ثم ملك ابنه أفريقيش بن أبرهة ذي المنار بن الحارث الرايش، فغزا نحو المَغْرِب عن يمين مسير أبيه في أرض البرابر، حتى انتهى إلى بلاد طنجة، فرأى بلاد كثيرة الخَيْرِ قَلِيلَة الأهل، فنقل البرابر من بلادها إليها. قال معاوية: وأين كانت بلادهم؟ قال: أرض فلسطين إلى مصر والساحل. قال معاوية: فإنه يقال إنهم من قَيْس عيلان. فهل علمت ذلك؟ قال: لاعلم لي بذلك، ولكني أخبرك أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح، وهم بقيْة من قَتَلَ يُوشَعَ بن نون من أهل فلسطين. قال معاوية: ولم قتلهم؟ قال كان عبد صالحا فدعاهم إلى الله. فعظموا الحق. وأراد الله أن يبوَىء بني إسرائيل أرض فلسطين فتركوا الحق وكرهو الإسلام، وأحبوا المقام على الكفر فقاتلهم يوشع فأبادهم إلا بقايا كانوا في الساحل. وإنما وقع عليهم اسم بربر لشعر أفريقيش بن أبرهة:
بَرْبَرت كنعانٌ لما شقتها ... من ديار الملك للعيشر العجب
قد رأت كنعانُ فيها وقعة ... لبني يعقوب يوشع ذي الرهب
ورات كوشا لعمري دارها ترتقي عيشا لبابا لم يرب
ثم أمسوا مثل أمس ذاهب ... من قتيل وطَرِيدٍ ذي تعب
فاشكري كنعان شكرًا صادقا ... واحذري مني انتقاما وحرب
ولما بلغ رأسَ مغزاه أمَرَ بمدينة فُبِنَيت، وسميت إفريقية باسم أفريقش، وكذلك كانت تسميها البرابر، وفي ذلك يقول الهَمَيْسَع ابن مالك بن زيد بن المثاب بن عمرو بن ذي أنس:
سرنا إلى المغرب في جحفل ... يحف أفريقش ذاك الهمام
حتى أتينا دار بطحاء بها ... من دون بحر غير سهل المرام
نخوض بالفتيان في غمرة ... نعيد فيها ضربَ أيدٍ وهام
نقتل فيها كل أملاكها ... جهرا تباعا غير عجز كهام
وأسْكَنَ البربَر في فضفض ... مكارمٌ في الناس تَعْلَو الغمام
وأثبت البُنْيَان في حومةِ ... بغير ذي كره لدهر دوام
ملك مائة وأربعا وستين سنة.
ملك ذي الأذغار العبد بن أبرهة
قال عبيد بن شربة: فلما انقضى ملك أفريقش ملك بعده أخوه وهو ذو الأذعار العبد بن أبرهة ذو المنار وزعم ابن الكلبي أنه سمى ذو الأذعار: لأنه جلب النسناس إلى اليمن، فذُعر الناس منهم فسمى ذو الأذعار - ولا أدري ما صحة ذلك، فسقط شقة من فالج أصابة، فلم يَغْرُ بنفسه، وكان يَغْزُو سنةً ويكفُ ثلاث سنين، وكان مهينا - أي ضعيفا. قال معاوية: ويحك يا عبيد، ما سمعت برجل من أهل اليمن الناسُ له أكثر ذكرا ومسيرا من العبد!! قال: فما يقول ذلك إلا مَنْ لا عِلْم له، وما كثرة ذكرهم له إلا لما أصاب من النسناس في مسيره مع أبيه، فقتل منهم مَقْتَلَةٌ عظيمة، ورجع إلى اليمن من سببهم بقوم وجوههم في صدورهم، فذعر الناس منهم، فسمى ذو الأذعار - وكان هذا غي حياة أبيه. وقال فيه المغتر بن وائل بن يَعْفُر بن عمرو بن شراحيل بن عمرو بن ذي أنس:
عجبت للدهر وبلوائه ... وصرف أيام له فانية
بَيْنا يُرَدَينا لباس الهوى ... إذ صار لا يبقى على باقيه
لو كان إذ جاء بما جاءنا ... يهدي إلينا هذه الداهيه
أبقَى على رب لنا قاهر من ملك إنس في ذرى ساميه
ومُلك مِلْطاط هم أهله ... لم يكن الباقي لدى الدانيه
غيرك ذا الاذعار من سيد ... لكن ارى الدنيا بنا فانيه
فأكثروا التعوالَ يا حِمْيَر ... على مليك كان بالعاليه
من نجل سادات همُ ماهمُ ... قد قهروا أملاكها العاتيه
ولم يزل العبد كذلك حتى مات، فكان ملكه خمسا وعشرين سنة.
ملك الهدهاد ذو يشرح
1 / 75