبيعة هذا الصراع وأهدافه لا بد أن تختلف في حالة الدول المتخلفة، بل إن من الواجب - حتى في الدول الاشتراكية ذاتها - أن تكون أساليب التطبيق في دولة متقدمة ثقافيا وتكنولوجيا - مثل تشيكوسلوفاكيا - مختلفة إلى حد بعيد عن أساليب التطبيق في دولة مثل بلغاريا، ومثل هذه المرونة في تطبيق المبدأ الاشتراكي ذاته كان يمكن أن تؤدي إلى الحيلولة دون وقوع كثير من المصاعب التي تتردد على الأسماع في هذه الأيام.
مشكلة السياسيين والخبراء
ومن المشكلات الهامة التي تستحق التفكير والمراجعة، مشكلة العلاقة بين الجهاز السياسي والجهاز الفني أو جهاز الخبراء في النظم الاشتراكية، فحتى الآن كان الاتجاه السائد هو أن تكون للجهاز السياسي السلطة العليا الموجهة، ولجهاز الخبراء سلطة التنفيذ في الحدود التي يرسمها الجهاز الأول، ولا جدال في أن الدوافع التي أملت هذا الوضع - في البداية - كانت تغليب المصلحة العليا للأهداف الاشتراكية العامة على أي اعتبار آخر، ولكن الخبرة الطويلة في تطبيق هذا النظام كشفت - في حالات غير قليلة - عن صعوبات لم يكن من الممكن التنبه إليها في المرحلة الأولى من مراحل التطبيق، وهي مرحلة تتسم عادة بقدر غير قليل من المثالية؛ ففي كثير من الأحيان أدى إعطاء السلطات الرئيسية للجهاز السياسي إلى تجاهل أو إهمال لآراء الخبراء، وإلى تهاون من جانب هؤلاء الأخيرين، حين يجدون أن خبراتهم لا تجد لنفسها مجالا تمارس فاعليتها فيه، ومن جهة أخرى تحول الجهاز السياسي في بعض الأحوال إلى فئة محترفة تستهدف المحافظة على مصالحها الخاصة، وتضع هذه الغاية فوق أي اعتبار آخر، ومثل هذا التحول يمكن أن يلحق ضررا كبيرا بالمرافق التي تحتاج إدارتها إلى خبرة وكفاءة فنية، فضلا عن أنه يهبط بمستوى العمل السياسي ويشوه صورته في أعين الناس.
فأمام الفكر الاشتراكي إذن مهمة حيوية، هي أن يعيد النظر في العلاقة بين سلطة الأجهزة السياسية وسلطة أجهزة الخبراء، ويعيد تخطيط الحدود بينهما في ضوء الخبرة المكتسبة من تجارب دول عديدة، واضعا نصب عينيه أن التعارض القديم بين هذين الطرفين قد بولغ فيه، وأن هذه المبالغة ألحقت في بعض الأحيان أضرارا فادحة بالأهداف الحقيقية للعمل السياسي والإنتاج الاجتماعي في آن واحد.
التنمية والإنسان
ولقد اكتسب الفكر الاشتراكي - ولا سيما في الآونة الأخيرة - من التجارب ما يسمح له بأن يعيد النظر في مشكلة أساسية من المشكلات التي تواجهه، ألا وهي العلاقة بين هدف التنمية الاقتصادية وبين القيم الإنسانية بوجه عام؛ ذلك لأن الفكرة الاشتراكية ظهرت أصلا من أجل تحقيق أهداف إنسانية رفيعة، والقوة الدافعة لكبار الاشتراكيين كانت رد اعتبار الإنسان من بعد أن حالت عوامل الظلم والاستغلال طويلا بينه وبين تحقيق إمكانياته بحرية، وبعبارة أخرى فالفكر الاشتراكي يتميز منذ عهوده الأولى بنزعة إنسانية واضحة كل الوضوح، ومع ذلك فإن من أكبر الانتقادات التي يوجهها خصوم هذا الفكر إليه في هذه الأيام - والتي يجيد هؤلاء الخصوم استغلالها ويجنون منها فائدة كبرى - تجاهله للإنسان، فكيف استطاع أعداء الاشتراكية أن يوجهوا إليها نقدا كهذا؟
من الأمور المسلم بها أن عملية بناء الاشتراكية قد اقترنت - في بعض الدول - بنوع من الضغط القاسي الذي يصعب على الإنسان أن يتحمله، وإذا كانت الغاية في هذه الحالة سليمة، فإن الوسيلة يمكن أن تلحق بالغاية أفدح الضرر؛ ذلك لأن هذا الضغط الزائد على قوة تحمل الإنسان يفترض في أفراد المجتمع نوعا من الغيرية، والتضحية في سبيل الأجيال التالية، لا يستطيع كل الناس اكتسابه في ظل القيم التي ظلت البشرية تعيش عليها حتى اليوم، وما زال من الحقائق المؤكدة حتى اليوم أن لدى كل إنسان ميلا إلى أن يشاهد في حياته جزءا على الأقل من ثمار الجهود التي أفنى عمره في بذلها، ويتمتع بها معنويا وماديا، وقد عرف مفكرو النظام الرأسمالي كيف يستغلون نقطة الضعف هذه، وربما كان جزء كبير من الاضطراب الذي تعانيه بعض التجارب الاشتراكية راجعا إلى هذه المسألة بالذات.
ومن جهة أخرى، فإن هذا الضغط الزائد على طاقات الإنسان، وكذلك الحاجة إلى توجيه المجتمع حسب خطة مرسومة مقدما، أثار تعارضا آخر مع النزعة الإنسانية، يتمثل في تقييد بعض الحريات الأساسية، والحق أن المفكر النزيه لا يملك إلا أن يشعر بالحيرة حين يجد بعض النظم الاشتراكية تعطي الرأسماليين المستغلين كل الفرص التي تتيح لهم أن يعلنوا من أنفسهم حماة لحرية التفكير والتعبير وغيرها من الحقوق التي كافح الإنسان من أجلها قرونا عديدة. وأقول إن هذا الأمر محير للمفكر النزيه؛ لأن مثل هذا المفكر يعلم حق العلم مدى زيف الحرية المزعومة في المجتمعات الرأسمالية، ومدى الخبث والدهاء اللذين يشكل بهما النظام الرأسمالي اتجاهات الرأي العام في بلاده من خلال كافة أجهزة الإعلام، التي هي في الوقت ذاته مرافق ذات مصالح رأسمالية معروفة، هذه حقيقة واضحة، ومع ذلك فإن كل شيء يبدو - على السطح - كما لو كان يسير تلقائيا بحرية تامة، أما في تلك التجارب الاشتراكية التي نتحدث عنها، فإن الاعتراف بتقييد الحرية علني صريح، مما يعطي الخصوم فرصة - هم أبعد الناس عن استحقاقها - لكي ينادوا بأنهم هم وحدهم الحريصون على حرية الإنسان.
فهل كتب على الفكر الاشتراكي أن يقف عاجزا إزاء مشكلة الحريات التي يسميها - على نحو غير مقنع تماما - باسم الحريات الليبرالية، ويجعل منها جزءا من تكوين النظام الرأسمالي وحده، ويعطي بذلك للخصوم سلاحا لا يحلمون به؟ هل سيظل هذا الفكر يحكم على نفسه بالابتعاد عن النزعة الإنسانية التي كانت هي مصدر قوته الأولى؟ وإلى متى سيظل يسمح لأعداء الإنسان باتهام الاشتراكية بأنها لا تعيش إلا داخل جدران أغلقت نوافذها وأوصدت أبوابها بإحكام؟ أليس التفكير في وسيلة للخلاص من هذا المأزق أقدس رسالة ينبغي أن يكرس لها مفكرو الاشتراكية جهودهم في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ نضالهم؟
Shafi da ba'a sani ba