محال أن يكون قد ولد في ذلك الحي الراقي؛ فهو يعرف جيدا أن أباه كان موظفا بسيطا، طالما احتال على العيش بمرتبه المتواضع، واستدرك فكره تلاحق الخواطر ... فاستبعد هذه الاستحالة، وتذكر أن عمره الآن ثلاثون عاما، مدة لا يعيشها حي من أحياء مصر على حال واحد من العزة أو الهوان، ولعل هذا الحي الراقي هو الحي الذي كان يعيش فيه أبوه مع عشرات أنصاف الأحياء من صغار الموظفين والعمال، وأحس أنه في شوق لأن يفعل كما كانت تفعل أمه كلما حاولت - لفرط طيبتها - أن تشكر القدر على ما سمح لهم به من فتات النعمة.
كانت ترفع يدها إلى فمها وتقبلها ظهرا لبطن، ولعله فعل ذلك؛ رفع يده ولثم راحتها وأدارها ليلثم ظهرها، فوقفت يده على حافة فمه، وارتفعت إلى عينه لتمسح ذرة من غبار تعلقت بأجفانه، وطافت الخواطر، وترك القطار أحياء المدينة، ومضى ينساب في الوادي الأخضر، وجعلت خواطره بدورها تنساب في وادي عمره الماضي، وتذكر حين أمسك بخواطره، وقد اصطدمت عند يوم أليم من عمره، يوم فقد أمه الطيبة الرءوم، وحين ارتطم القطار بدوره بجاموسة فتعطل في سيره لحظات. تذكر ما قرأه منذ زمن لكاتب كان يعجب به في فورة الصبا، ومن أن الحياة رحلة قطار تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، رحلة بين مدينتي العدم. وبدأ القطار يعاود سيره، وبدأت خواطره تقفز من الذكرى الأليمة إلى ذكريات مشرقة، ولذت له المقارنة بين الرحلتين؛ رحلة القطار السائر من مصر إلى الإسكندرية، ورحلة حياته هو منذ أن ولد إلى اليوم. لعله اليوم يقطع من عمره ما سوف يقطعه القطار بين طنطا ودمنهور، ترى كم يمر بالقطار من عقبات كتلك الجاموسة؟! وترى كم يمر به هو من صدمات؟! وتمتمت شفتاه بعد حين، وهو يودع الخواطر متعجبا، ويعود ببصره إلى ما حوله في الصالون: غريبة!
وتوقفت عيناه!
وتوقف لسانه!
وتوقفت الخواطر!
ومرت فترة قبل أن يعود كل شيء إلى الحياة والجريان، حتى إذا استطاع أن يحرك لسانه، وجد نفسه يتمتم في سريرته فقط بنفس اللفظ: غريبة!
لم يكن الصالون خاليا كما توهم، لم يكن هو الراكب الوحيد فيه! كان في المقعد المقابل في أقصى اليمين إنسان آخر، هو امرأة، لا يدري متى دخلت إلى الصالون، وكيف لم يحس بها، وكيف مرت تلك الفترة الطويلة دون أن يراها!
وعراه الارتباك، وأخذ يذكر ما فعل منذ لحظات، هل رأته وهو يرفع يده إلى فمه؟ هل سمعته وهو يتمتم لاهيا بأغنية يصاحب بها خواطره؟ هل فعل شيئا غير ذلك؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب.
وراعته النظرة الثانية التي ألقاها في حذر على الوجه الماثل أمامه؛ إنها امرأة جميلة! جميلة إلى أقصى حد! تفصح ثيابها عن ذوق دقيق، وتنطق عيناها بروح صافية، وشفتاها، يا للعجب! إنهما تفتران عن ضحكة خفيفة، بل مجرد ابتسامة هادئة.
وأطال التحديق معتمدا على انشغالها بتصفح مجلة، وحاول أن يستشف شيئا وراء هذا الوجه فلم يفز بطائل. وأحس أنه أطال التحديق، فأمسك بالصحيفة التي معه وراح يقلب صفحاتها دون أن يقرأ شيئا، وأدرك أنه يخادع نفسه حين يصرف دقيقة واحدة في غير النظر إلى هذا الوجه؛ فطوى المجلة في عنف، ورفع رأسه و... ووجد نفسه وجها لوجه أمامها، يطيل التحديق في عينيها المصوبتين إليه، فلا يرى شيئا إلا هاتين العينين وتلك الابتسامة، واستطاع في هذه المرة أن يطمئن إلى أنه لم يفعل ما تأخذه عليه الفتاة، واستطاع أكثر من ذلك أن يطمئن إلى أنها لا تشعر بالضيق من نظراته، بل لعلها ترحب بهذه النظرات، ولعلها لن تصدف عن الحديث.
Shafi da ba'a sani ba