لم تكن هذه الأزمة يسيرة ولا هينة؛ فقد انقسم الفرنسيون فيها إلى قسمين: فأما الأحرار المعارضون أنصار حرية الشعب وأنصار المذاهب الجديدة، وأنصار فلسفة القرن الثامن عشر، فكلهم كانوا عونا له، وأما المحافظون ورجال القصر بنوع خاص والإمبراطورة وحاشية الإمبراطورة فقد كانوا خصوما لرينان، وكان وزير المعارف مع هؤلاء، والغريب أن رينان نظر فرأى معه خلاصة الشعب الفرنسي أنصار التجديد وعدة المستقبل، فاستيقن أن النصر له من غير شك فلم يحفل بقرار وزير المعارف، واعتقد أن الرأي العام الذي يتأثر بالرأي الحر سيثأر له، وسيكره الوزير والإمبراطور على أن يعيدا الإذن له في متابعة هذه الدروس، والغريب أنه لم يكتف بهذا بل أصدر كتابه بعد ذلك بقليل «حياة المسيح » فأضاف شرا إلى شر، وثورة إلى ثورة؛ فهذا الكتاب أغضب رجال الدين والمحافظين والفلاسفة الذين لم يكونوا من أنصار الحرية ولا من أنصار التأثر بالمذهب الجديد، ثم لم يكتف بهذا، بل أخذ يتحدى الوزير وأخذ يكتب إليه طالبا أن يستأنف الدرس، ثم عرض الوزير عليه منصبا فأبى، وظل الوزير محتفظا بموقفه من سنة 1862، 1863 إلى أوائل سنة 1864 ورينان مؤمن بالرأي العام، معتمد عليه، واثق بأنه منتصر من غير شك، ولكنه نظر فإذا قرار يصدر بنقل رينان من الكوليج دي فرانس إلى قسم المخطوطات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد الذي لم يؤخذ فيه رأي رينان، ولكن قرار الوزير اشتمل على شيء من الإهانة لرينان؛ فقد كان رينان يتقاضى مرتبه أثناء هذه المدة، فوجد الوزير طريقة إلى أن ينقله ليستطيع أن يعمل ويستحق المرتب الذي كان يأخذه على غير عمل، وكان القرار بطريقة لا تلائم كرامة الأستاذ، وهنا ثار رينان ورد على الوزير ردا عنيفا وقذفه بهذه الجملة وهي: «اذهب إلى الشيطان مع أموالك.» ومنذ ذلك الوقت أصبح رينان خصما صريحا للإمبراطورية والوزارة، وظل رينان بعيدا عن الكوليج دي فرانس، حريصا مع ذلك على أن يعود إليها، يطالب بأن يؤذن له في أن يلقي دروسه بعيدا عن الكوليج دي فرانس في بيته، ولكنه لا يظفر بما يريد، في هذا الوقت مضى في دراسته العلمية وأخذ يصدر كتبه المشهورة في تاريخ المسيحية.
ثم في سنة 1868 تقدم للانتخابات ولكنه تقدم معتدلا؛ لا مناصرا للجمهورية كما كان المتطرفون، ولا مناصرا للإمبراطورية كما كان المحافظون ولكنه حر معتدل، ففشل في الانتخابات وانتصر عليه الجمهوري المتطرف.
ثم كانت الحرب، وكانت الهزيمة، وكانت الثورة وسقوط الإمبراطورية، وقيام الجمهورية المتطرفة، ولعلكم فهمتم أن رينان لم يكن من أنصار الديمقراطية بل كان خصما لها ، وكان مؤمنا بالعلم، وما دام مؤمنا بالعلم وبأن الحكم يجب أن يكون إلى العلماء فهو ليس من الديمقراطية في شيء؛ لأن الديمقراطية تجعل الحكم إلى الشعب كله، وهو لذلك من أشد خصوم الجمهورية، كان ملكيا في شكل الحكم، كان أرستقراطيا علميا، ومع ذلك فالجمهورية لم تكد تعلن في فرنسا حتى ردت إليه منصبه، وأذنت له في استئناف دروسه، ثم لم تمض أعوام حتى أصبح في ظل الجمهورية التي يكرهها والديمقراطية التي يقاومها لم يصبح أستاذا، ولكنه أصبح مديرا للكوليج دي فرانس، تحميه الديمقراطية التي يكرهها وترفعه إلى أرقى منصب من مناصب التعظيم والتشريف والإجلال والإكبار.
قضى رينان ما بقي من حياته أستاذا في الكوليج دي فرانس، يلقي دروسه في اللغات السامية، ويتحدث ويحاضر في أنواع الفلسفة والعلم، ويؤلف الكتب المختلفة في مادته التي تخصص فيها وفي مواد أخرى كالسياسة والأدب، وأصبح بين سنة 1875، 1893 أكبر رجل أو أكبر ممثل للحياة العقلية الراقية في باريس وفي البلاد الفرنسية جميعا، وكان تأثيره عظيما في حياة الفرنسيين، ولكن الغريب من أمره أنه انتهى إلى هذه الصورة التي أريد أن أختم بها هذه المحاضرة، انتهى إلى هذه الصورة العقلية الشاذة؛ فقد أصبح رجلا يقبل جميع المذاهب الفلسفية على اختلافها، لا ينكر شيئا إنكارا صريحا، ولا يؤمن بشيء إيمانا صريحا، أصبح صورة من صور الشك، كان يلقي درسه ويؤيد مذهبه بالحجج والبراهين، ثم يقول في آخر هذه الحجج والبراهين: «ومع ذلك فلست مقتنعا بما أقول.» كان يتحدث في مجالسه بالمتناقضات؛ يقول: «من الخير أن يكون الإنسان رجلا فاضلا، فالفضيلة سخف في حقيقة الأمر، ولكنها لذة يجد فيها بعض الناس راحة، ومن يدري فقد يتبين أن الأمم والجماعات أصحاب رذيلة، من الخير أن يكون الإنسان متدينا، ومن يدري لعل الديانات أن تكون صحيحة، ومن الخير أن يكون الإنسان ملحدا، ومن يدري لعل الإلحاد أن يكون صحيحا.» وكذلك لم تكن تعرض لرينان في عصره الأخير فكرة إلا قبلها ورفضها في وقت واحد؛ حتى أحدث في العقل الفرنسي في ذلك الوقت اضطرابا شديدا، وحتى دفع الشباب إلى شيء من الشك الخطر الذي لم يقف عند المسائل الدينية، بل تجاوزها إلى مسائل سياسية وطنية.
لم يكد ينتهي القرن التاسع عشر حتى شعرت فرنسا والشباب الفرنسي الجديد بأنه لا بد من مقاومة، ولا بد من رد فعل لهذه الفلسفة والشك الخطر، وظهرت المدارس الفرنسية الحديثة مقاومة لهذا الاضطراب الذي انتهى إليه رينان، والذي انتهى إليه العقل الفرنسي.
وأخص ما يمتاز به رينان في حياته كلها وفي هذا العصر الأخير بنوع خاص أنه كان من أشد الناس انتصارا لحرية الرأي، ولم يكن له بد من هذا؛ لأنه كان ضحيته، ولكنه اندفع في الانتصار لحرية الرأي حتى لم يفرق بين حرية الرأي وبين الشك، وحتى جعل الحياة العقلية لونا من ألوان العبث، إن صح هذا التعبير، نستطيع أن نستبقي من رينان هذا الجهد الصادق في سبيل العلم والبحث الحر ومقاومة الضغط وهذه الثورة على المسرفين في المحافظة، وهذا البحث التاريخي الصحيح الذي مكنه من أن يكتب تاريخ اليهود والمسيحيين، وهذه الكتب العلمية الفلسفية الرائعة التي نجد فيها لذة؛ ولكنا لا نستطيع أن نستبقي هذا الإسراف في الشك وهذا اللهو بالنظريات، وهذا العبث بالحقائق، وهذا الاندفاع إلى القبول والرفض والاستعداد لقبول كل نظرية وتلقي كل رأي وفي الاطمئنان والاضطراب، وفي هذا خطر لا بد للذين يقرءون رينان من أن يتقوه.
والآن أظنكم قد تصورتم في شيء من الإيضاح حياة هذا الرجل، فلم يبق من هذه المحاضرات إلا المحاضرة المقبلة التي أحدثكم فيها عن زميله وصديقه وشريكه في الرأي والفلسفة أثناء القرن التاسع عشر وهو «تين».
الفيلسوف تين
سيداتي، سادتي
أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثكم عنه الليلة، فالحديث عنه يحتاج إلى عناية خاصة؛ لأن حياته العادية يسيرة جدا، ليس فيها ما تعودتم أن تسمعوه من الاضطراب ومن اختلاف الظروف، ومن هذه الطوارئ الكثيرة التي تمس حياة عظماء الرجال.
Shafi da ba'a sani ba