فطلب منها أن تصعد إلى الدار لتدعو والدتي، فأسرعت تجري وشعرها الذهبي يهتز على كتفيها.
وجاءت بعد قليل تسير هادئة إلى جنب أمي ممسكة بيدها، فقبلتها أمي من جبينها، وسلمت على السيد.
فقلت لها: سأحضر إلى هنا في الصباح يا أمي، تفضل السيد فوجد لي عملا.
فقال السيد أحمد: لم أتفضل بشيء لأني محتاج إلى عملك.
فشكرته أمي وأكثرت له الدعاء وهي خارجة، وكان قلبي ما يزال يخفق عندما سرنا في الطريق، وأخذت أحدث أمي عما قاله السيد لي، وكان ذلك أول يوم سعيد مر بنا منذ وفاة أبي.
وفي اليوم التالي بكرت إلى المحلج في الساعة السابعة والنصف، فوجدت السيد أحمد قائما في فناء المحلج كأنه ينتظرني، فلما سلمت عليه أخذني من يدي حتى دخلنا إلى المكتب، ولم يضع وقتا في تحية أو مجاملة، بل أشار إلى علبة صغيرة فيها لون أحمر ومعها «فرشة» صغيرة؛ لأكتب بها الأرقام على بالات القطن.
ونحن إذا تأملنا الأمور بعقولنا وقبلناها لا نعرف دائما حقيقة مشاعرنا، فمنذ أخذت العلبة وسرت إلى مخزن القطن لأبدأ عملي، بدأت أسأل نفسي أسئلة خانقة، ولا أظن أحدا يستطيع أن يعرف ما يبعثه مثل هذا العمل من الشعور بالصغر إلا إذا جربه بنفسه، أخذت أكتب الأرقام وأتحرك بين البالات الضخمة شاعرا بأني شخص تافه، ومضى اليوم الأول طويلا وعدت إلى بيتي حانقا على نفسي ساخطا على قضائي، وأخذت ألوم نفسي أشد اللوم على أني قطعت دراستي وأضعت مستقبلي، ولكني عدت بعد حين أراجع حنقي وسخطي عندما تذكرت ما حدث لي في مدة السنة الماضية التي قضيتها عاطلا عن العمل، وبعد أن أمضيت بضعة أيام في المحلج بدأت أستقر أو بقول آخر بدأت أرضى عن عملي، وعندما جاء أول الشهر أعطاني السيد مرتبي عن الأيام العشرة التي عملت فيها عنده في الشهر الماضي وكانت أربعة جنيهات، فعرفت أن المرتب الشهري الذي قدره لي يصل إلى اثني عشر جنيها، وهو مبلغ لم أكن أحلم به، وكان أول ما فعلت أن اقتطعت من الجنيهات الأربعة جنيها لأشتري به كتبا أقرؤها؛ لأني شعرت بحنين شديد إلى القراءة.
وكان لقراءتي أثر عظيم في تخفيف شدة الشعور بالتفاهة، وهو الشعور الذي كان ما يزال يعاودني؛ وذلك لأني كنت عندما أقرأ أحس كأني انتقلت إلى عالم آخر غير البالات والأرقام؛ ولهذا كنت أضع الكتاب الذي أقرؤه قريبا مني لأعود إليه كلما وجدت فراغا من العمل حتى أخرج به حينا عن عالم البالات، وقد استمر دأبي على هذه العادة الجديدة فصرت أقتطع في كل شهر جنيها أو جنيهين لأشتري كتبا جديدة كأنها جزء من عدة عملي.
وبدأت أتعرف على من هناك من العمال والموظفين، وأنست إلى أكثرهم ما عدا مصطفى عجوة؛ فقد كنت أحس في قرارة نفسي شعورا عميقا بالكراهة له وسوء الظن به، مع أنه كان يقذف نفسه علي ويتودد إلي بطريقته السمجة التي تدعو إلى زيادة النفور.
وكان السيد أحمد يتلطف بي ويترفق في معاملتي ولا يخاطبني إلا باسم سيد أفندي، وكثيرا ما دعاني إلى الجلوس معه في مكتبه، وهذا شرف لا يناله في المحلج أحد غيري. كان مصطفى عجوة يدخل إليه في المكتب فيقف إلى جانب حتى يتلقى أمره ثم يخرج، وأما الموظفون الآخرون فكانوا لا يجرءون على الدخول إلى مكتبه.
Shafi da ba'a sani ba