قال: ذهبت ريح العرب قبل عصر النهضة في الغرب - أي قبل القرن الخامس عشر - ولا يتيسر لنا الحكم الآن عما يكون من أمرهم ذات يوم لو كتب لهم البقاء، ولا نعتقد أنه كان في وسعهم أن يتجاوزوا المستوى الذي بلغوه؛ فإن انحطاط أوضاعهم كان يحدث لهم مشاكل صعبة، ومن الحيف أن يقابل بين العصور الحديثة، والعصور التي اضمحل فيها سلطان العرب، وإذا كان لا مناص من هذا التنظير، فلنا أن نقول إن الرجال الممتازين عند العرب كانوا أحط من الرجال الذين يقابلونهم من أهل العصر الحاضر، ولكن الأفراد المتوسطين فيهم ساووا وربما فاقوا أهل الطبقة الوسطى في الشعوب المتمدنة اليوم، ولو رزق العرب بل الصينيون والهنود اليوم طبقة ممتازة من الرجال بالنظر لما عندهم من الطبقة المتوسطة الصالحة لضاهوا الأوروبيين وفاقوهم وخلفوهم في تمثل هذه المدنية الحديثة. ا.ه.
وقال العلامة دوزي: «إن العرب ترجموا كثيرا من كتب الأقدمين وعلقوا عليها شروحا، فاغتنت بأعمالهم بعض فروعها، واتسع نطاقها باستدراكاتهم البالغة غاية الدقة والوضوح، ولكنهم لم يخترعوا شيئا، ولا ندين لهم بأدنى فكر عال أو واسع، وهكذا فإن بيننا وبينهم اختلافات أصلية، وربما كانت أخلاقهم أسمى من أخلاقنا، ونفوسهم أكبر من نفوسنا، وهم أكثر ميلا إلى العظمة الإنسانية، لكنهم لا يحملون بذور النهضة والنجاح، ومع ما هم عليه من الولوع بالاستقلال الشخصي، يظهر أنهم، على ما انطووا عليه من الأفكار السامية، غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات.» ا.ه.
وقول لوبون: إن العرب لم يظهر فيهم مثل نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم في مادياته، لا يصح فيما نرى على إطلاقه؛ فقد ظهر فيهم علماء غيروا بأبحاثهم صورة المادة، وأحسنوا الانتفاع بها في مسائل كثيرة، ولكن أولئك العلماء لم يوفقوا أن يتموا أعمالهم كلها، وما كتب لهم أن يسير من بعدهم على آثارهم لما دب من الانحطاط في الدول العربية، أما من ذكرهم لوبون ممن قلبوا في العهد الحديث صورة العالم بما أبدعوا، فقد تجسدت فيهم حكمة القدماء، وورثوا علومهم كلها، واهتدوا بتجاربهم، وزادوا عليها أمورا هيأها الزمن لهم، فكان منهم ما كان، وقول دوزي إن الغرب لا يدين للعرب بأدنى فكر عال، مردود عليه؛ لأن العرب - كما قال كثير من الباحثين من الأمريكان والإنجليز والألمان والفرنسيس - هم الذين مدنوا أوروبا بأن نقلوا إليها أنوار الأقدمين، وما أضافوه من مخترعاتهم وأبحاثهم، ولا مجال للمماحكة فيما استنبطوه وخدموا به المجتمع الإنساني، أما قوله إن العرب كانوا غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات، فهذا صحيح في الجملة؛ ذلك لأن إفراط العرب في حب الحرية حملهم على التجافي عن الخضوع للزعماء، وإيغالهم في عزة النفس دعاهم إلى الخروج على الجماعة، فعادوا بعد حين إلى ما كانوا عليه في الجاهلية لا يأتمرون بأمر، ولا يذعنون إلا لسلطان شهواتهم، فكان ذلك علة العلل في ذهاب سلطانهم.
عرضت للعرب عوارض عرض مثلها للأمم التي أحطنا بتاريخها قبلهم وبعدهم؛ فقد امتزجوا بغيرهم من الشعوب امتزاجا كثيرا قوى فيهم نواحي وأضعف أخرى، فمن أنحاء الضعف أنهم خلطوا دمهم بدماء غريبة، فأدخلوا فيه ما لو تصونوا عنه لظلوا أرسخ قدما وأسلم دما؛ دخل فيهم الترك والفرس والروم وغيرهم، كما دخل في دم الترك العثمانيين بعد دم البجناكي والبولوني والبندقي والرومي والروسي والمجري؛ فولد لهم جنس جميل الملامح والسحنات، ولكنه أخرجهم عن عنصرهم، فكان من ذلك انحلال أمرهم.
ومهما قال القائلون إن الغرب لا يدين للعرب بفكر عال ولم يخرج منهم أمثال نيوتن وليبنز، فإن العرب هدوا أوروبا إلى العالم اللاتيني واليوناني، وعاشت الجامعات الأوروبية ستمائة سنة من مترجمات كتبهم، وجرت على أساليبهم في البحث، فقد قال لوبون أيضا: إن المدنية العربية من أدهش ما عرف التاريخ، وإن المرء كلما تعمق في دراستها تجلت له أمور جديدة، واتسعت الآفاق أمامه، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب، وأنهم هم الذين أتوا أوروبا بما أتوها به من مدنية أنعشتها في الماديات والعقليات والأخلاق، ومتى درس المرء أعمال العرب العلمية وما كشفوه، ثبت له أنه ما من أمة أنتجت مثل ما أنتجوه في هذه المدة القصيرة التي كتب لملكهم قضاؤها، وقال: قد يكون من الأوروبيين مستعمرون ماهرون، ولكن منذ عهد رومية كان المسلمون من الشعوب الوحيدة التي حملت علم الحضارة حقيقة، وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية من المدنية، وأعني بها الدين والأوضاع والصنائع، بين ظهري عناصر جديدة من غير عنصرهم. قال: وإذا نظر المرء في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إلا الاعتراف بأنه كانت لهم ميزة خاصة لم تبلغها أمة، ولئن كان تأثير العرب في الغرب عظيما فإن تأثيرهم في الشرق أعظم، وما من عنصر أثر تأثيره قط. فإن الشعوب التي دانت لها الأرض كالأشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان قد عفت القرون آثارها، ولم يخلفوا سوى آثار ضئيلة بحيث لم يبق سوى ذكريات أديانهم وألسنتهم وفنونهم، وقد اضمحل أمر العرب أيضا ولكن أعظم عناصر مدنيتهم وهي الدين واللسان والصنائع لا يزال حيا، وقال : إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.
وقال العلامة فمبري: «كان الإسلام - وما برح - الدين الذي فاق سائر أديان العالم شورى وديمقراطية، وكان مصدر الحرية وينبوع العدل والمساواة، فإن كان العالم قد شهد حقا منذ أول عهد العمران البشري إلى اليوم حكومة شورية دستورية فهي - لعمري - حكومة الخلفاء الراشدين.» وقال نوبرجر: «فاقت المدنية العربية في أوج إمبراطورية الإسلام مدنية رومية القديمة في حيويتها وتنوعها، وكان لحضارة الأندلس مركز يشبه من عدة وجوه حضارة اليونان القديمة.»
وقال دوسن: «إن المدنية الأوروبية بل المدنية الغربية كلها مدينة للمسلمين بثمرات حكمة الأقدمين، وإن فتوحات العرب في إمبراطورية الإسلام من القرن السابع إلى الخامس عشر لتعد إحدى عجائب التاريخ، ومن المدهش أن يصبح العرب - وكانوا أول أمرهم على الفطرة - عنصرا فاتحا ويمسوا سادة نصف العالم في مائة سنة، ومن أشد العجب حماستهم العظيمة، وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم حتى بلغوا مستوى عاليا في مائة عام، بينا نرى الجرمانيين لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية، قضوا ألف سنة قبل أن يقضوا على التوحش وينهضوا لإحياء العلوم.» وقال غوتيه: «إن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية اليونانية كثيرا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما في الفنون والآداب فإن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير.» ا.ه.
وما لنا وكل هذا؟ فحسنات المدنية العربية ثابتة لا ينكرها إلا ذو غرض متعصب، وإذا كان فيها بعض نقص فالوقت لم يسمح للعرب بتلافيه أو الأخذ به إلى مستوى أرقى منه، ووضع الأساس في كل بناء أصعب من نقشه وترتيبه، وهل يعقل أن تخلق المدنية كاملة من أول يوم، وهي تحتاج إلى أن تعمل في تشييدها عقول كثيرة وأجيال مختلفة، حتى تبلغ درجات الكمال؟! ومخترعات أوروبا ومكشوفاتها في القرنين الأخيرين تشهد بذلك، رأينا أمما كثيرة شاركت فيها حتى صعب في بعضها أن تتبين يد الواضع الأول، وشهدنا القرنين اللذين سبقا القرن التاسع عشر والقرن العشرين كأنهما كانا ممهدين لما سيقع بعد من العجائب في العلم والصنائع.
وإذا جئنا نستفتي لوبون أيضا في سر هذه المدنية العربية، أجابنا أن اعتياد العرب الحروب والغارات في الجاهلية كان منه قيام أمرهم في الإسلام؛ فبعد أن كان بأسهم بينهم وجهوا غاراتهم نحو الأجانب فكان في ذلك قوام أمرهم، ولما لم يبق أمامهم أعداء يقاتلونهم عادوا يتقاتلون فأدى ذلك إلى انحطاطهم، وأهم العوامل في امتداد حكمهم، اجتماع كلمة قبائلهم المختلفة تحت علم واحد، وهو علم الإسلام، فوجه هذا نفوسهم إلى هدف سام أورثهم حماسة، فكانوا أبدا على استعداد للمفاداة بأنفسهم في سبيله، وكان هذا الهدف دينيا صرفا، ودولة العرب قامت على هذا الأساس، وكانت الدولة الوحيدة الكبرى القائمة باسم الدين، ومنه انبعثت سياستها وحالتها الاجتماعية، وساعد العرب على فتوحهم كون العالم القديم كان يهوي إلى السقوط، فكان حريا بأمة متوحدة المقاصد والمنازع أن تفتح البلاد وتستبقيها، وما ضعف نشاطهم في هذه السبيل، بل تعلموا في مدرسة مغلوبيهم، ولما ساووهم في الجندية وفنون القتال كان نجاحهم مضمونا، ولقد كنت ترى كل جندي في الجيش العربي على استعداد لبذل روحه لإنجاح المقصد الذي يقاتل لأجله، على حين كان كل إخلاص وحماسة وعقيدة قد اضمحل من نفوس اليونان منذ زمن بعيد، وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول نشأتهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يودون بثه في أقطار العالم، ولو فعلوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون عندما دخلوا الشام في القرون اللاحقة.
قال: «ولقد أدرك الخلفاء الأول بعبقريتهم السياسية النادرة في أتباع معتقد جديد أن الأوضاع والأديان لا تفرض على الناس بالقوة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وإسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابلة السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة ، وكانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل؛ وما عرفت الشعوب فاتحا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا دينا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف، وكانت هذه السماحة وهذا اللطف اللذان تجاهلهما المؤرخون من بعض العوامل التي هيأت بسرعة انتشار فتوح العرب، وأعظم سبب دعا إلى قبول دينهم وأوضاعهم ولسانهم، ونحن ندرك كيف تأصلت هذه العوامل الثلاثة بين ظهراني الشعوب التي رحبت بمقدمهم، وأنها قاومت بعد جميع الغارات، ووقت العرب من آفات الاضمحلال، وما تم من هذا القبيل في مصر من أعظم ما يسترعي النظر؛ فقد حكم الفرس واليونان والرومان وادي النيل ولم يوفقوا إلى أن يقلبوا المدنية الفرعونية القديمة، وأن يستعيضوا عنها بحضارتهم، أما العرب فكان شأنهم في مصر غير هذا؛ أعربوها وأسلموها، وهناك عوامل أخرى غير سماحة العرب ولطف حكمهم ضمنت لهم النجاح في بث دينهم وما تفرع من أوضاعه، وكانت هذه الأوضاع على غاية السذاجة في أهل الطبقات المتوسطة من الشعوب المغلوبة، وإذا حدث أن هذه الأوضاع لم تلتئم مع تلك الجماعات كان العرب يعمدون إلى تعديلها بحسب الحال، وهكذا كانت الأوضاع الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وإفريقية البربرية ومصر تختلف كل الاختلاف وكتابها واحد وهو القرآن.» ا.ه.
Shafi da ba'a sani ba