تشف عنه المحكمات التي
نظمتها من فاخر الدر
فالحسن من كل مظناته
يبرز فيها لأولي الذكر (تهنئة مطران بخطه - مصغرة في النقل.)
مسودة قصيدة مطران العينية بخطه (مصغرة في النقل)، وقد فقد الأصل بين ما فقد من أوراق الصبا.
والناقد الأدبي المؤرخ الذي يدرس آثار مطران وآثار تلاميذه - ولي الحظ والشرف أن أكون بينهم - يجد أن روحانية هذا المعلم الجبار وقوته الفنية قد تركت في نفوسنا أبعد الآثار، وأننا إنما نتابع رسالته في خطوات معقولة. فما نشوء الشعر المرسل ولا الشعر الحر ولا ما بلغناه من الحركة التحريرية للنظم ولا ما نتناوله من الموضوعات الإنسانية والعالمية إلا الرقي الطبيعي لرسالة مطران، ولا يستطيع مطران نفسه أن ينكر ذلك بل هو يبارك بإخلاص هذه الجهود وإن شاركناه في تقدير ألوان الجمال عند مخالفينا من أصحاب المذاهب الأخرى قوية كانت أم ضعيفة، وهذا التسامح الفني - وإن يكن تسامحا في حدود - هو خلق مطران المعهود، خلق من يفتش عن ألوان الجمال والسليقة الفنية أينما كانت وإن كان له ذوقه الخاص ومذهبه الخاص.
ومنذ استحسن صديقي الأديب حسن الجداوي أن يضم ما يتاح له من الدراسات القيمة لآثاري المنشورة مساعدة على تفهمها، وجدت من كثيرين من الأدباء مشاركة له في هذا الاستحسان، وعلى هذا النسق الأدبي تصدر هذه الطبعة من (أنداء الفجر). وقد كان في مقدمة من استحسن هذا النسق صديقي الشاعر الناثر الدكتور زكي مبارك؛ لأن هذه الدراسات تنقل القارئ إلى الجو الذي يتنفس فيه الشاعر فيتبين عن كثب حقيقة خواطره وعواطفه والعوامل المؤثرة عليه، وحينئذ تستطيع أن تتذوق آثار الشاعر أحسن التذوق.
يقول الأستاذ جارود (أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد، في دراسته للشاعر كيتس، سنة 1926) ما خلاصته: إن الشعر الذي يستحق المطالعة ربما لا يطالعه معظمنا بالعناية الواجبة التي قد تجعلنا أهلا للاطلاع عليه. نحن بطبيعة الحال نطالب الشعر بالمتعة، ولكن الشعر كذلك يطالبنا بالجهد حتى نستمتع به. فقد ألف الناس قراءة الشعر بغير ذلك التأهب الروحي الذي يعد ضروريا في العبادات الأخرى وبغير التنبه الوجداني الحتمي. والناس درجات في تفهم الشعر حتى إن وردزورث قسمهم إلى أربعة أقسام ... وما كانت دراسة الشعر العالي أو نقده بالأمور الهينة، فإن ذلك يتطلب غاية المواهب الفنية ومنتهى الثقافة والدقة حتى يوزن الشعر بمنتهى العناية والأمانة، كما يفحص الصيرفي الجواهر غير مخدوع بمظاهرها الخلابة ولا بصورها المتواضعة ...
ونحن نقرأ الكثير من نقد الشعر في وقتنا هذا مسرورين لاعتبار واحد وهو تنبه الناس إلى أهمية الشعر بين الفنون الجميلة وأثره في تهذيب المدارك وصقل الشعور، وما هذا بالقليل في ترقية الأمة فكريا، ولكننا لا نكاد ننعم النظر في معظم ما ينشر من نقد حتى يتملكنا الأسف الشديد على ما نلحظه من الاستهتار بالدرس والنقد، وعلى تدخل عوامل خارجية (كالحزبية السياسية وما إليها) في الأحكام الأدبية، حتى جرف هذا التيار الغاشم في طريقه غير واحد من مشهوري النقاد، فأصبحنا نرى المتصنعين واللصوص من الشعراء تخلع عليهم ألقاب العبقرية لا لسبب سوى التضليل والحزبية والاعتبارات الشخصية، ونجد غيرهم من الموهوبين ينكر عليهم حتى التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ولو وردت نظائرها في القرآن الكريم وفي أشعار الفحول من المتقدمين مع أنها أدوات فنية لا غنى عنها للشعراء المتعمقين، وتؤخذ عليهم قوة الاندماج والتصوف فيما حولهم من عوالم جليلة ودقيقة، ويمتهنون لتجاوبهم الكوني ولشعورهم بالشعر في كل شيء وبفنية الحياة المختلفة ... ومحال إقناع هؤلاء السادة بأنهم لم يستكملوا بعد أدواتهم النقدية، ومع ذلك يجيزون لأنفسهم أن يعيبوا على الشعراء المطبوعين عدم استكمال أدواتهم الشعرية، ولو استكملوها باطلاعهم وبمرانتهم الطويلة أو بلغوا منها شأوا كبيرا، وأنه لا يكفي لنقد الشعر أن يكون الناقد شاعرا في روحه نزاعا إلى الإنصاف، بل ينبغي أن يكون كذلك واسع الثقافة واقفا على المذاهب الأدبية وعلى أحدث أصول النقد. وبعد كل هذا فالغالب أن يأتي النقد صورة من نفسية الناقد ومن ذوقه وميوله لا من الحق المطلق الذي لن يتحقق ... فالجزم في الأحكام النقدية أو التعسف إزاء هذا إنما يكون عبثا واستهتارا بالشعر وبالنقد معا.
إن من أولى تعاليم مطران التي تشبعت بها منذ حداثتي وجوب الاطلاع، وقد أكببت على الاطلاع المتواصل منذ نشأتي حتى كنت أقلب «الأغاني» وغيره من أمهات الأدب العربي الميسورة في منتصف العقد الثاني من عمري تقليب المستهام بها، كما أن من أولى تعاليمه ترك التصنع والحذلقة وإرسال النفس على سجيتها ولكن إرسال المستعد المتمكن لا إرسال المستهين المهمل. وقد علقت بهذه المبادئ وطبقتها وترعرعت في نفسي وفي أدبي، فإذا خطوت تحت تأثيرها خطوات جريئة غير مسبوق إليها فلا يعني هذا بتر صلتي بها وإنما يعني بري التام بروحها وغايتها. ولو تدبر الزملاء الناقدون وحاولوا التخلي عن المؤثرات الشخصية ونحوها لما وجدوا في تصرفاتي ونزعاتي الأدبية وفي تصرفات أقراني ونزعاتهم إلا تقدما طبيعيا بتعاليم مطران التجديدية، فالحياة حركة واطراد وأما السكون فهو العدم.
Shafi da ba'a sani ba