نجد فردا من أفراد اليونان ينعي على أجا ممنون سلطانه وطغيانه، ولكنه لا يكاد يتحدث إلى من حوله بهذا النعي، أو بهذا السخط حتى ينهض من ينهض من سامعيه فيضربه بالعصا على رأسه، يريد أن يضطره إلى السكوت فيستخزي هذا الفرد الذي خرج على الجماعة وأنكر ما لها من قوة ومن قدرة ومن استئثار بالبأس والبطش، هذه الحياة التي تصورها لنا الأشعار القديمة في الإلياذة والأودسة وما أشبهها من الأغاني اليونانية التي كانت تنشد في القرن العاشر وفي القرن التاسع قبل الميلاد، تصور لنا جماعات أخص ما توصف به أنها متشابهة في الرأي والخلق والعادة، وأنها تعيش عيشة توشك أن تكون كالنمل أو النحل أو كعيشة غير هذه الحيوانات من الحيوانات الاجتماعية لولا أن الله قد منحها غرائز ومنحها استعدادا خاصا للرقي والكمال لم تستطع أن تصل إليها النمل أو النحل.
ولكن الحياة الإنسانية لم تقف عند هذا الحد، وقد أراد الله للإنسان أن لا يكون حيوانا اجتماعيا بالغريزة وحدها، وإنما أراد له أن يكون حيوانا اجتماعيا بالغريزة والعقل، والعقل الإنساني يرقى شيئا فشيئا، ورقيه نتيجة الحياة المادية وتعقدها وما ظهر فيها وما زال يظهر من الخصومات والتنافس على المنافع، والتهالك على إرضاء الحاجات الإنسانية التي لا تنقضي، وما دام الناس يشعرون بهذه الحاجات ويدفعون بغرائزهم إلى إرضاء هذه الحاجات، وما دامت هذه الحاجات مختلفة أشد الاختلاف متنوعة أشد التنوع؛ منها ما يمس الثروة والاقتصاد، ومنها ما يمس السياسة والعلم، وما دام هذا كله موجودا؛ فلا بد للإنسان من الحيلة، ومتى وجدت الحيلة، أخذ عقله في الوجود، ومتى وجد العقل الإنساني وشعر الفرد بأنه شيء فقد أخذت الخصومة وأخذت الحرب توجد بين الفرد والجماعة، ومتى ظهرت شخصية الفرد وابتدأ يشعر بأن له حقوقا وعليه واجبات، وبأن هذه الحقوق يجب أن يتقاضاها، وبأن هذه الواجبات يجب أن يقضيها، فإن استطاع أن يفر منها فعل، ما دام هذا كله موجودا؛ فليس من شك في أن مسألة حرية الرأي قد وجدت، وأن هذه المسألة التي قامت ستظل قائمة إلا أن يرد الإنسان إلى حياة الغريزة الأولى التي كان يحياها.
وفي القرن السابع أو القرن الثامن قبل الميلاد أخذت الخصومات بين الجماعات اليونانية تظهر على المنافع المادية، خاصة امتلاك الأرض، وعلى استثمارها والانتفاع بما تأتيه من ثمرات، ثم لم تلبث هذه الخصومة أن تجاوزت الجماعات إلى الأفراد أنفسهم، فأخذوا يتخاصمون، كل منهم يريد أن يملك أعظم حظ ممكن من الأرض أو الثروة، بعد أن كانوا لا يشعرون بشيء من ذلك.
ومنذ ذلك الوقت أنتجت لهم هذه الخصومات الاجتماعية محنا ومصائب دعت الأقوياء إلى أن يضطهدوا الضعفاء، ودعت الضعفاء إلى أن يلتمسوا لهم أماكن أخرى يستطيعون أن يظفروا فيها بشيء من الأمن والدعة.
ونشأ من ذلك أيضا أن اختصمت الأسر؛ فطغى كبير الأسرة على صغارها، واستبد صاحب السلطان الشرعي بالذين ينبغي أن يظلهم، واضطروا إلى أن يهاجموا ويخاصموا فلم تنفعهم مقاومة ولم يجد عليهم خصام، وفي أثناء هذه الاضطرابات التي نشأ عنها استعمار يوناني في إيطاليا وفرنسا وأفريقيا، وفي بلاد أخرى بعيدة عن بلاد اليونان، في أثناء هذا الوقت أخذ الأفراد يشعرون بأنفسهم، ويلتمسون لأنفسهم أسباب الراحة، وأسباب الحرية أيضا، ثم أخذ هذا العقل اليوناني يقوى ويشتد حظه من القوة شيئا فشيئا، حتى نشأ عن هذا التفكير البسيط تفكير أكثر منه تركيبا، تفكير نستطيع أن نقول إنه قد أخذ يتجاوز الحياة المادية القريبة العاجلة إلى شيء آخر، وأخذ الناس يفلسفون - إن صح هذا التعبير - فيما يلم بهم من الخطوب وما يصيبهم من المحن، ويحاولون أن يفهموا المشكلات ويفسروا هذه المصاعب التي طرأت لهم، ثم يحاولون أن يستنتجوا من هذا كله شيئا يشبه أن يكون حكمة.
وأول ما يصور هذه الأخلاق العامة الأخلاق التي تمثل الخير وتمثل الشر من حيث اتصالهما بحياة الفرد لا تجدونه في الإلياذة وفي الأودسة، ولكن في شعر آخر هو شعر الشاعر اليوناني المشهور «أزيود» الذي أخذ يتفلسف في حياة الإنسان ويحاول أن يصورها في شعره كما نفلسف نحن في بعض حياتنا اليومية العادية، بل ارتقى تصوير الناس إلى أبعد من هذا أيضا حتى حاول أزيود في قصيدته «الأيام والأعمال» التي حفظت إلى الآن، حاول أن يوجد شيئا يشبه العلم، فنظم بعض المعلومات التي كان الناس يستكشفونها كل يوم في حياتهم الخاصة من بعض المعلومات التي تمس الزراعة والفصول من صيف وشتاء وخريف وربيع، ثم ينتقل من هذا إلى بعض ملاحظات فلسفية عن العمل وفائدته وعدم الاعتماد على الوراثة ولا على الثروة التي تورث، ولكن الرجل الذي يستحق أن يسمى رجلا حقا هو الذي يعتمد على عمله.
هذا الشعور، وهذا الرقي العقلي، وهذا التفكير الذي نلاحظه لم يلبث أن انتهى إلى نتائجه الطبيعية، وهذه النتائج الطبيعية هي إيقاظ ميل الإنسان إلى النقد، وإلى الملاحظات المختلفة على النظم التي كان خاضعا لها، ومنذ أخذ الإنسان اليوناني يلاحظ وينقد ويضع النظام القائم موضع البحث والتفكير، نشأت الخصومات السياسية عند اليونان، وكان أول مظهر لهذه الخصومات أن أنكر سلطان الملوك، وأن أخذت جماعات من رؤساء الأسر والعشائر تتحدث بأن ليس بين هؤلاء الرؤساء وبين هذا الرجل الذي يسمى الملك، والذي يستأثر بالسلطة الدينية والقضائية والحربية فرق ما؛ هو من أسرة عظيمة، كما أنهم من أسر عظيمة أيضا، له مكانة في الجماعة كما لهم، وهو إنسان يتأثر، فهو إذن مثلهم وهم مثله، فما امتيازه؟ وما تقديسه؟ وما الذي يمنع أن يكون هؤلاء الرؤساء الذين يشبهون الملك؟ ما الذي يمنع هؤلاء الرؤساء من أن يكونوا شركاء الملك في سلطانه ويقاسموه الامتياز؟ ومن هنا أخذ التنافس العنيف يظهر بين الملوك وبين رؤساء الأسر، فنشأت الخصومة بين الأرستقراطية والملكية، وليس من شك أن الملوك قاوموا هذا ولكنهم غلبوا آخر الأمر، وكان انتصار الأرستقراطية على الملكية أول نصر للرأي؛ فقد استطاع الرأي أن يوجد في الحياة اليونانية فكرة جديدة وأن يغير نظاما وأن ينقل الإنسانية اليونانية من طور الخضوع لفرد واحد إلى طور آخر هو الخضوع لأفراد كثيرين، ثم نلاحظ أن العقل الإنساني إذا بدأ الحركة فلا سبيل إلى أن يسكن، ولست أدري أشر هذا أم خير؟
بدأ العقل الإنساني ينقد فلم يكن من سبيل إلى أن يقف عند حد، وما دام أفراد هم زعماء الأسر قد استطاعوا أن يغلبوا الملوك بل أن يخلعوهم وأن يستأثروا من دونهم بالسلطان وأن ينشئوا جمهوريات أرستقراطية، أمر الحكم فيها إلى قلة من غير شك، ولكنه على كل حال إلى جماعة لا إلى فرد؛ فما الذي يمنع من أن يفكروا؟ وما الذي يمنع هؤلاء الأفراد الذين ليسوا زعماء ولا رؤساء أن يسألوا أنفسهم - كما كان الرؤساء يسألون أنفسهم - ما الذي يفرق بيننا وبين الزعماء؟ وما بال الزعماء يؤثرون أنفسهم من دوننا بالأمر؟ وما الذي يمنع أن يكون السلطان شائعا؟ ومنذ نشأت هذه الفكرة وصل الرأي السياسي الإنساني الحر إلى الطور الثاني من أطواره وهو الطور الديمقراطي وأخذ الحكم الديمقراطي ينبث، وظهرت أثناء القرن السابع والسادس قبل الميلاد ثورة على نظام الأرستقراطية في أكثر المدن اليونانية إن لم يكن فيها كلها.
ولم يكد ينتهي القرن السادس قبل الميلاد حتى انتصرت الشعوب على الأرستقراطية وانتصرت أيضا الديمقراطية، وحتى صار أمر الحكم إلى الناس جميعا بعد أن كان إلى فرد واحد ثم إلى جماعة ضئيلة.
من أخص ما يمتاز به العقل الإنساني أنه إذا بدأ الحركة لا يقف - كما قلت - ولكنه لا يمضي في طريق مرسومة مستقيمة (غير قابلة للانحراف)، وإنما العقل الإنساني إذا تحرك مضى أمامه وينحرف إلى اليمين وإلى الشمال، فهو يمضي ثم ينحرف، لا يتحرك حركة مستقيمة، وإنما يتحرك حركة فيها غير قليل من التعريج، فالعقل الإنساني الذي ارتقى في السياسة والذي مكن للأقلية أن تقهر الملوك، ومكن الكثرة من أن تقهر الأقلية؛ هذا العقل لم يكتف بالنظر في شئون الإنسان، ولكنه أخذ ينظر إلى ما هو أرقى وأعم من الإنسان، أخذ ينظر إلى الطبيعة نفسها وهو الذي استطاع أن ينزل الأرستقراطيات عن سلطانها، فما الذي يمنعه من أن يدرس الطبيعة أيضا ومن أن يجعلها موضوعا للبحث أو النقد؟
Shafi da ba'a sani ba