البحث عن ماهية النص هو بحث عن ماهية القرآن، ولا طريق للتعامل مع التأويلات النفعية الأيديولوجية دون الوقوف على مفهوم الثقافة لطبيعة النص القرآني، والبحث في طبيعة القرآن قد توقف منذ عشرة قرون، لكن لا سبيل للخروج من أزمة ثقافتنا في تعامله النفعي مع نصوص القرآن دون بحث هذا السؤال . وقد تجنبت كل محاولات التجديد التعامل مع هذا السؤال أو الاقتراب منه جزئيا، ولا سبيل للخروج من التطاحن بين السلفية والتجديد الحالي دون تكوين وعي علمي بالتراث؛ فالتجديد على أساس أيديولوجي لا يقل خطورة عن التقليد. والبداية كما أتصورها من العلوم التي أنتجتها الثقافة الإسلامية حول القرآن. ومن خلال عملية الجمع الذي تم في مواجهة خطر الغزو الصليبي على العالم الإسلامي، في كتابي «البرهان في علوم القرآن» ل «الزركشي» (ت: 794ه/1393م) وكتاب «السيوطي» بعده بأكثر من قرن «الإتقان في علوم القرآن» (ت: 910ه/1505م). وسوف أركز على مفهوم النص بين علوم القرآن المختلفة مما يربط الدراسات الإسلامية، وهي دراسات تنتظم علوما كثيرة محورها النص، سواء كان نص القرآن أو نص الحديث النبوي، ودراسة النص من حيث كونه نصا لغويا في بنائه وتركيبه ودلالته وعلاقاته مع نصوص أخرى في ثقافة معينة مجالها في الفكر المعاصر هو الدراسات الأدبية.
فمع مصدر القرآن الإلهي وقدسيته عندنا كمؤمنين به يظل نصا لغويا؛ فقد درسه اللغويون والنحاة والبلاغيون بحثا عن الإعجاز، وهي مقدمة تمهيدية لعلوم الفقه وأصوله وعلوم القرآن، ودرسه المتكلمون لإثبات النبوة ... إلخ؛ مما يجعل الدراسات الإسلامية ليست علما خاصا، بل مفهوما يتسع لكثرة من العلوم والتخصصات. والبحث عن مفهوم للنص في التراث يساعد في تحديد مفهوم موضوعي للإسلام يتجاوز الطروح الأيديولوجية؛ بحثا عن ماهية الإسلام. انطلقت من الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني، وأيضا من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى. والنص القرآني تشكل في الواقع والثقافة خلال أكثر من عشرين عاما، وألوهية مصدره لا تنفي واقعية محتواه ولا انتماءه لثقافة البشر؛ لأن القرآن يتحدث عن نفسه أنه رسالة، والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو نظام لغوي، والدراسة العلمية يكون مدخلها هو الواقع الذي ينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول عليه السلام، وعرب الجزيرة والثقافة التي تتجسد في اللغة. والنص في هذه المرحلة وبتلك الصورة منتج ثقافي؛ ليصبح بعد ذلك نصا منتجا للثقافة، العربية الإسلامية؛ لكونه النص المهيمن على هذه الثقافة، مستخدما منهج التحليل اللغوي، بادئا بما هو معلوم وصولا لكشف ما هو مجهول؛ من الحسي صعودا.
في الباب الأول من الكتاب بفصوله الخمسة تركيز على دور الواقع والثقافة التي نزل فيها نص القرآن في تشكيل وجوده، من خلال دراسة مفهوم الوحي وعلاقته بالثقافة العربية، وتقبل العرب لفكرة تواصل البشر مع غير البشر، ثم المتلقي الأول للنص وتجربة حياته وتعامل النص معه، ودور يتمه الذي شعرت به أنا أيضا في فقد أبي، وتعامل نص القرآن مع هذا اليتم. كذلك علما المكي والمدني في علوم القرآن، ثم علم أسباب النزول، ثم علم الناسخ والمنسوخ. ودور هذه العلوم في إبراز صلة النص القرآني مع الواقع وتعامله معه.
في الباب الثاني تناولت دور القرآن وآلياته في علاقته مع النصوص الأخرى في الثقافة العربية، وطرقه في إنتاج الدلالة والمعاني، من خلال خمسة فصول: فصل عن الإعجاز، وفصل عن علم المناسبة بين الآيات والسور، وفصل عن الغموض والوضوح، وفصل عن العام والخاص، ثم فصل عن التفسير والتأويل.
الباب الأخير يحاول الكشف عن التحول الذي تم لمفهوم النص ووظيفته في الثقافة العربية، والتحول الذي ساد هذه الثقافة حتى عصورنا الحديثة، بدراسة فكر «أبي حامد الغزالي» (450ه/1058م-505ه/1111م) الذي قام بدور خطير في صياغة المفاهيم والتصورات التي كتب لها الشيوع والاستقرار في مجال الفكر الديني، في محاولة لكشف أسباب بداية عزل النص عن الواقع وعن حركة الثقافة، والكشف عن جذور كثير من الأفكار والمفاهيم الشائعة في الخطاب الديني والمعاصر. بعد الانتهاء من كتاب مفهوم النص، جمعت الأبحاث والدراسات التي ألفتها خلال السنوات الخمس الماضية، وتقدمت إلى الترقية إلى درجة أستاذ مساعد للجنة الترقيات، وحصلت على الدرجة. وآثرت أن أقضي عامين زيادة باليابان؛ لما أتاحته لي من جو ساعدني على البحث والدراسة، ولأن تدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا لم يكن يأخذ من وقتي الكثير. وزرت ماليزيا، والتقيت جماعة «قاسم أحمد» التي تروج لمفهوم أن الإسلام هو القرآن وحده، والتعرف على تجربة المسلمين هناك، وحالة النهوض الاقتصادي عندهم.
12
كتبت مقالة لمجلة الفنون الشعبية نشرتها في مارس سنة سبع وثمانين عن «الفوازير، وظيفتها وبناؤها اللغوي». وكتبت دراسة عن الإنسان الكامل في القرآن باللغة الإنجليزية، نشرتها مجلة جامعة أوساكا باليابان بعددها السابع والسبعين، سنة ثمان وثمانين. وقمت بدراسة لجانب آخر من تراثنا، نشرتها مجلة ألف بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في عددها الثامن سنة ثمان وثمانين، عن آليات التأويل في كتاب «سيبويه» (140ه/758م-180ه/797م)؛ التأويل بمعنى كيفية معالجة «سيبويه» في كتابه «الكتاب» للغة بوصفها نصا بالمعنى السيميوطيقي، كيف حاول اكتشاف آليات اللغة كنص وصولا إلى دلالة هذا النص ومغزاه. لقد عاب اللغويون العرب المعاصرون على القدماء معياريتهم وأحكامهم التقييمية في دراسة اللغة؛ فقد وضع النحاة القدماء تعليلات ما هي إلا تأويلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية لتصنيفها بهدف الكشف عن نظام اللغة وصولا إلى حكمة واضعيها، لكن يجب علينا أن ندرك أن جهد النحاة القدماء جزء من نظام ثقافي عام تحكمه رؤية للعالم ذات طبيعة غائية، وكان درسهم اللغوي يواجه مشكلات لا تواجه المعاصرين، لكن الإشكال أن اللغويين في محاولة دراستهم للغة يستخدمون اللغة في التعبير عن دراساتهم أيضا؛ فألفاظ مثل الفعل والمفعول والمضارع والفتحة والحزم ... إلخ علامات في اللغة دالة، لكنها في البحث اللغوي تتحول إلى مفاهيم تحليلية؛ أي تمت لها عملية إعادة تفسير أو تأويل نقلتها من مجال الكلام إلى مجال اللغة، بالإضافة إلى أن اللغويين كان عليهم أن يتعاملوا مع القرآن باعتباره النص المعيار الذي يمثل النظام اللغوي بدقة، ولم يكن ممكنا للنحوي منهم أو اللغوي أن يضع قواعده دون أن يكون نص القرآن نصب عينيه.
وقد أخذت مفهوم «العامل» عند «سيبويه»؛ وهو مفهوم ذهني لتفسير ظاهرة علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة، وتصنيف الكلمات إلى عوامل ومعمولات أو متأثرات، وهي رؤية تقوم على تصور ذهني أن كل أثر لا بد له من مؤثر، وكل فعل لا بد له من فاعل، وكل معلول لا بد له من علة. وناقشت مفهوم القياس وأركانه الأربعة عند «سيبويه»، واختلافه عن القياس في الفقه؛ فالنحوي لا ينقل حكما من نص بل يستنبط بالتأويل والمقارنة أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين ظواهر اللغة. وتناولت مفهوم الشذوذ في حالة الخروج على القاعدة والنظام. وأدركت أن مفاهيم «سيبويه» في «الكتاب»، خاصة مفاهيم التقييم، تحتاج إلى دراسة دقيقة متتبعة لكل أحكامه. هذه الدراسة تقف موقف الدفاع عن النحو التقليدي أمام موقف المعاصرين المنادين بالمنهج الوصفي؛ لأن هجومهم «ينبع من نظرة تجزيئية تفصل علم النحو وسائر علوم الثقافة، ومن جهة أخرى ينبع من موقف تأويلي ضمني يتخفى تحت شعارات براقة. والهجوم على تأويلات النحاة دون فهم الدوافع والأسباب يعوق فهم طبيعة القضايا والمشكلات التي ساهمت في بناء العلم، وفي تحديد تصوراته ومفاهيمه؛ وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن تلمس آثارها في محاولات تجديد النحو العقيمة.» هذا عن التأويل في كتاب «سيوبه» وأهميته، أما التأويل الخفي في كتب الدارسين المحدثين - والذين ينكرون التأويل ويهاجمونه - فله حديث آخر. إن سنواتي الأربع في اليابان كانت سنوات إنتاج فكري، وحان وقت العودة للجامعة الأم. كان انطباعي عن اليابانيين أنهم لا يعبرون بملامحهم عن مشاعرهم، لكني فوجئت في مطار أوساكا بطلاب قسم اللغة العربية الذين درست لهم خلال السنوات الأربع؛ مائة طالب يصطفون صفين، ويرفعون لوحة مرسوما عليها قلب مكتوب به جملة باللغة العربية، وموقع عليها منهم جميعا، وغنوا لي أغنية يابانية جميلة. كانت حفاوة بالغة منهم، ووداعا أحمله في قلبي. وعدت إلى مصر في مارس تسعة وثمانين.
المواطن مفكرا
1
Shafi da ba'a sani ba