واعلم - سلمك الله - أن من يتألمون لألم أمتهم لا يبيعون ضمائرهم، ويسخرون أقلامهم وقوافيهم للأجانب المسيطرين؛ وهم السبب الأكبر في بلاء الأمة وشقائها.
هؤلاء الشعراء يبكون وينوحون إما تقليدا؛ لأن بدويا في قديم الزمان بكى الأطلال والدمن - وإما تمويها؛ لأنهم تعلموا في المدارس أن الشعر من الشعور - فقط - وأن أشد حالات الشعور في الشعر - هي الدموع، أما المخلصون منهم فقلما يندبون غير حظهم، وقلما يتألمون لغير أنفسهم، وإنك إذا زجرتهم أو حاولت أن تنقذهم من تقاليد هم فيها وأوهام يصيحون صيحة المجروح، ويئنون كالمقروح أنات طويلة مزعجة.
هو ذا داء الأنانية بعينه، وليس للمجتمع ولا للدهر يد فيه، إنه من النفس المشغوفة بنفسها وبألمها، إنه من الغرور الذي هو عند الشعراء الأنانيين بعد الشهرة خير تعزية، بل هو سلاحهم على الدهر الغدار الميان، وبرهانهم الأكبر على جور الزمان، وقد قال شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء:
نشكو الزمان وما أتى بجناية
ولو استطاع تكلما لشكانا
وعلى ذكر أبي العلاء أقول: إن الشاعر الذي ترفعه الآلام في سلمها إلى الدرجة العليا يرى الشمس مشرقة فوق الغيوم، ويرى الظلال الخضراء في قلب البوادي المهلكة.
الشاعر الصغير أيها القارئ العزيز يتألم ويبكي، ويدخل على قلبك شيئا من عذوبة قوافيه فتطرب لصناعته، وقلما تأسف على حاله.
والشاعر الكبير يتألم ويصف الألم وصفا يؤلمك، ويهيج فيك الغضب والنقمة، بل يريك من الفواجع الاجتماعية؛ ما يضرم في صدرك نار التمرد، ويشعل فيه نور الرغبة بالعمل بل نور العمل والإصلاح.
وهل في شعرائنا نحن العرب من كان أسوأ حظا، وأشد بؤسا، وأرق شعورا من رهين المحبسين أبي العلاء؟ ومع ذلك فإنك لتنسى ألمه الشخصي عندما تسمع في شعره أنة الألم القومي بل الإنساني.
هو ذا الشاعر الكبير، الشاعر الفيلسوف، الذي يتألم لآلام أمته، وقد كان شعره صورة صادقة لبيئته، فقد انتقد بكلمات من نار وقواف من نور، ما كان في زمانه من المفاسد والمظالم الاجتماعية والسياسية والدينية، وصاح بالظالمين والمرائين صيحات مصقعات، وما فقد مع ذلك النظر الأعلى، ولا تعامى عن الحقيقة الكبرى في الجمال الشعري الصافي، فجاءت في بعض قصائده غاية في الرقة والخيال.
Shafi da ba'a sani ba