78

إنها كانت ساعة من ساعات كارتر البوليس السري المشهور؛ ذلك أني كنت مدة الحرب العالمية الأولى «ناظر المدرسة الإسلامية بأسوان»، وكان عندنا إذ ذاك مدير متأله طالما كابد الأهالي من غطرسته شرا. وصادف أن وقعت حادثة إلقاء القنبلة على السلطان حسين كامل فنجا منها، واحتفلت البلاد بنجاته، وكان حقا علينا أن تحتفل مدرستنا بهذه المناسبة، فلما أعددت العدة لهذا الاحتفال دعوت سعادة المدير لحضوره، ولكنه لم يقبل، فاحتججت عليه في ذلك فكان جوابه أن طوق المدرسة بخيله ورجاله، فرفعت عنه تقريرا إلى السلطان حسين ... فلما وصل عظمته استدعى المدير إلى القاهرة وأطلعه على شكواي. ويظهر أنه أنبه تأنيبا شديدا؛ إذ ما عاد المدير حتى استدعاني ... فلما حضرت إلى مكتبه جلست على أحد المقاعد التي فيه، فما كان منه إلا أن انتفض قائلا: «قف أمامي يا أفندي» فلم أملك أمام تلك الفظاظة إلا أن أقول له: «ولأي شيء هذه الكراسي المرصوصة التي اشترتها الحكومة للجلوس في هذا المكتب؟» فبهت الرجل من هذه الإجابة ... ولكنني تركته وانصرفت، فتهيج الرجل، وأمر أعوانه باللحاق بي، فلما رجعت إليه جعل يهددني بالنفي إلى «مالطة» وأنا أعلم أن النفي إلى «مالطة» إذ ذاك معناه الإعدام؛ لأن صحتي كانت لا تسمح لي بتحمله، ولكني لم أعبأ بذلك وقلت له: «افعل ما تريد.» وانصرفت.

وكان مفتش الداخلية إذ ذاك في أسوان، وكنت في هذه المدة تحت المراقبة ... وكان يلازمني عسكري بوليس أينما ذهبت نهارا، فإذا جاء الليل وقف على باب داري خفيرا إلى الصباح، وهكذا دواليك ... فما إن وقعت تلك الحادثة بيني وبين المدير حتى أخذ يشدد علي المراقبة، وكتب خطابا إلى رئيس جمعية المدرسة بفصلي، ثم جعل يرسل التقارير ضدي إلى الداخلية، ويزعم أني أقوم بتهييج الأهالي. واستقر رأيه هو ومفتش الداخلية على نفيي إلى «مالطة»، ولكن قبل أن أنتظر موافقة الداخلية دبرت طريقة للخروج من أسوان. ففي ذات يوم، وضعت «عفشي» في قفة من قفف الطحين، وغطيته بطبقة من القمح، وأرسلت القفة إلى بيت أحد أقاربي بالبلدة، وهناك وضعوا «العفش» في «شنطة» وأخذها أحدهم إلى المحطة الثانية التي تلي أسوان، وفي اليوم الثاني كلفت صديقا لي بأن يقطع تذكرة من محطة أسوان إلى الأقصر.

بقي أمر خروجي أنا من المنزل مع هذه المراقبة الشديد التي تستمر صباحا ومساء ... فلم أجد وسيلة إلا تكليف أحد أقاربي بإحداث «شكلة» مع أحد المارة بقصد إبعاد الخفير عن البيت - وقد كان - وفي أثناء اشتغال الخفير بالمتنازعين خرجت ورفيق لي إلى ظاهر البلدة؛ حيث كنا أعددنا الحمير للركوب في المساء ... فما إن ركبنا حتى حثثنا السير إلى المحطة الثانية. فلما وصلنا إليها وجدنا حامل التذكرة المذكورة، فأخذتها منه واعتليت القطار. ولسوء الحظ وجدت في المركبة التي دخلتها معاون بوليس أسوان مسافرا لكتابة محضر حريق في «كوم أمبو» فأحرجت، وكانت تلك الساعة ما بين محطة أسوان، ومحطة كوم أمبو هي أحرج ساعة في حياتي، ولكنها مضت بخير، ووصلت إلى القاهرة بعد أن انتقلت إلى قطارين آخرين بقصد التمويه على إدارة أسوان؛ حتى لا ترسل من يلحق بي في الطريق، ولما حضرت إلى القاهرة أخذت أقابل ولاة الأمور في شأني. وبينما كنت أقابلهم للشكوى من المدير كان هو يكتب إليهم التقرير إثر التقرير، ويزعم أني أقوم في ذلك الوقت بتحريض الناس ، وتهييجهم في أسوان؛ مما أدى إلى افتضاح كذبه وإحالته إلى المعاش. (5) كنت شيخا في شبابي

كنت شيخا في الشباب، فلا عجب أن أكون شابا في الشيخوخة ... قياس منطقي غير صحيح كما يظهر لأول وهلة ...

فإذا كانت الشيخوخة قد بكرت إلى الفتى في إبان شبابه، فالمعقول أن يصبح شيخا قبل الأوان، وأن يأتي عليه السن، وليست فيه بقية من الشباب ...

هذا هو المعقول، ولكن لأول نظرة كما تقدم ...

أما بعد نظرة أو نظرات، فالمعقول غير هذا على التحقيق.

المعقول بعد النظرة والتجربة أن الشباب المرح المندفع في شرته وعنفوانه يبعثر قواه عاجلا، ويستنفد رأس ماله سريعا، فيخطو إلى الشيخوخة خطوات واسعات كأنه يسير إليها بكل قوة الصبا والفتوة!

إن الشباب الذي يحس الشيخوخة قبل أوانها يتأنى ويتئد، فلا يصل إلى شيخوخته في الأوان ...

وهذا هو المعقول في القياس.

Shafi da ba'a sani ba