ومنذ ذلك الوقت أخذ العقل يفكر في مسائل ليس بينها وبين الإنسان صلة مباشرة، هي مسائل عليا؛ أخذ يفكر في الطبيعة وأخذت الفلسفة الإنسانية توجد وجودا فعليا. ونستطيع أن نقول إن ظهور الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، هو العصر التاريخي الدقيق لظهور العقل بمعناه الصحيح، وهو العصر التاريخي الدقيق لظهور الرأي الحر، وهو العصر التاريخي الصحيح الذي أخذ يظهر فيه أفراد يقاومون الجماعة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفكر للفكر من حيث هو.
منذ نشأت الفلسفة أخذ الناس يؤمنون بأن هناك شيئا اسمه الحقيقة، وأن هذه الحقيقة يجب أن تكون فوق الإنسان، وفوق الجماعة، وفوق كل شيء، وبأن الرجل الذي يمتاز بالعقل ويمتاز بالتفكير الصحيح يجب أن يضع الحقيقة فوق كل اعتبار وأن يجعلها هي وحدها قبلته إذا فكر أو نظر.
ومنذ ذلك الوقت أخذ يوجد بين الناس هؤلاء الأفراد الذين يوصفون بالجنون؛ لأنهم يخالفون جميع الأطوار التي تظهر فيها الجماعة في عصرهم؛ فهم خصوم الجماعة، وهداة الجماعة ومرشدوها إلى الخير، وهم الذين يشقون لها طريقها إلى الرقي، ولكنهم يسبقون عصورهم دائما، وربما كانوا يمتازون بأنهم وجدوا في الوقت الذي كانت مصالحهم الخاصة تقضي بألا يوجدوا، فمن المؤكد أيها السادة أن سقراط لو وجد الآن لما فكر فيه إنسان، ولما حفل به أحد ولا تعرض لخصومته أحد، فأين فلسفة سقراط وآراؤه مما وصلت إليه آراء الفلاسفة المعاصرين؟
من المؤكد أن سقراط لو وجد في القرن العشرين لمر كما يمر أي إنسان مثقف ثقافة عالية ممتازة، ولكن من المحقق أنه لو لم يوجد في العصر الذي وجد فيه، ولو لم يسبق الوقت الذي كانت مصلحته الفردية تقتضي أن يوجد فيه، لو لم يوجد في عصر ينكره أشد الإنكار، ويسخط عليه أشد السخط، لو لم يوجد سقراط لما وجدت الفلسفة التي توجد الآن، فلم يكن بد إذن من أن يوجد هذا العقل الذي يظهر شذوذه وتفوقه وخروجه عن المألوف، ومن أن يشذ، ومن أن يخرج على الجماعة ليستطيع أن يحدث ما أحدث من الآثار، ويوجد بعده أفلاطون ثم أرسطاطاليس وغيرهم من هؤلاء الذين نراهم الآن ونشهد آثارهم.
لم يكن إذن غريبا أن يشذ سقراط، ولم يكن غريبا أن يجد سقراط ما وجد من الخصومة، ولا ينبغي أن نظن أن أول خصومة وجدها سقراط هي هذه الخصومة التي انتهت به إلى الموت، هذه الخصومة التي اتهمته أمام المحكمة بأنه ينكر الآلهة ويضلل الشباب ويفسد أخلاقهم، كلا، فإن سقراط لم يكد يوجد، ولم يكد يظهر كفيلسوف، ويتحدث إلى الناس بآرائه، ويجادلهم فيما كان يجادلهم فيه، حتى وجد له خصوم مختلفون، وحتى ظهر رد الفعل، وحتى أنكره الناس إنكارا شديدا، وأنكره الرأي العام وضحك منه وآذاه، وربما كانت قصة السحاب التي بقيت لنا من قصص أرسطوفان قصة رائعة ناطقة بهذه المقاومة التي لقيها سقراط، هذه القصة تصور لنا كيف كان جمهور الشعب ينظر إلى سقراط فيسخر منه ويجده رجلا سخيفا يهذي ويعلم الشبيبة كيف تهذي، ويدفعهم إلى أشياء لم يدفعهم إليها أساتذتهم من قبل، ثم كيف كان الشعب يضحك من سقراط حينما كان أرسطوفان يمثل لهم هذه الأدوار الغريبة في قصر السحاب.
إذن كان سقراط خارجا على جماعته مقاوما لها وكان طبيعيا أن يجد من الجماعة ما وجد، ولم يكن هناك شيء غريب في أن يتقدم اثنان فيتهما سقراط بأنه عدو الشعب، ولا سيما إذا لاحظنا أن فلسفة سقراط لم تمض في طريقها المستقيمة التي كان يجب أن تسير فيها، وإنما انحرفت به إلى السياسة، وقد قلت إن العقل لا يسير في طريق مرسومة، بل ينحرف إلى اليمين وينحرف إلى الشمال، فقد كان سقراط عضوا من أعضاء الجماعة، يشعر بحقوق وواجبات وكان يشترك في أداء الواجبات العامة، وكان لحسن حظ الإنسانية وحسن حظه مقاوما لطغيان الطغاة، فلما ذهب عصر الطغاة وجاءت الديمقراطية منتصرة كان سقراط فيلسوفا، ومعنى هذا أنه لم يمض مع الشعب ولم تستقم به الطريق وإنما أخذ يسخر من بعض النظم ومن كثير من نظم الحياة الإنسانية، فخيل إلى الناس أنه عدو للديمقراطية.
ومن يدري لعل سقراط لم يكن بينه وبين نفسه صديقا للديمقراطية! كان إذن سقراط خصما للجماعة في تفكيرها وفي نظامها السياسي، ثم كان فيلسوفا طاغية إلى حد ما؛ فكلكم يعلم أنه عندما قدم إلى القضاة لم يدافع عن نفسه إلا كارها، إنما دافع عن نفسه ليسخر من الذين اتهموه والذين حاكموه أيضا، ثم عندما صدر الحكم على سقراط لم يظهر احتراما لهذا الحكم ولا رضي عنه، وكانت العادة إذا صدر الحكم على متهم بأنه مذنب أن يختار لنفسه العقوبة التي يرى أنها خليقة أن تفرض عليه، فلما سأله القضاة عن العقوبة، قال ساخرا: «إنني قد خدمت الوطن خدمة متصلة طيبة وأظن أن الوطن يجب عليه أن يطعمني على حساب الدولة إلى آخر أيامي»؛ أي إنه يرى أن تكرمه الدولة وأن تطعمه لا أن تعاقبه، أمام هذا الاستهزاء لم يكن بد من أن يقضى على سقراط بالموت، وليس معنى هذا أن الشعب اليوناني كان موفقا حين قاوم حرية سقراط، ولا موفقا حين قضى على سقراط بالموت، ولكن معنى هذا أن الشعب اليوناني كان معذورا؛ لأن حرية الرأي لم تكن قد عرفت؛ ولأن الشعب بطبيعته مضطر إلى أن يقاوم كل خطب يهدد حياته ويهدد نظامه، فكما أن للفيلسوف حقه في الفكر وفي أن يعلن رأيه، وله الحق في أن يتحدث إلى الناس حرا، فمن الطبيعي أن يقاوم هذا الرأي، ولم يكن العقل الإنساني قد ارتقى، ولم يكن الإنسان يفهم مقاومة الرأي بالرأي وحده، إنما كان الإنسان يفهم أن كل خارج على الشعب يجب أن يقضى عليه بالعقاب.
مهما يكن من شيء، فقد كان سقراط هو الضحية الأولى لحرية الرأي، ولكنها الضحية الخالدة الخصبة، وكان موت سقراط إعلانا لانتصار العقل وحرية الرأي السياسي؛ فلم يكد ينفذ في سقراط حكم الإعدام حتى انتشرت آراؤه ومذاهبه انتشارا رائعا، وحتى طغت مبادئه على كل الأرض، وانتصرت فلسفته على كل ما سبقها من أنواع الفلسفة وضروب الحكم، وحتى أصبح كل يوناني مثقف سقراطيا إلى حد ما من تلاميذ أفلاطون أو غيره من تلاميذ سقراط.
ثم مضت الفلسفة مقاومة للجماعات، ثم مضت الجماعات مقاومة للفلسفة أيضا، وكلكم يذكر أن أفلاطون لم يكن حسن العلاقات مع الشعب الأثيني، وأن أرسطاطاليس قد هرب من أثينا؛ لأنه خاف أن يحاكم كما حوكم سقراط، ومات وهو في هربه.
مضت الفلسفة تناضل عن حقها في الحرية وتلقى في ذلك محنا وخطوبا، تفكر وتعلن تفكيرها، إلى أن كان عصر ظهور المسيحية، في ذلك الوقت وصلت الحرب بين العقل والضمير وبين الجماعات إلى أقصى ما كان يجب أن تصل إليه من عنف، وكان مظهر هذه الحرب بين حرية الضمير والرأي، وبين الدولة والسلطان ما كان من الخصومة بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي، وكما لاحظ «إستيوارت مل» من أن رجلا من قياصرة الرومان كان فيما يظهر أرقى القدماء تفكيرا وأسماهم خلقا وأعلاهم تصورا للخلق الكريم، هذا الرجل هو ماركوس أورليوس الذي ترك في الأخلاق والحكم والفلسفة آراء خالدة، هذا الرجل قد اضطهد المسيحية وعذب الناس؛ لأنهم كانوا يقولون ربنا الله، وهذا أيضا طبيعي؛ لأن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا حراصا على أن يستمتعوا بحريتهم بينهم وبين ضمائرهم فحسب، ولكنهم كانوا خارجين على السلطان.
Shafi da ba'a sani ba