علي مصطفى مشرفة
حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين، وقد بحث الموضوعات الخمسة التالية.
الرأي الحر
نشأته وأثره (المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات التي ألقاها بقاعة يورت التذكارية الأستاذ الدكتور طه حسين.)
سيداتي، سادتي
كأنما كنا مع الحرية على موعد أيها السادة، فلم أكن أقدر ولم يكن الأستاذ كليلاند يقدر أيضا منذ أسابيع حين كان يتحدث إلي في أمر هذه المحاضرات عن الرأي الحر، لم نكن نقدر أن المحاضرة التي سأتحدث فيها عن الرأي كيف نشأ؟ وعن آثاره كيف كانت؟ لم نكن نقدر أن هذه المحاضرة ستلقى في الأيام التي يشعر الشعب المصري بأن حريته ترد إليه فيها.
ولولا أننا نعيش في القرن العشرين وأن الحضارة الإنسانية قد تقدمت خطوات واسعة منذ خمسة وعشرين قرنا، لولا هذا لظننت أن ذلك الروح وأن ذلك الشيطان الذي كان يلهم سقراط هو الذي ألهم الأستاذ كليلاند أن يطلب إلي أن أتكلم في موضوع حرية الرأي، وأن يكون هذا الحديث في 16 نوفمبر؛ أي بعد أن أعلن أن الحرية قد ردت إلى مصر بيوم واحد.
على أني أريد أن أتحدث إليكم عن الرأي وحريته، حديث الأستاذ لا حديث رجل آخر، ومن المحقق أن أحاديث الأساتذة في كثير من الأحيان قد تكون ثقيلة وقد تكون مملة، فأستميحكم المعذرة إن ثقل عليكم الحديث أو أخذكم الملل.
نستطيع أن نمضي في البحث التاريخي عن حرية الرأي، بل عن الرأي نفسه إلى أبعد زمن ممكن، فلن نتجاوز الألف الثاني قبل المسيح، إلى ذلك الوقت كان الإنسان يحيا حياة توشك أن تكون آلية يتأثر فيها بالغريزة، ويطيع فيها الغريزة، أكثر مما يتأثر بأي شيء آخر، وأكثر مما يطيع أي شيء آخر؛ فكانت حياته اليومية نتيجة لتلك الغرائز، وكانت حضارته التي انتهى إليها نتيجة لتلك الغرائز التي كانت تسيطر على حياته سيطرة تامة، ولست أدري أيستطيع الأدباء والذين يدرسون التاريخ منذ العصور القديمة جدا أن يظفروا بنص من هذه النصوص التي تصور لنا إنسانا يفكر ويعلن رأيه في حرية وصراحة ويجد من الجماعات التي يعيش فيها مقاومات؛ مقاومة له حين يفكر، ومقاومة له حين يعلن رأيه، ولكن الذي لا نكاد نشك فيه هو أن أقدم هذه النصوص التي نستطيع أن نلاحظ فيها أثر الحرية وأن نشعر بالحرية الشخصية، ومن ظهور التأثر بهذه الحرية الشخصية التي تدفع الفرد إلى أن يعلن آراء لا يوافقه غيره عليها؛ أقدم هذه النصوص لا نكاد نجدها إلا في الإلياذة والأودسة؛ فنحن في الإلياذة نرى جماعات يونانية متأثرة أشد التأثر بأحكام العادة والتقاليد، خاضعة أشد الخضوع لهذه الأحكام، ولا نرى في هذه الجماعات فردا مقتنعا بأنه موجود وجودا خاصا، وإنما هو مؤمن أشد الإيمان بأنه لا يوجد إلا للجماعة وبالجماعة، ولا يستطيع أن يفكر إلا كما تفكر الجماعة، فتفكيره من تفكيرها وشعوره من شعورها، وحسه من حسها، وإعرابه عن هذا الشعور وترجمته عن هذا الحس هو نفس الإعراب ونفس الترجمة اللذين تلجأ إليهما الجماعة حين تعبر عن حسها وشعورها.
ولكنا نجد في هذه الخصومة التي تصورها الإلياذة بين أجا ممنون وأخيل بعض أفراد قد أخذوا يتمردون على الجماعة وعلى السلطان القائم ولكنهم يتمردون تمردا خفيا مستورا لا يكادون يعلنونه، إنما يتحدث به بعضهم إلى بعض في أحاديثهم الخاصة؛ هو لغة النجوى.
Shafi da ba'a sani ba