Ra'ayoyin Falsafa A Cikin Rikicin Zamani
آراء فلسفية في أزمة العصر
Nau'ikan
2
وإحياء الدين في العصر الحاضر لا يرجع إلى كشف حجج جديدة، أو دلائل جديدة تبرهن على وجود عنصر وراء الطبيعة، ولا يرجع إلى تحليل أشد عمقا لمنطق العقيدة الدينية. ويتضح من ذلك أن رجال الفكر أكثر انجذابا إلى علوم الدين الصوفية منهم إلى علوم الدين العقلية، وإلى مبدأ الذاتية منهم إلى مبدأ الموضوعية، وإلى ما يروى عما كان يعانيه أوغسطين من تجارب أليمة منهم إلى الحجج الواضحة - وإن تكن معيبة - التي كان يسوقها أكويناس. والقدر الضئيل من الأدلة التي يقحمها رجال الفكر يستمدونها من الشعور، الشعور بالرهبة والسمو، وبالقداسة وضعف الإنسان، وهو شعور يفسر تفسيرا عقائديا بأنه إشارة إلى الألوهية، وبافتراضهم أن هناك حقائق عن طبائع الأشياء، يدركها المرء إدراكا غامضا في كل تجربة غزيرة - بافتراضهم هذا - يقللون من شأن العقل. إن البعث الديني في عصرنا هو في حقيقته جزء من حركة لا عقلية أشمل في الفكر الحديث.
ذلك لأن الإله الذي يبحث عنه رجال الفكر هؤلاء ليس هو علم اللاهوت بمقدار ما هو تسويغ لوجود الله نظرا لانتشار الشر فوق الأرض، وليس مجرد الحق، أو الحق أولا وقبل كل شيء، إنما هو تسويغ واطمئنان.
وفي هذا نجد أقوى مصادر العقيدة الدينية وأكثرها دواما، لا لرجال الفكر هؤلاء فحسب، ولكن لأكثر الناس، وبخاصة في أوقات الأزمات الاجتماعية وكذلك في فترات الأزمات الشخصية. والمذهب الطبيعي - كفلسفة - يكفي لسد جميع حاجات الإدراك المشروعة دون أن يستسلم إلى الغرور بأن الذكاء البشري على كل شيء قدير، وأن جميع المشكلات يمكن أن تحل، ولكن بإدراكه حقيقة الشر والأمور المفزعة التي تمر بخبرة الإنسان، وبقبوله فكرة محدودية الإنسان ومحدودية كل مخلوق وكل قوة، وبرفضه قبول تلك الجهود الساذجة أو العويصة التي تبذل في سبيل تصوير نظام الكون في صورة خلقية، إنه بذلك يعجز عن تقديم ذلك الاطمئنان الذي لا بد منه لرقاق العقول إذا أرادوا أن يكون وجودهم محتملا ذا معنى. وليس ذلك لأن صاحب العقيدة تنقصه الصلابة العقلية التي تدعو إلى إدراك الشر، ولكنه إن أراد ألا يختنق بهذا الشر حتى الممات - كما حدث لإيفان كرامازوف - فلا مناص له من أن يثلم حده القاطع، وأن يتعلم الاعتقاد - على غير أسس عقلية - أنه يؤدي غرضا «أسمى» لا يراه.
والمذهب الطبيعي الذي يقوم على أساس العقل - مهما يكن حصيفا - يدرك أن هناك، بالإضافة إلى الآلام التي تصدر عن عدم المساواة الاجتماعية، تجارب كبرى من خيبة الأمل والحزن والخسران ليس بوسع الإنسان الحساس أن يتفاداها. ويمكن في خير المجتمعات أن يقهر الموت، ولكن المأساة لا تقهر. وليس الرجل الفقير هو الذي سوف يلازمنا دائما، إنما هو «الإنسان السفلي». إن المعرفة العلمية تضاعف القوى البشرية في نفس الوقت الذي تبصرنا فيه بالقلقلة الأساسية في الوجود البشري. وإني أرى - على نقيض ما يرى برتراند رسل - أن نمو العلم لا يؤدي إلى الضلال الديني، أو إلى نقص في التواضع العقلي. لماذا تصبح الدنيا أقل مدعاة للعجب أو أقل إثارة للرهبة، إذا استطعنا ذات يوم أن نثب من كوكب إلى كوكب، أو إذا استطعنا تركيب الخلية الأولى، أو أزلنا الظلام عن عقول المجانين؟
إن المذهب الطبيعي حينما يجيء في حينه لن يكون مثاليا كفيلا بالسعادة لجميع البشر؛ فهو يدرك أن المعرفة والحكمة لا تضمنان الرفاهية، وأنهما لا تستطيعان أن تقللا من آلام الضعاف والمقبوحين والمحرومين من المحبة والصداقة، أو لعلهما لا تستطيعان البتة ذلك. والمذهب الطبيعي لا يستطيع أن يعد بالضمان الشامل، حتى حين يدرك حاجات أولئك الذين يسعون إلى تحقيقه.
ويرى ماكس وبر في مكان ما أن الديانات الكبرى هي تفسيرات للدنيا تحاول أن تجد في الآلام التي ليس لها داع في حياة الإنسان معنى. وإذا كان هذا الرأي لا يحل المشكلة كلها، إلا أني أعتقد أنه يعبر عن شيء لا بد منه في نظر الشخص المتدين، الذي لا بد أن يكون للألم عنده معنى، وأن عمل الخير لن يمنى قط بالهزيمة في النهاية. حقا إن بعض الطبيعيين كانوا متفائلين تفاؤلا سطحيا، وهو شيء من السهل علاجه في ضوء المزيد من المعرفة، غير أن التهمة ليست البتة في موضعها، ومنشؤها أصحاب العقائد الدينية الذين أدت بهم نزعاتهم العاطفية إلى قبول التفاؤل على أوسع نطاق يمكن تصوره.
ومن الطبيعيين من يخالفون زملاءهم؛ لأن بهم ميلا نحو العقائد التقليدية الرقيقة، فهم يأخذون على فلسفة المذهب الطبيعي «فتور الحماسة»؛ لأنه لا يكفي لتحليل عزلة رجل الفكر في العصر الحديث ومشكلاته الخلقية. وضعف الحجة في هذه النظرة يبدو حينما نفكر في أن المذهب الطبيعي الفلسفي لم يبتعد حتى الآن عن فجاجة المادية الناقصة كما هو اليوم. وهذه النظرة لا تفسر لنا لماذا يبدي الرجل المفكر في العصر الحديث الذي يبحث عن الخلاص عزوفا شديدا عن محاولة التفسير العلمي في التاريخ وعلم النفس، ولماذا لا يستعيض عنه بزيادة الإمعان في النظريات العلمية، وإنما يستعيض عنه بالمبالغة في الأساطير، كما تدل على ذلك حماسته لتوينبي؛ فسخطه عاطفي وليس عقليا. أما النقاد الذين يحنون إلى رقة السلوك فيتطلعون إلى المذهب الطبيعي ليمدهم بإيمان يعيشون به يتكافأ مع الإيمان الديني. وذلك بعينه ما لا يستطيع المذهب الطبيعي أن يفعله إذا هو أخلص لوقائع التجربة. إن هؤلاء ينسون أن الإيمان الديني لا يمكن أن ينفصل عن العقيدة الدينية أو اليقين الثابت، ولا يمكن في النهاية أن ينفصل عن قضية الحق، وإلا عبثنا عبثا شديدا بموضوع الأخلاق وموضوع الجمال، أو بحثنا في الموضوع بمصطلحات دينية.
إن فلسفة فورباخ الدينية التي ترى سر اللاهوت في الأنثروبولوجيا الفلسفية، هذه الفلسفة إذا طهرت مما يشوبها من عاطفية، وجدنا فيها بصيرة نافذة. وإن ما فعله ماركس لم يكن إنكار هذه البصيرة، وإنما أراد أن يبين أن الحاجات العاطفية التي تعتبر الدين تعبيرا عنها ومشبعا لها في آن واحد لا يمكن أن تنفصل عن أصلها الثقافي، ولكنه بالغ في الرأي حتى بات على أيدي أولئك الذين يتصورون أنفسهم أتباعا له سخرية مضحكة.
وما دام الدين متحررا من صوره التي تخضع للنظم ولأصحاب السلطان، وما دام لا يتصور إلا على أسس شخصية، وما دامت المبالغة في الاعتقاد فيه مصدرا من مصادر المتعة البريئة، وما دام طريقة نتغلب بها على العزلة في هذا الكون، وما دام تدريبا على العيش مع ما فيه من آلام وشرور وإلا كان العيش غير محتمل ولا علاج له، وما دام ذلك الذي يؤدي عمل الوهم الضروري للحياة أو عمل الأسطورة الشعرية لا يعرض باعتباره حقيقة عامة يعمى عن وجودها البشر، وما دام الدين لا يشل الرغبة والإرادة للكفاح ضد عذابات الخبرة التي لا ضرورة لها؛ ما دام الدين كذلك، فيبدو لي أنه يقع في دائرة يمكن أن نكف فيها عن النقد العقلي. وبهذا المعنى يبرر المرء لنفسه دينه بالطريقة التي يبرر بها لنفسه حبه. ولكن لماذا يريد أن يجعل منه ثقافة عامة؟ ولماذا نطلب إليه أن يبرهن على أن محبوبته هي أجمل المخلوقات في هذه الدنيا؟ وبالرغم من ذلك فلا يزال من الحق أن الدين - باعتباره مجموعة من العقائد المدركة - فرض تأملي درجة الاحتمال فيه ضعيفة إلى أقصى الحدود.
Shafi da ba'a sani ba