منذ جريمة اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، بنيويورك، أخذت المسائل شكلا بشعا، فإذا انتقدت الفكر التقليدي الإسلامي يقال عنك إنك متحالف مع الغرب ضد الإسلام، وإذا انتقدت الغرب يقال إنك أصولي تدافع عن «أسامة بن لادن»؛ الأمر الذي دفعني للاعتكاف ثلاثة أشهر في مكتبي، وإلى تغيير رقم تليفوني والإيعاز لسكرتيرتي بأنني غير موجود. وقررت أن أجمع أشيائي وأحزمها وأعود إلى مصر. لقد أصبح من المستحيل أن أرجئ مشروعي النقدي وأدخل في سجال، مبارزة هنا وأخرى هناك، لكن في نهاية الأشهر الثلاثة قررت ألا أتخلى عن دوري النقدي؛ لأنني لو تخليت عنه لأصبحت في غربة حقيقية؛ فكتبت مقالا نشرته «السفير» في بيروت في الثالث عشر من يناير ألفين واثنين، بعنوان «النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب». وفكرت في كتابة مجموعة من المقالات عن تجديد الخطاب الديني لجريدة الأهرام، عالجت فيها مسألة علاقة الخطاب الديني بمجمل الخطاب العام، والمسألة الثانية هي معنى التجديد ودلالته وآفاقه ومحاذيره، لكن «الأهرام» نشرت مقالة واحدة في الرابع والعشرين من فبراير ولم تنشر بعدها، إلى أن نشرت مجلة «الزمان» المقالات في سنوية أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعنوان «تجديد الخطاب الديني، ملاحظات واقتراحات»، ونشرته مجلة «سطور» بعد ذلك بعنوان الإصلاح بالقتل. وقد نشرت جريدة الأهرام ويكلي في عدد الثاني عشر من سبتمبر ترجمة له تحت عنوان «الجنة بأي طريق؟»
اتصلت بي باحثة من جامعة أمريكية اسمها «إيستر نيلسون» في مايو، وأتت للقائي بهولندا، والتقينا على مقهى أسفل مترو لايدن، شمرت أكمامي للحوار، طلبت مني أن أكتب كتابا عن حياتي باللغة الإنجليزية يعرض رحلتي الشخصية والفكرية دون التركيز على وقائع القضية، أخبرتها باستخدامي للغة الإنجليزية كلغة علمية، لكن أجد صعوبة في الكتابة بها كلغة قص. واهتماماتي الأكاديمية تجعل كتابة كتاب عملية صعبة. فعرضت علي أن نتحدث وتسجل هي حوارنا، ثم تصوغ الكتاب بالإنجليزية، وأراجعه وأدخل عليه التعديل.
سافرت إلى دمشق تلبية لدعوة مؤسسة «المدى» الثقافية بمناسبة مئوية «عبد الرحمن الكواكبي» (1264ه/1849م-1318ه/1902م). وفي مداخلة لي تعليقا على محاضرة وجدت مساندة كبيرة، وكتبي مقروءة. تجولت في أحياء دمشق القديمة وصولا إلى مقبرة باب الصغير حيث يرقد جثمان «نزار قباني» الذي كان مات في لندن بعيدا عن وطنه، ورفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع. اهتمت السلطة بجثته، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله للوطن. وزرت قبر «ابن عربي»، وقبر «صلاح الدين» المتواضع، وتأملت مسألة الموت. تجولت مع «علي الأتاسي» الذي أجرى معي حوارا نشره فيما بعد في السابع عشر من أكتوبر، في ملحق جريدة «النهار» اللبنانية. وبالليل حضرت حفل موسيقى غنى فيه المطرب «محمد منير» أغانيه في فيلم المصير عن «ابن رشد»، وحينما وصل إلى جملة «لسه الأغاني ممكنة» رغم استماعي لها كثيرا من قبل أجهشت في البكاء.
محاضرتي أدارها المفكر «صادق جلال العظم»، وكانت القاعة مكتظة بالناس، الكراسي امتلأت والطرقات والكوريدورات، ففتحوا قاعة أخرى ووضعوا بها مونيتور. كان وضعا مقلقا للسلطات وللمنظمين. واستمرت الندوة - أسئلة وإجابات - حوالي ثلاث ساعات ونصف. شعرت أنه نوع من التضامن معي. كانت محاضرتي بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا»، وهي القضية التي تمتلك علي حياتي الآن؛ فالحياة تتجدد بالحركة والصيرورة، في حين أن النص ثابت في منطوقه؛ ولذلك فالمسلمون يسعون دائما لفض هذه العلاقة بين الواقع والنص، من خلال عمليات التفسير والتأويل، وعرضت سريعا مقولات المعتزلة واعتمادهم على مقولة المجاز اللغوي لفض التناقض بين ظاهر منطوق النص والعقل، واستخدامهم لقياس ما هو غائب عن حواسنا بقياسه على ما نراه في شواهدنا.
وفي العصر الحديث، «الإمام محمد عبده» هو من بدأ يدرس كتابي شيخ البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني». وسعى في كتابه «رسالة التوحيد» إلى استعادة علم الكلام الاعتزالي، خصوصا في مبدأ العدل، وإن كان استعاد أيضا مفهوم التوحيد عند الأشاعرة، لكن «عبده» قال إن القرآن كتاب هداية وليس كتابا في التاريخ أو العلم ... إلخ. ونظر إلى القصص القرآني على أنه ليس تاريخا، وإنما المراد به الاعتبار والعظة من السياق، وليس المهم في القصة صدق ما تحكيه من وقائع وأحداث، بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تستنبط منه العظة. وركز «عبده» على أن الله يخاطب الناس على قدر عقولهم وأفهامهم؛ لذلك فعملية التأويل عنده تستند إلى مرجعية اللغة العربية كما استخدمها العرب في عصر النبوة. وجمع بين العقل والنقل، ورفض النقل الذي يتعارض مع العقل.
وعلى الرغم من أن كتاب «طه حسين» في الشعر الجاهلي لم يكن موضوعه التأويل، فإن آراء «محمد عبده» عن القصص القرآني أنها تمثيلات كانت موجودة، وفي بحث «طه حسين» عن مدى انتساب الشعر الجاهلي فنيا للحياة الجاهلية؛ فهو يعتبر أن القرآن هو أصدق مرآة للحياة الجاهلية. وقد اعتمد الكثير على ورود قصة هجرة النبي «إبراهيم» بولده «إسماعيل» والسيدة «هاجر» إلى أرض الحجاز دليلا على أن هناك عربا مستعربة من الجنوب هاجروا إلى الشمال وتعربوا، واكتسبوا لغة أهل الشمال، وتخلوا عن لغتهم الحميرية. وأول «طه حسين» قصة «إبراهيم وإسماعيل وهاجر» معتمدا على اجتهاد «محمد عبده» أنها من القصص الذي كان معروفا عند الناس ومتداولا ، وأن القصة القرآنية هي «تمثيل»؛ أي أمثال، وهي من المتشابهات، ولم يتضمن رأيه بأي حال ما توهمه البعض بالتشكيك في صحة القرآن، بل رأيه أن ورود القصة في القرآن ليس دليلا على صحتها التاريخية بقدر ما هو دليل على وجودها في وعي المخاطبين بالقرآن وفي ضمائرهم؛ فمنطلق «محمد عبده» بعدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ، وأن أسلوب القرآن يحدده الغرض الديني الوعظي للقص، ولا علاقة له بالتتابع المنطقي أو التاريخي للوقائع خارج القرآن. أخذ «طه» هذه المقدمة وأضاف إليها مقدمة أخرى هي جدة أسلوب القرآن، ومن هاتين المقدمتين استنبط نتيجة مضمونها أن القرآن أثر فني بالغ مارس تأثيره هذا على المعاصرين لظهوره.
ثم يأتي الشيخ «أمين الخولي» ويركز على «الأثر الفني للقرآن»، ويقول إن القرآن هو كتاب العربية الأكبر وأثرها الفني الأقدس، ويتجه في اختلافه عن «محمد عبده» - والذي ركز على الهداية في القرآن - إلى أن الغرض الأول هو دراسة البيان كغرض أول لعملية التفسير، وإن كان «محمد عبده» يشير إلى علمي البلاغة التقلديين (المعاني والبيان) باسم علم الأسلوب؛ ف «الخولي» تفهم البيان معتمدا على علوم البلاغة الحديثة، فركز على مشكلة المنهج في كتبه التسعة، وخصوصا كتابه «مناهج التجديد والبيان»، وهو منهج التحليل الأدبي. وخطوات المنهج تتحدد من طبيعة النص ذاته من حيث البنية والتركيب العام؛ فليس هناك منهج واحد وخطوات محددة سلفا للتعامل مع كل أنماط النصوص، ووحدة المنهج لا تنفي تعدد الإجراءات.
ولأن الشيخ «الخولي» خريج مدرسة «القضاء الشرعي»، فإن تأثره بعلماء أصول الفقه واضح في منهجه بجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، وترتيبها تاريخيا قبل القيام بالتفسير، لكن هنا مشكلة، وهي أنه يتحدث عن تأثير البيان القرآني على المتلقي، وهذا التأثير تم طوال التاريخ من خلال بنية القرآن كما هي في المصحف الحالي؛ أي من خلال ترتيب التلاوة. فهل هذا نوع من التناقض؟ والشيخ «الخولي» يحتاج منهجه ومفاهيمه للدراسة الأدبية إلى دراسة مستقلة نفهم موقف الشيخ أكثر؛ لأنه أقرب إلى مفاهيم المدرسة الرومانسية المشبعة بمفاهيم الكلاسيكية الجديدة، وهي مفاهيم تتناول النص الأدبي من حيث الموضوعات والمضامين أكثر من تناولها له من حيث الشكل والبنية. وظل تلاميذ الشيخ «أمين الخولي»، «بنت الشاطئ، ومحمد أحمد خلف الله، وشكري عياد»، متمسكين بدرجات متفاوتة بمنهج وحدة الموضوع وترتيب النزول.
وناقشت ردود «الخولي» على الداعين إلى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. ويعتبر «الخولي» هو الامتداد المعرفي والتركيبي لكل من «محمد عبده» ومن «طه حسين» على مستوى المنهج، لكن أضيف إلى التحدي الخارجي الأوروبي - والذي واجه «محمد عبده» و«طه حسين» - تحديا آخر داخليا عند «الخولي»؛ هو المتمثل في نمو التيار السلفي. وعلى مستوى المضمون يضيف «الخولي» إلى وعي «محمد عبده» بالتراث المعتزلي و«ابن رشد» إنجازات علماء أصول الفقه والبلاغيين في مجال التحليل اللغوي؛ لاستثمار الأحكام من النصوص عن طريق وحدة الموضوع وترتيب النزول، ويضيف إلى منهج «طه حسين» «اللغوي الفني» أبعادا من نظرية الأدب عن تأثير البيئة، وعن التأثير النفسي للأدب في القارئ. وعسى تطوير منهج الأستاذ «أمين الخولي»، وفقا لإنجازات المعرفة المتنامية في مجال المعرفة الإنسانية - وخاصة «الألسنية والتأويلية» - أن يمثل تجاوزا لحالة الركود في مجال الدراسات القرآنية. وهذا هو ما يشغلني.
كنت بالغ السعادة بأنني ما زلت أستطيع التواصل مع الناس؛ فهذه هي أول محاضرة عامة مع جمهور عربي كبير. وكانت سعادتي أكثر بالشباب الذي لم يأخذ فرصته، وناقشت تخوفاتهم على الإسلام من استخدام المناهج الحديثة لدراسة القرآن. وقال أحد المثقفين: «إنك لو كنت بسوريا لما حدث لك ما حدث بمصر.» مشيرا إلى أن السلطة الحاكمة ما كانت لتدع هذا يحدث، فقلت له: أفضل أن أعيش في بلد أناسه لم يعجبهم ما كتبت، ولم يستطيعوا الرد عليه بالكتابة فذهبوا إلى المحكمة، عن العيش في بلد تقمعهم السلطة بعنفها واستبدادها. الشباب حضروا في اليوم التالي إلى الفندق ودار حوار أكبر، ونظموا بعض الأنشطة الثقافية التي دعوني إليها. وكنت أود مقابلة الشيخ «حسين فضل الله» الأمين العام لحزب الله، ولكنه كان ببيروت، فسعى بعض الشباب إلى الاتصال به، وأتى الرجل إلى دمشق لألتقي به في بيت له خارج دمشق، في منطقة «السيدة زينب»، وكان كريما وأهداني كتبه، وكان بصحبته بعض مشايخ الشيعة من البحرين والإمارات، وأخبرني أنهم يعتبرونني من المفكرين المجددين في الإسلام. ودخلنا في نقاش علمي جميل عن فهم النبي للقرآن، ومدى بشرية هذا الفهم. وصدر المجلد الثاني من الموسوعة القرآنية الصادرة باللغة الإنجليزية عن جامعة لايدن، ولي به ثلاث مساهمات عن القرآن في الحياة اليومية، وأخرى عن الصحة والمرض، وثالثة عن العزم.
Shafi da ba'a sani ba