إن عصرنا الحاضر يسير في تطور يؤدي - على نحو متزايد - إلى اختصار المسافات المكانية وتضييق شقة الاختلافات الموضعية، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تأكيد الفوارق الزمنية ومضاعفة تأثيرها، وفي كلتا الحالتين يظهر التأثير الحاسم للتفاعل بين التكنولوجيا والثقافة؛ فالتكنولوجيا - كما هو معروف - تتجه بفضل عدد كبير من المخترعات الحديثة إلى صبغ العالم بصبغة ثقافية تزداد تقاربا وتشابها، وبذلك تلغي بالتدريج تأثير الفوارق بين الحضارة، أو تتيح وضع الحضارات المختلفة في إطار معاصر موحد، هذه حقيقة معروفة طالما نبه إليها الكتاب، ولكن الذي لم يتنبه إليه من كتبوا في هذا الموضوع، هو أن نفس العملية التي تؤدي إلى إزالة الحواجز المكانية، وتقريب الشقة بين الثقافات تؤدي من ناحية أخرى إلى زيادة الإحساس بتأثير الفوارق الزمنية؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة بدورها هي التي جعلت الإنسانية تمر خلال عشر سنوات من عصرنا الحالي بتجارب تزيد على ما كانت تمر به في العصور السابقة خلال قرن كامل، وهي التي ستجعل معدل التغير هذا يزداد سرعة على الدوام، والمعنى الواضح لازدياد سرعة معدل التغير - في فترات زمنية تزداد قصرا على الدوام - هو أن الشقة بين الماضي والحاضر تزداد اتساعا بلا انقطاع، أي إن الإنسان المعاصر يشعر بأنه أبعد عن إنسان القرن الماضي إلى حد يزيد كثيرا عن إحساس إنسان القرن الثاني عشر بابتعاده عن إنسان القرن الثاني مثلا، وهكذا فإن المكان والطابع المحلي يتجه إلى التقارب والتوحد، على حين أن الفواصل الزمنية بين الحاضر والماضي تزداد حدة على الدوام، وإذا لم نكن على ثقة من ذلك، فإن حركات الشباب، وشعور الأجيال الجديدة بأنها عاجزة عن الالتقاء على أرض مشتركة مع الأجيال الأقدم التي لا تزال تعيش معها في عصر واحد، إنما هو الدليل الملموس الصارخ على ازدياد حدة الفوارق الزمنية في عصرنا الحاضر على نحو لم يكن له نظير في أي عصر سابق.
وإذن فمن سمات هذا العصر الذي نعيش فيه تلك السمة التي لم تظهر بوضوح إلا في وقتنا الراهن، وإن كانت ستزداد ظهورا ووضوحا في المستقبل، وأعني بها تضييق المكان وتوسيع الزمان، وفي مثل هذا الوضع - الذي نعتقد أنه جديد كل الجدة - يكتسب السؤال السابق الذي أثرته للمناقشة دلالته العميقة: فهل يقتصر الاغتراب الثقافي على صلتنا بالثقافات الأجنبية فحسب؟ ألا يمكن أن يظهر - إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل - اغتراب ثقافي أشد من ذلك حدة بين الحاضر والماضي؟ وفي هذه الحالة، ماذا يكون مصير تلك الدعوات التي ترى أن طريق التحرر من الثقافات الدخيلة إنما يكون بإحياء ثقافات تفصلنا عنها مسافات زمنية كبيرة؟ أنستطيع حقا أن نتخذ من هذه الثقافات القديمة مرشدا وموجها لنا ونحن آمنون من أن رجوعنا إليها سيخلصنا من كل اغتراب؟
التعصب ... من زاوية جدلية1
عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانا متباينة من التعصب؛ فقد حفظ لنا الشعر معلومات هامة وقيمة عن التعصب القبلي، وسجل التاريخ - وما زال يسجل - حالات لا حصر لها للتعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات - وخاصة في عصرنا الحديث - ضروبا متعددة من التعصب العنصري أو العرقي، وفي هذه الحالات كلها كان التعصب يمثل انتماء زائدا إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء، وارتباطا بها يصل إلى حد الاستبعاد التام للآخرين أو كراهيتهم أو التعالي عليهم.
والواقع أن التعصب - بوصفه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان - يمكن أن يعالج بمناهج وأساليب متعددة، تبعا للزاوية التي نتأمله منها؛ ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية؛ في استطاعة هذه العلوم كلها أن تلقي أضواء كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان على إزالة هذه الغشاوة التي أعمت بصيرة البشرية ردحا طويلا من الزمان، ومع ذلك فإن المعالجة الفلسفية لهذه الظاهرة تستطيع أن تكشف عن جوانب خفية وأساسية منها، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة، ومن خلال مفاهيمه ومناهجه المميزة، فهناك إذن أبعاد لمشكلة التعصب أعمق من تلك التي تتناولها العلوم الخاصة، وحين أقول «أعمق» فلست أعني بذلك حكما تفضيليا ، بل إن كل ما أقصده هو العمق بمعناه الأصلي لا المجازي، أعني عمق القاع بالقياس إلى السطح، هذه الأبعاد العميقة التي تكمن من وراء كل معالجة علمية خاصة لمشكلة التعصب، تنكشف للتفكير الفلسفي وحده، ربما كان أصلح منهج يتبع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصب ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، وأعني به المنهج الجدلي أو الديالكتيكي .
إن التعصب - كما هو واضح - يتضمن عنصرين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها - سواء أكانت قبيلة أم وطنا أم مذهبا فكريا أو دينيا - أسمى وأرفع من بقية الفئات، والعنصر السلبي هو اعتقاده بأن تلك الفئات الأخرى أحط من تلك التي ينتمي إليها، وقد يبدو من الأمور البديهية أن يكون هذان العنصران متلازمين؛ إذ إن اعتقاد فئة معينة بتفوقها يعني آليا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدرا، ومع ذلك فإن هناك نوعا من التميز بين وجهي التعصب هذين، على الرغم من ارتباطهما الوثيق.
ذلك لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي؛ فالشخص المتعصب هو - قبل كل شيء - ذلك الذي يحتقر فئة معينة أو يتحامل عليها، صحيح أن هذا التحامل ينطوي ضمنا على اعتقاد بأنه أرفع من تلك الفئة التي يتحامل عليها، أو أنه بريء من نقائصها، ولكن هذا لا يعدو أن يكون اعتقادا مضمرا فحسب، وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، أو الاعتقاد بأنهم يتمتعون بمزايا يعجز المرء عن بلوغها، وعلى أية حال فإن كراهية الآخرين هي الصفة الغالبة على المتعصب، أما استعلاؤه بنفسه فهو صفة ثانوية، على الرغم من كونها نتيجة لازمة - في معظم الأحيان - عن كراهية الآخرين.
فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا إلى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الجانب الإيجابي في هذه العلاقة الجدلية لا يؤدي بالضرورة إلى التعصب، فتأكيد المرء لذاته أو اعتقاده بسمو الفئة التي ينتمي إليها، لا يترتب عليه بالضرورة ازدراء للآخرين، ولقد سمعنا كثيرا عن تلك الفلسفة التي تؤكد الأرستقراطية والاستعلاء، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهرا لا يتمشى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته؛ فالرفيع والنبيل حقا - عند نيتشه - لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم؛ لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين، ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات - في الفلسفات التي تنحو منحى ديمقراطيا - يزداد بالتكاتف مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم.
ومعنى ذلك أن الوجه الإيجابي في علاقة التعصب - وهو تأكيد استعلاء الذات - لا يمثل جوهر التعصب، وأن النظرة السلبية إلى الآخرين هي الطابع المميز لذلك النوع الشائع من الانحراف. •••
ولا جدال في أن تلك النظرة السلبية إلى الآخرين ترتكز على اعتقاد بوجود نوع من الشر الكامن فيهم، والذي يبرر به المتعصب تحامله عليهم، ولعل أول ما يطرأ بالذهن هو أن يبادر إلى الكشف عن زيف هذا الاعتقاد بوجود الشر في الآخرين، ويبحث عن أسباب نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، أو إيجاد منفذ لشعورهم هم أنفسهم بالإثم أو بالعجز أو بالإخفاق، ومن المؤكد أن ظاهرة التعصب تنطوي على شيء من هذا كله، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أعقد من أن تفسر من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يرتكز على القول بأن التعصب علاقة بين ظالم ومظلوم، وهذه العلاقة المعقدة لا يمكن التعبير عنها أو فهمها إلا من خلال منهج جدلي.
Shafi da ba'a sani ba