وكانت الساعة قد بلغت الثانية فأعطيت الصبي ما كان في جيبي إلا قرشين أبقيتهما لأشتري رغيفا وقطعة من الجبن، وكنت سعيدا عندما نظر إلي الصبي باسما ومسح دموعه. المسكين، إنني ما أزال أتذكر نظرته.
الفصل الرابع
في الساعة الثالثة عدت إلى المحلج وبدأت عملي ونسيت فيه كل ما حدث في ساعة الظهر، ولكني تنبهت على صوت حاجب مكتب السيد أحمد يدعوني إليه.
وكانت المسافة بيني وبين المكتب تزيد على مائة متر، فأخذت أجمع شوارد أفكاري حتى أحدثه عما وقع بين العمال وبين مصطفى عجوة ليعمل على إزالة ما يدعو إلى إثارة نفوسهم عليه وعلى عمله.
ورأيت مصطفى عجوة واقفا إلى جانب المكتب ويداه مضمومتان إلى صدره من أمام ولونه قاتم يكاد يكون أسود، وبادرني السيد قائلا: سلم عهدتك يا سيد أفندي.
فوقفت أمامه لحظة وأنا دهش كأني لم أسمع قوله. لم أتوقع هذه النهاية في تلك الساعة بالذات، ولو طردني السيد أحمد في اليوم السابق أو الذي قبله أو في صباح ذلك اليوم نفسه لما وجدت في ذلك شيئا يدعو إلى الدهشة أو السخط، وأما في تلك الساعة فإني كنت أنتظر منه كلمة شكر على ما صنعت له. كان العمال على وشك تدمير المحلج بغير شك لولا وجودي، ولم يكن فيما فعلت شيء يستحق غير الشكر. أيطردني بعد أن أخمدت ثورة كان يشعلها هذا المصطفى عجوة الواقف إلى جانبه ينفخ الهواء من أنفه الضخم؟ أيطردني لأني أزلت ما في نفوس عماله من الحنق عليه وقلت لهم إني سأعتذر إليه بالنيابة عنهم؟ ولو كنت عندما ذهبت إلى السيد أحمد أتوقع أن يفاجئني بهذه الكلمة بغير مقدمات لأعددت نفسي لذلك وراجعته لأبين له أنه مخطئ، أو أن الذي بلغه كذب، ولكنها كانت مفاجأة أحدثت في نفسي صدمة مست صميم كبريائي؛ ولهذا أبيت أن أراجعه بكلمة مع أني كنت أقول في سري: «أهذا جزائي؟»
وأدرت ظهري له صامتا وخرجت من المكتب لأسلم عهدتي، وما هي عهدتي؟ بضع دفاتر وأوراق وأقلام ودواة وعلبة نيشان وفرشة بقيت عندي منذ كنت أرقم البالات. هذه كانت عهدتي، وكان شعوري وأنا خارج من المكتب لا يزيد على شعور رجل تسأله: «كم الساعة الآن؟» لم يكن في نفسي ذرة من الأسف في تلك اللحظة.
وخرجت من المحلج حاملا معطفي القديم وأنا عالي الرأس يخيل إلي أني أنا الذي أطرد المحلج ومن فيه.
وسرت في الطريق متجها حيث تقودني قدماي؛ شارع «أبو الريش»، والسوق، وعرجت إلى اليمين هابطا نحو خارج المدينة، ولما وصلت إلى جانب الترعة بدأت أفكر أني لم أترك المحلج فقط، بل قطعت صلتي أيضا بالسيد أحمد جلال والد منى، وسرت أجرر قدمي بقلب مظلم كسير. عند ذلك فقط بدأت أشعر بأني خسرت خسارة فادحة.
وعرجت إلى اليمين بغير أن أعرف أن هذا الجانب أفضل من الآخر، وكان الجو باردا ولكن السماء كانت صافية والشمس تميل إلى الغرب في موكب رائع من الألوان البديعة، وشعرت بوجهي المتقد يلذ مس الهواء وصدري الضائق يرحب بالهواء الطلق، وكانت الحقول تمتد تحت بصري خضراء رطبة ترتاح العين إلى الانسراح فيها، وكانت الدواب محملة بأحمال مختلفة، ومن ورائها قطعان الماشية تعود إلى بيوتها قبل الظلام، فجعلت أنظر إليها متأملا أشكالها وأحجامها وأقايس بين ألوانها وملامحها، وذهني يدور كأنه منفصل عني. هذا شاب بقر قوي يظهر عليه العنف وينظر نحوي بمؤخر عينه ويطأطئ رأسه مهددا، ووجه يشبه ملامح مصطفى عجوة عندما كان واقفا إلى جنب المكتب، وهذا حمار أعجف يحمل حملا ثقيلا من البرسيم ويزحف تحته مطرقا، ويلوي رأسه لعله يقدر أن يصل بفمه إلى قضمة من أعواد البرسيم الذي فوق ظهره، ولكنه لا يصل إليها. ما أشبهه بالصبي المسكين عمر غير أنه لا يبكي، وهكذا سرت هائم الفكر حتى وجدت نفسي مرة أخرى عند «كوبري أبو الريش» فعرجت إلى اليمين وسألت نفسي: «إلى أين؟» ولما اقتربت من الفضاء الذي يبدأ منه الطريق إلى محلج السيد أحمد جلال كان الظلام قد هبط على الأرض وتبينت في قرارة نفسي أمنية غامضة، وهي أن أصادف السيد أحمد جلال خارجا من المحلج، واقتربت من ركن مستور عند مدخل الطريق ووقفت أفكر، كأني أريد أن أتذكر شيئا نسيته، ومر وقت طويل وأنا هناك ذاهل عن كل شيء ولا أدري ماذا أريد، وظهر شخص مقبلا من بعيد في الطريق المظلم فخطر لي أنه «هو». لم يعد الأمر خافيا علي فإني كنت هناك أنتظر السيد أحمد جلال، وما كان سيري على الترعة وكل دوراني ولفي إلا بقصد خفي أن أعود إلى المحلج لعلي ألقى الرجل، ولكن ذلك الشخص لم يكن «هو» فتداريت في ظل الجدار حتى لا يراني، وبقيت واقفا هناك مستندا إلى الجدار وأنا فاتر الذهن لا أدري إلى متى أبقى واقفا هناك، وكدت أثب في مكاني عندما رأيت السيد أحمد يخرج من باب المحلج في الموعد الذي تعود أن يذهب فيه إلى بيته، ولما اقترب مني أسرعت إليه كما يسرع الصديق إلى صديقه يحاول أن يزيل عنه جفوة طرأت على علاقتهما، ولم يظهر على وجهه عندما رآني شيء يدل على الغضب أو الرضى أو الدهشة كأنه كان ينتظر أن يجدني هناك، وسلم علي في بساطة قائلا: «تعال معي يا سيد أفندي.» فخفق قلبي سرورا واستبشرت بكلمته، وسرت وراءه بخطوة قصيرة، ولكنه دعاني لأسير إلى جنبه، وتمنيت بكل قلبي أن أقدر على إزالة ما عنده من الغضب علي ولم أشعر بشيء من الذلة أو الامتعاض؛ لأني كنت عالما أني بريء وأنه لم يعرف حقيقة ما عندي.
Shafi da ba'a sani ba