طلع القرن
1
الماضي وليس في البلاد العربية من يفكر في شيء اسمه حضارة، وغاية ما فيها آثار بالية من مدنية قديمة، يظنها أهل البلاد كل شيء وما هي به. انقطع سند العلوم، وبطل إعمال الفكر، وهجعت القرائح، حتى لتظنها ميتة، وأصبح ما يقال له علم صبابة من فروع علم الدين واللسان، والناس في غفلة عن الغرب لا يعرفون ما أتاه في نهضته. ضعف في البلاد العربية كل مظهر من مظاهر القوة في الأمم، وأصبح العرب من الجهل بمقومات الحياة في حالة مبكية؛ وكأن نسبة الترقي عند أهل الغرب في تلك الأحقاب، كانت على مقدار التدلي في كل شأن في البلاد العربية.
وبحسبكم أنه لم يبق في القرنين السابقين على قرن النهضة العربية، وهو القرن الماضي، رجل يذكر في باب الهندسة والتصوير والنقش والشعر والإنشاء والخطابة والفلك والكيمياء والطب، ومعظم من يذكرهم المؤرخون ضعاف في فنهم. أصبح كل علم وفن وعمل إلى التدجيل والتفاهة، واستحكمت حلقات الجمود في العقول، وشغل الناس عن الجد بالهزل والفضول، ولا شأن للمؤلفين إلا أن ينسخوا ويمسخوا ويسلخوا ويعدون ذلك علما وفنا، وسقط اعتبار المتفننين والمتشاعرين إلى الدرك الأسفل من المهانة.
وبينا كانت البلاد متدهورة في أعماق هذا الانحطاط جاء نابوليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، يفتح مصر ويحمل في جملة ما يحمله من العدد والعدد، طائفة من علماء فرنسا ونوابغها في الرياضة والهندسة والطب والجغرافيا والفلك والأدب والكيمياء والاقتصاد السياسي والآثار والمعادن وطبقات الأرض والحيوان والنبات وفن المعمار وهندسة الري والقناطر والجسور والميكانيكا، وزمرة من رجال الفنون من المصورين والرسامين والموسيقاريين والنقاشين والمثالين وعددهم «146» عالما ومتفننا. وألف في مدينة القاهرة مجمعا للعلوم والفنون يرمي إلى تقدم العلوم والمعارف في مصر، ودراسة المسائل والأبحاث الطبيعية والصناعية والتاريخية. وأنشأ في المجمع مكتبة تحوي أنفس الكتب التي أحضرت من فرنسا، أو جمعت من خزائن الكتب في مصر، وأنشئوا به معملا للطبيعة والكيمياء وجهزوه بالآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية، وأخذوا يجوبون البلاد؛ فاكتشفوا الآثار وأزاحوا الستار عن عظمة مصر القديمة، ورسموا خرائط مفصلة للبلاد ونيلها وترعها وسواحلها، وبحثوا في طبائع الحيوانات والنباتات والمعادن، ودرسوا مياه النيل وطميه وطبقات الأرض، وجابوا الواحات والبحيرات، وأنشئوا في القاهرة مطبعة أخذت تطبع منشورات نابوليون العربية وجريدة الكورييه ديجيبت والديكاد، وبعض المطبوعات العربية والفرنسية. فأبقى هذا العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف وتصوير إلى اليوم أثرا علميا باهرا، تطأطئ أمامه الرءوس إكبارا وإجلالا.
كان احتكاك المصريين بالفرنسيس أول احتكاك علمي مع الإفرنج في الأرض العربية، وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في تلك الحقبة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وعالم آخر اسمه الشيخ حسن العطار، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر بعد حين، وألف في الفلك والطبيعيات والرياضيات؛ فإن هذين الشيخين وأمثالهما علما بعض علماء حملة نابوليون اللغة العربية وغيرها وتعلما منهم ما لم يكن لهما به عهد من العلوم المادية. واختلط رجال الإدارة والسياسة من أهل مصر برجال الحملة، ونشأ بين الفريقين تعارف. وهكذا عرفت المدنية الفرنسية في هذا الشرق القريب، وظلت وارفة الظلال في بلاد الفراعنة.
وتولى مصر محمد علي الكبير واليها منذ سنة 1805م، فأوحى إليه ذكاؤه النادر أن يقتبس النظم الإدارية الحديثة، وكان مولعا بتمدين مصر؛ فأحضر من مختلف بلاد أوروبا أساتذة وأطباء وصيادلة ومعلمين شيدوا في أماكن اختيرت أحسن اختيار تلك المدارس والمستشفيات في القطر المصري، و«شعر على أميته بأن الملك لا يشيد إلا على أمتن أساس من العلم، وأن العلم الذي تدعم به الممالك ليس هو الذي يسمونه علما في الشرق، إنما هو الذي قامت به المدنية الغربية وشيدت عليه صرح عليائها وقوتها، فأقرت لها الأمم بالغلبة ووقفت أمامها صاغرة ذليلة.»
بدأ والي مصر منذ سنة 1813م يرسل الطلبة المصريين إلى أوروبا، وصرف عليهم من سنة 1826م إلى 1847 «303360» جنيها. وغدا معظم الطلبة الذين تخرجوا بأساتذة الغرب من دعائم النهضة التي تم على يدها إنشاء مصر الحديثة. وأسس أول مدرسة للهندسة في سنة 1231ه/1816م، ثم أسس مدرسة الطب 1342ه/1827م، وكان الكولونيل سيف الإفرنسي الذي دان بعد بالإسلام وسمي سليمان باشا (1819) هو الذي نظم الجيش المصري، وبعد مدة أنشأ ماريت باشا متحف بولاق. ودام علم الفرنسيس يفيض على مصر مدة حكم محمد علي وأسرته، ولو أحصي ما كتبه علماؤهم في مصر من الأسفار، وما رسموا لها من الآثار والمصورات والخطط لبلغ خزانة كبرى، ولا تزال هذه التحفة العظيمة إلى اليوم مرجع الدارسين والباحثين.
قال الدكتور عثمان غالب باشا من علماء مصر الذين شاهدوا تلك الحركة العلمية في إبانها، ثم شاهدوها في انحطاطها وحضروها في تجددها: إن أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى كانوا من الفرنسيس المستعربين؛ يكتب الأستاذ درسه بالفرنسية والمترجم معه ينقله إلى العربية فيلقى على الطلبة بلغتهم، دام ذلك من سنة 1830 إلى سنة 1874. وقد كتب فيها الأستاذ بروجر الفرنسي رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي: إن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين؛ إذ قد أصبح منهم الكفاة الآن، وإن مهمة فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهت أو كادت.
لولا عمل محمد علي في تمدينه مصر لأشرفت حتى اللغة العربية على التلف، على الرغم من وجود جامع الأزهر فيها منذ قرون؛ لأن الأزهر ما كان يعنى بغير المسائل الدينية، واللغة تنقرض إذا لم تكن لغة علم، وهذا ما حاول محمد علي أن يعمله فوفق إليه، وظهرت تباشير إصلاحه بعد عشر سنين من البداءة به. وكان من محمد علي وطريقته المبتكرة في التمدين الذي أقبسه نبهاء أولاد مصر كل ما قرب الأمة المصرية من المدنية الغربية، وكان وادي النيل بجميل صنعه المثال الحي الذي دل به العربي بصورة محسوسة على أن ليس في دينه ما يحول بينه وبين المدنية، وأنه حفيد أولئك الفاتحين العالمين إن نامت فيه زمنا جراثيم النهوض، تدب فيها الحياة عند أقل محرك لها. وفي مصر أنشئت أول مدرسة لتعليم البنات سنة 1873م على عهد إسماعيل الذي أخذ من مدنية الغرب بالكبير والصغير، وفاخر بأن بلاده أصبحت قطعة من أوروبا؛ أي بتمدنها. وكان الخديوي إسماعيل يشبه محمد علي كثيرا ويعنى بالتعليم عناية خاصة.
Shafi da ba'a sani ba