قلنا إن العرب كانوا ينتجعون مصر ويغزون أطرافها وربما أقاموا بها زمنا في بعض الأدوار، ولكن العرب في مصر، وقد فتحتها دولتهم قد تبدل مقامهم فيها، فسما لهم شوق إلى الرحيل إليها لينزلوها ويستعمروها وتكون لهم ولذراريهم موطنا، ولما لم يرض الفاتح أن يسلب الأرض من أهلها الأصليين، وأقرهم عليها يؤدون عنها الخراج، خص النازلين من القبائل العربية بأرض ارتحل عنها أصحابها فأحيوها، وجاءت قبائل العرب وبطونهم يحطون رحالهم في الريف يعتملون الأرض، ويتخذون من الزرع معاشا وكسبا، ومنهم من اختار سكنى المدن يخرجون إلى مصايف لهم، وقد تكون لهم تلك المصايف مساكن دائمة، وكان أكثر من نزل مصر من العرب من سكان بوادي الحجاز، تفرقوا في طول البلاد وعرضها، واتسعت معايشهم لخصيب تربة مصر ولما شملهم الفاتح من رعايته، وكان يحظر على الجند لأول الفتح أن يعتملوا الأرض لئلا تخرجهم الزراعة عن القيام بأعمالهم، فانصرف إلى الزراعة أهلها، وما أسرع ما بنى العرب منازلهم حتى إن من الصحابة من اختط له دارا في أرض مصر، واختط عمرو بن العاص دارا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب عند المسجد بالفسطاط، فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز يكون له دار بمصر؟! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، وكثرت هجرت العرب إلى مصر في عصور مختلفة، والمورد العذب كثير الزحام، وما فتئت الجزيرة في القرون التالية تمد مصر بالرجال، يكثرون سواد سكانها، حتى أصبح القبط إلى قلة في القرن الثالث، وكان عدد من وجبت عليهم الجزية في الفتح أربعة ملايين رجل وعد الروم ثلاثمائة ألف.
وانتشرت اللغة العربية بين السكان منذ البدء، فلم يمض زمن طويل بعد الفتح إلا ورأيت رجال الكهنوت القبطي يكتبون بالعربية ليفهموا قومهم، ظاهرة غريبة في الإسلام؛ ذلك لأن مصر لم يسبق لها أن غيرت دينها سوى مرة واحدة، غيرته بحد السيف، وما غيرت قط في التاريخ لغتها إلا في الإسلام، وفي الإسلام غيرت دينها ولسانها معا من دون إكراه وشدة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة.
كان الفاتح يستوفي حقه برمته من أهل ذمته، ويشملهم برأفته وعنايته، ذكروا أنه رفع إلى عمرو بن العاص أن غرفة بن الحرث الكندي، وكان من الصحابة الذين سكنوا مصر، ضرب رجلا نصرانيا فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد، كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل ، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم، وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم، فقال عمرو: صدقت.
انقاد جمهور القبط إلى الإسلام، واختلطت أنسابهم بأنساب المسلمين؛ لتزوجهم لما أسلموا من المسلمات، وبالمجاورة فقط يتعلم المغلوب لسان الغالب، فكيف إذا اختلط دمه بدمه، وتألفت مصلحته بمصلحته، وللرجل إذا أسلم ولو كان في سن عالية من إقامة الشعائر فقط أعظم دافع إلى تلقف العربية؛ يسمع خطب الخطباء في الجمع والمواسم وأيام الحفل، في موضوعات يهمه تفهمها، ثم يستمع إلى قصص القصاص في المساجد والمعسكرات، وكان يجتمع إلى قصاص العامة النفر من الناس يعظونهم ويذكرونهم. ويكون القصاص كالخطباء من أمثل العلماء على الأكثر، ويتولى خطبة الجامع الأعظم أمير البلاد، ومن يتولى الصلاة يرجح على من يتولى الأموال، فإذا جمع بينهما لواحد كان الأمير كل الأمير.
وكانت الجوامع والمساجد مجامع ومدارس لتعليم البنين والبنات، يختلف إليها النساء كما يختلف إليها الرجال، والجوامع منتديات القوم ومحال تقاضيهم، يخطب فيها في المهمات وتلقى فيها دروس خاصة وعامة، وتتخذ للعبادة في أوقات الصلوات، وقلما يخلو جامع من إقامة كتاب على مقربة منه لتعليم الأولاد، وجاء من النساء المحدثات والواعظات والأديبات والشاعرات، وعددهن بالطبع أقل من عدد الرجال في هذا الشأن، وكان لهن من تربية أولادهن ما يشغلهن في بيوتهن عن أمور يقوم بها الرجال، وتتعلم المرأة مهما كانت منزلتها سورا من القرآن وما يلزمها من أصول الدين، وتحفظ الأشعار والأخبار، وتحضر القصص والوعظ وتأتم بالرجال في المساجد، والغالب أنه كان الرسم منذ القديم أن لا تخلو دار أحد من أرباب اليسار من فقيه يختلف إليها يعلم الأبناء والبنين ويتفقه به الصغير والكبير، أو من قارئ يتلو حصصا من الكتاب العزيز في الليل أو النهار ، وكانت العادة أن من بركة كل بيت مهما علت مكانة أصحابه أن يتعلم بعض أبنائه العلم الديني على الأصول ويتخرج بالشيوخ ويأخذ عن القراء، وحفظ القرآن من الأمور التي شاعت في القطر شيوع العقائد الراسخة، ثم إن من واجب المسلم أن يعلم جيرانه ويفقههم ويفطنهم، ومن مصلحة القبطي والرومي أن يتعلما لغة العرب للتفاهم وللإتجار.
والغريب عن اللغة قد لا يحتاج إلا إلى أشهر قليلة حتى يتعلمها، واللسان كان منذ وجد الإنسان يعلم بالتلقين والتلقي، ويرسخ بالسماع والانطباع، أكثر من قراءة الصحف والكتب، وهذه ما كانت تصل في الصدر الأول إلى غير أيدي الخاصة من الناس لغلائها وعزتها، وفي حدود ثمان وثمانين من الهجرة فقط، اتخذ الكاغد؛ أي الورق من القطن، فرخص ثمن الطوامير والقراطيس، وكانت الصحف تكتب على لباب البردي وهو غال ثمين. ويطلقون اسم الصحفي على من لم يلق العلماء ويأخذ علمه عن الصحف، فالعلم الإسلامي وإن بدأ تدوينه في زمن الصحابة إلا أن المسلمين كانوا يخزنون علمهم في الصدور، أكثر مما يرقمونه في السطور، وربما لم تبلغ أمة من الأمم شأو العرب في الرواية والدراية.
ولعله كان من الخير للفاتحين ونشر تعاليمهم ولسانهم كونهم ما تصعبوا في إشراك أبناء الذمة في المصالح العامة، فاستعملوهم منذ أول الفتح في بعض شئون الدولة ولا سيما في جباية الأموال وصرفها، ومنذ القرن الأول كان جميع عمال الأرياف من القبط، وكان ناظر مالية الدولة الأموية على عهد معاوية نصرانيا وتولى ذلك بنوه للخليفة من بعده، ولما نقلت الدواوين إلى العربية على عهد عبد الملك بن مروان، ونقل ديوان مصر من الرومية والقبطية إلى العربية، كما نقل ديوان الشام والعراق من الرومية والفارسية، ضن الفاتحون بأرباب الكفاءات من العمال السابقين فما صرفوهم من التصرف والخدمة، وما كان يشترط للعمل غير معرفة لسان الدولة والأمانة للسلطان حتى يوليه ثقته ويخلطه بنفسه، وحدثنا التاريخ أن عمرو بن العاص كان أول من اتصل بالعلماء من القبط والروم وأنه كانت له صحبة مع يحيى غرماطيقوس - أي النحوي الفيلسوف - وأعجب كلاهما بصاحبه، وأن خالد بن يزيد الأموي عالم قريش وحكيمها لجأ إلى علماء من القبط لما أراد نقل بعض العلوم إلى العربية، فنقلوا له شيئا في الطب والكيمياء وغيرها، وكان يفضل عليهم وعلى العلماء الآخرين من الروم والسريان كثيرا، حتى نقلت له مبادئ الصناعات والعلوم والنجوم والحروب.
وتدين مصر لبني أمية خاصة بأوضاع من العدل والعمران كثيرة؛ ذلك لأنهم كانوا يرسلون لإمارتها أمثل رجالهم وتطول إمارتهم فيها ليتمكنوا من معرفة ما يصلحها، ومن كعمرو بن العاص بإدارته الحسنة وسياسته الرشيدة، ومن كعتبة بن أبي سفيان شقيق معاوية، وكان من أخطب خطباء العرب يطفئ في ولايته القصيرة الفتنة وينشر الإسلام، وكان بعض أهل مصر من العرب اشتركوا كأهل الكوفة والبصرة بمقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، ومن كعبد الله بن سعد في حسن سيرته ومعرفته بسياسة الملك، وفيها طالت أيامه كما طالت إمارة مسلمة بن مخلد خمس عشرة سنة، وطالت أيام عبد العزيز بن مروان إحدى وعشرين سنة، وفي أيامه عمرت مصر عمرانا ليس مثله، وبنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس كرمها ونخلها، وهو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الذي أشبه جده لأمه عمر بن الخطاب بعدله وإحسانه، وهو الذي كتب إلى عامله على مصر وقد شكا إليه نقص الجباية لإقبال الناس على الدخول في الإسلام: إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا، وهو الذي جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال؛ رجلين من الموالي ورجل من العرب، فأنكر العرب فعله، فقال: ما ذنبي أن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون، وهو الذي قال لأسامة بن زيد، وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر وحثه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة، إنك تأتي قوما قد ألح عليهم البلاء منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم، كأنه كان يشعر، وهو من مواليد مصر وأبوه أميرها، أن في إدارة الدولة شيئا من الظلم تجب إزالته. ومثل هذه الشفقة والرحمة والعطف كانت تحبب الإسلام إلى القوم فيسلمون ويمتزجون برجال الدولة، أو يبقون على دينهم لا يفتنون عنه، ولا تؤخذ كنائسهم، ولا يهان قساوستهم.
أصبح سكان مصر في القرن الرابع أخلاطا من الناس مختلفي الأجناس من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وتتر وأرمن وحبشان وغير ذلك من الأصناف والأجناس، وجمهورهم القبط، واختلطت الأنساب واقتصروا من الانتساب على ذكر مساقط رءوسهم، وفي هذا القرن كان القبط يتحدثون بالقبطية على رواية المقدسي، ولهم - كما قال ابن حوقل - البيع الكثيرة وهم أهل يسار وفيهم قلة شر وكثرة خير، ويقول الظاهري في القرن التاسع: إن بالصعيد من الكنائس والديورة قريب ألف وغالب أهله نصارى؛ أي أقباط.
إذا عرفنا هذا، فليس ما يمنع من القول إن بوتقة مصر في الدول الإسلامية كانت تتمثل فيها العناصر الغريبة فتصبغها بصبغتها، تحيلها مصرية صرفة بعد جيل أو جيلين. وساعد على مزج الدخيل والأصيل فيها ورود النهي عن التفاخر بالجنسية والقومية، وعدم التفريق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى. ومن مصطلح العرب أن كل من أقام ببلدة ولو مدة وجيزة ثم مات فيها عد من أهلها ونسب إليها، ولما كان ابن وادي النيل لبدا بطبعه مولعا بمائه وهوائه، صعب عليه أن يهجره إلى أقطار أخرى ليكثر سواد شعب غير شعبه. والمصري منذ القديم لا يبغي عن مصر حولا، فهو مغتبط بنيله، عاشق تربته، راض بما قسم له، فكان مصر منذ عهد الفراعنة الأولين بلد استيراد أكثر مما هو بلد استصدار، ولولا فريضة الحج في الإسلام، ما خرج المصري إلى الحجاز أيضا يفارق ما في داره من النعيم المقيم.
Shafi da ba'a sani ba