Aqwam Masalik
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Nau'ikan
وأما الطبقة المنتهية فمنهم من يتعلم بالمكاتب العالية ومنهم من يحضر مجامع مدرسي العلوم والإنشاء الذين يجيزون الطلبة بعد امتحانهم بحضرتهم. والمجامع المشار إليها مشتغلة بدراسة العلم الإلهي وأحكام النوازل وصناعة الإنشاء ونحو ذلك، وتتنوع إلى خمسة أصناف: أحدها يحتوي على ثمانية مجامع وظيفتها تعليم العلم الإلهي، ستة منها على مقتضى العقيدة الكاثوليكية، واثنان على مقتضى العقيدة البروتستانية، ومن شعب هذا العلم عندهم فروض الديانة وعلم الأخلاق ونظام الكنيسة والكتاب الموصوف عندهم بالمقدس واللسان العبراني. والصنف الثاني: يحتوي على تسعة مجامع وظيفتها تدريس علم النوازل المنقسم عندهم إلى القواعد العمومية وأحكام الرومان، والقانون المدني وأحكام الجنايات وأعمال المجالس وقياس العقوبات بأحكام البلدان والقانون المتجري وأحكام الإدارة العمومية وأحكام ما يقع بين الأمم والأحكام الفرنساوية. والصنف الثالث: يحتوي على ثلاثة مجامع وظيفتها دراسة علم الطب المتناول للتشريح وتركيب الحيوان وتاريخ الطبيعة المتعلق بالطب، وقانون الصحة ومعرفة الأمراض الظاهرية والباطنية وكيفية المعالجة ومواد الأدوية وعلاج الجراحات وأحوال الولادة، وهناك مكاتب كبار لتعليم كيفية تركيب الأدوية، ومكاتب أخرى للاستعداد لتعاطي فن الطب. والصنف الرابع: يحتوي على مجامع وظيفتها دراسة علوم مختلفة كعلم الهيئة والفلك وعلم الجبر والمساحة وعلم المكنيك؛ أي التصرف بالآلات كجر الأثقال، وعلم استعمال الآثار الطبيعية كالتصوير بالمرآة، وعلم الكيمياء وعلم طبيعة الأرض والنبات وتركيبه، وعلم طبائع الحيوانات. والصنف الخامس: يحتوي على مجامع وظيفتها تعليم الإنشاء وسائر العلوم الأدبية وعلم الفلسفة وتاريخها وآداب اليونان والشعر اللاتيني والفرنساوي وآداب الأجانب والنحو والتاريخ قديمه وحديثه والجغرافيا. وهناك مكاتب للاستعداد للفنون المذكورة ويقرأ فيها تاريخ فرنسا كالجغرافيا الطبيعية والسياسية وعلم الرسم. ومن عوائدهم أن يختموا كتبهم في المكتب العالي المشتهر بمكتب فرنسا، وهناك مكتب لتعليم الألسنة المشرقية، ومحل مخصوص بتعليم أخذ الأطوال ، ومحل الرصد السلطاني بباريس، والمحل المعد لوضع الحيوانات المصبرة على اختلاف أنواعها وأنواع الأحجار، والمكتب السلطاني المعد للخريطات الجغرافية ومكتب البوزار؛ أي الصناعات المستظرفة ومكاتب أعمال اليد ومكتب التصوير السلطاني ومحل تعليم قواعد الموسيقى ومكتب تعليم مخاطبات التياطرات، وجميع المكاتب المشار إليها تحت رعاية وزير المعارف، وما عداها من المكاتب الخصوصية فإنها وإن كانت خارجة عن دائرة الإدارة العمومية إلا أنها لا تخرج عن دائرة المراقبة، حيث يجب تفقدها فيما يتعلق بتهذيب الأخلاق وحفظ الصحة وموافقة التعليم لمقتضى قوانين البلد.
ثم إن هناك خمس جمعيات من كبار علمائهم يسمى كل منها ب «الأكدمية»، وتسمى الجمعية الأولى أكدمية فرنسا والثانية أكدمية الخطوط القديمة والثالثة أكدمية العلوم والرابعة أكدمية البوزار والخامسة أكدمية السياسة وتهذيب الأخلاق. فوظيفة الجمعية الأولى: الاعتناء بتصفية اللغة وتحرير أوضاعها. ووظيفة الثانية: تحرير الأقلام القديمة واستخلاص الألسنة العلمية والنظر في الهياكل القديمة والتواريخ. ووظيفة الثالثة: نشر رسائل في سائر أنواع العلوم، وهذه الجمعية بمثابة مجلس لتحرير سائر العلوم. ووظيفة الرابعة: النظر في أحوال الأبنية والأدهان والنقش والتصوير والموسيقى، وهذه الجمعية هي التي تعين من يستحق الدخول في مكتب البوزار. ووظيفة الخامسة: النظر في أحوال علوم الفلسفة والأحكام والحقوق العامة والإكونومي بوليتيك؛ أي الاقتصاد السياسي، والاستاتستيك وتاريخ الفلسفة العمومي والإدارة السياسية والمالية. ولكل من هذه الجمعيات تعيين جوائز المؤلفين من مقدار مال أو نيشان من الصنف المعروف عندهم بالمداليا، والجوائز تارة تكون من الدولة وأخرى من بعض أعيان البلد ترغيبا في الاختراع.
وهناك مكاتب أخرى لتعليم سائر العلوم والفنون الحربية البرية والبحرية، وجمعيات أخرى وظيفتها الإعانة في أسباب التقدم في المعارف والفلاحة وسار الصنائع، منها: جمعية الطب وإدارة الموزيات السلطانية وجمعية الترغيب في الصناعات الأهلية والجمعية السلطانية المركزية في الخضر والنباتات المتكفلة بجلب غير الموجود منها من سائر الأقطار وتدبيره بما يكون سببا في بقائه عندهم، حتى صار بهذه الواسطة يوجد عندهم غالب ما يوجد في سائر المعمور، وجمعية في الجغرافيا وأخرى في بنية الكرة الأرضية، وأخرى في حوادث الجو والآثار القديمة وأحوال الأمم، وأخرى في خصوص أحوال آسيا، وأخرى في الاقتصاد السياسي، وأخرى في مبادئ العلوم، وأخرى في الجراحات، وأخرى في تركيب الأسنان، وأخرى في تواريخ فرنسا، كما أن بإيالات فرنسا كثيرا من هذه الجمعيات. ويوجد كثير من المدارس لتعليم كيفيات التصوير وأعمال اليد، وهناك مكاتب تتعلق بالمعادن، ومكتب كبير لأصول التجارة وأماكن خصوصية لذلك تحت رعاية الدولة، وثلاثة مكاتب سلطانية لتعليم البيطرة ومثلها لتعليم فنون الفلاحة، واثنان وخمسون جريبا لامتحان قواعد الفلاحة. والعارفون بقواعد الفلاحة متوزعون في بلدان المملكة، ومن مكاتب الفلاحة ما هو دائم التعليم، ومنها ما لا يفتح إلا في أوقات مخصوصة، ومن تاقت نفسه إلى تفاصيل العلوم والفنون المشار إليها فعليه بمطالعة الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من رحلة العالم البارع الشيخ رفاعة أحد علماء مصر المسماة ب «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز»، فقد كشف فيها الغطاء عن تدبير الأمة الفرنساوية التي رفعت راية التمدن وأجاد في ذلك وأفاد.
ومن آثار اعتنائهم بتوسيع دوائر العرفان الذي هو أساس التمدن والتهذيب لنوع الإنسان كثرة خزائن الكتب الجامعة لسائر الفنون، وتسهيل طرق الانتفاع بها بحسن الإدارة والترتيب الحاسم لمواد العوائق، كما يتضح ذلك بالتفصيل الآتي، ولنقتصر في بيان كثرة الكتب بالبلدان الأوروباوية المعتبرة على ما حرره نتالي وزير المعارف العمومية بإيطاليا بعد تمام بحثه عن ذلك سنة سبع وستين وثمانمائة وألف، فذكر أن الموجود بخزائن إيطاليا من الكتب المجلدة أربعة ملايين ومائة وأربعون ألفا ومائتان وواحد وثمانون مجلدا غالبها من الكتب القديمة المتعلقة بالديانة، وبخزائن بريطانية العظمى مليون وسبعمائة وواحد وسبعون ألفا وأربعمائة وثلاثة وتسعون مجلدا، فيكون لكل مائة نفس من الأهالي ستة مجلدات، وعلى قياس هذه النسبة يكون لكل مائة نفس من أهالي إيطاليا أحد عشر مجلدا وسبعة أعشار المجلد. ويوجد ببلاد النمسة مليونان وأربعمائة وثمانية وثمانون مجلدا، وبالنسبة للأهالي يكون لكل مائة نفس ستة مجلدات وتسعة أعشار المجلد. ويوجد بالبروسية مليونان وأربعون ألفا وأربعمائة وخمسون مجلدا، فيكون لكل مائة نفس من أهاليها أحد عشر مجلدا. وفي الروسية ثمانمائة ألف واثنان وخمسون ألف مجلد، فيكون لكل مائة من أهاليها مجلد واحد وثلاثة أعشار المجلد. وفي البلجيك خمسمائة ألف وتسعة آلاف ومائة مجلد، فيكون لكل مائة من الأهالي عشرة مجلدات وأربعة أعشار المجلد. وفي باواريا مليون ومائتان وثمانية وستون ألفا وخمسمائة مجلد، فيكون لكل مائة من أهليها ستة وعشرون مجلدا وخمسا المجلد. كما يوجد بفرنسا أربعة ملايين وثمانمائة وتسعون ألف مجلد، فيكون لكل مائة من أهاليها أحد عشر مجلدا وسبعة أعشار المجلد (فهي مثل إيطاليا، قال): وبهذه النسب يظهر أن مملكة باواريا أكثر كتبا من غيرها بالنسبة إلى عدد الأهالي، وإن كان الموجود بفرنسا لا يوجد بغيرها من الممالك. وفي مدينة باريس وحدها ثلث العدد الموجود بمملكة فرنسا كلها، ففي «قاموس العلوم» المؤلف في هذه السنين الأخيرة أن الخزانة السلطانية بباريس بها من الكتب على ما تحرر في سنة ثلاث وستين وثمانمائة وألف مليون كتاب مطبوع وثمانون ألفا بخط اليد، وغاية ما كان بها وقت تأسيسها في سنة ثمانين وثلاثمائة وألف تسعمائة وعشرة مجلدات، وصار بها في سنة سبع وأربعين وخمسمائة وألف ألف وثمانمائة وتسعون مجلدا، ثم في سنة أربعين وستمائة وألف صار مقدار ما بها ستة عشر ألفا وسبعمائة وستة وأربعين مجلدا، وفي سنة أربع وثمانين وستمائة وألف صار قدر ما بها خمسين ألفا وخمسمائة واثنين وأربعين مجلدا، وفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة وألف صار بها مائة وخمسون ألف مجلد، وفي سنة تسعين وسبعمائة وألف صار بها مائتا ألف مجلد، واليوم بها مليون من الكتب المطبوعة وثمانون ألفا بخط اليد كما تقدم، كما بها أربعون ألف خريطة في فن الجغرافيا وعدد كثير من الرسائل ونحوها مما لا يطلق عليه اسم المجلد.
وبهذا التفاوت الكبير الواقع في مواد المعارف يعلم مقدار تأثير الحرية في الممالك، فإنا نرى الخزانة المذكورة في مدة أربعمائة وعشرة أعوام من مبتدأ تأسيسها الذي هو سنة ثمانين وثلاثمائة وألف إلى سنة تسعين وسبعمائة وألف لم يتحصل بها إلا مائتا ألف مجلد، ومن ذلك التاريخ الذي هو مبدأ الحرية بفرنسا إلى سنة ثلاث وستين وثمانمائة وألف التي هي تمام أربع وسبعين سنة، من ذلك الوقت ازداد في الخزانة المذكورة ثمانمائة وثمانون ألف مجلد دون ما لم يمكن حصره من الرسائل المشار إليها، وعلى هذا يقاس سائر أسباب التمدن. ويوجد بباريس ثلاثون خزانة سوى الخزانة المذكورة متفاوتة في الكبر، كما توجد خزائن معتبرة في سائر تخوت الممالك.
وأما بيان حسن إدارتها المسبب لغاية سهولة الانتفاع بها فهو أن أماكن الخزائن المشار إليها تفتح كل يوم قدر خمس أو ست ساعات، ومنها ما يفتح بالليل أيضا قدر ثلاث ساعات، وذلك فيما عدا يوم الأحد وأيام الأعياد التي لا تتجاوز مدتها شهرا في السنة وأيام التسريح للاستراحة، وإنما تفتح في سائر الأيام للطلبة الراغبين في الاستفادة، وأما الذين يأتون بقصد مجرد الاطلاع فلا يسوغ لهم ذلك إلا في يومين من الأسبوع. وللخزائن المشار إليها نظار وخدمة بقدر الكفاية، وحولها بيوت للتعلم تسخن في الشتاء، وهي محتوية على آلات الكتابة عدا الكاغد فيأتي به مريد الاستنساخ، ويطلب من المكلف الكتاب الذي يريده ببطاقة يدفعها إليه، وإذا احتاج إلى أكثر من كتاب يبين السبب فيها فيدفعها المكلف للخدمة فيحضر له في الحين ما طلب، وحين خروجه من ذلك المحل يسلم للمكلف ما أخذه من الكتب. وهذه المنحة مبذولة لكل راغب سواء كان من الأهالي أو الأجانب، أما من كان من المؤلفين المشهورين فيسوغ له نقل الكتب للانتفاع بها في مهلة أقصاها عام إذا طلب ذلك بالكتابة وبين السبب الداعي لأخذ الكتاب، وعند مضي المدة إما أن يرجع ما أخذ أو يطلب تجديد التسويغ مدة أخرى.
ومما يناسب سوقه هنا اعتناؤهم بأسباب تهذيب أبناء العائلة الملكية وتوسيع دائرة معارفهم، ولا شك أن ذلك من الأصول المعتبرة النافعة في إدارة المملكة غاية النفع، فنقول: من عادتهم أن من يبلغ من أبناء العائلة سن التربية ينتخب له رئيس تلك العائلة معلمين مهرة يعلمونه من فنون العلم ما يناسب حاله، والمراد منه من كل ما يهذب أخلاقه ويوسع في المعارف نطاقه، فإذا بلغ من التعلم أشده يوجه إلى الممالك الأجنبية لمشاهدة أحوالها ومطالعة سياستها وأحكامها وما لها من التقدم في العمران وغيره؛ ليتحقق بالمشاهدة ما بينها وبين بلاده من التفاوت ليعتبر أسباب ذلك وقت مباشرته لسياسة المملكة، فيتجنب ما تأخرت به بلاده إن رأى غيرها خيرا منها، ويعتني بما تقدمت به إن رآه دونها، فإذا بلغ من العمر نحو ثمان عشرة سنة يصير من أعضاء المجلس الأعلى يحضره ولا يكون له كلام فيه إلا إذا بلغ من العمر خمسا وعشرين سنة، وفائدة ذلك التدرب على الأمور السياسية ومثافنتها حتى يستكمل الملكة فيها مع ما يحصل له بذلك من الخبرة بطبقات رجال السياسة المتأكد معرفتها على من يترشح للرئاسة التي هي أعظم الخطط البشرية وأصعبها، فيجب على متقلدها من الاستعداد والمعرفة بمقتضيات الأحوال المختلفة ما لا يجب على غيره، لا سيما معرفة أهل الخبرة والمروءة والنجدة من رجال المملكة لينتخبهم للخطط المعتبرة مع التفطن لدسائس الحساد والمفسدين، فإن المطلوب من الملوك ليس هو مجرد فصل النوازل الشخصية كما هو مشاهد في بعض الممالك الإسلامية، ولا مباشرة جزئيات الإدارة التي يمكن إجراؤها بغيرهم من المتوظفين، وإنما المطلوب منهم النظر في كليات الأمور من معرفة الرجال اللائقين بالخطط وامتحانهم وتعقبهم بالمراقبة لإرشاد جاهلهم وزجر متجاهلهم، وتفقد أحوال الرعايا والإعانة على تكثير الصنائع والعلوم الموصلة إلى تهذيب الأخلاق ونمو الأرزاق، والعناية بتنظيم العساكر البرية والبحرية وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة لحفظ الدين والوطن، وإصلاح أحوال الخلطة السياسية والمتجرية مع الدول الأجنبية بما ينمو به عز المملكة وثروتها، إلى غير ذلك من الكليات، فإن سعادة الممالك وشقاوتها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من ذلك، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها.
نقل عن المؤرخ بوليبيوس اليوناني - الذي تكلم على سياسة الأمة الرومانية وما وقع بينها وبين أهل قرطاجنة من الحروب - أنه قال في معرض الاستدلال على أن المباشر للأمر يلزمه أن يكون عارفا بأصوله ما معناه، إذا كان المريض لا يرتجى له حصول العافية على يد طبيب يجهل نوع المرض والدواء المناسب له، فكذلك المملكة لا يرجى خيرها واستقامتها إذا كان وزراؤها المباشرون يجهلون أصول سياستها وقوانين شرائعها وعاداتها. ولا يخفى أن حصول خير المملكة إذا كان يمتنع بسبب الجهل بأصول السياسة، فامتناعه - إذا انضم لذلك عدم وجود تلك الأصول بالكلية - أحرى وأولى؛ لأن السبب في الحالة الأولى دائر بين الجهل والتجاهل وكلاهما أمر عارض تمكن إزالته بتبديل المباشرين أو إرشاد جاهلهم وإلزام متجاهلهم بالجريان على الأصول المحفوظة، أما إذا لم يوجد من تلك الأصول شيء يرجع إليه وسند مضبوط يقع التعويل عند الاشتباه عليه، فإن هاته الحالة يتسع فيها مجال الأغراض والشهوات من الآمر والمأمور، وربما يئول أمر الدولة إلى الاضمحلال والدثور، ولله عاقبة الأمور.
هذا، ولما تضمن ما أوردناه في هذا المجال الإشارة إلى أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروباوية رأينا من المتأكد بيان معنى الحرية عرفا لدفع ما عسى أن يقع من الالتباس فيها.
فنقول: إن لفظ الحرية يطلق في عرفهم بإزاء معنيين؛ أحدهما: يسمى الحرية الشخصية، وهو إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وبالجملة فالقوانين تقيد الرعاة كما تقيد الرعية. والحرية بهذا المعنى موجودة في جميع الدول الأوروباوية إلا في الدولة البابوية والدولة المسكوبية؛ لأنهما مستبدتان، وهما وإن كانتا ذواتي أحكام مقررة إلا أنها غير كافية لحفظ حقوق الأمة؛ لأن نفوذها موقوف على إرادة الملك. المعنى الثاني الحرية السياسية: وهي تطلب الرعايا التداخل في السياسات الملكية والمباحثة فيما هو الأصلح للمملكة على نحو ما أشير إليه بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه؛ يعني انحرافا في سياسته للأمة وسيرته معها. ولما كان إعطاء الحرية بهذا المعنى لسائر الأهالي مظنة لتشتيت الآراء وحصول الهرج عدل عنه إلى كون الأهالي ينتخبون طائفة من أهل المعرفة والمروءة تسمى عند الأوروباويين ب «مجلس نواب العامة» وعندنا بأهل الحل والعقد، وإن لم يكونوا منتخبين من الأهالي، وذلك أن تغيير المنكر في شريعتنا من فروض الكفاية، وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الطلب به عن الباقين، وإذا تعينت للقيام به جماعة صار فرض عين عليهم بالخصوص. ومجلس النواب المشار إليهم موجود في سائر الممالك الأوروباوية ما عدا المملكتين المتقدم ذكرهما، وله أن يتكلم بمحضر الوزراء وغيرهم من رجال الدولة بما يظهر له في سيرة الدولة من استحسان وضده وغير ذلك من المصالح العمومية كما يأتي:
Shafi da ba'a sani ba