وقد سألت نفسي مرارا ما الفرق بين حمادة وبين السيد أحمد جلال فكنت أعجب من المقارنة بينهما. لقد عرفتهما وخبرت أحوالهما وتبينت مقدار ما عند كل منهما من الذكاء والمقدرة، ولو سئلت عن رأيي في أيهما أصفى جوهرا لما ترددت في أن أقول إنه حمادة. هو الأذكى وهو الأعمق وهو الأكثر تفننا، ولكن الذي جعل أحدهما في طرف والآخر في الطرف الثاني هو عنصر آخر أهم من الذكاء والعمق والتفنن، وهو عنصر خفي مثل أرواح العطور وأسرار الحياة الغامضة، لا يتيسر للإنسان أن يصفه لأنه لا يقدر على تحديده، ولكن شيئا واحدا كان يظهر لي واضحا وهو أن حمادة كان ينطوي في داخله على أنواع من المخاوف لم أستطع كشفها، ولما فرغت من مشاغل الأسواق عدت إلى عزلتي ولا أخفي أنني شعرت بكثير من الارتياح؛ لأني تخلصت من صحبة حمادة مع كل ما كنت أحسه نحوه من الرحمة، وكان فراغي من مشاغل الأسواق يجعلني أفرغ إلى أحاديث كثيرة مع نفسي، وكانت كلها تدور حول صورة واحدة: منى.
وبدت لي الشهور التي مضت علي منذ خرجت من خدمة السيد أحمد جلال كأنها دهر طويل من السنين. كيف نقيس الزمان نحن معاشر البشر؟ إننا نقيسه بالساعات والأيام والسنين مع أن هذه كلها أخيلة لا تدل على حقيقة خارج نفوسنا.
ولا أستطيع أن أصف الحرقة التي كانت تشمل قلبي كلما تصورت أني فقدت كل أمل في رؤية منى، ومع ذلك فقد كنت أجادل نفسي وأتهمها بالحماقة والسخف، فأين أنا وأين منى؟ كنت أكره أن أقول في نفسي: «من أنا؟» ولكني كنت مع ذلك أقول ذلك وأجد له مذاقا كالحنظل، وكنت أكثر من الخروج إلى أطراف المدينة وأستصحب ما أريد قراءته من الكتب طامعا أن ألهو بذلك عن التفكير في منى، ولكني كنت دائما أشرد إليها ولا أطيق الاستمرار في القراءة؛ لأن صورتها كانت تتمثل لي في كل سطر وراء كل خاطرة، وكنت يوما جالسا في قهوة تعودت أن أعرج عليها عند أطراف المدينة ومعي كومة من الصحف والمجلات، وأخذت أقرأ لألهو عن أحاديثي نفسي بتلك الأخبار التي اعتادت الصحف أن تضع لها العناوين الضخمة ذات اللون الأحمر، وأي شيء أحق بأن يتسلى به الإنسان من السخرية؟ إن السخرية هي ملجأ الأشقياء إذا أرادوا أن يحولوا بين أنفسهم وبين الموت كمدا. كانت الأخبار كلها تنطق بأننا منهزمون في كل مكان، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، ومع هذا كان السادة على أحسن ما يكون الناس رضاء عن أنفسهم، ورضاء عن الحياة. ها هو ذا وزير يقيم حفلة ساهرة تشغل أخبارها الصفحة الأولى من الجريدة العظمى؛ لأنه بلغ الخامسة والستين من عمره المبارك، وها هو ذا احتفال آخر بزواج ابنه الثري الكبير المعروف، وفيه تدفقت الشمبانيا في القصر الشاهق حتى أغرقته بالمرح، هكذا تقول الجريدة بغير خجل، وهذا خبر ثالث أكثر جدا وصرامة لأنه احتفال حزب كبير في عاصمة مديرية كبرى تعالت فيه الأصوات بالحماسة الوطنية، ولكنها كانت وا أسفاه لا تزيد على الحماسة في المناداة بسقوط الحزب المنافس ومن فيه من الزعماء. هكذا كان الحزب الأصفر يتحمس في المناداة بسقوط منافسه الحزب الأخضر في القسطنطينية عندما كان محمد الفاتح العثماني على أبوابها، وفي صدر الصفحة الوسطى كتبت بشرى بعنوان ضخم تقول إن ميادين المدينة ستضاء بعد يومين بالأنوار الساطعة احتفالا بعيد الدستور، وستعطل المصالح الحكومية وتفتح سجلات التشريفات في القصر ليذهب المهنئون من العظماء ويكتبوا بها أسماءهم تأدية لواجب الولاء للملك الذي لم يدع برلمانا واحدا يسقط وزارة ... وتعجبت ماذا يفعل الناس بهذه الأنوار كلها إذا أرادوا أن يبتهجوا بالعيد حقا، إنني أرثي للفراش كلما رأيته يقذف نفسه على الأنوار التي تحرقه، وأخذت أقرأ كل ما أمامي من الأخبار حتى الوفيات إلى أن رأيت إعلانا عن آخر موعد للتقدم لامتحان البكالوريا، وهو يوم الأحد المقبل، فذكرني هذا الإعلان بحياتي الماضية وأخذت أعد السنوات التي مرت علي بعد ترك المدرسة. سبع سنوات كاملة لم أشعر بمرورها كأنها قطعت من حياتي، ولو كنت واصلت الدراسة لكانت هذه السنوات كفيلة بأن تجعل مني شخصا آخر في نظر نفسي وفي نظر غيري، ولكن ماذا أصبحت بعد هذه المدة؟ كنت واقفا في مكان كأني أقفز إلى أعلى ثم أسقط حيث كنت واقفا، ولو كنت مثل زملائي الذين واصلوا الدراسة حتى حصلوا على الشهادات العليا لكنت أذهب إلى السيد أحمد جلال لأقول له: «أنا سيد زهير!»
وقمت من القهوة ضائقا بنفسي فعدت إلى منزلي وأغلقت على الباب، وجعلت أقرأ قصة إنجليزية بدأت في قراءتها منذ ليلة، ولكني لم أفهم منها شيئا، وكان ذهني يشرد برغمي عائدا إلى فكرة البكالوريا، وجئت بالجريدة فأخذت أقرأ إعلان الامتحان مرة أخرى، ووقفت عند آخر موعد لتقديم الطلبات. هو يوم الأحد ولم يبق عليه إلا الجمعة والسبت، ولا ينبغي أن أعد الجمعة لأنها عطلة، وقمت إلى مكتبي فأخرجت بعض الكتب الدراسية وأخذت أنتقل بينها قارئا من هنا ومن هناك حتى ثقلت عيناي ودارت رأسي وتثاءبت، ولكني عندما أردت النوم لم أستطعه ومضيت في تفكيري: «ماذا أفعل إذا أردت التقدم للبكالوريا؟» بل إني سبحت في الأفكار وأخذت أحسب ما أحتاج إليه من المصروفات في الجامعة لو دخلت الامتحان ثم نجحت في البكالوريا، وتسلل النوم آخر الأمر إلى جفني حتى استيقظت في الصباح وأنا عازم على أن أتقدم لذلك الامتحان.
وتذكرت أن لي صديقا قديما من زملائي أصبح مدرسا في المدرسة الثانوية بعد تخرجه من كلية الآداب، وكنت أراه من بعيد في الطريق في بعض الأحيان، ولكني كنت أطيع دفعتي الغريبة فأعرج إلى أقرب عطفه حتى أتحاشى مقابلته، وكان أول ما خطر لي أن أذهب إليه لأطلب مساعدته على التقدم للامتحان، وشعرت بالخجل من نفسي؛ إذ لم أفكر في زيارته إلا عندما اضطرتني الحاجة إليه، ولكني عزمت آخر الأمر على أن أجمع عزيمتي وأطرد التردد وأذهب إليه.
وعبد الحميد عباد - ذلك الزميل القديم - شاب جمعتني به صلة وثيقة في أيام التلمذة، وهو من أبناء دمنهور، وكان والدانا صديقين ويدخل كل منا بيت صاحبه كأنه أحد أفراد أسرته، ولم أشعر لمقاطعة أحد من زملائي القدامى بما شعرت به من الأسف لمقاطعته، وكثيرا ما حدثت نفسي أن أذهب إليه لأعاود مودته معتذرا عن مجافاتي له، ولكن الكبرياء حالت بيني وبين ما حدثت به نفسي، وكان من الممتازين في قوة التفكير وكثرة القراءة، وإن كان من أكثر التلاميذ انزواء. كان لا يشارك في الألعاب ولم يكن له نصيب من الظهور في محافل أواخر الأعوام، وكنا لهذا نعرفه باسم الفيلسوف لا تكريما له ولا تقديرا لذكائه، بل تفكها يقرب من أن يكون سخرية، وكان يتخذ لنفسه آراء يتمسك بها ولا يقبل فيها جدالا، وكثيرا ما انتهت مناقشتنا معه إلى المشادة أو المنافرة، وكان في أثناء الدروس لا يقبل من المدرسين قولا حتى يناقشه ويحلله، ولا يبالي ما يؤدي إليه ذلك من ضيقهم به في بعض الأحيان، وكان نقول فيما بيننا إنه من أتباع الحزب الوطني وإن كنا لا نعرف حقيقة مبادئ الحزب الوطني، وكان هادئ الطبع في أكثر أحواله، فإذا تحمس في مناقشة سياسية تدفق وتهور وغضب واعتزل أصحابه يومين أو ثلاثة أيام في كل مرة قبل أن يستعيد سماحته ووداعته، وعزمت على زيارته في الصباح وكان اليوم جمعة، ورأيت أن أختصر الطريق إلى بيته بأن أعبر شريط السكة الحديدية من جنوب المحطة وراء مخازن البضاعة، وكانت تلك الطريق تربة متعرجة تمر بين المقابر ولكنها توفر في السير دورة طويلة تشبه نصف دائرة، ولما وجدت نفسي بين المقابر تذكرت أن أزور مقبرة أبي، وكنت منذ وفاته أتحاشى الاقتراب منها مدفوعا بشعور الطفولة بغير تفكير، ولما وقفت إلى جوار القبر غمرني حنين شديد وانهمر الدمع من عيني بحرقة بالغة وهجمت على موجة من الأسف والندم على أني لم أذهب كل تلك السنوات لأزور ذلك الوالد العزيز وأترحم عليه وأذرف عنده دموعي، وهو الذي كان يملأ حياتي بهجة وأملا، وتذكرت وأنا واقف هناك ذلك اليوم البعيد الذي سرت فيه ذاهلا مع الموكب الحزين لأودع جثمانه، وعاد إلي الشعور باللهفة التي أحسستها وأنا أراه محمولا إلى الحفرة ليدفن فيها. كنت عند ذلك أتمنى لو بقيت معه ونازعت من حولي لأتمسك به؛ إذ خيل إلي أن الحياة بغيره تكون موحشة خاوية مخيفة، وأخذت أقرأ الفاتحة مرة بعد مرة وأنا في غمرة من الحزن وقرأت ما تذكرته من الآيات الأخرى، ووجدت في ذلك راحة لا أقدر على وصفها، وخيل إلي في تلك اللحظة أن قرحة في داخلي تندمل وأنني أحس روحه تخاطبني قائلة: «إن الحياة تناديك يا ولدي!» ولأول مرة منذ فقدته تبين لي أنني ما أزال متصلا به بعد الموت، وأنه يهتم بي ويباركني، كان كياني كله ينبض بشعور مبهم بأن الحياة وديعة فينا، وأنها متصلة بالأجداد من قبلنا ومتصلة بالحفدة من بعدنا وأنها واجب مستمر علينا أن نؤديه إذا أردنا أن نشارك في تحمل أمانتها، ومضيت بعد حين عن القبر وقلبي يعاهدني على أن أؤدي واجب حياتي، فلما سرت في طريقي إلى بيت عبد الحميد عباد كنت أحس بأن شيئا كبيرا تغير في نفسي.
واستقبلني عبد الحميد كما عرفته في سماحته ووداعته وجلسنا ساعة نتذاكر أيام المدرسة وما كان فيها من أحداث صغيرة، وكان يذكرني بأشياء غابت عن ذاكرتي، كأني طويتها في أغوار عميقة تخفيها عني، واستمعت إليه كأني أرى صورا من عالم بعيد، صورا شاحبة ذهبت ملامحها وانمحت ألوانها من ذهني، ولكن أصداءها ما تزال باقية، فذكر الأيام الثائرة التي كانت تهز أعماق نفوسنا في سنة 1935 واجتماعاتنا السرية التي كنا نخفيها عن الأنظار، وتلك المؤامرات الصغيرة التي أحطناها بالكتمان والخطب النارية التي تبادلناها، والمناقشات العنيفة التي تبارزنا بها، والخطاب الذي حاولنا كتابته بدمائنا في رعونة الصبا لنبعث به إلى الملك لنطالبه بحرياتنا، وخيل إلي أن هذه السنوات التي فارقت فيها صاحبي قد نزعتني من عالم إلى عالم ومن حياة إلى حياة، وحددت لي الأفق الذي أجول فيه وجعلتني أنحصر في طي نفسي وأنساق مع ظروفي كما تدفعني، واعتراني ارتباك شديد عندما دارت هذه الأفكار في رأسي ولم أدر كيف أفتح الحديث الذي جئت من أجله، ونظر صاحبي نحوي في عطف وقال وهو يستند إلى ظهر الأريكة التي كنا جالسين عليها: لقد مرت بنا السنوات يا سيد وكأنها لحظات، فكيف أحوالك وكيف تنظر إلى الحياة؟
فارتحت إلى قوله؛ لأنه خلصني من ارتباكي وقلت: هي سنوات كثيرة حقا، وهذه آثارها تظهر على شعرك.
وكان الشيب يغبر فوديه ووسط ناصيته.
فقال باسما: ولكنك ما تزال محتفظا بشعرك الأسود.
Shafi da ba'a sani ba