وهكذا أوقفني الرجل الطيب أبي ذات صباح وأنا ذاهب إلى «كتاب» الشيخ مصطفى وأفهمني بطريقة لا تقبل الجدل أن علي العودة بعد «الكتاب» إلى البيت مباشرة.
لم يشأ الرجل الطيب أن يؤلمني بذكر حنونة وحكايتي معها. آثر أن يدع الباقي لفهمي. وأنا أيضا لم أشأ المناقشة؛ فقد اعتزمت ومنذ اللحظة الأولى، أن أخالف هذا القرار، وأكذب، وأقابل حنونة. وكيف لي أن أستطيع الكف عن شيء لا أفعله بإرادتي، إنما أجد نفسي، هكذا، كما أجوع وأعطش وأشرب، أفعله، دونما فكر أو أرجحة للاحتمالات وأخذ قرار. إننا ونحن أطفال وصبية نكون أكثر صدقا مع أنفسنا ومع ما نريد، وما نريده يكون أكثر صدقا مع الحياة نفسها، كل ما في الأمر أننا صغار في عالم لا يخضع للحياة وقوانينها وإنما ينظمه ويقننه ويحكمه الكبار. ولا بد دائما أن يتدخلوا، فإذا فعلوا فإنما ليجبرونا، لا لنمتنع، وإنما لنراوغ ونكذب ونكرههم كما نكره العقاب.
ولا أعرف ماذا بالضبط، وبالمقابل، حدث لحنونة.
ولكني في مكاننا المعتاد عند «الهدار» وهو البئر العميقة التي تصب فيها كل المياه القادمة من المصارف الكبرى، وتأخذ عنه أفواه الطلمبات الماء لترفعه بعد هذا إلى أعلى، إلى مستوى منسوب البحر الأبيض ليتم صرفه والتخلص منه؛ إذ الماء الجوفي في الدلتا وشمالها أقل من منسوب البحر ولا بد من ضخه إلى أعلى، ومن أجل هذا أقيمت الطلمبات. في مكاننا عند الهدار لم أجدها. وانتظرت، وتأملت كثيرا منظر الماء وهو يهدر في الهدار ويدور ويصنع دوائر كبيرة تنتهي إلى دوائر أقل وأكثر انخفاضا وتدور بسرعة أشد إلى أن تصنع الدوائر حفرة على هيئة القمع يقولون إن قاعها يبلغ الرجل ولا يبين له بعد هذا أثر. ولم تحضر. وغير قريب من بيتهم وقفت وقد بدأت أحس أن يد الكبار غليظة حقا وأنها قد عملت عملها، وأن اليوم الواحد العذب الممتد الطويل قد انقطع.
وفي الشباك لمحتها، كنا العصر، والشمس قد استحالت من جهنم الظهر المروعة إلى مجرد مصباح أصفر رقيق يضيء الشباك وداخل الغرفة، وفي وسط تلك الأرضية الصفراء الحية بصفرتها يستدير وجه حنونة وقد أكسبته الأشعة لونا غريبا يلمع من خلال القضبان الحديدية الداكنة، لونا يحيل الوجه إلى شمس أخرى، شمس مخنوقة منكفئة الجبهة، مختبئة.
وقفت أنتظر منها إشارة، أو بريق عين حتى، يدل على أنها رأتني أو أرادتني، ولكنها كانت صامتة واجمة، كانت بالضبط صورة «العدرة»، العدرة مريم، نفس الصورة المعلقة في غرفتها معلقة الآن في النافذة، ولا بد أن ألقاها، وأنا أعرف الست «أم حنونة» وأعرف أنها وإن كان يقال إنها أشد الناس سلاطة، إلا أنها معي طيبة، تعطف وكأنما بالسليقة على مزاملتي لابنتها، كثيرا ما دست في جيبي برتقالة، أو حبات «بون بون» ودائما تقول سلم على الست «أم محمد»، سلاما لا أوصله؛ فقد كنت أعرف رأي أمي فيها، ورأيها في أمي.
الباب مفتوح، أأدقه؟ دخلت.
أم حنونة خارجة لتوها من المطبخ وهباب الوابور على وجهها وأطراف شعرها الأبيض وملابسها، أشرق وجهها بابتسامة وكأنما أدركت سبب المجيء، أعقبها في الحال تجمد ملامح وكأنما ظهرت إلى وعيها المشكلة والتحذير، وتلعثمت، وفأفأت، ولكنها لم تصرح بشيء، وإنما استدارت وكأنما لم تر ولم تسمع، وعادت إلى المطبخ.
وما يدريني؛ فقد قرأت في حركتها تلك علامة الرضا، واندفعت إلى الغرفة كالسهم. ووجدت حنونة واقفة تبتسم وتنتظر انتظارا منخفض الرأس لا يزال وفي عينيها دون أن أراهما مكر بريء جميل كمكر المحبين.
ولدهشتي أقدمت على حركة لم أكن قد تعودتها منها أبدا، مدت يدها تصافحني، وبكل ما لدي من لهوجة مددت يدي وشددت على يدها بقوة حتى بدا أنها تألمت. كنا دائما نلتقي أو نسير أو نتحرك أو نقدم على عمل الشيء معا، أما أن نتصافح فذلك ما لم نفعله إلا هذه المرة. يدها صغيرة كانت، ويدي رغم العامين فارق السن، أكبر، يد نحيلة بأصابع أيضا رفيعة ونحيلة وكأنك تقبض على مجموعة من أقلام الرصاص، ولكن لم تكن أقلام رصاص، كانت اليد بأصابعها حية دافئة كأنما تركزت فيها كل إشعاعاتها الخاصة، لم تكن يدا. كانت قلبا نابضا دق، نفس القلب الذي سمعت دقته حين كنت أتعمد الاقتراب بوجهي من صدرها. مصافحة روعتني وأحدثت بي مسا.
Shafi da ba'a sani ba