Ra'ayoyin Falsafa A Cikin Rikicin Zamani
آراء فلسفية في أزمة العصر
Nau'ikan
ونستطيع أن نقول إن التعقل هو الموقف الذي يقفه المرء مستعدا للإصغاء للحجج النقدية وللتعلم من التجربة، وهو موقف يقر أساسا ب «أني قد أكون مخطئا، وقد تكون أنت مصيبا، ولو بذلنا الجهد فربما اقتربنا من الحقيقة ». وهو موقف لا يتخلى في يسر عن الأمل في أن الناس بوسيلة كوسيلة المحاجة والملاحظة الدقيقة قد يبلغون درجة من الاتفاق على أكثر المشكلات الهامة. وموجز القول أن الموقف العقلي، أو الموقف الذي ربما أطلقت عليه اسم «المعقولية»، شبيه جدا بالموقف العلمي، وبالعقدة بأنا في البحث وراء الحقيقة نحتاج إلى التعاون، وبأنا بمعونة الجدل قد نحقق شيئا يشبه الموضوعية.
وموقف العقلي الذي ينظر إلى الحجة أكثر مما ينظر إلى صاحبها له أهمية بعيدة المدى؛ فهو يؤدي إلى الإيمان بأنه من الواجب علينا أن نعترف بأن كل من نتبادل معه الرأي هو في صميمه مصدر من مصادر الحجة والمعرفة المعقولة. وهو لذلك يضع الأساس لما يمكن أن نصفه ب «الوحدة العقلية للجنس البشري».
أما النظرية اللاعقلية فيمكن تفصيلها على الأسس الآتية: ربما كان اللاعقلي يعترف بالعقل وبالجدل العلمي أدوات تصلح لأن نخدش بها وجه الأمور، أو وسائل تخدم غاية غير معقولة، إلا أنه يصر على أن «الطبيعة البشرية» ليست في أساسها معقولة. وهو يعتقد أن الإنسان أكثر من حيوان عاقل، وهو كذلك أقل من حيوان عاقل. ولكي نرى أنه أقل من حيوان عاقل يكفي أن ننظر إلى قلة عدد الأفراد القادرين على الجدل. وهذا هو السبب - طبقا لما يراه اللاعقليون - في أن أكثرية الناس يجب أن تعالج دائما بمناشدة عواطفهم وميولهم ، أكثر مما تعالج بمناشدة عقولهم. بيد أن الإنسان هو كذلك أكثر من حيوان عاقل، ما دام كل ما يهم فعلا في حياته يتجاوز العقل، فحتى القلة من العلماء الذين يأخذون العقل والعلم مأخذ الجد إنما يتعلقون بنظرتهم العقلية لأنهم يحبونها؛ ومن ثم ترى أن تكوين الإنسان العاطفي دون عقله - حتى في هذه الحالات النادرة - هو الذي يحدد نظرته. كما أن العالم العظيم - فوق ذلك - إنما يتميز ببداهته وبما لديه من بصيرة صوفية في طبائع الأشياء أكثر مما يتميز بما لديه من قدرة على التعليل والاستدلال. ومن ثم فإن المذهب العقلي لا يستطيع أن يقدم تفسيرا كافيا حتى لنشاط العالم الذي يبدو نشاطا عقليا، ولكن ما دام الميدان العلمي هو أصلح مجال للتفسير العقلي، فلا مناص من أن نتوقع للمذهب العقلي أن يكون أشد فشلا حينما يحاول أن يعالج ميادين النشاط الإنساني الأخرى. ويتابع اللاعقليون حجتهم فيقولون: إن هذا التوقع جد صحيح؛ ولو تركنا جانبا الأوجه الدنيا من الطبيعة البشرية، فقد نرنو إلى أحد الأوجه العليا، إلى أن الإنسان قد يكون خلاقا، وإنما هي تلك القلة الخلاقة من الناس التي تهم في الواقع. إن أولئك الذين يبدعون الآيات الفنية أو الفكرية أو أولئك الذين أسسوا الديانات والدول، هؤلاء الأفراد القلائل الأفذاذ يتيحون لنا أن نرمق عظمة الإنسان الحقيقية. وبالرغم من أن قادة الجنس البشري هؤلاء يعرفون كيف يستخدمون العقل في أغراضهم، فإنهم لم يكونوا قط من رجال العقل، وإنما تمتد جذورهم إلى أعمق من ذلك؛ فالخلق قدرة غامضة لا تنطبق البتة على العقل.
إن التردد بين العقل واللاعقل قديم جدا. وبالرغم من أن الفلسفة الإغريقية بدأت عملا عقليا، فقد كانت هناك بعض علامات التصوف حتى في بدايتها. ففي الطريقة الإغريقية العقلية في أساسها نلمس ذلك التطلع إلى الوحدة المفقودة والشعور القبلي الذي يعبر عن نفسه في هذه العناصر الصوفية. ونشب الصراع المكشوف لأول مرة في العصور الوسطى بين العقل واللاعقل في صورة التعارض بين مذهب المدرسيين ومذهب الصوفيين (وربما كان مما يثير الاهتمام أن المذهب العقلي ازدهر في الأقاليم الرومانية السابقة، في حين أن الرجال القادمين من البلدان «البربرية» كانوا من المبرزين بين المتصوفين). وفي القرن التاسع عشر حينما كان تيار «المادية» العقلية في الصعود، اضطر اللاعقليون إلى الالتفات إليها، وإلى أن يجادلوها. غير أن التيار قد ارتد، وأمست «الإشارات والرموز ذات الدلالة العميقة» - كما يقول كانت - هي الاتجاه الجديد في هذا العصر. وأنشأ المذهب اللاعقلي المبهم الاتجاه نحو إهمال فكرة وجود كائن منحط عقلي، أو على الأقل الرثاء لهذا الكائن إن وجد (وأخص من أرباب هذا المذهب برجسن وأكثرية الفلاسفة وأصحاب الفكر من الألمان). فهؤلاء يرون أن العقلي - أو «المادي » كما يقولون في أغلب الأحيان - والعالم العقلي خاصة، هو رجل فقير في روحه، يتابع ألوانا من النشاط لا روح فيها، آلية إلى حد كبير، لا يعي البتة مشكلات الحياة والفلسفة التي هي أشد عمقا. ويرد العقليون عادة بنبذ اللاعقل باعتباره عبثا خلوا من كل معنى. ولم يحدث قط أن كان الخلاف على أتمه كما هو الآن. ⋆ (1-2) الإيمان بالعقل
إنني - في هذا الصدد - أنضم إلى جانب العقل بكل جوارحي، حتى إنني حينما أحس أن التعقل قد جاوز حدوده أظل مؤيدا له، مؤمنا بأن المبالغة في هذا الاتجاه لا تؤذي حقا إذا هي قورنت بالمبالغة في الاتجاه الآخر. وفي رأيي أن الطريقة الوحيدة التي يحتمل أن تبرهن بها المبالغة في التعقل أنها ضارة مؤذية هي أنها تميل إلى أن تضعف موقفها بنفسها؛ ومن ثم تسارع برد الفعل من جانب اللاعقليين. وهذا الخطر وحده هو الذي يدفعني إلى بحث مزاعم العقليين المغالين بصورة أدق، فأدعو إلى تعقل متواضع ناقد لنفسه يعترف ببعض الحدود التي يقف عندها؛ ومن ثم فسوف أميز فيما يلي بين موقفين عقليين، أسمي أحدهما «التعقل الناقد»، وأسمي الآخر «التعقل غير الناقد» أو «التعقل الشامل».
ويمكن وصف التعقل غير الناقد أو الشامل بأنه ذلك الموقف الذي يقفه الشخص الذي يقول: «إنني على غير استعداد لأن أقبل أي أمر لا يمكن الدفاع عنه بالحجة أو بالتجربة.» ويمكن أن نعبر عن ذلك أيضا في صورة قاعدة تقول بأن كل فرض لا يمكن أن يؤيد بالحجة أو بالتجربة يجب نبذه والتخلي عنه. ومن اليسير أن نتبين أن هذه القاعدة - قاعدة التعقل غير الناقد - متناقضة لا اتساق فيها؛ لأنها ما دامت بدورها لا تستطيع أن تجد التأييد عن طريق الحجة أو الخبرة، فإنها تتضمن في معناها وجوب نبذها ... فالتعقل غير الناقد هو لذلك غير متماسك من الناحية المنطقية، وما دامت الحجة المنطقية المطلقة يمكن أن تبرهن على ذلك، فالتعقل غير الناقد يمكن أن ينهزم بسلاحه الذي اختاره، وهو الحجة.
تتميز النظرة العقلية بالأهمية التي تعزوها إلى الحجة والتجربة. غير أن المنطقية والتجربة كلتيهما لا تستطيعان أن تقيما القاعدة العقلية؛ لأنه لا يتأثر بهما إلا أولئك الذين هم على استعداد للنظر في الحجة والتجربة، والذين أخذوا - لذلك - بهما من قبل. ومعنى ذلك أن النظرة العقلية يجب أن يؤخذ بها أولا إذا كنا نريد لأية حجة أو تجربة أن تكون ذات أثر؛ ومن ثم فإن النظرة العقلية لا يمكن أن تقوم على أساس الحجة والتجربة (وينفصل هذا الاعتبار كل الانفصال عن هذه المشكلة: هل توجد، أو لا توجد، حجج عقلية مقنعة تؤيد الأخذ بالنظرة العقلية؟) ونستنتج من ذلك أن النظرة العقلية لا يمكن أن تقوم على أساس الحجة أو التجربة، وأن التعقل الشامل أمر لا يمكن الدفاع عنه.
غير أن ذلك يعني أن كل من يأخذ بالنظرة العقلية إنما يفعل ذلك بعدما يتخذ قرارا، أو عقيدة، أو عادة، أو مسلكا، بغير تعليل؛ ومن ثم فإنه لا سند له من العقل. وأيا كان الأمر، فإنا نستطيع أن نصف هذا الموقف بأنه «إيمان بالعقل» لا يستند إلى العقل.
وليس الاختيار الذي نحن بصدده مجرد أمر يتعلق بالفكر أو يتعلق بالذوق، إنما هو قرار أخلاقي؛ لأن اختيارنا بين أن نأخذ بصورة من صور اللاعقل على أية درجة من درجات القوة، وبين أن نأخذ بنظرية التنازل للاعقل بأدنى حد ممكن، وهو ما أسميته «التعقل الناقد» - هذا الاختيار يؤثر أعمق الأثر في موقفنا بأسره إزاء الآخرين وإزاء مشكلات الحياة الاجتماعية. وقد بينا من قبل أن التعقل وثيق الصلة بالاعتقاد في وحدة الجنس البشري. أما اللاعقل الذي لا يخضع لأية قاعدة من قواعد الثبات فقد يتفق مع أي لون من ألوان العقيدة، حتى مع العقيدة في إخاء الإنسان. غير أن إمكان اتفاقه في يسر مع عقيدة مختلفة جد الاختلاف، وبخاصة مع العقيدة الخيالية في وجود هيئة مختارة عندما يقسم الناس إلى قادة ومقودين، إلى سادة بالطبيعة وعبيد بالطبيعة، هذا الإمكان يبين في جلاء أننا عندما نختار بين العقل واللاعقل نصدر ضمنا قرارا أخلاقيا .
إن الحجج لا يمكن أن «تحتم» قرارا أخلاقيا أساسيا، ولا يعني هذا أن اختيارنا لا يمكن أن «يستعين» بأي نوع من أنواع المحاجة، بل على العكس من ذلك، إننا كلما نواجه قرارا أخلاقيا من نوع أكثر تجريدا، يعيننا كثيرا تحليل النتائج التي يحتمل أن تترتب عليها الأمور المتناقضة التي يتحتم علينا أن نختار من بينها؛ لأننا لا نعرف حقا فيم القرار إلا إذا استطعنا أن نشهد بأعيننا هذه النتائج بطريقة حسية عملية، وإلا أصدرنا قرارا أعمى. ⋆
Shafi da ba'a sani ba