الإهداء
مفتتح
لا
من غرب لشرق
المواطن مفكرا
في الطوفان
قاب قوسين
زهور الرحيق
قائمة المصادر والمراجع
الإهداء
مفتتح
لا
من غرب لشرق
المواطن مفكرا
في الطوفان
قاب قوسين
زهور الرحيق
قائمة المصادر والمراجع
أنا نصر أبو زيد
أنا نصر أبو زيد
تأليف
جمال عمر
الإهداء
«هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل.
أيها الزائر لقبري لا تكف عن مواصلة الحلم.» •••
إلى
كريم
ورنده وجولي
وإلى الأخ حسيني
من أجلكم هذه العلامات.
جمال
مفتتح
لأن «آفة حارتنا النسيان» كما كتب عمنا نجيب محفوظ، فمن المهم التعامل مع هذه الآفة، وهذا النص محاولة لمواجهة النسيان في حارتنا. الآفة الأخرى التي أراها هي آفة استبعاد الجماهير من المشهد، ويتم اختصار وجودهم فقط في خلفية المشهد؛ تارة بثنائية الخاصة والعامة عبر «إلجام العوام»، وتارة عبر لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير. والجماهير هنا كائن هلامي، لا رأس له ولا جسم ولا هيكل عظميا أو لسان يعبر عنه ويمثله.
فهذا النص خطوة ضد آفة النسيان وآفة استبعاد الجماهير؛ نص يوثق، ولكن ليس التوثيق التقليدي، بل يوثق حياة؛ حياة «نصر» وحياة التفكير عنده، ليس مصدرها كلام «نصر» عن نفسه فقط كما تصور معظم من قرءوا الكتاب من عنوانه؛ ففي الكتاب ثلاثة أصوات؛ صوت «نصر»، وصوت المؤلف، وصوت ثالث عام يسجل واقعا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا خلال سبعة عقود.
هذا النص ضد استبعاد الجماهير، ليس من خلال نقد مقولة الخاصة والعامة تطبيقيا فقط، بل نقدها بمحاولة وضع خريطة لمدينة خطاب «نصر أبو زيد»، عبر محاولة تلخيص وتبسيط - بقدر الإمكان في متن الكتاب - كل نص كتبه «نصر أبو زيد» ونشره، سواء مقالة أو بحثا أو كتابا؛ لتكون خريطة لكل باحثة وباحث في خطاب «نصر أبو زيد».
لعل هذا العمل يكون مقدمة يدخل عليها القارئ والقارئة التعديل والتصويب؛ لكي تستطيع الثقافة أن ينقل وعيها من داخله لخطوة تالية، بهضم القديم وما تم فيه، فنصعد على أكتاف القدماء وعلى جهودهم، فنرى أبعد مما رأوا.
يا مسهل
جمال عمر
20 يونيو 2021
بارك سلوب ، بروكلين
امتحت رحيق هذه القصة من خلال تسجيلات صوتية لنصر حامد أبو زيد، يتحدث فيها عن حياته، أجريت هذه التسجيلات عبر حوارات ولقاءات تم توثيقها في نهاية الكتاب.
لا
1
جاءت رسائل الدعم من كل مكان في العالم العربي، واتصل بي معهد الدراسات المتقدمة ببرلين في ألمانيا يعلمني برغبته في تقديم موعد المنحة المقررة لي في أكتوبر العام القادم لتكون هذا العام؛ وجامعة بون عبر رئيس قسم الاستشراق فيها، والذي قال: «يا نصر هات «ابتهال» وتعال.» بل إن الأستاذ «فريد ليمهاوس»، الذي كان مفترضا أن نذهب إلى حفل وداعه مغادرا مصر، اتصل بي وقال: انتظرني سآتي أنا إلى بيتك في السادس من أكتوبر، وعرض علي أن أذهب إلى جامعة «لايدن» بهولندا، التي تمثل حلما لكل دارس في الإسلاميات. وصديقي الشاعر زين العابدين فؤاد هو الآخر يسعى باتصالاته مع بعض طلابه ومعارفه في الخارجية الهولندية لنفس الهدف. ووسائل الإعلام الغربية تتناول ما حدث، وغاب الإعلام الحكومي المصري عن الساحة. طالبت وزير الإعلام أن أشرح في التليفزيون أو الإذاعة وجهة نظري؛ فليس لي منبر مسجد، كما يفعل الآخرون، أخطب عليه، بل اقترحت أن تعقد ندوة تليفزيونية تضم د. محمد عمارة ود. سليم العوا من جهة، ود. محمود علي مكي ود. مصطفى الصاوي الجويني من جهة أخرى؛ فليس من المعقول أن يظل الإعلام المصري هو الوحيد «الأطرش في الزفة». التقارير الصحفية الغربية تجاهلت دور المصريين العاديين المتضامن معنا، وكذلك منظمات المجتمع المدنية المدافعة عن الحريات، والتي تقاوم الإسلاميين الذين يريدون أن يحكموا المجتمع والقضاء.
آلمني أن أحد الأساتذة وبعد الحكم - وفي أول اجتماع لقسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه - قدم طلبا لفصلي من القسم بسبب الضغوط التي تمارس على الجامعة؛ وحتى طالب الدكتوراه السوري، الذي قد انتهى منها تحت إشرافي، واعتذر عضو من لجنة مناقشة الرسالة؛ أستاذ في السبعين من عمره، من جامعة عين شمس، وقال إنه خائف على حياته؛ فلم تناقش الرسالة.
بدأت عملية تصحيح أوراق الامتحانات، وفي هذه الظروف الصعبة كانت رسائل الطلاب المتضمنة دعما - في ورقات الإجابة - بل حتى الإسلاميون منهم. والعجيب أن الكثير منهم اتفق على الاستشهاد بأبيات من قصيدة للشاعر أمل دنقل لم أدرسها لهم، «كلمات سبارتكوس الأخيرة»، تقول:
المجد للشيطان ... معبود الرياح،
من قال لا في وجه من قالوا نعم،
من علم الإنسان تمزيق العدم،
من قال لا فلم يمت،
وظل روحا أبدية الألم.
معلق أنا على مشانق الصباح،
وجبهتي - بالموت - محنية؛
لأنني لم أحنها حية.
اتصل بي الكاتب والروائي السوري نبيل سليمان وقال: «يا نصر، تليفونك مشغول طول الوقت يا خيي، لكن بدي أقول إنك عملت الشويتين دول من شان (علشان) تتخلص من «ابتهال»، واخترعت حكاية القضية، لكن يا خوي هذي «ابتهال» قالت إنها متمسكة بك، خلاص. وكلنا بدنا نعمل مثلك، لكنك فشلت.» ورسومات الكاريكاتير، في الصحف: واحد جالس ينظر إلى زوجته ويقول لنفسه: «أنا عايز أعرف ابن أبو زيد ده عملها ازاي!» وأتتني د. منى ذو الفقار وزوجها الأستاذ علي الشلقاني يطلبان توكيلا قانونيا بتكوين لجنة دفاع أمام محكمة النقض؛ دفاع عن المجتمع والسلام الاجتماعي وتهديد القيم المصرية.
والغريب أن المحاكم المصرية تمتلئ بقضايا الطلاق التي تستمر سنوات ولا يفصل فيها، «والتي فيها من الإجحاف ما فيها لحقوق السيدة المصرية، إلا أن «ابتهال» هي المرأة الوحيدة التي لم تطلب الطلاق وتطلق رغما عنها»؛ فأرسلت كلمة إلى الندوة العربية التحضيرية للمؤتمر العالمي للأمم المتحدة حول المرأة، التي عقدت في تونس في الخامس والعشرين من يونيو، تحدثت فيها عن هتك عرضها من قبل من رفعوا القضية، وقالت: «زاعمين أنهم قاموا بذلك من أجل مصلحتي ولحمايتي. هل نسوا أني كائن عاقل بالغ كامل الأهلية، وصلت إلى سن الرشد منذ زمن، وأستاذة جامعية أساهم في بناء وتنشئة جيل المستقبل؛ أم إن المرأة ستظل في نظرهم مجرد حيوان من فصيلة الثدييات، مجردا من أي وعي أو عقل أو إدراك، يقتصر دوره فقط على إشباع الرغبات والإنجاب؟»
دخل فرد الأمن الذي يلازمنا إلى شقتنا المليئة بالضيوف يخبرني أن «أتوبيس» بالخارج. سألته: «أتوبيس ؟ أتوبيس إيه؟» قال والقلق على وجهه: «أتوبيس طلبة، بيقولوا إنهم من تلاميذك وعايزين يسلموا عليك.» قلت: «يسلموا علي؟! الشقة ليس بها ثقب، سأخرج لهم بالخارج.» قال في حدة: «لكن يا دكتور ليكون حد فيهم مخبي حاجة يطعنك بها.» قلت بحسم: «الطلبة؟ لا، هؤلاء ولادي.» خرجت إلى الشارع، وكان «أتوبيس» رقيق الحال، جمعوا نفقاته بأنفسهم ليعبروا عن مساندتهم. أخبرتهم أن شقتي صغيرة، وليس هناك مكان للترحيب بهم، وأنا شاكر وممتن لهم. تفهموا الوضع، ونزلوا من «الأتوبيس»، وسلمت عليهم فردا فردا. وكان ذلك يعطيني الأمل في مواصلة الدفاع عن قيم الحق والعدل والحرية. «جاءت الأخبار يوم السابع والعشرين من يونيو؛ أسبوعان بعد الحكم، ومحاولة اغتيال رئيس الدولة ذاته، في زيارته لأديس أبابا بأثيوبيا. أخبار زادت الاحتقان بالداخل، وتكشف عن المدى الذي وصلت إليه الأمور بمصر» في المواجهة بين سلطة الدولة بأجهزتها القمعية وجماعات العنف الديني المسلحة.
أصبحت حياتي اليومية «مسخرة»، «لست سوى سجين يقف على بابه جنود الشرطة يسألون عن زواره، وأستأذنهم قبل أن أغادر بيتي. لا أستطيع الذهاب إلى أحد أو السهر عند صديق بدونهم؛ فالحكومة تحميني، وتفتح المساجد لمن يطالبون بدمي.» فهل تنتهي القضية بالجنازة الشعبية وبيانات الشجب والإدانة وظهور صورتي في التليفزيون؟
حاول الأمن أن يثنيني عن مناقشة رسالة جامعية لأحد تلامذتي كنت مشرفا عليها بجامعة القاهرة؛ للدواعي الأمنية، لكني رفضت. ركبت سيارتي ومعي رجال الأمن، وسيارة أخرى تتبعنا. وصلت إلى الجامعة، ففوجئت أن الحرس موجود في كل مكان، وعلمت أن الأمن قد أفرغ الجامعة منذ الثانية ظهرا. «لو أمي كانت عايشة كانت فرحت بما يحدث.» وجدت لواء شرطة وعمداء يحيونني أنا ابن الفقراء الذين يرهبون الغفير. وقد وضعت الشرطة أجهزة أشعة كشف الأسلحة ليمر عليها كل من سيحضر المناقشة، وطلبوا من الطالبة «أسماء» من سيحضر من أهلها للتحري عنهم، «وخصصت للمناقشة حجرة صغيرة» من أجل إحكام تأمينها.
من هذه التجربة أدركت الضغوط والعبء على الجامعة، وعلى طلبتي الذين سيكون الأمن حاجزا بيني وبينهم. هذا ونحن في الإجازة الصيفية ، فماذا سيكون الوضع عند عودة الدراسة؟ «وإذا اتخذت الجامعة قرارا بإبعادي عن التدريس لصعوبته الشديدة وسط هذا الحصار، وإذا صممت على التدريس فسيمثل هذا ضغطا شديدا على الجامعة»، التي تتعرض لضغوط شديدة من جانب المتطرفين لفصلي، بعد صدور الحكم. شعرت أن حلم الجامعة الذي عشت وكافحت من أجله يتسرب، وأن جزءا كبيرا من فعاليتي ونشاطي بالتدريس في الجامعة قد تم استئصاله. «أنا عمليا محبوس مسجون.» كيف يمكن لي أن أعيش؟ ليكن ما أشعر به مسألة عاطفية أو نوعا من الرومانسية، «لكني لا أستطيع أن أتحمل دخولي الجامعة على هذا النحو من الحصار وإبعاد الطلبة عني بهذه الطريقة.»
في طريق عودتنا بالسيارة من المناقشة، طلبت من «ابتهال» أن نبتعد عن هذا الوضع. فلنأخذ إجازة؛ فنحن تقريبا لا ننام، وهي عندها منحة في إسبانيا في شهري سبتمبر وأكتوبر، فنقضي شهر أغسطس هناك، ونفكر في الخطوة التالية. طلبت إجازة من الجامعة، وأعلنا أننا ذاهبان إلى الساحل الشمالي، ولم يعرف أحد بسفرنا غير والدتها وأخيها والأمن. أخذنا الطائرة المتجهة إلى مدريد، في الحادية عشرة والنصف مساء الرابع والعشرين من يوليو. يعتصرني سؤال داخلي: لماذا حدث ذلك؟ كنت غاضبا جدا، ليس من شخص معين «بل من مصر»، غاضبا من الوطن. لقد عشت حلم الوطن وحلم الجامعة؛ فقد بلغت الثانية والخمسين ولم أملك شيئا. أتخيل أن دوري هو أن أعلم الطلبة كيف يفكرون، ولقد أخلصت في عملي، كفني لاسلكي، أو كأستاذ في الجامعة. وسافرت إلى كل مكان في العالم؛ كي أتعلم وأفيد وطني بهذا العلم كرجل من غمار الموالي. شعرت بشعور النبي محمد، في الطائف، حين قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى قريب يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.» أيقظت «ابتهال» وقلت لها: «لو حدث ومت في أي مكان في العالم فادفنيني مكان ما أموت.» وكعادتها تحاول أن تخفف عني، فقالت: «طيب خلاص.»
وعادت بي ذاكرتي إلى مشواري الطويل؛ منذ أن اشتد عزم الحرب العالمية الثانية وأنا أخرج للوجود في العاشر من شهر يوليو سنة ثلاث وأربعين، بقرية قحافة التي تبعد عشر دقائق مشيا عن مدينة طنطا؛ مركز الصوفي الكبير السيد «أحمد البدوي»، وهي عاصمة مديرية الغربية، على ضفاف فرع النيل. لم تصل الكهرباء ولا الماء النقي إلى قريتنا بعد، نسير في شوارعها مستخدمين مصابيح الجاز والكيروسين؛ شوارع لا تصل بك إلى طريق مسدود، دائما مفتوحة الاتجاهين. بيوت من الطوب اللبن إلا القليل كبيت العمدة. الملكيات الزراعية صغيرة لم تكن بها إقطاعيات كبيرة. بيتنا له بابان، تدخل من أحدهما فتمر على الغرفة البحرية، وقاعة الفرن الشتوية، بمصطبتها، فوق الفرن مفروش حصير، ورزونة السقف التي تفتح وتغلق للتحكم في دفئها بالشتاء، حين ننام جميعا بها، ومبني في الحائط «كتبية» ذات رفوف لحفظ الوثائق المهمة وحفظ المصحف الشريف.
أبي «حامد رزق أبو زيد»، في التاسعة والعشرين من العمر، قصير القامة بدين الجسم، يعرف القراءة والكتابة، ينادى عليه بالشيخ حامد. بدأ حياته مزارعا، لكنه أيقن أن المساحة الصغيرة التي يزرعها لا تكفي لإعاشة أسرته، فباع القراريط الصغيرة وفتح دكان البقالة الثانية بالقرية عند ناصية تقابل الشارعين الرئيسيين. حالته الصحية متعبة. أمي «نعيمة بنت الشيخ محمد لبدة»، مقرئ القرآن المشهور في قحافة وأجوارها، لأسرتها مكانة واحترام حاملي كتاب الله، في الحادية والعشرين من العمر، جميلة، تتميز بين أخواتها بنعومة بشرتها، كانت المفضلة عند أبيها، لا تبرح البيت، حتى إنها حينما انتقلت إلى بيت زوجها كانت تحتاج مساعدة لكي تعرف الطريق إلى بيت أبيها في القرية.
تأخرت أسرتي في تسجيل ميلادي، على ما أظن مثل الكثير من مواليد ذاك الزمان؛ خوفا من موت المولود. كان الجدل دائما بين أصحاب أبي الذين يتجمعون حول الدكان عن نتائج الحرب، ورغبة الكثير في انتصار جيوش «المحور»، بقيادة زعيم الألمان الذي دخل في الإسلام «محمد هتلر»؛ للتخلص من احتلال الإنجليز.
أنا الثالث بين الأبناء بعد أخي الذي مات طفلا، وبعد أختي «بدرية» التي تكبرني بثلاث سنوات. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولد أخي «محمد». حفظت بعض قصار السور، وتعلمت الصلاة في البيت وأنا في الخامسة. أرسلني أبي إلى كتاب الشيخ «المنيسي» في بيته. بجوار غرفته توجد غرفة العريف التي بدأت فيها تعلم القراءة والكتابة والحساب. نذهب إلى الكتاب من طلوع الشمس حتى المساء. أمسك بلوح الإردواز وأكتب عليه بالطباشير. لم أكن أشارك الأطفال في ألعابهم التي تتطلب الجري لبدانة جسمي، فكنت أجتهد في التعلم الذي أظهرت كفاءة فيه على الأطفال. كنت أتألم كثيرا من دفع والدي لي أن أتسلق مثل الأولاد أو أجري مثلهم.
أتشوق إلى اليوم الذي أنتقل فيه من غرفة العريف إلى غرفة الشيخ، للبدء في حفظ القرآن. وبسرعة انتقلت وحملت اللوح المعدني، وأمسكت بالفرشاة البوص ودواة الحبر. بدأنا بتعلم جزء «عم»، نتعلم كتابة الآيات على اللوح ويقرؤها علينا الشيخ عدة مرات، ونذهب لحفظها حتى يأتي وقت التسميع. ينظر إلينا الشيخ «المنيسي» فلا يشاهدنا، ولكنه يرانا جيدا، وضعني أمام كرسيه بين رجليه المدكوكتين، وبيده عصاه التي قدت من الجنة؛ فأنت تقرأ على الشيخ «المنيسي»، وحينما تخطئ تأتيك لسعة - كلسعة دبور من عصاه - خفيفة على رأسك؛ فعليك أن تعيد الآية. ولو أخطأت تأتيك لسعة أخرى، فتعيد ثانية، فيصحح لك الخطأ. حينما أعود إلى أمي أشكو أحيانا، فتقول لي: «عصاة الفقي من الجنة.»
كنت دائم التواجد في دكان أبي لأساعده، خاصة مع ازدياد المرض عليه، وكأنني انتقلت إلى عالم الكبار الذين يتجمعون حول أبي أمام الدكان، فيطلبون مني قراءة الجريدة، وأستمع إلى قصصهم، وحكايات أبي التي كان بارعا في قصها علينا بالبيت. «ومع اشتداد المرض ووجوده لفترات طويلة في البيت، نشأت مشاكل دائمة مع أمي بسبب تواجد زبائنها بالبيت؛ إذ بدأت تعمل خياطة.» استطعت إتمام حفظ القرآن في الثامنة، وأختي كريمة لم تكمل عامها الأول؛ فكان الاحتفال بمسجد القرية الكبير. ارتدى الشيخ «المنيسي» أجمل ثيابه، وفي حضور الناس وأمام أبي بدأ يمتحنني، فيذكر الآية وأكمل بعده. كنت سعيدا سعادة غامرة. وعلى الرغم من قلقي إلا أنني اجتزت الامتحان، وقبلت يد شيخي. ولأن أبي لم يكن من مزارعي القرية، فقد كانت هديته للشيخ «المنيسي» جبة وقفطانا وعمة ومبلغا من المال. وأصبحت أمام الجميع الشيخ «نصر». كانت أمي في غامر السعادة وهي توزع الشربات على الجيران، تساعدها أختي «بدرية»، وأخي محمد معها في كل أرجاء البيت. وحلم أبي أن أذهب إلى الأزهر، ودعوات أمي أن أكون مثل الشيخ «محمد عبده»، المفتي الشهير الذي درس في المعهد الأحمدي بطنطا. أصبحت أؤذن للصلاة بالمسجد حتى إن بعض المصلين قدموني للإمامة.
في نفس عام واحد وخمسين، افتتحت أول مدرسة حكومية بالقرية، وكان أبي في حيرة بين حلمه في استكمالي التعليم الأزهري واشتداد المرض عليه، حتى أتى صديقه العامل بمصلحة السكة الحديد وقال له: «يا شيخ حامد، الأزهر حباله طويلة، سكن في مصر ومصاريف، و«سنين»، الأزهريون يتزوجون وينجبون وما زالوا طلبة، إحنا نقدم للأولاد في التعليم الحكومي.» وكان لاشتداد المرض على أبي عامل مهم في قراره. والمدرسة تأخذ الأطفال من سن السادسة، فدخلها أخي محمد ولم يذهب إلى الكتاب. وأنا في الثامنة؛ فلا يحق لي دخولها، ويجب أن أدخل مدرسة خاصة بمصاريف لاستكمال تعليمي.
2
كان تفكير أبي أن يقدم شهادة فقر للتخفيف من مصاريف المدرسة. وبالفعل ذهبنا إلى مدرسة العبيدية الابتدائية بطنطا، وصاحبها وناظرها الأستاذ أسعد القبطي، بشاربه المفتول وطربوشه المحبوك. أجرى لي اختبارا؛ فلما وجد مستواي في القراءة والكتابة جيدين، قرر إعفائي من نصف المصاريف، وألحقني تلميذا بالسنة الثانية. يدرس فيها ولداه، والأستاذ سامي مدرس العلوم الاجتماعية، والأستاذ أنيس، والأستاذ جرجس يدرس الحساب. ويدرس اللغة العربية والدين الشيخ عيسى. أبناء المدينة ملابسهم «شيك» نظيفة، بشرتهم ناعمة بيضاء.
أقبل علينا رمضان، وأردت أن أبدأ الصيام، وأسرتي لا توقظني للسحور ، فظللت مستيقظا طوال الليل حتى السحور، وكان السحور كبدة، ونمت. استيقظت متأخرا على موعد المدرسة، وكان بابها مغلقا. طرقت الباب فإذا بحضرة الناظر بنظرته المرعبة يستقبلني قائلا: «ناموسيتك كحلي، وكمان بتخبط على الباب؟!»
كنت في حالة ارتباك، غمغمت ببعض الكلمات؛ من ضمنها رمضان والصيام، فنظر لي وقال: «وعلى كدا انت صايم؟» أجبته «نعم» بكل قوة وعزم. فقال: «طيب أرني لسانك، طيب ادخل، ولا تتأخر مرة أخرى.»
كنت في أشبال الإخوان بشعبة قريتنا. الأخ «إبراهيم رجب»، ناظر مدرسة قحافة، هو مسئول الشعبة، أخبرنا أن شعبتنا ستشارك في حفل استقبال المرشد العام للجماعة بنادي مركز شباب طنطا، وعلينا أن نستعد، وسوف يكون هناك طابوران من الأشبال وطابوران من شباب الجوالة. كنت سعيدا بهذه المشاركة. ويوم العرض اختاروني أن أكون في المقدمة لصوتي الجهوري. وبينما نحن نمر أمام الأستاذ المرشد، حملني أحدهم ووضعني أمام منضدة فضيلته، وقد طبطب على كتفي ودعا لي بالهداية، وأعطاني بوصلة تحدد اتجاه قبلة الصلاة. شعرت بفرحة كبيرة من تقدير المرشد. وافتخارا ببوصلة فضيلته طلبت من الأخ «إبراهيم رجب» أن أرقى من الأشبال إلى الجوالة، فضحك وقال: «لكنك صغير.» وتحت إلحاحي فتح دفتر العضوية وقال: «أي الأسر تريد أن تنضم لها؟» فقلت: «أسرة عمر بن الخطاب.» وكان أبي يدفع اشتراكا شهريا بسيطا لنشاط الشعبة على الرغم من ميوله الوفدية. انضم إلى أسرتنا مولود جديد أسماه أبي «أسامة».
أصبحت قريبا من الأستاذ عيسى مدرس اللغة العربية الذي طلب منا في حصة التعبير أن نكتب رسالة نوجهها لملك الأردن «حسين» نحثه على الوحدة العربية. ووقفت أمام الفصل بصوتي الجهوري أقرؤها. وبعد انتهائي نظر لي الأستاذ عيسى وقال: «لم تخطئ في النحو ولا قواعد اللغة ورسالتك حماسية، لكن هل تعرف النمرة التي تستحقها رسالتك؟» صمت قليلا وأنا أنظر إليه بلهفة وقال: «صفر. تعرف ليه؟ لا ترسل رسالة لواحد تشتمه فيها.» أدركت من كلام الأستاذ عيسى أنني كتبت ما هو شائع ويردده البعض، ولم أكتب ما بداخلي، كنت مدفوعا بما هو حولي عن مواقف الملك «حسين»، وكان درسا مهما لي بعد ذلك أن أستخدم اللغة ولا أجعلها تستخدمني. وخرجنا معا إلى مصلى مدرسة العبيدية لأداء صلاة الظهر.
قبض علي وعلى أبي؛ لأن أسماءنا كانت في كشوف جماعة الإخوان. ونظر الضابط إلى أبي ولي وقال: «من منكم العضو؛ أنت ولا هو؟» قال أبي: «لا أنا ولا هو، الأطفال يذهبون إلى الجماعة السنية هذه؛ فهي أفضل من وجودهم بالشارع، وكنت أدفع اشتراكا بسيطا كل شهر لكي أساعدهم.» فأفرجوا عني وعن أبي بعد ذلك، لكن ما حدث مع الأخ «إبراهيم رجب» مسئول الشعبة كان كثيرا، ولا أتخيل أبدا أن هذا الرجل كان متآمرا على حياة عبد الناصر الذي ملأ العيون والقلوب بحيويته وزعامته. شعرت أن ما يحدث للأخ «إبراهيم» ظلم.
قررت حكومة الثورة تعديل نظام التعليم من ابتدائي وثانوي فقط إلى ابتدائي وإعدادي وثانوي، فانتقلت إلى مدرسة التوفيقية الحكومية في السنة الأولى الإعدادية، وناظرها الأستاذ «عبد العزيز» من الأزهريين، أنيق الملبس، مثقف في الأدب. انضممت إلى جماعة الخطابة بالمدرسة. وفي مسابقة القراءة الصيفية بدأت أقرأ كتبا غير الكتب المدرسية المقررة؛ رواية إسبانية بعنوان «دون كيشوت»، و«الجريمة والعقاب» وهي تأليف «دوستويفسكي»، وكتب الإنجازات العلمية. وبدأت التعرف على الأدب العربي تحت رعاية الأستاذ «عبد العزيز»؛ الرواية وشعر «البارودي» وأمير الشعراء «أحمد شوقي» وشعر «المتنبي». وفي المسابقة فزت بالمركز الأول. وكانت الجائزة مزيدا من الكتب حتى أصبح لي رفوف في كتبية البيت أضع عليها كتبي. وكان أبي غير سعيد بكثرة الروايات في فترة من الحماسة ازدادت سخونتها مع العدوان الثلاثي الغادر على بلدنا وأنا في السنة الثالثة الإعدادية.
3
أختي الكبرى «بدرية» ذبلت نضارتها وحيويتها وحبها للتعلم، بعد رفض أبي أن تستكمل تعليمها؛ فمنذ أن تزوجت وهي في السادسة عشرة وحياتها جحيم؛ تعيش مع أسرة زوجها وحماتها المتسلطة، وكلما اشتكت لأبي يقلل من حجم الموضوع. فأتاه أحد الجيران يلومه على ترك ابنته هكذا، فمال إلى فكرة الطلاق، وتحدث مباشرة مع زوجها وأخبره بتنازله عن كل حقوقها مقابل أن يطلقها ، فتم الطلاق. واكتشف أنها حامل، فكان في شدة الغضب؛ فلم يكن هناك حكيم مسلم يمكن أن يجري عملية إجهاض، فذهب بها إلى أحد الحكماء الأقباط الذي كتب لها دواء تأخذه، لكن الحمل استمر وأنجبت مولودا ذكرا. ذهب أبي إلى الطبيب القبطي يلومه، والذي نظر إلى أبي وقال: «حامد، أنت فاكر علشان أنا قبطي أقتل مخلوق، مش من حقك ولا حق أي إنسان يقتل طفل خلقه الله، أنا كتبت لها فيتامينات.» ولم ينطق أبي بكلمة.
اشتد المرض عليه فأصبح يمكث بالبيت كثيرا، وأصبح ساعده الأيمن في المحل، وكانت رفوف المحل بدأت تخلو من البضاعة مع اشتداد المرض. تقدم ابن عمي «السيد أبو زيد» طالبا يد «بدرية» للزواج. اعتبره أبي نوعا من الشفقة، فرفض في البداية، لكن كانت هناك مشاعر حب بين «بدرية» «والسيد»، فوافق. وفي كل هذا لم يسأل أحد «بدرية» ماذا تريد هي، سواء في الزواج أو الإجهاض أو التعليم.
ظهرت نتيجة المدرسة الإعدادية، فدخلت على أبي، وسألني: «إيه النتيجة؟» قلت: «نجحت بمجموع كبير يدخلني الثانوية العامة.» نظر لي وقال: «جهز أوراقك لمدرسة الصنايع.» قلت بصوت خافت دون أن أنظر إليه: «أريد أن أدخل الثانوي العام.» قال بحدة: «لم يسألك أحد عن رأيك، يا مدرسة الصنايع أو تقف في الدكان.» لم أعرف ماذا أفعل، فذهبت إلى عمي الكبير، الساكن في مدينة كفر الزيات، بشقته الجميلة وبناته اللائي طالما زرننا ببيتنا في زي أميرات، كان ناظرا، أخبرته فعاد معي إلى القرية. وكان أبي في شدة الغضب، فقال عمي: «مدرسة صنايع إيه يا حامد، الولد مجموعه كبير وله مستقبل في الجامعة.» قال أبي بغضب بعد أن حاول الاتزان بصعوبة في جلسته: «لو أنا مت هتصرف عليه؟ وإن صرفت عليه ودخل الجامعة، هتصرف على أخواته؟» فلم يرد بكلمة. شعرت أني وضعت عمي في موقف صعب.
ولدت أختي «آيات»، وبدأ العام الدراسي. دخلت مدرسة الصنائع لدراسة اللاسلكي، كنت صغيرا بين طلابها، يتبارون في الإجرام والتمرد، فحاولت بقدر الإمكان أن أتكيف مع الأمر. قال لي أبي وهو في شدة المرض: «إذا مت وكان عندك امتحان اذهب للامتحان.» لم يمر شهر على ميلاد أختي «آيات»، وبداية دراستي في مدرسة الصنائع، وأنا في الرابعة عشرة مات أبي وهو في الثالثة والأربعين، في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر. أسرة من ستة أطفال، وأم في الخامسة والثلاثين من عمرها ونضارتها، على الرغم من حالات الإنجاب السبع التي مرت بها. سرت وراء جثة أبي ولم تخرج مني دمعة، الناس يحيطون بي ويحثونني على البكاء، لكني لم أبك، ولم تخرج نساء تنوح وراء جثمانه كما أوصانا.
وضعت يدي في يد أمي، وبمساعدة زوج أختي وابن عمي «السيد أبو زيد»، والذي قام بدور الأب الحامي لنا؛ عرفانا بالجميل الذي أسداه أبي له ولأسرته من قبل، فكنت بين الدراسة والمحل. أمي تغيرت حياتها تماما، وأصبحت الخياطة حرفة تتكسب منها، فتتحرك وتخرج في القرية وحدها. العيون تنهبها لشبابها وجمالها، لكنها نذرت نفسها لأبنائها الستة. أصبحت أقلد أبي، أفعل كما كان يفعل بالبيت، ومرة كنت أتحدث إليها، وعلا صوتي وقذفت بالمقص نحوها، فنظرت إلي دون أن تتكلم، وذهبت تجمع حاجاتي في منديل محلاوي، وألقت بها وبي في الشارع، وأغلقت الباب. أعرف أنها ستفتحه بعد قليل وتبكي ساعات، والناس تمر بي وتستفسر حتى اقترب مني الليل، وتجمع الجيران وأبناء القرية، وطرق بعض أفاضلهم الباب وأنا على مقربة أسمع: يا ست أم نصر، يا ست أم نصر. فقالت: «خير اللهم اجعله خير.»
تتحدث في برود وتؤدة. قال الرجل الفاضل: «إيه اللي حصل؟! هو نصر واقف برا ليه كدا والليل قرب؟!» قالت بنفس الهدوء: «مالوش لازمة عندي، لو عاجبك وعايزه خذه، لساه عيل بأكله ورماني بالمقص، هيعمل إيه بعد سنتين تلاتة؟ وعلى العموم عشان خاطرك وخاطر مجيئك، يدخل البيت على شرط واحد.» وذهبت وأحضرت الكرسي الوحيد بالبيت وجلست عليه كملكة ووضعت قدمها، وقالت: «يبوس رجلي أمامكم جميعا.» ولم يكن مني إلا أن ركعت على الركبتين وقبلت قدميها.
4
أتانا ناظر شديد لمدرسة الصنائع، قرر أن يوقف الفوضى، ضرب بيد من حديد على التسيب في المدرسة. كانت غرفة الطعام تخضع لقانون الغاب، الطلبة الأكبر سنا والأقوى يدخلون أولا ويأكلون الأكل كله وباقي الطلبة لا يأخذون شيئا، فجعل لكل طالب رقما وكوبونا، كما أنه حسن في الوجبة. وفي يوم من الأيام قفز بعض الطلبة من فوق سور المدرسة إلى مدرسة الثانوية العامة خلفنا للهروب منها إلى الشارع، كالعادة، وأمسك بهم ناظرها، واتصل به، فقال لناظر مدرسة الثانوي العام: أنت أمسكت بمجرمين قفزوا عبر سور مدرستك، بلغ البوليس.
أتممت الدراسة وحصلت على دبلوم الصنايع قسم لا سلكي، وجاءني التكليف للعمل بوزارة المواصلات السلكية واللاسلكية، وسيكون لي راتب أساعد به في مصاريف البيت ورفع الحمل الكبير عن أمي التي تفني شبابها على ماكينة الخياطة. وزارة المواصلات أدركت أني لم أبلغ الثامنة عشرة بعد، وأمامي تسعة أشهر، فأخبروني أن أعود بعد تسعة أشهر لاستلام العمل؛ فليس هناك درجة وظيفية في الحكومة قبل بلوغ السن. عدت إلى القرية أجرجر الأمل ورائي، لكني وجدت فرصة للعمل بالمصانع الحربية، وتقدمت إلى الاختبار فيها، وبالفعل بدأت العمل بها براتب مناسب. وما إن علمت وزارة المواصلات بذلك حتى أرسلت للمصانع الحربية تخبرها أن عندي تكليفا ويجب ألا أعين. وكأنه يجب علي أن أظل عاطلا حتى يرضوا. وصلت إلى القاهرة، وفي ميدان رمسيس، ظانا أني سأجد شارع رمسيس بسهولة، فلم أعرف في أي اتجاه أسير لأصل إلى الهيئة المصرية العامة لتعمير الصحاري؛ أسأل عن وظيفة هناك وأعود إلى قحافة في نفس اليوم. لم أجد أمامي إلا فتى صغيرا، سألته عن شارع رمسيس، اقترب مني وأمسك بيدي يدلني، وأدركت أن فتى آخر قد تبعني، فتشاجرا، وشعرت بفقد ربع الجنيه الذي أحمله في جيبي، فجريت وراءهما حتى ألقوا بربع الجنيه على الأرض وفرا هاربين. لم أثق في أي أحد، حتى وجدت عسكريا في الميدان وسألته عن الشارع.
كتبت شكاوى للوزارة وللسيد الوزير أطلب أن يرحموني أو يتركوا رحمة ربنا تنزل، حتى صدر قرار السيد الوزير بأن أعين بيومية مؤقتة، أربعة وعشرين قرشا ، حتى أبلغ الثامنة عشرة وأحصل على الدرجة الوظيفية في ميزانية الوزارة. فتعلمت ألا أسكت وإلا ضاع حقي. في فبراير «واحد وستين» تم تعييني وتدريبي في القاهرة، فذهبت للسكن مع بعض أبناء قحافة السابقين الساكنين أمام قسم بوليس العباسية، بالقرب من «باب الشعرية». كانوا أكبر مني سنا، أعطوني أحقر غرفة في المسكن، وبدأ استغلالهم لي؛ يكلفونني بأشياء لأنني الأصغر. وعملي كان ليلا. وبدأت أدرك عالم القمار والانحلال الأخلاقي الذي يعيشون فيه. كانوا يتجنبون إدخالي في دائرتهم حتى لا أفسد على حسب رأيهم، وحتى لا تغضب منهم أسرتي. كنت آخذ الترام أو التروللي باص للذهاب إلى العمل، في مبنى وزارة الداخلية بوسط البلد. وقت فراغ كبير لقلة العمل بالليل، شعور فظيع بالوحدة في هذه المدينة الكبيرة. أخرج قرب العمل إلى ميدان التحرير بنافورته الجميلة وشاشات التليفزيون الجديد المنصوبة في الميدان.
5
كان العمل في شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى بعد انتهاء فترة التدريب في القاهرة براتب ستة جنيهات وأربعين قرشا؛ موظفا تابعا لوزارة المواصلات، وانتدبت للعمل فني لا سلكي بوزارة الداخلية. أعود في ساعات متأخرة من الليل؛ ثلاثين كيلومترا إلى قحافة. ففكرت في انتقال الأسرة إلى المحلة حتى أستطيع أن أتابع دراسة إخوتي. وكان الأمر صعبا على أمي، حيث زبائنها ومعارفها، فانتقلت الأسرة وبقيت هي بالقرية حتى أقنعها أحد أقاربنا بحاجة الأسرة إليها في المدينة، فانتقلت إلى السكن في المحلة.
تجدد حلمي، فتعرفت إلى المجموعة الأدبية بقصر ثقافة المحلة، والذي انتقل إلى أحد قصور أعيان ما قبل الثورة؛ مجموعة من المهتمين بالأدب والفكر، نلتقي مرة في الأسبوع؛ منا ذو الميول الدينية الإخوانية مثل «زكريا التوابتي»، يكتب القصة القصيرة، يسكن في شقة أمام سور شركة مصر للغزل والنسيج، وقد فاز بجائزة نادي القصة القصيرة. شجع ذلك «سعيد الكفراوي»، ابن قرية كفر حجازي الذي طالما ذهبنا إلى منزلهم العامر فيرعانا والده بأطيب الطعام من خيرات أطيانه، دخل «سعيد» عالم القصة القصيرة. و«محمد صالح» ابن قرية «منية شنتنا عياش» مهتم بالشعر، متمرد على كل شيء ، أغتاظ من طريقة تعبيره وملامح وجهه وغمزات عينيه حين يتكلم، حتى تعودت عليه. وأصغرنا سنا «جار النبي الحلو»، دخل عالم القصة القصيرة ومن بعدها الرواية، وخله الوفي المنسي قنديل. و«محمد فريد أبو سعدة» يكتب الشعر، في بداياته كان متأثرا بشعر «أمل دنقل»، حتى وجد صوته الخاص. و«أحمد الحوتي» الشاعر، وهو من أوائل من نشروا من مجموعتنا. أما أكبر مجموعتنا سنا فكان «أحمد عسر». وحينما انضم إلى مجموعتنا «جابر عصفور» وهو طالب في كلية الآداب، والذي كان شديد النقد، و«أحمد» يضيق بنقده، و«جابر» لا يبالي؛ متأثرا بالأفكار اليسارية التي يتناولها في الجامعة واهتمامه بعالم النقد الأدبي. و«الأزهري رمضان جميل» الخبير بكتب التراث، وكاتب القصة القصيرة. وكانت قصته «موت عامل نسيج يدوي» جذبت نظر محرر صفحة أدباء الأقاليم بجريدة الجمهورية فنشرها.
كنت شديد التقرب من فكر الثورة وحلم العدالة الاجتماعية، من وجهة نظر دينية، فكتبت مقالا وأنا في التاسعة عشرة، عن أدب العمال والفلاحين، ناقشت فيه قضية هل أدب العمال والفلاحين هو ما يكتبه العمال والفلاحون أنفسهم، أم هو الأدب المعبر عن مشاكل وأحاسيس العمال والفلاحين حتى لو كتبه برجوازي. وأرسلت المقال في خطاب إلى مجلة الأدب التي يصدرها الأستاذ «أمين الخولي»، والذي بدأت أتابع كتاباته. وللمفاجأة وجدت المقال منشورا سنة اثنتين وستين، وبدأت أهتم أكثر بموضوع أدبية القرآن في كتابات «سيد قطب» وكتابات أخيه الأكبر «محمد قطب»، وقرأت رسالة «محمد أحمد خلف الله» عن الفن القصصي في القرآن الكريم؛ فازددت انجذابا للنظرية الأدبية في القرآن.
كنت ممزقا بين إيماني بدور ثورة يوليو وسعيها إلى العدل الاجتماعي، وزعامة «جمال عبد الناصر» الذي تحول إلى رمز، وبين إيماني بالدور الأساسي للإسلام الذي عايشته في القرية، وفي فهم الإخوان المسلمين وحرصهم على قيمة العمل والجدية بعيدا عن الدروشة. كنت ممتلئا بحلم الوطن الناهض بالكرامة والعدل الاجتماعي، فأرسلت خطابا ل «جمال عبد الناصر»، ووصل إلي من الرئاسة خطاب به صورة له. وجدت الحماسة في الأغنية الوطنية والأغنية العاطفية الجديدة، مثل «صافيني مرة وجافيني مرة» بواقعيتها، ولم تجذبني آهات من يتربعون على عرش الغناء في ذلك الوقت. وجذبني شعر «صلاح جاهين»، وقصيدة العامية. وبدأت أكتب الشعر أيضا حتى حصلت على جائزة الثقافة الجماهيرية في الشعر. وكتبت مقالا آخر عن أزمة الأغنية المصرية أناقش الأغنية الوطنية والأغنية الاشتراكية، ونشر الأستاذ «أمين الخولي» المقالة أيضا في مجلة الأدب (مجلد تسعة، عدد سبعة، سنة أربع وستين).
في شرطة نجدة المحلة مشاكل كثيرة كانت تأتيني من كوني مدنيا أناقش الأوامر، فحولت للتحقيق أكثر من مرة، لكني تعلمت طرقا للمقاومة والحصول على الحق داخل هذه البيئة. كانت مجموعتنا الأدبية غير مرحب بها، وعين الأمن تراقبنا. وذهبت إلى الضابط المسئول وسألته: «إنتو بتراقبوني ليه؟» فقال: «هذا شغلنا.» ضقت بتصرفات الدولة البوليسية وغياب الحريات والديمقراطية وحرية الفرد وكرامة الإنسان التي تهان كل يوم أمامي في قسم الشرطة. وكان القبض على «سيد قطب» في تنظيم القطبيين ومحاكمته ثم إعدامه بعد ذلك، والقبض على زميلنا الرقيق كاتب القصة «زكريا التوابتي»، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما. بدأت أدرك استخدام الدولة للدين كوسيلة في فرض سلطانها.
شعرت بالرغبة في الخروج من حالة العسكرة ومن هذا العمل، ومواصلة تعليمي العالي؛ فهذا «جابر عصفور» تخرج في كلية الآداب وأصبح معيدا. والدراسة الجامعية أصبحت مجانية بعد قرارات حكومة الثورة. أعلنت جامعة الأزهر تحت رئاسة د. «محمد البهي» عن افتتاح كلية الدراسات العربية والإسلامية، ضمن مشروع تخريج دعاة، أنها ستقبل جميع الحاصلين على الشهادات المتوسطة لا الثانوية العامة فقط، ومن كل سنوات التخرج. وبالفعل أحضرت الكتب لكي أستعد لامتحان القبول، وبدأت أتعرف على لغة كتب التراث، فقرأت حاشية «الباجوري» على السلم في المنطق، والجوهرة في الفقه، وألفية ابن مالك في النحو، وتفسير النسفي، وكتبا في علم الكلام. وقبل موعد الامتحان بأسبوع، ونظرا لأن آلافا تقدموا، قررت إدارة الكلية قصر القبول على دبلوم المعلمين في أي سنة، وبقية شهادات خريجي هذا العام فقط. فلم أتمكن من دخول الكلية، فقررت أن أذاكر للثانوية العامة «منازل» للدخول للجامعة .
6
بعد عدة أشهر من إعدام «سيد قطب» شنقا، وخلال أزمة إغلاق مضايق «تيران» أمام الملاحة الإسرائيلية، كنت بأحد المقاهي أشاهد كلمة ل «جمال عبد الناصر»، وصحت في وسط الناس: «هو عامل نفسه فريد شوقي، دا مش كلام رئيس دولة.» وكاد الناس في المقهى أن يفتكوا بي. وحدثت الهزيمة، وكنت متوقعها، وليس بأقل مما حدث، لكن أصابتني حالة من الاكتئاب لضياع الحلم. أجلس على الرصيف أمام النجدة حافي القدمين، رأسي يتدلى على صدري. ما إن رأيت «سعيد الكفراوي» قادما في ذهوله حتى انفجرت باكيا، وجلسنا على قارعة الطريق نبكي. أسبوعا ملقى على ظهري أنظر إلى سقف الغرفة بلا نوم. وجاء خطاب «عبد الناصر» بالتنحي عن الحكم، وكنت راغبا أن يتنحى، بل وأن يحاكم، لكن الشعب المصري تحركه العواطف، فخرج الناس إلى الشوارع خروجا عفويا يطلبون من الزعيم، الرمز، الأب، أن يتحمل المسئولية، يطلبون من زعيم مقتول أن يقود. كنت غاضبا جدا من هذا التصرف. كانت فرصة كبيرة أن يتخلص الشعب المصري من عقدة الأب، بل إنها كانت فرصة كبيرة ل «عبد الناصر» أن يحدث تغييرا حقيقيا وجذريا، ولكنه لم يفعل. لم يتزعزع إيماني بالثورة ومبادئها، ولكن يجب أن يحاسبوا، وأولهم «عبد الناصر» الذي ظل داخلي رمزا جميلا على الرغم من غضبي.
أمي في حالة من الفزع الدائم؛ فقد عاد الكثير من الجنود ولم يعد أخي «محمد». أغادر البيت أبحث عن خبر عنه، ذهبت إلى وحدته العسكرية بالقاهرة، لا أحد يخبرنا بشيء. في المستشفيات العسكرية أبحث في كشوف القتلى والجرحى عن اسمه، والكثير من الأهالي لا يقرءون، فأقرأ الكشف عليهم، والكشوف تتغير كل ساعة. ويا لبؤس الجرحى المهملين! بلد لم تكن مستعدة لحرب. وجدت اسم «محمد أبو زيد»، لكن كان مجرد تشابه في الاسم. لم يكن معي مال كاف ولا مبيت، فذهبت إلى جامعة القاهرة أبحث عن «جابر عصفور» كي أبيت عنده، دخلت المكتب فوجدت رجلا يجلس يرتدي قميصا بنصف كم، وفي ذراعه علامات جراحة واضحة، ناظرا للا شيء. سألته عن «جابر »، قال: «هو انت قريبه؟» فقلت: «صاحبه.» وأتى «جابر» وعرفني به؛ د. «عبد المحسن طه بدر»، مدرس في قسم اللغة العربية. كان «جابر» عائدا شاحب الوجه من مقابلة مع المشرفة على رسالته د. «سهير القلماوي» التي لم يعجبها ما كتب في الرسالة، فكان في حالة مزاجية غير جيدة. تحدثنا عن أخي، وعرض د. عبد المحسن أن يساعد؛ فله من يعرف بالجيش. وذهبت للمبيت في غرفة «جابر»، على سطح منزل قديم في إحدى حواري قلب الجيزة بالقرب من كازينو «الحمام» خلف كوبري الجيزة القديم.
وصل إلي خطاب أمر تجنيدي في القوات المسلحة لحاجة الجيش إلى تخصص إلكترونيات، على الرغم من أني العائل لأسرتي. وكان معنى هذا التكليف هدم الأسرة كلها، وهدم حلمي بالحصول على الثانوية العامة، فسألت الرجل وماذا إذا لم ألب الأمر. قال: «سوف يتم القبض عليك.» فقلت: «دعهم يقبضون علي؛ فلن أذهب بنفسي.» وبمكتب التجنيد بالإسكندرية حاول الضابط أن يبرر استدعائي بأنه ببعض التمرينات أفقد بعض الوزن، لكني أعفيت من التجنيد للسمنة المفرطة، ولأني العائل للأسرة. كنا في حالة بحث دائم عن «محمد»، وفشلت كل محاولاتي أسبوعا أو عشرة أيام في القاهرة، حتى وصل إلينا خطاب منه بعد شهر يخبرنا أنه نقل إلى وحدة بالزقازيق بمحافظة الشرقية، فنهضت مع ابن عمي «السيد أبو زيد» لنزوره. ننتظر مع كل أهالي الجنود خارج الوحدة، مر من أمامي ولم أعرفه، ملامحه مختلفة تماما، كان قليل الكلام، ولم يتحدث عما حدث. قضى تسع سنوات في الخدمة العسكرية.
حصلت على شهادة الثانوية العامة «منازل» بأربعة وسبعين ونصف في المائة «قسم أدبي»، وهو مجموع أكبر من الستين التي حصل عليها «جابر عصفور» قبلها بثماني سنوات. كان عمري خمسة وعشرين عاما، قدمت طلبا إلى رؤسائي في العمل للانتساب إلى كلية الآداب، فقبلت بسخرية شديدة، ورفض طلبي. ولم أعرف ماذا أفعل، فقدمت أوراقي لمكتب التنسيق كطالب منتظم، وخفت أن يعترضوا إن ذهبت أقدم بنفسي لأن سني كبير، فأرسلت أحد الأصدقاء ليقدم لي. وتحقق الحلم، وقبلت كطالب منتظم في كلية آداب القاهرة، لكني أعمل بالمحلة. كان دخولي الجامعة، في مظاهرات الطلبة في نوفمبر «ثمانية وستين»، اعتراضا على الأحكام المخففة التي صدرت ضد قادة سلاح الطيران عن الهزيمة. كادت عيناي تبكي فرحا بتحقق حلم الوصول إلى كلية الآداب، وفي ذهني قسم الفلسفة حتى أتعلم شيئا جديدا. والأدب العربي يمكنني أن أقرأه بنفسي ولا أحتاج إلى قسم اللغة العربية لذلك. ودخلت مدرج «ثمانية وسبعين» الذي لم يكن به موضع قدم من المئات الموجودة به، وفجعت بمحاضرة الفلسفة العامة. ما إن بدأ الأستاذ المحاضرة بصوته الرتيب يقرأ من كتاب وأنا دخلت في نوم، وليس من عادتي أن أنام في أي مكان، فظننت أن السبب هو وجودي بعيدا عن المنصة، فاقتربت واقتربت حتى وصلت إلى المقدمة، وما إن جلست حتى دخلت في نوم عميق مليء بالأحلام. ولم أجد النقاش ولا الحوار الذي أنتظره وأتصوره عن الجامعة الحلم، فرسخ في ذهني البعد عن قسم الفلسفة. وفي محاضرة تاريخ الأدب العربي وجدت الدكتور «شوقي ضيف» أيضا يملي على الطلاب.
على طالب الانتظام أن يحضر على الأقل خمسة وسبعين في المائة من المحاضرات، ولم أستطع. وفي محاضرة الدكتورة «نادية عيد» للغة الإنجليزية لمحت أني أحضر لأول مرة، فسألتني، فقلت: «هل يمكن أن أحدثك بعد المحاضرة؟» فقلت لها: «رؤسائي في العمل لم يوافقوا على نقلي، وهذا سبب عدم حضوري.» وسببت رئيسي في العمل وضيق أفقه، فأشارت بيدها أن أتوقف عن الكلام والسب، وأخبرتني أن رئيسي في العمل رئيس المصلحة هو والدها. شحب وجهي، وهرولت خارجا من الغرفة. جرت في أعقابي وعادت بي، وقالت: «أنت كنت تسب رئيسك في العمل، وكل واحد من حقه أن يعبر عن مشاعره ضد رئيسه، ولم تعرف أنه والدي، لكن أنت متأكد أن الأمر بيده؟ قلت: «بيده أن يذهب بي إلى وراء الشمس.» فطلبت أن أكتب طلب نقل وأعطيه لها، فكان قرار نقلي من المحلة إلى القاهرة في أربع وعشرين ساعة؛ مما أصابني بحالة من الارتباك لنقل أسرة بكاملها في أربع وعشرين ساعة ؛ ومدارس «كريمة وأسامة وآيات» وإيجاد سكن؟ وأخبرني «جابر» عن حجرة صديقه «رشاد»، سيتركها، فذهبنا لاستئجارها.
7
كنت أعيش فترة من الوحدة والمشقة بعد انتقالي للعمل بالقاهرة، أرسل راتبي لأسرتي في المحلة، وأحاول أن أعيش بأقل القليل، أوفق بين العمل والدراسة في الجامعة. وبينما أنا في وردية الليل بقسم العجوزة، أتأمل وحدتي وأفكر في ديوان «أحمد عبد المعطي حجازي» «مدينة بلا قلب»، الذي يصور شعوري تجاه القاهرة:
بلا نقود، جائع حتى العياء،
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة؛
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء.
دخلت قسم الشرطة امرأة بلا ملامح من غزارة الدم المسفوح على وجهها، تشتكي زوجها لأنه «ضربها ضربا شديد الإيذاء»، فأهملها العسكري «النبطشي». وظلت تنتظر وهي مجروحة ضعيفة قليلة الحيلة، فتحدثت إلى العسكري الذي قال بكل برود: «هو انت غضبان ليه؟! هو انت تعرفها؟!» قلت: «وده يغير إيه في الموضوع؟ أنت مفروض عليك تأخذها للمستشفى تتعالج وتبعت تجيب زوجها هنا تستجوبه.» كنت أحاول بلطف التدخل حتى تستطيع المرأة أن تأخذ حقها؛ لمعرفتي بأقسام الشرطة، فخففت من نبرة الحدة، وذهبت أنا بها إلى المستشفى حتى عولجت، وأخذت التقرير الطبي وأودعته القسم. بعد يومين أحضرت الشرطة زوجها، لكني لم أتدخل في شيء. في نفس اليوم حضرت المرأة إلى القسم تحمل لي وجبة ساخنة أعدتها، فقلت لها: «يا ستي أنا أشكرك جدا ودا ذوق منك، لكن لا أستطيع أن أقبل دا ولا آكل في العمل.» قالت ببراءة: «خده معك للبيت، اعتبرها هدية من أختك، والنبي قبل الهدية.» فلم أرد أن أخجلها. بعد يومين أتت تسحب البلاغ ضد زوجها، وأخبرتني أنها كانت تريد من الشرطة أن تلفت نظره، وفي النهاية هو والد أبنائها. سألتها: «إنت بتحبيه؟» وكأنها لم تفهم ماذا أعني، قالت: «أبو عيالي.» قلت: «بيضربك باستمرار؟» أجابت: «لا أبدا هو كان غضبان جدا؛ لأنه بياع سريح، يبيع فاكهة في الشارع والجو الحار تلف له البضاعة.» أردت أن أسألها إن كانت زيارة مني لزوجها يمكن أن تساعد، فقالت: «أنت تشرف وتزدنا نور .» قلت لها آتي بشرط موافقة زوجك. زرتهم وأحضرت بعض الفاكهة. كانت حالتهم «عدم»، عندهم ثلاثة أطفال، وزوجها إنسان محترم، وقد أخبرته عن أخذي لها للمستشفى، بل وعنفته أنه كان عليه أن يأخذها للمستشفى.
ندرس في السنة الأولى تاريخ الأدب العربي القديم، ويدرسه الأساتذة التقليديون بشرح الظروف العامة، السياسية والاجتماعية، «شرحا سرديا بغير تحليل»، ثم بعد ذلك يتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر، وتحليل بعض النصوص وقراءتها قراءة تجزيئية بيتا بيتا دون قراءة وحدة كاملة. حصلت على تقدير «جيد» في السنة الأولى وبكيت؛ لأني كنت أريد «جيد جدا» وما تأتي به من بعض مكافآت التفوق. الحياة في القاهرة كانت صعبة جدا. نقل الأسرة والعيش على «اثني عشر جنيها راتبا»، وأخي «محمد» مجند بالجيش، «وكريمة وأسامة وآيات» في مدارسهم. عدت يوما متأخرا وغضبت على الأكل الذي طبخته أمي ولم آكل، فجاءت بيني وبينها وقالت: «يا نصر، لما تغضب على الأكل قدام اخواتك يتعودوا على كدا ويعملوا زيك وأرمي الأكل في الزبالة، وكله من فلوسك، فشوف أنت عايز تصرف فلوسك ازاي.» كنت أحاول تدبير الأمور بقدر الإمكان فأحدد نفقات كل شيء؛ السجائر ثلاث كل يوم، مصاريف الأتوبيس والإفطار. وشعرت بألم الجوع والحاجة مرات، لكن سعيت بإصرار لتحقيق حلمي.
في السنة الثانية بالجامعة، بعد ما رأيت من محاضرات اللغة العربية والفلسفة، كنت أفكر في قسم اللغة الإنجليزية، ولكني نجحت في الإنجليزية بالكاد، فاخترت قسم اللغة العربية، والظروف بدأت تتغير فأصبحنا ما بين ثلاثين إلى خمسة وثلاثين طالبا في المحاضرة، واكتشفت د. «شوقي ضيف» آخر؛ ففي محاضرته يناقش ويسمح بالاختلاف ويطلب عمل أبحاث. طلب منا بعض أساتذة الأدب العربي القديم أن نعمل بحثا لأعمال السنة، فقدمت بحثا بعنوان «ظاهرة الغزل في العصر الأموي، ثلاثة مناهج في دراستها»، قارنت بين منهج كل من «طه حسين والعقاد وشوقي ضيف». وكان غضب الأستاذ علي جما؛ لوصفي منهج د. «شوقي ضيف» مقارنة بمنهجي «العقاد وطه حسين» أنه منهج تقليدي، لكني فوجئت بالدكتور «شوقي ضيف» يثني على البحث ويعلن موافقته على أن منهجه تقليدي، بل وأكثر من ذلك يعلن أمام الطلاب جميعا: «ما الفائدة إذا لم تنقدوا أساتذتكم؟ كيف يتقدم البحث العلمي إذا ظل الخلف يردد كلام السلف؟» وبدأت أظهر كطالب مجد ومجتهد، ويعرفني أساتذة قسم اللغة العربية، وحصلت على تقدير عام «جيد جدا»، وفزت بالمركز الثالث في الشعر للسنة الثانية. وبدأت تتوثق علاقتي ب «زين العابدين فؤاد» الذي حصل على الجائزة الأولى في الشعر، ولكن لأننا متقاربان في السن نكبر بقية الطلبة بثماني سنوات، وكان قد حول من كلية الهندسة إلى كلية الآداب بعد أن قضى بها ست سنوات. وكنا نمزح حين نذهب لزيارة «جابر عصفور» الذي يستعد لمناقشة رسالته للماجستير، فنسميه ابننا «جابر»؛ لأننا نكبره في السن. وكان شبه منقطع عن العالم الخارجي من أجل الرسالة والانتهاء منها.
8
مع بداية السنة الثالثة أصبحت أذهب إلى الجامعة صباحا، ومنها إلى وردية المساء بقسم شرطة العجوزة، وبدأت الأسرة تتأقلم على الحياة في القاهرة؛ أمي تزداد خبرة في التعامل مع المدينة المزدحمة. كان «جابر عصفور» يدرس لنا تاريخ النقد الأدبي، وكان منخرطا في إعداد رسالته للدكتوراه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» بعد رسالته للماجستير عن «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر»، وكنت قريبا منه نتناقش طوال الوقت، ومعجبا بالنظرة الكلية التي ينظر بها لموضوع بحثه عبر مجالات التراث المختلفة. وبدأ د. «عبد المنعم تليمة» يدرس لنا محاضراته المرهقة عن نظرية الأدب من منظور ماركسي، ويدخل بنا في رحاب بعيدة من الفكر الفلسفي للربط بين نظرية الأدب ونظرية المعرفة، وارتباط ذلك بالمنظور الفلسفي.
دخل علينا المدرج د. حسن حنفي، الشاب العائد من فرنسا، والحاصل على الدكتوراه من السوربون، ببدلته الأنيقة، وشاربه المهذب. ومن أول محاضرة تحدث عن الحوار والنقاش، ودور الطالب في المحاضرة، وعن التعلم المتبادل بيننا، يدرس لنا علم الكلام الإسلامي. وبدأ يتحدث عن البنية الهيراركية الموجودة في التراث الإسلامي من الأعلى للأدنى؛ الله، ثم الملائكة فالأنبياء والرسل، ثم المؤمنون المسلم منهم وغير المسلم، فالكفار، ثم الحيوانات فالنباتات، ثم الصخور. ويربط كل ذلك بالبنية السياسية في العالم الإسلامي بنفس النسق؛ الحاكم، ثم الوزراء فرجال الإدارة، ثم كبار الموظفين فالعمال والفلاحون، ثم الحيوانات. ويربط جوانب التراث المختلفة؛ السياسي والعقدي والنحوي واللغوي والفقهي. ويربط بين الماضي والحاضر بطريقة طازجة جاذبة.
ويخصص وقتا كبيرا للنقاش والحوار. كنت من أول المناقشين، فقلت: «يعني أنت تتصور بهذه البدلة الأنيقة والكرافات المستوردة من باريس أنك هتغير وعيي في المحاضرة؟ وأنا مطلوب مني بعد ذلك أخرج أغير لك المجتمع، هو حضرتك ناسي أني ممكن أتخرج من هنا وأروح أشتغل في التموين، أو مدرس في منطقة نائية، بمرتب لا أستطيع أن أعيش به؟ أنت كأستاذ لك هيبة ومكانة، هتغير مخي وتطلب مني أن أغير الواقع؟ التغيير يحتاج إلى عمل ثوري وليس إلى عمل أكاديمي؟» وجدته يبتسم، وهو قليل الابتسام، وامتدح النقد وقال: «يا صديقي هذه مشكلة، ويجب أن نفكر فيها معا، هل نبدأ بتغيير الواقع ليتغير الوعي، أم نغير الوعي ليتغير الواقع؟ أيهما الأسبق على الآخر؟ أيهما الأصل وأيهما الفرع؟» وسألني عن اسمي فأجبته، فقال: «يا نصر اعمل حزبا من أجل تغيير الواقع وأنا أنضم عضوا مشاركا فيه.» فقلت له: «اعمل أنت الحزب وأنا أنضم.» فضحكنا، وكانت بداية علاقة بأستاذ مختلف له رؤية. وقام بعض زملائنا السلفيين يعترضون على ما جاء في المحاضرة، أعطاهم كامل الحرية. وبعد أن فرغ أحدهم قال له: «يا صديقي أنت لم تقل شيئا، ما قلته هو خطبة عصماء مكانها المسجد، لكن نحن في جامعة، حاورني حوارا فلسفيا.»
في محاضرة النحو كان الأستاذ يشرح لنا الخلاف بين نحاة البصرة ونحاة الكوفة حول ما ينوب عن الفاعل في حالة حذفه. البصريون يقولون إذا وجد في الجملة مفعول به، يكون هو نائب الفاعل، ولا يمكن أن تتجاوزه إلى غيره. نحاة الكوفة يقولون إذا كان الفعل لازما، يجوز في هذه الحالة أن تأتي بالجر والمجرور أو الظرف ليكون نائب فاعل. وأنا في المحاضرة دار في ذهني سؤال: هل لهذا الخلاف أساس معتقدي؟ وما إن حاولت أن أطرح سؤالي هذا على أستاذ النحو حتى قال «أنت بتقول إيه؟! إحنا في محاضرة نحو، عندك سؤال في النحو قوله.» ولم يعط لنفسه حتى فرصة للنظر فيما أقول. وأصبحت مشغولا بهذه العلاقات والعلائق بين مجالات العلوم العربية والإسلامية المختلفة. وفي محاضرة الأدب المصري، وكان الأستاذ يشرح قصيدة مدح للشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي (337ه/948م-373ه/985م) في أخيه الأصغر منه الذي ولاه أبوهم الخلافة متخطيا للشاعر، فمدح الشاعر أخاه الخليفة:
يا ابن الوصي المرتضى يا ابن الإما
م المجتبى يا ابن النبي المرسل
ما بال مالك ليس يرميه الندى
إلا يوافق منه موضع مقتل؟!
والأستاذ يحاول أن يقنعنا أن مدح الشاعر لأخيه أيديولوجيا شيعية من تعظيم الإمام، وأشار إلي وقال: «أنت يا جدع يا تخين أنت واضح أن القصيدة مش عجباك.» قلت: «في الواقع يا دكتور مش عجباني، هذا مجرد نفاق وترديد لكلام سابق، وليس بها عاطفة ولا إحساس.» نظر الأستاذ لي وقال: «وهتكتب دا في ورقة الامتحان؟» قلت: «بالطبع لا.» وبدأت أذكر عليه كل الأحكام التي ذكرها هو على القصيدة. فقال الأستاذ: «طيب إيه رأيك أني قرأت الإلياذة ولم أعجب بها.» تصور الأستاذ أن نقدي هو إهانة للأدب العربي، وليس مناقشة من أجل التعلم. في هذه السنة حصلت على تقدير «ممتاز»، وكان إحساسا لذيذا على الرغم من مشكلات الوطن.
9
بدأنا ندرس قضايا ومشكلات معاصرة مع أساتذة تجديديين حداثيين، بخلاف أساتذة التقليد. الجامعة نظمت لي قراءاتي، والحوار والجدل داخلها، والخلافات السياسية والاجتماعية، والتظاهر ضد حالة اللاحرب واللاسلم التي اتبعها الرئيس السادات. في هذه المرحلة بدأت أدرس الخطاب الديني التقليدي، وبالتحديد العلاقة بين الأدب والدراسات الإسلامية في صورة أوسع، وبدأت أدرك البعد السياسي في دعوة الإخوان المسلمين والتيار الديني. البعد السياسي كان على الهامش في الماضي، والحث على العمل والعدل الاجتماعي كان هو المتن، لكن تغيرت الأوضاع، وتحولت النظرة إلى الإسلام من عقيدة وشريعة - بما تحويه من عبادات ومعاملات - إلى أن أصبح الإسلام دينا ودولة. ومع هزيمة يونيو بدأت أدرك أن أفكار «سيد قطب» في كتابه «معالم على الطريق» لم تكن طارئة من تجربة السجن أو التعذيب في المعتقل، إنما هي موجودة في خطابه منذ البداية، لكنها كانت على الهامش، وكان متن الخطاب ومحتواه العدالة الاجتماعية والإسلام والسلام العالمي، ومع انكسار العهد مع ضباط يوليو أصبح - شعار «الإسلام دين ودولة» - هو المتن، وانتقلت العدالة الاجتماعية إلى الهامش. واتسعت قراءاتي في الفلسفات من الماركسية إلى الوجودية، ولم أتخل عن منظوري الإسلامي العام، والرغبة في تحقيق عدالة اجتماعية، لكن وصلت إلى قناعة أنه لا يتقدم مجتمع أو يتأخر لأنه مجتمع مسلم أو غير مسلم، بل يتقدم أو يتأخر طبقا لقوانين تدرس في علوم أخرى؛ العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، والنظر في بنية المجتمع في تعقيداتها، والعلاقات بين الطبقات ووسائل الإنتاج، والعلاقة بين وسائل الإنتاج وأنماط الإنتاج. نحتاج إلى وسائل وآليات أخرى لبناء مجتمع متقدم.
بدأت تتسع نظرتي للتأثير الأدبي والفني للقرآن أوسع من اهتمامات «سيد ومحمد قطب» التي تعتمد على الانطباعية. بدأت صلتي تتوثق بفكر الشيخ «أمين الخولي»، ومدرسته التي تعود بذور لها إلى فكر الإمام «محمد عبده»؛ من أن القرآن كتاب هداية للبشر، وليس كتابا في التاريخ أو العلوم، الهدف الأول له هو هداية البشر إلى الطريق المستقيم، ويستخدم القرآن اللغة العربية لتوصيل رسالته إلى المؤمنين، والشيخ «أمين الخولي» رأيه أن القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر، وقبل أن نستخرج منه أحكاما قانونية أو فقهية أو جمالية يجب أن يدرس أدبيا. وبدأت أقرأ في جهود «محمد عبده» والشيخ «علي عبد الرازق» وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، و«طه حسين» وكتابه «في الشعر الجاهلي»، والقضية التي أثيرت حولهما، وكتابات الشيخ «أمين الخولي»، ومحنة مدرسته في نفس قسم اللغة العربية منذ عشرين عاما، حين تقدم تلميذه «محمد أحمد خلف الله» تحت إشرافه برسالة دكتوراه عن «الفن القصصي في القرآن الكريم»، بعد رسالته للماجستير التي كان موضوعها «الجدل في القرآن الكريم»، وصارت ضجة حول رسالة الدكتوراه عام سبعة وأربعين، واضطر «خلف الله» إلى أن يسحب الرسالة ويكتب رسالة أخرى في أشهر قليلة عن صاحب كتاب «الأغاني»، حصل بها على الدكتوراه وفصل من الجامعة. وحرم الشيخ «أمين الخولي» من الإشراف على رسائل في الدراسات الإسلامية، مع الاكتفاء بتدريس البلاغة والنقد الأدبي، حتى أخرج من الجامعة مع قرارات حكومة ثورة يوليو سنة أربع وخمسين، برفت أكثر من خمسين أستاذا. وكان على تلميذ الشيخ «أمين الخولي» الآخر أستاذي «شكري عياد» أن يختار تخصصا آخر غير الدراسات الإسلامية والقرآنية حتى يستطيع الاستمرار بجامعة القاهرة، فاختار موضوع الدكتوراه عن «تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية» بعد أن درس في الماجستير «تحليل مشاهد يوم القيامة في القرآن تحليلا أسلوبيا»، وتم القضاء على مدرسة التفسير الأدبي للقرآن بكلية الآداب جامعة القاهرة، ولم يعد هناك متخصص في الدراسات الإسلامية بالكلية، وأصبح تدريس الدراسات القرآنية وعلوم الحديث نوعا من البركة، كما رأيت خلال دراستي لعلوم القرآن في الفرقة الأولى، وعلوم الحديث في الفرقة الثانية. اقتربت من فكر «أمين الخولي» الذي أظن أني أتبعه وإن لم أقابله مرة في حياتي.
أنهيت الدراسة بالكلية سنة اثنتين وسبعين بتقدير «ممتاز»، وكنت الأول على كلية الآداب في جميع الأقسام، وكنت في لهفة لقرار تكليفي معيدا بقسم اللغة العربية. وجدت أمي في قمة السعادة، وقالت لي: «ربنا هيوفقك يا نصر، إنت تعبت، بس أنا مش عارفة إيه حكاية التعيين في الكلية دي، ما أنت مهندس أد الدنيا، وبتشتغل شغلة حلوة، على كل حال، أنا نذرت نذر للست العذراء إن اتعينت ونلت مرادك، وهي مش هتخذلني أبدا.» ابتسمت وقلت لها: «العذراء يا أمي عند الأقباط.» ردت علي بحدة: «ما أنا نذرت ودعيت عندهم كلهم السيدة نفيسة والسيدة زينب، والعذراء بركة.»
وصدر قرار الكلية بالتكليف، ولم يكن اسمي موجودا؛ فقد أخذ قسم اللغة الإنجليزية أربعة معيدين، حيث يرأسه د. «رشاد رشدي» صاحب النفوذ الذي ظل في رئاسة القسم عمرا. ذهبت إلى مجلس قسم اللغة العربية أشتكي، أخبرت أن هذا قرار مجلس كلية. وسدت الأبواب. كتبت شكوى لرئيس الجامعة عن الظلم الذي حدث، وختمتها بعبارة «متظلم بالباب»، وذهبت إلى مدير مكتبه الذي رفض أن أقابله مدعيا أن رئيس الجامعة مشغول، فافترشت الطرقة أمام باب مدير مكتب رئيس الجامعة متظلما بالباب، وعلى أثر الضوضاء خرج رئيس الجامعة الدكتور «حسن محمد إسماعيل»، واستعلم عن الأمر وقال: «هو انت المتظلم بالباب؟» إيه لغة الدواوين دي؟ تعال يا سيدي ادخل.» بالداخل قلت له: «أنا متظلم على باب سيادتك حتى تنظر في مظلمتي، أنا الأول على الكلية كلها ولم يصدر قرار بتكليفي معيدا.» قال: «تبقى شيوعي أو إخوان.» قلت له: «أنا لا شيوعي ولا إخوان، وبعدين هناك موافقة جهة الأمن هي تحدد ونعرف رأيها.» طلب لي كوبا من الماء، وطلب الأوراق من مدير مكتبه وتأكد من التقديرات، وقال: «دا كلام فارغ.» وفي دقائق كتب قرارا يعيد فيه قرارات تكليف المعيدين حسب القواعد والقانون، وإلغاء قرار مجلس الكلية. وصدر قرار تكليفي بوظيفة معيد في قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة و«أحمد زايد وفيصل يونس»، وكنت في الثلاثين من العمر.
10
تركت العمل كفني لا سلكي، وانتقلت للعمل كمعيد بقسم اللغة العربية، فقرر مجلس القسم أن يتخصص المعيد الجديد في الدراسات الإسلامية، في سابقة لم تحدث من قبل؛ فكل معيد يختار تخصصه. وفي ذهني ما حدث مع الشيخ «أمين الخولي» وتلاميذه منذ عقدين في نفس المكان. وفي اجتماع القسم التقى أساتذة قسم اللغة العربية، ولم أكن معيدا صغير السن بل في الثلاثين من عمري، وأعرف ما حدث من قبل، فعرضت تخوفاتي أن يحدث نفس الشيء مرة أخرى، فقال البعض إن ما حدث من عشرين سنة كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة وصراعات داخلية. وقال رئيس القسم: «بص يا نصر يا ابني إحنا عايزين متخصص في الدراسات الإسلامية، يكون من ولادنا من قسمنا، مش من الأزهر، والقسم محتاج متخصص، ووقع الاختيار عليك لهذه المهمة.» وقال أستاذ من التقليديين بعد أن تنحنح: «أنت خايف ليه، هو انت هتجيب شيء جديد، الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن من العلوم التي نضجت حتى احترقت .» فقلت بنوع من الانفعال: «يعني أنا هتخصص علشان أكرر نفس الكلام، أنتم علمتوني أن البحث العلمي لا بد أن يضيف إلى ما قدمه السابقون، وأن آتي بنتائج لم يصلوا إليها.» وقال اتجاه ثالث ما معناه: «إحنا لسنا الأزهر ولا كلية الحقوق ولا دار العلوم، أنت هتتعامل مع القرآن من منطلق بلاغي ونقدي، نوع النص الذي تدرسه ليس له علاقة بما تخشاه، أنت هتدرس البلاغة والنحو واللغة.» كنت متخوفا أيضا أن تخصص الدراسات الإسلامية سيجعلني أعمل مع أحد الأساتذة التقليديين الذين يسيطرون على القسم، وأنا أريد أن أعمل مع أحد الأساتذة الحداثيين التجديديين.
أختي «كريمة» التي تعمل في سكرتارية جامعة القاهرة. كانت منذ الخامسة عشرة تظهر كأنها بنت العشرين، ناضجة الجسم، جميلة، الأنظار تترصدها، حينما وجدنا أنا وأمي خطابات لها من أحد الشبان. وفي يوم من الأيام أتى أحد الأثرياء في مدينة المحلة يحمل العديد من الهدايا، يطلب يد كريمة لابنه الذي أنهى دراسته وسيذهب لتأدية الخدمة العسكرية، لم أكن محبذا لهذه الخطبة؛ فلا بد أن تكمل دراستها، وتعيش تجربة الحياة باتساعها. كانت أمي لا ترى عيبا في الشاب. اتفقنا على أنه بعد أن تتم تعليمها يأتي ابنه «سيد» وسيكون الاختيار لها. لم تتوقف العلاقة بين «سيد» و«كريمة» حتى انتقلنا إلى القاهرة، وكانت أول من انتقل من أسرتي إلى القاهرة بعدي، فقضيت أنا وهي فترة جميلة؛ كنا نذهب معا إلى السينما والمسرح. وفي يوم من الأيام الأخيرة لي بالخدمة في البوليس دخل علي «سيد» وطلب مني أن أفي بوعدي له. لم أكن أتوقعه بعد خمس سنوات. رحبت به، وقلت له: «يا «سيد» سنذهب معا إلى البيت ونسأل «كريمة» عن رأيها، لكن عليك أن تعدني بأن تتقبل قرارها.»
أخذته وعدنا إلى الشقة. كنت أسمع نبضات قلبي بقوة ونحن نصعد سلم البيت، فتحت «كريمة» الباب، وشحب وجهها. جلسنا، وقلت ل «كريمة» عن طلب «سيد»، ونريد أن نعرف رأيها. كانت لحظات وكأنها الدهر، ازدادت طرقات قلبي حدة إلى أن قالت له: «اسمع يا «سيد» إحنا كنا صغيرين، شبه أطفال.» لم يتركها تكمل وهب واقفا قائلا: «كفاية.» وطالبا منا أن نسمح له بالذهاب. خرجت معه إلى محطة الأتوبيس أريد أن أخفف عنه، فقال: «أنت وفيت بوعدك، وليس هناك نصيب.» حينما عدت إلى الشقة وجدت «كريمة» منخرطة في البكاء، فحاولت أن أخفف عنها بقدر الإمكان، فقلت: أنت أخذت قرارا كان صعبا، ودا شيء كويس. - كان لنا ذكريات جميلة. - الذكريات دي جزء من حياتك وتكوينك وستظل موجودة. - هل أنا ظلمته؟ - والله يا كريمة لا أعرف إن كان ارتباطك به سيسعدك، حياتك أمامك.
درست السنة التمهيدية للماجستير في مناهج البحث. اخترت أن أعمل في البلاغة حتى أعمل مع أستاذ تجديدي. وكان رئيس القسم د. «حسين نصار» وسطا بين أهل التجديد والتقليد في القسم، ولكني أريد أن أعمل مع الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، وقد أقاله نظام «عبد الناصر». كان يدرس متبرعا بمكافأته لاتحاد الطلاب، وهو متخصص في الدراسات الأندلسية، يجيد أكثر من ست لغات، وسوف يفيدني كثيرا في المنهج العلمي، ولكن كيف أخبر د. «حسين نصار» بذلك دون أن يغضب. دخلت عليه مكتبه، وقلت له: «يا دكتور حسين، أنت دايما تقول لنا إن المعيد ابن القسم كله وليس تلميذ أستاذه، وأنا عايز أستفيد من كل الأساتذة، فبطلب من حضرتك تساعدني في إقناع الدكتور «عبد العزيز الأهواني» أنه يقبل الإشراف على الرسالة، وأنا مع حضرتك كل يوم في القسم هستفيد من توجيهاتك، لكن الاستفادة الوحيدة من الدكتور «عبد العزيز» هتكون لو أشرف على الرسالة.» وقد كان، وقبل الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الإشراف على رسالة الماجستير.
كان لدراسة «جابر عصفور» أثر في الدكتوراه في تمهيد الفصل الثاني عن الأنواع البلاغية للصورة الفنية، وإشارته العامة عن أثر المعتزلة، ودراسة د. «مصطفى ناصف» عن الصورة الأدبية والإشارات إلى المؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، وكذلك الاكتشاف الذي قامت به البعثة المصرية لجامعة الدول العربية في نهاية الأربعينيات باليمن بالجامع الكبير في صنعاء، باكتشاف كتاب القاضي «عبد الجبار الأسد أبادي المعتزلي» (359ه/969م-415ه/1025م) المغني في أبواب التوحيد والعدل، والتي احتفظ بها المفكرون الزيديون في اليمن، وقد خرجت نسخة الكتاب المحققة خلال السنوات القليلة الماضية، ففكرت في أن أدرس نشأة أهم مبحث في البلاغة العربية؛ مبحث المجاز، أدرس ظروف نشأته ومفهومه عند المعتزلة الذين تشير الدراسات السابقة إلى دورهم في تكوين هذا المبحث وإنضاجه، مع دراسة أثر القرآن الكريم في ذلك؛ في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ. وسجلت عنوان الدراسة للماجستير «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، ومصر تحاول أن تستعد لمسح عار الهزيمة عام ثلاثة وسبعين.
11
حجرتي الضيقة اختنقت بكتب ومراجع المعتزلة، في شقتنا المختنقة بنا، أنظر إلى عبارة المفكر المعتزلي «إبراهيم بن سيار النظام» التي وضعتها لوحة معلقة أمامي على الحائط: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.» وأقرأ مصادر المعتزلة التي خرجت للنور منذ سنوات تعد على الأصابع، لكن عملية تحقيق المجلدات اكتفت فقط بنسخ الكتاب دون شرح للمصطلحات أو توضيح للأفكار، ومحاولة القراءة والفهم صعبة جدا؛ ليال أقوم بتقديم الجمل وتأخيرها، وإعرابها كلمة كلمة للتأكد من فهم العبارة. الكتب مكتوبة بالطريقة التراثية من السرد والاستطراد، وزد على ذلك طريقة المعتزلة في جدال من خالفهم، وتصور حججهم للرد عليها؛ مما جعل مفاهيمهم وتصوراتهم اللغوية متناثرة في أنحاء مؤلفاتهم. وموسوعة القاضي «عبد الجبار»، ضخمة بأجزائها العشرين، المفقود منها الأول والثاني والثالث والعاشر والثامن عشر والتاسع عشر، فتوقفت بالبحث عند فترة نضج الفكر الاعتزالي في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.
أدرس دور تفسير القرآن وتأويله كمنهج ووسيلة في بلورة مفهوم المجاز، ودور فرقة المعتزلة الكلامية في ذلك. والمجاز وسيلة لغوية لا تنفصل عن تصور عام للغة، فوجدتني أدخل في ثلاثة حقول معرفية؛ تاريخ التفسير القرآني، وتاريخ البلاغة العربية، وعلوم اللغة بشكل عام. والكتابات في علوم اللغة الحديثة بالعربية قليلة، فاعتمدت على المترجم منها، وذهبت للجامعة الأمريكية بالقاهرة لكي أجود لغتي الأجنبية للقراءة في هذه العلوم باللغة الإنجليزية.
بدأت دراستي بجمع كل الآيات القرآنية التي قام المعتزلة بتأويلها وأجروا عليها فكرة المجاز، فوجدت المجاز عندهم مجرد وسيلة؛ حتى تستقيم معاني الآيات مع مبادئهم الفكرية والعقلية المسبقة، وليس له إلا دور يسير في حجاجهم العقلي، فاتجهت بكل جهدي لفهم الفرق الدينية الإسلامية، وفهم صراع المسلمين الأوائل ودوره في نشأة الفرق والقضايا الفكرية؛ فالفكر لا يأتي من فراغ، بل من صراع في الواقع. وكان كثير من الباحثين قد أرجعوا نشأة الاعتزال إلى مؤثرات خارجية وأفكار وافدة. والمؤثرات الخارجية لا تمارس تأثيرا فعالا ما لم تكن الظروف الداخلية مهيأة لتلقي البذور وإنباتها؛ لذلك ركزت على الواقع ودوره في نشأة الاعتزال.
القول باختيار الإنسان لأفعاله ومسئوليته عنها ضد الدعوة الجبرية التي تستر وراءها النظام الأموي، والتي تقول إنه ليس للإنسان اختيار في أفعاله. وقد تعامل الأمويون بعنف ضد المفكرين الذين قالوا بحرية الإرادة الإنسانية باستثناء الحسن البصري (ت: 110ه/728م)؛ فقد قتل الخليفة «عبد الملك بن مروان»(65ه/685م-85ه/705م) المفكر المعتزلي «معبد الجهني» (ت: 80ه/700م)، وابنه قتل «غيلان الدمشقي» (99ه/718م)، وذبح الوالي الأموي «خالد بن عبد الله القسري» «الجعد بن درهم» (120ه/738م)، والذي كان مؤدبا ومعلما لآخر الخلفاء الأمويين، أسفل المنبر بعد صلاة العيد. وكان لجدال المعتزلة ودفاعهم عن العقيدة الإسلامية في مواجهة أصحاب الديانات الأخرى باعتمادهم الحجج العقلية، وليس على الأدلة من القرآن والسنة. والعقل عندهم مجموعة من العلوم الضرورية الملازمة للإنسان خلقها الله فيه.
وجدت أن مبادئهم أو أصولهم الخمسة، التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يمكن ردها إلى مبدأين أساسيين؛ التوحيد والعدل؛ فالله سبحانه عادل، ودليل عدله أن يكون هناك وعد ووعيد للتفريق بين المصيب والمذنب؛ لأن الإنسان مسئول عن أعماله في الدنيا، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط بمسئولية الإنسان هذه. وللحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر أو مؤمن فقط فإن عدل الله يتطلب وجود منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، وهو المبدأ الخامس؛ المنزلة بين المنزلتين، وهو جزء من عدل الله.
ومعرفة معنى كلام الله في فهم المعتزلة تشترط معرفة قصده سبحانه، ومعرفة حالة وقوع الكلام، ومواضعة الكلام. وقد اتفق المعتزلة وخصومهم من الأشاعرة على شرط معرفة مواضعة الكلام؛ أي معرفة دلالة الكلمة في اللغة؛ فقد اختلفا في أصل المواضعة ومصدرها، هل معنى الكلمة توقيف من الله، أم اصطلح عليه الناس؟ فالأشاعرة قالوا إن القرآن قديم؛ أي غير مرتبط بزمن نزوله على النبي، واللغة عندهم أصلها التوقيف من الله؛ استنادا إلى قول القرآن الكريم في سورة «البقرة»:
وعلم آدم الأسماء كلها . وقالوا إن الكلام صفة ذاتية قديمة. على العكس من ذلك قال المعتزلة إن القرآن مخلوق؛ لأن الكلام صفة من صفات الفعل الإلهي وليس صفة من صفات الذات؛ فإذا كان القرآن قديما فهذا معناه أن هناك قديما آخر مع الله، وهذا شرك في نظرهم، وذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية اصطلاح بين البشر وليس توقيفا.
وانتهى القاضي «عبد الجبار» إلى أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة يتعارف عليها الناس، و«ربط بين قصد المتكلم والمعنى الذي يدل عليه». واستخدم المعتزلة كلمة «المثل» الواردة بكثرة في القرآن للتعبير عن مفهوم المجاز، واعتبروا المجاز قرين الحقيقة بدءا من كتابات الجاحظ (ت: 255ه/870م) معتمدين على جهود المفسرين واللغويين في تعاملهم مع كلمة المثل في القرآن. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحددت عناصر المجاز، وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها، كوسيلة لرفع التناقض الظاهري بين كلام الله، وبين معرفتنا العقلية بعدله وتوحيده. أو بمعنى آخر يصبح المجاز وسيلة للتأويل وأداة رئيسية له. ومن الطبيعي - والحالة هذه - أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.
12
داخل قاعة المناقشة، جلست خلف ترابيزة صغيرة عليها كوب من الماء ومعي الرسالة وأوراق لكتابة الملاحظات وخلفي باقة كبيرة من الورد، أرتدي بدلة جديدة ورابطة عنق، عليها الروب الأسود حسب التقاليد الجامعية. وعلى المنصة لجنة المناقشة؛ أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وبجواره الأستاذة الدكتورة «سهير القلماوي» بشعرها القصير، وعلى جانبه الآخر الدكتور «عفت الشرقاوي». حضر المناقشة جمع غفير من الأهل والأصدقاء وطلبة جامعة القاهرة. بدأ الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الحديث بصوته الرخيم الآتي من أعماق بعيدة، فطلب مني تقديم ملخص للبحث. عرضت تلخيصا للدراسة، فالتمهيد؛ درست فيه نشأة الفرق الدينية الإسلامية، ومنها المعتزلة، وفصلا عن المعرفة والدلالة اللغوية. عرضت فيه لنظرية المعرفة ونظرية اللغة عند المعتزلة، وفصلا ثانيا عن نشأة مفهوم المجاز وتطوره عند المعتزلة، وفصلا أخيرا عن المجاز والتأويل؛ أخذت فيه قضيتي توحيد الله ورؤيته وقضية خلق الأفعال والعدل كنموذج للتأويل عند المعتزلة.
مسألة المحكم والمتشابه في القرآن. اتفقت كل الفرق على وجود محكم واضح، ومتشابه غامض يحتاج إلى توضيح؛ اعتمادا على الآية الثالثة من سورة «آل عمران»، لكن الفرق اختلفت فيما بينها حول ما الواضح وما الغامض، واتخذ المعتزلة هذه المسألة وسيلة شرعية لتأويل الآيات التي لا تتفق مع مبادئهم الفكرية من التوحيد والعدل، واستخدموا المجاز كوسيلة لإخراج دلالة نص القرآن من المعنى الظاهر للآيات إلى معنى مجازي، وفي حالة عجزهم عن تأويله استنادا إلى تركيبه اللغوي يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي.
المعتزلة ينفون تماما مسألة رؤية الله؛ لأن الرؤية تعني أنه سبحانه متحيز بالمكان، واستندوا إلى آيات مثل
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، واعتبروها محكمة، وأولوا كل الآيات التي تختلف مع ذلك، ونفوا مشابهة الله للبشر، وأكدوا وحدانيته المطلقة وتفرده الكامل. وفي قضية خلق الأفعال، وهي أساس مبدأ العدل، نفوا عن الله فعل القبيح أو إرادة فعله، وأكدوا قيام الفعل الإنساني على الاختيار. وكان الأشاعرة قد ذهبوا إلى إطلاق القدرة الإلهية لتشمل كل المرادات حتى كفر الكافر وكذب الكاذب؛ فإن المعتزلة ميزوا بين ما يريده الله من فعل ذاته وبين ما يريده من فعل غيره، وذهبوا إلى أن إرادة الله للفعل الإنساني إنما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الإلجاء. والمعتزلة حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب وبين النصوص المتعارضة ظاهريا للقرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز - لخدمة هذه المهمة - إنجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات. ولعل دراستي أن تكون تمهيدا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها، كل ما يرجوه الباحث أن يكون قد وفق في كشف جانب مهم من جوانب تراثنا الديني الإسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.
بدأ المناقشة د. «عفت الشرقاوي» الذي مر ثلاث مرات؛ مر عبر الرسالة مدققا في الكتابة والأسلوب والنحو بالتفصيل، وفي النهاية أثنى على البحث وعلى جهد الباحث، لكني لم أستفد منه في مناقشة المنهج أو القضايا الفكرية المثارة بالبحث. ود. «سهير القلماوي» أثنت أيضا على البحث وعدم التهيب من موضوع البحث، والأمانة في عرض النصوص، وحرصي الدائم على ذكر رأي وليس مجرد جمع، بل هناك أصالة في النظر للأمور. ونظرت لي بحيويتها المعهودة وصوتها الواثق وقالت: لكننا هنا لسنا في مجال ذكر المزايا، الرسالة اسمها قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، أين قضايا المجاز في الرسالة؟ فقلت لها: لقد حاولت أن أطرح فلسفة المعتزلة. - هذه قضايا فلسفية وليست قضايا بلاغية، أين مثلا استعمالات المجاز؟ هل كانت للمعتزلة طريقة معينة في النظر للمجاز، كمجاز الأسماء والأفعال؟ - «القاضي عبد الجبار» المجاز عنده مجرد سلاح للتأويل. - أنت رصدت ما قاله المعتزلة، وليس طريقة المعتزلة. كنت أطمع في فصل يشخص كيف استعمل هذا السلاح. أنت قسمت الرسالة من الناحية الفلسفية وليست البلاغية، عندك ثلاثة مراجع أجنبية فقط، وليس منها كتاب حديث متخصص في المجاز. ما استعمالاتهم للمجاز عندما يردون شيئا من المتشابه إلى المحكم، أو استعمالهم للمجاز عندما يردون على شيء يمس الثابت من العقيدة؟ وأنت أخذت وقتا طويلا في شرح نشأة الفرق والقضايا الفلسفية، وكان يمكن أن تختصرها إلى أقل من ذلك بكثير. يعني مثلا في مسألة مواضعة اللغة، هل كانت هناك مواضعة بين الملائكة والرسل؟ وبعدين أليس غريبا ألا يلتفت إلى السنة النبوية في تأويلات الفلاسفة فيما ذكرته السنة عن ماهية الله في التوحيد والعدل، فهل لرفض المعتزلة للحديث سبب؟ ومسألة المجاز في الأعلام، واستعمالهم السياق والمجاز بالسياق، وهذا مهم جدا. إحنا بدأنا ندخل في صلب الرسالة في صفحة 157. وكذلك مسألة مصطلحات الفقه التي دخلت البلاغة مثل الخصوص والعموم، وأيضا اشتغال المعتزلة بالرد على تحديات أهل الديانات الأخرى، أليس له دور في استخدامهم للمجاز؟ - أفادهم في الاستدلال وأخذ العقل كمعيار. - وكتاب الشارح «للمغني، عبد الجبار»، هل هناك إضافات للشارح؟ وما هي؟ - محقق الكتاب دخل في نفس الإشكال؛ لأن الشارح للكتاب شيعي، والمؤلف معتزلي.
شربت بعض الماء حينما انتهت الدكتورة سهير من مناقشتها، وأتى الدور على أستاذي «عبد العزيز الأهواني» الذي قال: كوني مشرفا لا يمنعني من طرح بعض النقاط على الباحث ليفكر فيها. أعتقد أن نشأة الاعتزال التي ذكرها الباحث على أنها رد فعل سياسي للنظام الأموي ولمواجهة الظلم كعامل أكبر يجب أن يفكر فيها ثانيا؛ لأن المعتزلة كانوا أصحاب سلطان في زمن المأمون، وجرت على أيديهم محنة خلق القرآن، وكانوا أقرب للسلطة. وظل المعتزلة طوال الوقت نخبة في المجتمعات الإسلامية. وقضية انتشار الإسلام ودخول غير العرب في الإسلام لم تكن أقل أهمية من تحدي السياسة في نشأة الفكر الاعتزالي. ربما لنشاط الباحث السياسي، فحبذ دور السياسة. إذا كان هذا هو موقفهم في السياسة في البداية كموقف من الواقع، لماذا كان خطابهم بهذا التجريد، ومنصبا على ما سيفعله الله في العالم الآخر؟ خطابهم من البداية للخاصة وليس للعامة؛ فلم يتحدثوا عن البديل للحاكم الجائر. أنا أوافقك في أن هناك صلة بين المعتزلة والسياسة، ولكنها ليست الصلة الأولى في النشأة. بعد انتهاء الدكتور «الأهواني» من مناقشته دخلت اللجنة للتداول.
شربت كوب الماء. القاعة حارة جدا. أفكر في دراسة جدل المعتزلة مع أهل الديانات الأخرى وخصوصا في دمشق التي كانت معقلا للفكر المسيحي. عادت لجنة المناقشة، وقرأ الدكتور «عبد العزيز» قرارها بمنحي درجة الماجستير بتقدير «ممتاز». رأيت الفرحة في عيون أمي، وأختي «بدرية» بصحتها العليلة وهي في السادسة والثلاثين، بصحبة أبينا الروحي زوجها وابن عمي «السيد أبو زيد»، وأخي «محمد» الذي قرر العودة إلى قحافة والعمل في شركة طنطا للغزل، و«كريمة» موظفة الجامعة، و«أسامة» الذي أنهى الدراسة بالمعهد الفني العالي، و«آيات» التحقت بالجامعة لدراسة اللغة اليابانية.
13
حصلت على منحة من مؤسسة «فورد» للدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكانت الأجواء في مصر تزداد احتقانا يوما بعد يوم، مع قرارات الانفتاح الاقتصادي، واتجاه الحكومة رفع أسعار السلع وإلغاء الدعم امتثالا لأوامر البنك الدولي، وإرهاصات السادات في عمل اتفاق منفرد مع إسرائيل، والحركة داخل الجامعة وبالشارع تزداد التهابا يوما بعد يوم. وكباحث شاب لا أستطيع الحصول على شقة، ولا فرصة للزواج، والارتفاع الجنوني للأسعار، وضيق الشقة علينا. كتبت مقالة «ابن خلدون بين النظرية والتطبيق» التي نشرت في مجلة «الكاتب»، بعددها رقم مائة وخمسة وتسعين، سنة سبع وسبعين. وسجلت موضوعي للدكتوراه، في الثلاثين من أبريل، عن فلسفة تأويل القرآن عند «محيي الدين ابن عربي»، مع أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ فقد أدركت من الماجستير أن وراء عملية تفسير وتأويل القرآن أن هناك رؤية فلسفية، فأردت أن أدرس ما هذه الفلسفة الكامنة وراء تأويل الصوفي الكبير «محيي الدين ابن عربي» (560ه/1165م-638ه/1240م) للقرآن؛ تواصلا مع جانب آخر من جوانب تراثنا الفكري والديني والفلسفي، ألا وهو الجانب الصوفي الروحي.
أخذتني الحياة بعيدا عن التصوف، فكان أحد أصدقاء أبي، «عم حسن سمك»، الذي استمرت صلتي به بعد وفاة والدي وحتى بعد رحيلنا إلى القاهرة، كان كلما أتى إلى القاهرة زارني في الجامعة. «عم حسن» فلاح، شاعر، وقارئ لشعر التصوف، زائر رحال للأضرحة تبركا ومجاورة لأهل البيت بالقاهرة. في يوم كان مضطربا أشد الاضطراب، يحمل جبلا على ظهره، أحاول أن أعرف سبب هذا الإعياء على وجهه، لكنه صامت متعذبا. قلت له: ما لك يا عم حسن؟ ألست محل ثقتك؟ - والله يا نصر أنت ابني وأعز من أولادي، أنت الحبيب ابن الحبيب رحمه الله.
دمعة ساكنة تترقرق في عينيه، يحاول أن يمسك بها فتأبى، استجمع عزمه وقال: «يا نصر يا ابني، لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام .»
وفرت الدمعة من عينيه تجري على خديه، ونشيجه يعلو: «رأيته والله العظيم.» فقلت له: «أحبك يا رسول الله.» فرد علي: «وأنا أحبك يا حسن.» كانت عملية فهمي وإدراكي لتجربة وشعور عم «حسن» صعبة، فحاولت أن أهدئ من مشاعره، وسألته: أي عقاب يمكن أن يحدث من إفشائك أمر رؤياك لي؟ - يا ابني أخاف أن يهجرني رسول الله فلا يأتيني مرة أخرى، فلا عقاب أشد من الهجر.
قرر عم «حسن» في نفس العام أن يبيع قطعة الأرض التي يملكها ويقوم بالحج إلى بيت الله الحرام رغم معارضة أبنائه. لم أفهم تجربة عم «حسن سمك»، لكني كنت شغوفا أن أدرس التصوف للمعرفة، وفهم تجربة أمثال عم «حسن سمك».
لم تنفع الساعتان اللتان أوفرهما كل يوم للجلوس إلى كتابات الشيخ؛ ف «ابن عربي» يريد منك التفرغ له حتى تستطيع أن تنال بعضا من جوانبه. عاما كاملا وأنا لا أستطيع عمل شيء. قامت مظاهرات الخبز التي أطلق عليها «السادات» «انتفاضة الحرامية»، ومظاهرات الطلبة داخل الجامعة، فتم تعديل لائحة اتحادات الطلاب بالجامعة التي أطلق عليها «اللائحة المشبوهة»؛ لتجعل الاتحادات تحت سيطرة إدارة الجامعة، وكذلك إقامة الأسوار حول الجامعة، وسيطرة الأمن على أبوابها، وأصبح هناك مكتب للأمن بكل كلية، ومكتب عام للأمن بالجامعة؛ ليصبح وجود أمن وزارة الداخلية وجودا رسميا بالجامعة. الحياة الفكرية داخل الجامعة تختنق يوما بعد يوم. لم يكن لي عزاء في هذه الحياة الجامعية غير التواصل مع الأجيال الجديدة من خلال التدريس والتعامل مع البراعم الفكرية الجديدة، وهي سعادة ما بعدها سعادة. أتت إلى قسم اللغة العربية منحة عامين للدراسة بجامعة «بنسلفانيا» بأمريكا، ولم يتقدم إليها أحد. أردت أن أذهب إلى دولة تتحدث الإنجليزية، فوجدتها فرصة للذهاب، لكن من شروط المنحة أن يكون المتقدم حاصلا على الدكتوراه، والمنحة لدراسة الفولكلور والعمل الميداني، وأنا لم أحصل على الدكتوراه بعد. وحضر الأستاذ من جامعة «بنسلفانيا»، وحاولت أن أقنعه بصلة موضوع التصوف الذي أعد رسالتي للدكتوراه فيه وبين الفولكلور، مثل الموسيقى الصوفية والأناشيد والأوراد والأذكار والاحتفالات الصوفية الشعبية. وسألني الأستاذ: وكيف نضمن أن تعود ولا تمكث في أمريكا؟ وكأنها جنة الله على الأرض. فقلت له: تأكد تماما أني أفضل وجودي هنا في مدرج ثمانية عشر مع طلابي عن أي مكان في الدنيا، كل ما أريده هو العلم والمعرفة لخدمة هذا الوطن. وافقت اللجنة على حصولي على المنحة، ولكن بشروط أقل؛ لأني لست حاصلا على الدكتوراه، وتحدد موعد سفري أنا والدكتور «أحمد مرسي» المتخصص في الأدب الشعبي بقسمنا.
من غرب لشرق
1
وصلت أنا ود. «أحمد مرسي» إلى مطار كنيدي بنيويورك، وفي انتظار الطائرة التي ستأخذنا إلى مدينة «فيلادلفيا» بولاية «بنسلفانيا»، فتحدثت إلي إحدى السيدات المنتظرات في الصالة. ولم أفهم من كلامها شيئا، فأصابني ذعر، على ما درسته بالجامعة الأمريكية. حاول «أحمد» أن يخفف من ذعري، فقال إنه لم يفهم من كلامها شيئا، وقال إن لهجتها غريبة عليه هو أيضا وقد زار أمريكا من قبل. بالجامعة التقينا الدكتور «توماس نيف»؛ أمريكي من أصل لبناني، وهو المشرف على المنحة من قسم دراسات الشرق الأوسط بالجامعة، والذي أخبرني أن أحصل على دورة لغة إنجليزية بالجامعة، فذهبت ودفعت خمسمائة دولار من جيبي للدورة، ولم أستفد شيئا، كلها مبادئ عامة أعرفها، فطلبت مستوى أعلى. أخبرني المحاضر أن هذا أعلى مستوى للغة الإنجليزية كلغة ثانية. فطلبت أن ترد إلي نقودي؛ فلن أسمح لأحد أن يخدعني في بلاد «العم سام». رفض المحاضر؛ لأن الدورة بدأت وفات موعد استرجاع الاشتراك. شعرت أنني يغرر بي، فذهبت إلى د. «توماس نيف» وقلت له: أنت أخبرتني أن آخذ هذه الدورة، وأنت الأستاذ المشرف، فيجب عليك أن ترد لي نقودي. فقال: أنا تصورت أنك تحتاج إلى الدورة ككل الطلبة، فلماذا أدفع النقود؟ تدخلت زوجته «جين» في الحوار ووجدتها تقول له: «توماس»، هو عنده حق، أنت الذي نصحته بهذا وأنت المشرف، وكلامك يؤثر، فيجب أن تدفع له النقود من جيبك الخاص. ودفع لي الخمسمائة دولار، فشعرت أنني في مجتمع لا يضيع فيه حق إذا سعيت وراءه.
عرفني د. «أحمد» على الكثير من الأساتذة، ومنهم دكتور مصري في الأنثروبولوجي بجامعة قريبة، «عبد الحميد الزيني»، له بأمريكا عمر طويل، وكان لحواراتي معه أثر كبير في توجيهي لقراءات كثيرة. لم يمكث د. «أحمد مرسي» كثيرا؛ فقد تم اختياره مستشارا ثقافيا لمصر في إيطاليا، وكان مترددا في القبول، لكني ألححت عليه بالقبول حتى قبل، فأصبحت أعتمد على نفسي. أخذت مكانا متواضعا في بيت سيدة عجوز في أجوار الجامعة، وبينما تعطيني صاحبة البيت المفتاح للمسكن سألتني: أنت من أين يا بني؟ - من مصر. - مصر! ودي فين؟ - في أفريقيا - والتجهم على وجهها - هل تعرفين الأهرامات وأبو الهول؟ الحضارة المصرية لها سبعة آلاف عام. - سبعة آلاف عام؟ هذا مستحيل! - مستحيل ليه؟! دا تاريخ. - على حسب «الإنجيل»، الحياة بدأت على الأرض منذ ستة آلاف عام فقط.
شعرت أنه لا طائل من الاستمرار في الحوار. الكثير من الأمريكيين يعتمدون على الإنجيل كمصدر لمعرفتهم التاريخية، كما يفعل كثير من المسلمين مع القرآن. وصدمت من تقوقع الأمريكيين وجهلهم بالعالم وتركيزهم على ما يحدث داخل حدود وطنهم، بل حتى حدود المدينة أو المنطقة التي يعيشون بها.
الهدوء والانتظام في الحياة الجامعية ساعداني أن أقرأ في كتاب «الفتوحات المكية» الذي استعصى علي في القاهرة بزحامها، فظللت عاما كاملا لا أتخطى الصفحات الثلاثين الأولى؛ سحر الخطبة يجذبني للعودة إلى فك طلاسمها الرمزية، فوجدتني أدخل إلى عالم الصوفي الكبير «ابن عربي» بلا معوقات، عالم يستعصي دخوله دون إلمام بمعرفة واسعة بالتراث الإسلامي؛ فكل ثلاثة أسطر تجد آية قرآنية يستشهد بها. كانت تراودني دائما كلمة «تأويل»، وأريد أن أبحث عن معناها بالإنجليزية، فحاولت البحث عن
Super interpretation
أو
Ultra interpretation ، حتى اتصلت بأستاذي «حسن حنفي» الذي يجيد عدة لغات، فقال لي:
Hermeneutic . وبدأت أجمع الكتب ذات الصلة، بالهرمنيوطيقا التي استخدمتها بمعنى «التأويلية»، فوجدت تراثا كبيرا من المؤلفات، وكانت القراءة صعبة ومستغلقة، وشعرت بفشل وعجز عن الفهم. كنت لا أبرح المكتبة إلا للتدخين، ومن شدة انجذابي توقفت عن التدخين، وأصبحت أمكث في المكتبة من الصباح حتى الحادية عشرة مساء، لكني في نفس الوقت طالب في قسم الفولكلور، وعلي أن أحضر محاضرات وأكتب أوراقا بحثية. وكان القسم يتعامل مع الفولكلور بمفهوم واسع؛ محاضرات في تحليل النصوص، وفي اللاهوت، والأنثروبولوجي. وكان الأستاذ يعطي فكرة عن المنهج الدراسي، وبعدها نلتقي في مسكنه للحوار. كان المناخ الأكاديمي والعلمي جميلا، فدخلت في القراءة في اللغويات الحديثة، والسوسيولوجي، والأنثروبولوجي.
ذهبت إلى السوبر ماركت الضخم لقضاء بعض الاحتياجات، وكانت سيدة عجوز تمر بعربة مشترياتها، وبداخل العربة قطتها الجميلة على أهبة القفز من العربة، فأمسكت بها قبل أن تفعل. شكرتني السيدة برقة، وسألتني: من أين؟ فلما أجبتها وجدتها تقول لي: لماذا لا تقبلون اليهود يعيشون معكم؟ فقلت لها: أظن أن اليهود الإسرائيليين هم الذين يرفضون أن يعيش الفلسطينيون معهم.
استمرت السيدة بحدة: إنها «أرض الميعاد» التي ورثها «إسحاق» عن أبيه «إبراهيم».
حاولت أن أتحدث بهدوء: هذا حق، إننا نتحدث عن «أرض ميعاد»، لكن إبراهيم كان له ولدان، «إسحاق» و«إسماعيل»، هل ترين من العدل أن يصطفي «إبراهيم» «إسحاق» فقط ليرثه.
2
بعد فترة عسرة بدأت مصطلحات ومفاهيم «الهرمنيوطيقا» تتفتح لي، وازدادت درجة فهمي. قرأت في الفلسفة الوجودية وعن العلاقة بين الأنا والوجود، وأدركت مدى اعتماد العلوم الاجتماعية والإنسانية على التفسير، تفسير الظواهر؛ مما يجعل نظرية التأويل - أي القواعد العامة التي تقوم عليها عملية التفسير - مهمة في هذه العلوم؛ فهذه العلوم تحتاج إلى نظرية تأويلية. وجدت إعلانا في الجامعة عن برنامج تدريسي عن مادة التأويلية (الهرمنيوطيقا)، وكان التسجيل فيه بتصريح خاص من الأستاذ، فذهبت أقابله، وطلبت أن أدرس «الكورس»، فأخبرني أني الطالب الوحيد في الجامعة الذي فهم معنى هرمنيوطيقا وأهميتها. ولم يكن يعرف ماذا يمكن أن يفعل، فسألني لماذا أريد دراسة «الكورس». وبعد حوار طويل قال: أنت عندك أسئلة من ثقافتك؛ أنت من ستجيب عليها، ومعرفتك التي حصلتها هي البدايات التي كان «الكورس» سيساعدك فيها، والآن أنت تعرفها، فاستمر.
أين تكمن الحقيقة؟ هي مشكلة «محيي الدين ابن عربي»، وهي نفس المشاغل والإشكاليات التي تتعامل معها نظرية التأويل. مشكلة «الذات والموضوع» والصلة بينهما. هل الحقيقة تكمن في الذات أم في الخارج أم في العلاقة بينهما؟ «ابن عربي» يرى أن الحقيقة تتشكل وتتلون كتشكل الماء بشكل الإناء الذي يستقبله، وكتلون جلد الحرباء حسب لون السطح الذي تعيش عليه؛ فالحقيقة ليست خارج الوعي، لكنها نتاج العلاقة بين «الذات» و«الموضوع». وإشكال آخر؛ هل الحقيقة ذاتية بشكل كامل أم يمكن التحدث عن تداخل بين «الذات والموضوع»؟ بدأت أشعر أن الحدود الفاصلة وهمية بين اهتمامات الهرمنيوطيقا أو التأويلية، وما أقرؤه في الثقافة العربية الإسلامية وكتابات «ابن عربي». نعم هناك إجابات مختلفة باختلاف الثقافة واللغة، لكن هناك هموما مشتركة. كلما قرأت في «ابن عربي» وفي تراث الهرمنيوطيقا الغربي، شعرت بالحاجة إلى نقل هذه المفاهيم والأفكار إلى اللغة العربية، وفكرت في الإعداد لأول مقال طويل أو دراسة قصيرة سوف أكتبها عن الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص.
الهرمنيوطيقا أو التأويلية قضيتها الرئيسية هي تفسير النص، بالتركيز على علاقة المفسر بالنص، وهي مصطلح استخدمه اللاهوتيون في تعاملهم مع الكتاب المقدس عام 1062ه/1654م، ويقصدون به القواعد والمعايير التي يتبعها المفسر في تفسير النص، ويفرقون بينها وبين عملية التفسير نفسها؛ عملية تطبيق هذه القواعد والمعايير. واتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية ... إلخ. والتأويلية في تركيزها على علاقة المفسر بالنص لا تخص فقط الفكر الغربي، بل لها وجودها في تراثنا العربي القديم والحديث. وعلاقتنا مع الفكر الغربي يجب أن تكون علاقة حوار جدلي؛ فلا نكتفي بالاستيراد والتبني، بل ننطلق من همومنا الراهنة وواقعنا؛ فلا نلهث وراء كل جديد لمجرد أنه جديد.
فعلى مستوى تفسير القرآن في تراثنا القديم كان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو التأويل. الأول يهدف للوصول إلى معنى النص كما فهمه المعاصرون لنزوله، بجمع الأدلة التاريخية واللغوية. والتفسير بالرأي نظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر يبدأ من موقفه الراهن يحاول أن يجد سندا في القرآن لموقفه. الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغي وجوده لحساب النص، بينما لا يتجاهلها الاتجاه الثاني. وفي واقعنا النقدي الحديث، المعضلة تتمثل في أن كل ناقد يعتقد أن تفسيره هو التفسير الصحيح، كما قصده المؤلف، وانظر إلى الدراسات عن «نجيب محفوظ»؛ فهو عند ناقد كاتب الاشتراكية الأول، وعند ناقد آخر هو كاتب الإسلامية الروحية.
العلاقة بين الفن والأدب، أو الإبداع والعالم، منذ «أفلاطون وأرسطو» حتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية، تؤكد دور الواقع الخارجي على حساب دور الفنان أو المبدع من خلال المحاكاة. وجاء تيار الرومانسية ليؤكد دور المبدع على حساب الواقع، وركز على العمل الأدبي بوصفه تعبيرا عن عالم الفنان الداخلي، فحولت عملية نقد العمل الفني إلى انطباعية. ومع مرحلة الجزر الرومانسي خطت الدراسة الأدبية على يد «ت. س. إليوت» خطوة جديدة جعلت النص هو محور اهتمامها، منكرة علاقته بمبدعه أو الواقع؛ وذلك بالتركيز على تحليل النص وترك مجال علاقته بالمبدع أو الواقع لمجالات أخرى تدرسها غير النقد الأدبي. وجاءت البنيوية (البنائية) مستفيدة من مناهج علم اللغة، في البحث عن البنية التي تؤدي إلى اكتشاف نظام العمل الأدبي، فيتم تجاوز ثنائية «الذات والموضوع» بإخضاعها إلى فكرة النظام. من هنا دور التأويلية (الهرمنيوطيقا) لتركيزها على علاقة المفسر بالنص، والتي أهملتها كل النظريات.
قرأت عن جهد الألماني «شليرماخر» (1180ه/1768م-1248ه/1834م) بالخروج بالتأويلية من مجال علم اللاهوت ودراساته لتكون علما قائما بذاته. النص وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ؛ ففيه جانب موضوعي مشترك بين المؤلف والقارئ يجعل عملية الفهم ممكنة. وأيضا يشير النص إلى الفكر الذاتي لمبدعه في طريقة استخدام المبدع الخاص للغة. والعلاقة بين الجانبين علاقة جدلية. وهدف القراءة هو فهم النص كما فهمه مؤلفه. ورغم النقلة المهمة للهرمنيوطيقا على يديه ومفهومه عن الدائرة التأويلية، فإنه حرص على وضع قوانين ومعايير لعملية التفسير تحاشيا لسوء الفهم، فطالب المفسر أن يتباعد عن ذاته وأفقه الراهن.
وفيلسوف التاريخ الألماني «ويلهلم ديلثي» (1247ه/1833م-1328ه/1911م) حاول تأسيس منهج موضوعي للإنسانيات بالتركيز على تحليل حقائق الوعي؛ فالتجربة الذاتية هي أساس المعرفة، والتأويلية عنده تدخل في إطار أكبر من النص ، تركز على فهم التجربة كما يفصح عنها العمل الأدبي من خلال معايشة التجربة التي يعبر عنها النص؛ فمن خلال المعايشة يفهم الإنسان نفسه، وليس من خلال التأمل العقلي، بل من خلال التجربة. وتركيزه على تجربة الحياة ودور المفسر في عملية الفهم أثرا في فكر من أتوا بعده.
الفيلسوف «مارتن هيدجر» (1305ه/1889م-1395ه/1976م) حاول إقامة التأويلية على أساس فلسفي، أو يقيم الفلسفة على أساس تأويلي؛ فوعي الإنسان لوجوده يفصح عن نفسه خلال تجربة حية وفهم آني تاريخي يتشكل من تجارب يمر بها الإنسان؛ فالأشياء تتجلى لنا، والعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير، واللغة هي التجلي الوجودي للعالم. ونحن لا نلتقي النص خارج إطار الزمان والمكان، نلتقي به متسائلين هذه الأسئلة التي هي الأساس لفهم النص وتفسيره، لكن «هيدجر» أغفل الخاصية المميزة للفن، وأهدر ذاتية المبدع في سبيل التجربة الوجودية.
و«هانز جادامر» الألماني أيضا (1316ه/1900م-1421ه/2002م) في كتابه الماتع الذي أعجبت به كثيرا
Truth and Method «الحقيقة والمنهج»، الذي أقام عملية الفهم على أساس جدلي، ونقد الهرمنيوطيقا منذ شليرماخر مرورا ب «ديلثي»، وركز على عملية الفهم ذاتها؛ فالتاريخ ليس وجودا مستقلا في الماضي عن وعينا الراهن، وحاضرنا ليس معزولا عن تأثير التقاليد التي انتقلت إلينا عبر التاريخ؛ فالوجود الإنساني تاريخي ومعاصر في نفس الوقت؛ فالتاريخية تراكم لخبرة الوجود في الزمن. واللغة لا تشير إلى الأشياء، بل الأشياء تفصح عن نفسها من خلال اللغة. وقد أقام تأويليته متأثرا بجدلية «هيجل» على أساس جدلي مثالي، لكني أختلف معه بأن «الوجود الإنساني مشروط بلحظة تاريخية معينة، وبإطار اجتماعي يحدد شروط هذا الوجود وآفاقه؛ فالذاتي والموضوعي في حالة علاقة جدلية محكومة بالشروط الاجتماعية المادية والتاريخية التي تتم فيها المعرفة». وتعد إقامة الهرمنيوطيقا عند «جادامر» على أساس جدلي إضافة حقيقية؛ ولكنها تحتاج لتأسيس الجدل على أساس مادي.
وكتابات الإيطالي «بيتي» (1306ه/1890م-1386ه/1968م)، والفرنسي «بول ريكور» (1329ه/1913م-1424ه/2005م)، والأمريكي «هيرش» المولود في 1345ه/1928م، الذين يحاولون إقامة نظرية موضوعية في التفسير؛ وذلك بإقامتها على منهج موضوعي صلب، لكنها لم تعد عندهم فلسفة، بل علم تفسير النصوص، أو نظرية التفسير. «بول ريكور» ركز اهتمامه الأساسي على تفسير الرموز، وفرق بين طريقتين في التعامل مع هذه الرموز؛ الأولى هي اعتبار الرمز نافذة نطل منها على عالم من المعنى، والثانية التي يمثلها «فرويد وماركس ونيتشه» بالتعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة يجب ألا نثق فيها، بل نبحث عن المعنى المختبئ وراءها. ويرفض الفهم البنيوي للغة على أنها نظام مغلق من العلاقات لا يدل على شيء خارجه. وهناك فرق بين اللغة والكلام؛ فاللغة تمثل نظام الثبات، والمتكلم يختار من الإشارات اللغوية واحدة دون الأخرى، ويقيم بين الإشارات علاقات دون علاقات، من هنا يكون الكلام مصدر نظام التغير. والنص المكتوب يشير إلى كاتبه، إلا أن له استقلالية في المعنى. وتصبح مهمة المفسر هي النفاذ إلى عالم النص وحل مستويات المعنى الكامن فيه؛ ظاهرا وباطنا، حرفيا ومجازيا، مباشرا وغير مباشر. لكن «ريكور» أغفل علاقة المفسر بالنص؛ نتيجة لرد فعله للبنيوية (للبنائية).
فرق «هيرش» بين المعنى والمغزى؛ فمعنى النص شبه ثابت يمكن الوصول إليه من خلال تحليل النص، أما المغزى فمتغير، يقوم على العلاقة بين النص والقارئ. وفرق بين المعنى «القصد» الذي أراده المؤلف، والمعنى الكامن في النص. وما يعنينا هو المعنى الكامن في النص، ويمكن الوصول إليه من فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن أن يعنيها النص. وهذه مهمة الهرمنيوطيقا التي يتجاذبها اتجاهان؛ اتجاه التركيز على النص والمؤلف عند «بيتي» و«هيرش»، واتجاه يبدأ من موقف المفسر الراهن باعتبار هذا الموقف (الوجودي) هو المؤسس المعرفي لأي فهم عند «جادامر».
3
شعرت بدفء العلاقة مع رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط «توم نيف» وزوجته «جين»؛ فقد عاشا في القاهرة سبع سنوات عندما كان «توم» يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. أول مرة تناولت العشاء في بيتهم، قالت لي: «شوف يا نصر أنا هعاملك مثل معاملة الأسر في مصر، سأضع طعاما في طبق، وإذا قلت كفاية شكرا، سأستمر في وضع الطعام. العادة هنا عندما تقول كفاية، الناس تكف عن وضع الطعام، فلا بد تكون واضح بدون خجل، ولو كان فيه حاجة انت عايزها زي ملح أو «مستاردة» أو صودا ومش موجودة على الترابيزة، لا تستحي أن تطلبها. إيه الأخبار يا نصر؟ العصفورة قالت لي إنك خرجت للعشاء مع بنت من الجامعة؟» فقلت لها: أبدا ما فيش حاجة بيننا، دا كان عشاء عادي.
فقالت: «هو انت مكسوف؟ إذا كان الموضوع محرج لك ما فيش مشكلة؟» حاولت أن أشرح لها: «لا، أبدا ما في إحراج، خرجنا وكان عشاء عاديا لكن الكلام انقلب سياسة ونقاشا حول مفاوضات السلام في كامب ديفيد، ومعاهدة «السادات وبيجن» الشهر الماضي. ولما عرفت أني ضد سلام منفرد بين مصر وإسرائيل، وضد تنازلات «السادات» في شروط المعاهدة، المعلنة منها والسرية، وهي كمان «يهودية».» ضحك توم زوجها، وعلا صوته: «خارج على عزومة عشاء مع بنت زي القمر، ورايح تتكلم في السياسية ومصر وإسرائيل، دا أنت طيب أوي يا نصر.»
حاولت أن أدفع ثمن العشاء، فاعتبرت دا تقليل من شأنها، ودخلنا في جدل تاني.
انخرطا الاثنان في الضحك، ووضعت «جين» مزيدا من الطعام على طبقي، وانقلب العشاء حوارا عن الوضع في البلاد العربية بعد معاهدة «السادات وبيجن».
أحاول التعرف إلى الناس، وإلى ثقافة وعادات وتقاليد في المجتمع الأمريكي. لاحظت التقسيم ليس فقط بين شمال «فيلي» - اختصارا ل «فيلادلفيا» - وجنوب «فيلي» بين البيض والسود؛ فالمواصلات العامة: الأتوبيسات تجد البيض يستخدمونها أكثر، والسود أكثر استخداما للمترو تحت الأرض. داخل النوادي الليلية للسود أجد نفسي بينهم، أستمتع بموسيقاهم. خرجت من النادي في طريقي إلى مسكني، وكان الوقت متأخرا، حول مدخل المترو مجموعة من الشباب الزنوج، ولم يكن أحد بالطريق، التفوا حولي في دائرة. شعرت أنها النهاية. اقترب مني أحدهم، في الثامنة عشرة على الأكثر، وقال: أنت من أين؟
حاولت أن أكون هادئا بقدر استطاعتي، وقلت: «من أفريقيا.» واستكملت: «أنا من بلد اسمه مصر في أفريقيا.» قال: وماذا تفعل هنا؟
ما إن قلت «معلم» حتى بدأ يضحك بلهجة ساخرة يوجه حديثه إليهم: «معلم، معلم. وماذا تعلم يا معلم؟» قلت بهدوء: «أدرس اللغة العربية.» قال زعيمهم: «طيب يا معلم ادعونا لشراب في بيتك.» - ولم لا؟ لكن الوقت متأخر، وأنا عندي دروس في الصباح، لكن إذا أحببتم تعالوا نشرب شيئا معا، لكن لازم أذهب للسرير في أقرب وقت.
وجدت نوعا من الاستغراب على وجوههم. ولم أصدق نفسي أني أدعوهم إلى مسكني، لكني كنت مرعوبا أن أقول لهم «لا». أخذنا المترو، وطوال الرحلة وأنا أتصورهم الستة وهم يدخلون مسكني ويقتلونني. وصلنا إلى البيت، دخلنا، سألني أحدهم: «عندك إيه للشرب؟ أنا عايز بيرة.» - في الواقع ليس عندي كحوليات؛ لأني لا أشرب ... وقلت بصوت خفيض متحسسا: لكن ممكن نشرب شاي، وعندي عصير برتقال، أو لبن.
قال أحدهم متسائلا: «ليه لا تشرب الكحوليات؟» وقال آخر بسرعة: «هو انت هوفا وتنس؟» من «شهود جهوفا» - بتعطيش الجيم - حاولت أن أشرح لهم أن شرب الكحوليات ضد المعتقد والتقاليد الإسلامية، وفي النهاية قدمت لهم ستة مشروبات مما عندي. وكانوا في أدب جم داخل الشقة. سألوني بعض الأسئلة عما أدرس، وشكروني على الصحبة وانصرفوا.
وجدت بالمكتبة كتابات أخرى للكاتب الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» (1331ه/1914م-1412ه/1993م) غير الدراسة التي قرأتها له وأنا أعد رسالة الماجستير،
Revelation as a Linguistic Concept in Islam
عن مفهوم الوحي من منظور لغوي في الإسلام، فوجدت له دراسات أخرى، وكلها عن القرآن، وأرسلت إلى زميل ياباني كان معي في جامعة القاهرة يدرس اللغة العربية، وطلبت منه أن يصور لي بقية كتبه في اليابان، والتي لم أجدها بمكتبة جامعة «بنسلفانيا». والدور الذي قام به «إيزوتسو» بتطبيق منهج التحليل اللغوي على القرآن، ووجدت له قدرة تحليلية جميلة، وسمعت عن ترجمته للقرآن إلى اللغة اليابانية. وعلمت أنه يدرس في كندا، فقررت أن أقوم بجولة في أنحاء الولايات المتحدة، أزور فيها جامعات ومكتبات أخرى للبحث عن مزيد من الكتب والدراسات عن التأويلية وعن الدراسات القرآنية وعلوم اللغة والنقد والفلسفة. كنت آخذ تذاكر أتوبيس أو قطار أو طائرة ذهابا وعودة، فزرت جامعة «كاليفورنيا » و«بيركلي» وجامعة «برنستون»، وذهبت إلى مكتبات في «نيفادا» و«أروجون»، وأنفقت الكثير من مالي على المواصلات، وعلى تصوير كتب من هذه المكتبات والجامعات، وذهبت لزيارة أستاذ عراقي بجامعة «هارفارد»، د. «محسن مهدي»، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وله كتابات عن «ابن خلدون والفارابي»، وله تحقيق ل «ألف ليلة وليلة». وتحدثنا عن موضوع دراستي للدكتوراه ودراسات الهرمنيوطيقا التي أقوم بها، وأعجب كثيرا بالأفكار التي طرحتها عليه، فعرض علي منحة للدراسة ب «هارفارد» واستكمال الدكتوراه بها، لكن عقلي متعلق بطلابي الجدد بمدرج ثمانية عشر. والحياة في أمريكا لم تجذبني، على الرغم من الزخم الفكري والمعرفي الذي تواصلت معه. ذهبت إلى كندا لمحاولة اللقاء بالأستاذ الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» الذي انبهرت بدراسته عن القرآن، لكن لسوء حظي كان في رحلة إلى إيران في ذلك الوقت. عدت بعد شهرين من التجوال والترحال داخل جوانب الولايات المتحدة، فلقيني الأستاذ «توماس نيف»، وأمسك بذراعي وقال: «اختفيت فين يا نصر؟!» - عملت رحلة في أرجاء أمريكا. - هل زرت جامعات؟ - بالطبع، ومكتبات أيضا، وأتيت بأحمال من الكتب التي صورتها وجمعتها. - طيب، سأدفع لك كل تكاليف الرحلة، أحضر لي وصولات التذاكر والفواتير؛ لأن الذي كنت تفعله هو جزء من منحتك الدراسية، ولا أعده مضيعة للوقت.
شعرت بعاطفة ناحية سكرتيرة تعمل في الجامعة اسمها «جانيت» من أصول يونانية، شديدة الفخر بأصولها. كنا نستمتع بالحديث إلى بعضنا بعضا، في الصباح الباكر، في أنحاء الجامعة، حتى إني عرضت عليها الزواج، لكنها قالت: «نصر أنا عارفة مدى ارتباطك ببلادك، ودراستك وأبحاثك، وأنا لا أقدر أذهب معك إلى مصر، موضوع الارتباط دا لا ينفع ولا بد أن نحكم العقل والمنطق، ولو نشأت علاقة بيننا سنتعذب نحن الاثنين.»
4
كنت أستعد للخروج إلى الجامعة، حينما فتحت خطاب صديق لي من مصر يعزيني في وفاة أختي الكبرى «بدرية أم علاء» في الأربعين (1940-1980م)، لم أصدق السطور. لقد كنت أتحدث إليهم في قحافة منذ فترة بسيطة وسألت عنها، وقال لي أبناؤها إنها بالسوق. جلست على أقرب مقعد في ساحة الجامعة ، ولا أعرف ماذا أفعل. كنت مشدوها، وجرت في ذهني سنواتنا معا، وحبها للمدرسة التي حرمها منها أبونا، وزواجها الأول، حتى زواجها من ابن عمنا «السيد أبو زيد»، وأبناؤها. اقترب مني أستاذ مصري من جامعة عين شمس، وما إن رأيته حتى انخرطت في البكاء. ذهبت إلى مدير المركز «توم نيف» وحكيت له ما حدث. هدأ من نفسي وقال: «يا نصر ، والدتك أخفت عليك لحمايتك، وهي أقوى منك، ورجوعك سيقلب عليهم الألم. هذا هو التليفون اتصل بهم، واعرف ما حصل. ولو أردت أعطيك التذكرة لتسافر فافعل، لكن سفرك هيعمل إيه؟ زي ما أنت قلت إن الوفاة حدثت من مدة.» اتصلت بأخي في قحافة، وسألته عن أختنا، قال: إنها في السوق. فقلت بحدة: لسه هتكدبوا علي؟! فقال بصوت متأثر: نصر، أمك لم ترد أن تؤلمك لأنها عارفة تعلقك بأم علاء، ولم يحدث شيء، لم تمرض، كانوا بيجهزوا حاجات العيد، وفجأة السر الإلهي طلع، سكتة قلبية، وهي في عز شبابها. الله يكون في عون أولادها وزوجها. وأمك حلفتنا كلنا إن ما أحد يقول لك، وبعدين هتيجي تعمل إيه؟ هتقلب عليها المواجع، أنت كمل دراستك ومذاكرتك، وتعالى، وأنت في غربة، وكنا مش عايزين نزعلك عليها، وأمك منذ الخبر وهي بتبكي طول الوقت.
تبقى لي في المنحة خمسة أشهر، كنت أود أن تمر بسرعة. لم أعد أستطيع ولا أطيق الوجود هنا، وسأضع همي في استكمال العمل في رسالتي للدكتوراه. اتصلت ب «جابر عصفور» أطمئن منه على الأحوال في القسم، فأخبرني بالمجلة الجديدة التي ستصدرها الهيئة العامة للكتاب لتكون مجلة للنقد الأدبي، والتي يدعمها رئيس الهيئة الشاعر «صلاح عبد الصبور» (1931-1981م)، وسيرأس تحريرها د. «عز الدين إسماعيل»، و«جابر عصفور ود. صلاح فضل» نائباه. وطلب مني أن أسهم في العدد الأول الذي سيصدر بنهاية العام. كنت قد بدأت في قراءة كتاب «أدونيس» (1930م) «الثابت والمتحول»، فكتبت مقالي: «الثابت والمتحول في رؤيا أدونيس للتراث.» للعدد الأول من مجلة «فصول» الفصلية، عدد أكتوبر، سنة ثمانين. منذ أن ألقى «طه حسين» حجرا في الشعر الجاهلي، وبدأت النظرة الديناميكية الحية للتراث. ومع هزيمة يونيو (1385ه/1967م) ازداد الاهتمام بالعودة للتراث. والعودة للماضي تبدأ من هموم الواقع؛ فهناك علاقة جدلية بين الباحث وواقعه وبين التراث. لا شك أن للتراث وجودا، على المستوى الأنطولوجي أو الوجودي، كان منفصلا في الماضي، لكن على المستوى المعرفي الإبستمولوجي هناك تواصل. التراث موجود في حياتنا بأشكال متعددة، والعلاقة بين الماضي والحاضر وبين الباحث والتراث علاقة جدلية. ولا توجد قراءة بريئة؛ بمعنى أنها لا تبدأ من هموم وأسئلة يطرحها الواقع على الباحث. وعلى الباحث الواعي أن يوائم بدقة بين رؤيته وحقائق التراث. ووعيه بطبيعة هذه العلاقة هي العاصم من الشطح أو الوثب بعيدا. من هذا المنطلق قرأت كتاب «أدونيس». وإشكالية التراث عنده رد فعل لتوظيف الثقافة السائدة للتراث؛ خدمة لأهدافها. وبما أنه مفكر «طليعي» فقد فرق بين الثقافة السائدة والثقافة الطليعية التي يمثلها، وهذا الموقف من الواقع شكل نظرته للتراث. وعلى المستوى التطبيقي نفر من الماضي نفوره من الثقافة السائدة. دراسة التراث في هذه الحالة لا تكون علاقة إخصاب، بل علاقة هدم وليس علاقة تجديد. وثنائية «الإبداع والاتباع» ناتجة من كونه شاعرا، فينظر إلى التراث على أنه مادة محايدة يستخدمها، فللمبدع أولوية على التراث؛ فتصورات «أدونيس» للعلاقة بواقعه وبالتراث أوقعته في الانتقائية والتحيز غير المنضبط منهجيا. إن إنجاز هذه الدراسة الحقيقي هو إدراك العلاقة بين عناصر التراث ومستوياته، وإن كانت قد وحدت بطريقة ميكانيكية أحيانا بين هذه المستويات.
5
تجدد جرح فقد أختي «بدرية» بعودتي. أمي كانت قد عادت إلى قحافة، لكن لقاء ابن عمي وأرمل أختي «السيد أبو زيد»، ورؤية أوضاعه مع أطفاله، جدد الأحزان وقلب المواجع. ولم يكن يعرف شيئا عن البيت وعن الأطفال؛ فقد كانت تحمل عنه كل شيء. فقرر أن يتزوج، وفاتحني في الموضوع. وكانت أمي في حالة غضب كبير منه لعدم احترامه لذكرى أختي، في نظرها. ربما أمي تقارن نفسها به لرفضها الزواج بعد أبي، وعكوفها على تربيتنا. أمي رفضت تماما حضور مناسبة زواجه ، كنت مقدرا وضعه وحاله، فذهبت أهنئه. اقترب مني وقال: «أنت لا تعرف مجيئك دا معناه إيه بالنسبة لي يا «نصر»، «بدرية» تركت فراغا كبيرا في حياتي وحياة الأولاد، واحنا هنعمل حفل على الضيق كدا احتراما لذكراها.» نظرت إليه وأنا أبتسم وقلت له: «لا يا سيد، دا أول فرحة لعروسك، وهي ذنبها إيه، لازم تفرح ليلة عرسها، ودعواتي لك ولها بالسعادة.» وجدت نظرة امتنان في عينيه. وباركت لعروسه وانصرفت.
بدأت أمي وأخواتي في الإلحاح علي في الزواج؛ فقد بلغت السابعة والثلاثين، وبدأت محاولات أمي وأخواتي في البحث عن عرائس لي، حتى ظهرت «أحلام» زميلة أختي «كريمة» في العمل بجامعة القاهرة، وتم الزواج بسرعة. وكنت قد حصلت على شقة من المساكن الشعبية في الدور السادس؛ مما سهل عملية الزواج، وكانت فرحة أمي كبيرة يوم الفرح، حتى إنها قامت ورقصت، وكانت من المرات القليلة التي رأيتها تضحك، وكأنها تقول لنفسها إنها أدت المهمة، وعبرت بأسرتها إلى بر الأمان. حاولت «أحلام» أن توفر جوا من السكينة والهدوء في البيت، وحاولت بقدر الإمكان أن أشركها في اهتماماتي الفكرية. أنهت أختي الصغرى «آية» دراستها الجامعية، وقررت وخطيبها الزواج مباشرة، والذهاب إلى السعودية للعمل. وبزواجها تمت مهمتي؛ ثلاثة وعشرين عاما منذ وفاة والدي.
بدأت أركز على الانتهاء من كتابة رسالتي للدكتوراه حتى أناقشها. وما إن انخرطت في الكتابة حتى باغتني خبر وفاة أستاذي المشرف على رسالة الدكتوراه؛ «عبد العزيز الأهواني» (1915-1980م). لم يقدم لي يوما إجابة بل سؤالا أدخل به في عالم جديد وأعود إليه بعد مدة بإجابات، فيلقاني بسؤال آخر. رحل بعد سبع سنوات معا، يتركني والرسالة لم تكتمل بعد. لكن الدكتور «محمود علي مكي» (1929م) أخذ مكانه في الإشراف على الرسالة وأصبح خير معين. وبدأت أحضر ندوة الثلاثاء ببيت د. «شكري عياد» (1999-1921م) التي كانت خير معين في كتابة الفصل التمهيدي للرسالة، من مناقشة الأفكار مع مرتادي ندوة الثلاثاء. وقرأت أجزاء من البحث على أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» (1932-1990م) لأخذ رأيه.
هناك فجوة بين المنطلق النظري الذي تقوم عليه دراستي للدكتوراه والتطبيقات التي أقوم بها؛ فعلى المستوى النظري هناك علاقة جدلية بين المفاهيم النظرية والنصوص التي يقوم بتأويلها «ابن عربي»، لكن الإجراءات التي طبقتها في الرسالة كانت تسلم ضمنيا بهيمنة تصورات «ابن عربي» الفلسفية على تأويله للنصوص الدينية التي تستجيب استجابة سلبية لتنطق بما يريده؛ فقد ركزت على تحليل مضمون خطاب «ابن عربي» دون التركيز على بنية الخطاب؛ مما أدى لإهدار الدلالة الكلية للخطاب. ومما جعلني أهمل سياق حياة وخطاب «ابن عربي»، وأكتفي ببعض عناصر الخطاب السطحية المنتجة للدلالة الأيديولوجية، أني أريد أن أعيد كتابة الرسالة مرة أخرى كي أركز على قضايا التأويل عند «ابن عربي» لتكون هي متن الرسالة، وفلسفته هي الهامش؛ لأني استغرقت في شرح فلسفة «ابن عربي» بالرسالة أكثر من اهتمامي بقضايا التأويل.
دخلت على الدكتور مكي، وما إن رآني قال: «أين الرسالة، لماذا لم تطبع؟ لقد أجزت الرسالة للطبع.» قلت: «لكني لم أجزها بعد.» وحاولت أن أشرح له قلقي وما أفكر فيه. قاطعني قائلا: «اطبع الرسالة، أنا ما صدقت أنك وصلت للشاطئ، لن أتركك تغرق في بحار «ابن عربي» مرة أخرى، اطبع واستفض بدراسات في المستقبل، «ابن عربي» بحاره واسعة، أخذت الكثير ومرت أعمارهم ولم يخرجوا.» وفشلت كل محاولاتي معه، فبدأت بهمة أنهي الفصل التمهيدي. وكنت أحاول أن أعدل بعض الصياغة كلما تناقشت مع زوجتي؛ حتى يستطيع القارئ العادي أن يصل إلى المعنى. وانخرطت في نقاش طويل مع «جابر عصفور» منذ عودتي من الولايات المتحدة. استفدت من نقاشنا في الكتابة. وعاونني الصديق العزيز «سيد البحراوي» في مراجعة العمل وكتابة قائمة بالتصويبات. وقد انتهي «محمود عبد المنعم أبو هشيمة» من نسخ معظم أجزاء الرسالة بخط يده، واستكملت أنا الباقي، وقامت «أحلام» بعبء تصوير نسخها لكي توزع على اللجنة المناقشة. صدر العدد الثالث من مجلة «فصول» في شهر أبريل سنة إحدى وثمانين، وبه دراسة لي بعنوان «الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص» لتكون أول دراسة تعرض لفلسفة «الهرمنيوطيقا» أو التأويلية باللغة العربية. استقبلت الدراسة بترحاب ونقاش كبير في ندوة الثلاثاء في بيت الدكتور «شكري عياد».
6
بمدرج واسع في كلية الآداب، عم الحضور من الأهل والأصدقاء، وأمي وزوجتي، وفي ليلة رمضانية حارة بشهر يوليو، وفي ظل ظروف احتقان سياسية صعبة تمر بها مصر، التقى أعضاء لجنة المناقشة بأروابهم السمراء. بدأ الدكتور «محمود علي مكي» المشرف، بصوته الرخيم وخصلات شعره الجافة التي يمتزج فيها البياض والسواد وبشرته الداكنة، يقول: نجتمع في إحدى الليالي اليتيمات من شهر رمضان المبارك ليلة التاسع والعشرين الموافق الثلاثين من يوليو سنة إحدى وثمانين، ولعلها تكون ليلة القدر، لمناقشة رسالة الطالب نصر حامد رزق عن التأويل عند قطب من أقطاب الفكر الصوفي، «محيي الدين ابن عربي»؛ لنيل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية. ويسعدني أن يشارك في مناقشة الباحث اليوم الأستاذ الدكتور «شكري عياد» الذي لا أحتاج إلى التعريف به؛ فهو باحث له شأنه المعروف في ميدان الدراسات العربية، وخصوصا ما يتعلق منها بالفن، والتصوف فكر وفن. ويسعدنا أن يكون معنا أستاذ جليل آخر، له في التصوف جولات كثيرة علما وعملا، الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني. وأترك الكلمة للطالب ليقدم تلخيصا للبحث مع مراعاة الوقت، فليتفضل.
بدأت الحديث بقولي: «فليسمح لي الأستاذ الدكتور «مكي» وأساتذتي الأجلاء بالوقوف دقيقة حدادا على أستاذي المرحوم «عبد العزيز الأهواني».» ثم بدأت: إن دراسة الدكتوراه بشكل ما استكمال للماجستير لدراسة جانب آخر من تراثنا في تعامله مع النص الديني، من خلال علاقة المفسر بالنص في التعامل مع الفكر الصوفي؛ فتعرضت لفلسفة «ابن عربي» في جوانبها المتعددة لكي أكشف عن فلسفته في تأويل النص الديني. وانقسمت الدراسة إلى تمهيد وثلاثة أبواب. في التمهيد تعرضت لمغزى دراسة قضية التأويل عامة في ثقافتنا الراهنة، وتطور مفهومي للتأويل من المفهوم العام الذي انطلقت منه بأفضلية التفسير لموضوعيته عن التأويل لذاتيته، وتعرضت للدراسات السابقة عن «ابن عربي». وفي الباب الأول عن التأويل والوجود، حللت مراتب الوجود المختلفة عند «ابن عربي». والوجود عنده خيال، مثل ما يرى النائم. لكل مرتبة من مراتب الوجود فصل من الفصول؛ ففصل عن الخيال المطلق، وفصل عن عالم الأمر، وآخر عن عالم الخلق، ثم الأخير عالم الملك والشهادة، وكل هذه المستويات من الوجود لها ظاهر وباطن.
الباب الثاني عن التأويل والإنسان. وهناك مستويات ثلاثة في تصور «ابن عربي» لعلاقة الإنسان بالوجود. الأول علاقة الإنسان بالعالم؛ جوانب التشابه والاختلاف بين الإنسان والعالم. والثاني دراسة الجانب الباطن من الإنسان الذي خلق على الصورة الإلهية، وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كل الأسماء الإلهية. وفي الفصل الثالث تعرضت لمعضلة المعرفة الإنسانية. وفي الفصل الأخير تحليل للعلاقة بين الحقيقة والشريعة، من خلال رحلة «ابن عربي» التأويلية التي تنتظم الوجود والنص معا. في الباب الثالث والأخير: عن القرآن والتأويل، وهو تحليل للعلاقة بين القرآن والوجود، وتماثل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة في الباب الأول وتماثلها مع مراتب العارفين في الباب الثاني. وهذا التماثل عند «ابن عربي» يقوم على أن الوجود هو كلمات الله المرقومة، والقرآن هو كلمات الله الملفوظة. في الفصل الثاني من هذا الباب الأخير خصصته للغة والوجود، فحللت مفهوم «ابن عربي» للغة في جانبيها الإلهي والإنساني. والفصل الأخير من الرسالة كان لقضايا التأويل؛ حللت فيه التنزيه والتشبيه والمحكم والمتشابه والجبر والاختيار والثواب والعقاب، كنماذج لتأويل «ابن عربي». «إن هذا البحث مدين بأجمل ما فيه إلى كل من د. «أحمد مرسي» الذي زاملني في رحلة أمريكا في بدايتها، وكان نعم العون والصديق، والمرحوم د. «عبد الحميد الزيني» أستاذ الأنثربولوجي بجامعة «تمبل» لنقاشي معه وتوجيهه لي، وكذلك الأخ والصديق أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر»، وإلى د. «جابر عصفور» والدكتور «سليمان العطار» على نقاشهما الذي أفادت منه الدراسة كثيرا. وأخص بالشكر ندوة الثلاثاء في بيت د. «شكري عياد»، والتي كان للنقاش فيها أكبر الأثر في كتابة تمهيد هذه الرسالة. ولا يفوتني أن أشكر أهلي، وبالأخص أمي - لم أتمالك نفسي وبدأت تخرج مع عيني دمعة وتنهيدة بكاء في صوتي وأنا أذكرها - التي عانت معي الكثير حتى نصل إلى هذا البر؛ فهي الدفء وهي الوطن؛ فإليها أحني رأسي وأهديها هذا العمل، وإلى زوجتي «أحلام» التي قامت بمشقة بتصوير الرسالة، ورضيت أن يشاركنا «ابن عربي» أسرتنا البسيطة. وإلى روح أستاذي الجليل وأبي المرحوم الأستاذ الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، أهدي أجمل ما في هذا العمل إليه. وشكرا.»
ضجت القاعة بتصفيق الحضور، وبدأ د. «شكري عياد» المناقشة، وصوته سعيد متذكرا ما حدث معه ومع زميله «محمد أحمد خلف الله» في أربعينيات القرن العشرين وأستاذهما «أمين الخولي»، حين اضطر «شكري عياد» نفسه إلى تحويل دراساته من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات البلاغية - بنظارته السميكة، وضحكته العالية، وروح الدعابة التي لا تفارقه - قال: أخطاء الرسالة المطبعية قليلة، وهذه قائمة بها، لكن أنت في التمهيد هاجمت الباحثين السابقين عليك في فكر «ابن عربي» الذين حاولوا قياس فكره بمقاييس الفلسفة الغربية. ما رأيك في أنك فعلت نفس الشيء؟ فأنت حاولت جذبه إلى فلسفة الهرمنيوطيقا، لا أدري لماذا.
فقلت: معضلة القراءة هي مجال اهتمام التأويلية، حاولت أن أرى الطريقة التي يتعامل بها «ابن عربي» مع النص القرآني، فحاولت دراسة تأثير النص القرآني على مفاهيم «ابن عربي» مثل مفهوم البرزخ مثلا. - أنت كتبت دراسة جميلة عن الهرمنيوطيقا منذ أشهر، وأنا مدين لابننا «جابر عصفور» أن أعارني بعض كتبكم الحديثة التي تختالون بها على الناس - ضجت القاعة بالضحك - في المجلات والندوات، وقلت إن فيها شيئا جليلا، خصوصا ما يدخل في اجتماعية المعرفة، وأنا هنا أنطلق من منطلق اجتماعي معرفي معين، وهذا لم يتم عندك «هرمنيوطيقيا» لكي تعالج تفسير «ابن عربي» لهذا النص الديني. أنت في حاجة لهرمنيوطيقية الكتاب المقدس وليس لهرمنيوطيقا عامة؛ لأن العامة ستدعوك إلى دراسة الكتاب في سياق فكري واجتماعي معين. ولو أنك لم تلفظ المنهج التاريخي بالجملة لكان أمكنك ربط «ابن عربي» بعصره وثقافة عصره. - أعترف أن دراسة «ابن عربي» تحتاج إلى دارسين. - يجب أن تعترف أيضا أن هذا التركيز على فلسفة «ابن عربي» كان أولى أن تنفقه على مسألة التأويل، لكن كتاباته الغزيرة أوقعتك في بحاره؛ فمحور البحث هو منهجه في التأويل، والباقي يكون مكانه في الحاشية. أنا أحاول أن أستعيدك إلى قسم اللغة العربية، فلا أعرف ماذا سيفعلون بك في قسم الفلسفة؛ فأنت معزز مكرم في قسم اللغة العربية. وعندي نقطتان قد ينفعانك في دراساتك في المستقبل؛ لأن العمر لم يعد يمهلني لدراستيهما؛ أولا: الحيرة؛ حيرة «ابن عربي» أمام النص. الحيرة فكرة ومنهجية عند «ابن عربي». النقطة الثانية: كلامه عن الحروف ودلالات الحروف.
ثم أثنى علي وعلى الدراسة. وبدأ د. أبو الوفا مناقشته، فتحدث بدماثة خلقه وصوته وصوفيته الجمة، وشاربه الخفيف المهندم. ولم يكن يرتدي بدلة كاملة ورابطة عنق مثل د. «شكري»، ود. «مكي». فقال: أتعبتني هذه الرسالة؛ لأنها من الرسائل القليلة التي بذل فيها جهد جدير بالتقدير. الباحث جريء؛ فنحن المتخصصين في التصوف نجد صعوبة في فهم كلام «ابن عربي»، فما بالكم بباحث اقتحم الميدان؟! أعجبت بشخصية الباحث وبجرأته في استخراج النصوص وتحليلها. الموضوع جديد فيما كتبه الباحث عن القرآن والتأويل وعن الألفاظ. لم يتعرض أحد من الباحثين لهذا الجانب؛ ف «ابن عربي» عالم في اللغة، وقد استفدت شخصيا من هذا الفصل الأخير. أنا عندي ملاحظات عامة. أتفق مع أستاذك «شكري عياد» أنك أطلت في الأبواب الأولى، كنت ممكن تضع الجزء الأخير في الأول والباقي تشير إليه في الهامش، أنت اعتمدت على المصادر الأصلية ونتاج «ابن عربي» غزير، وأنت أحضرت نصوصه بدقة شديدة؛ مما جعل صفحات الرسالة تكبر، لكن أنا أعتب عليك موقفك من دكتور أبو العلا عفيفي في التمهيد. أبو العلا عفيفي دا، مصر لم تنجب مثله، وكان ممكن ينفعك جدا في ربط «ابن عربي» بثقافة عصره. أنت وقفت مع «ابن عربي»، ومجلس الشعب حاكم «ابن عربي» أخيرا، ومن حقك تنقده، وإلا حاكمك مجلس الشعب أنت الآخر. مثلا في تعبير تجديد الشريعة، من فضلك بلاش تجديد الشريعة. - العبارة تتحدث عن تجديد الفهم. - وانت أغفلت نقد «ابن تيمية» ل «ابن عربي»، وله نقد كبير، وأنا أتفق مع الدكتور «شكري»، كنا نحتاج تفاصيل أكثر من ذلك في نماذج التأويل عند «ابن عربي»، وأنا أعبر عن إعجابي واكتسابنا اليوم باحثا جديدا ومهما في أدب التصوف.
ثم تحدث الدكتور «مكي» وقال: الفضل في هذا العمل يرجع إلى هذا الغائب الحاضر العظيم «عبد العزيز الأهواني»، الذي أشرف على رسائل تربط بين الفلسفة والتصوف. الباحث استهواه «ابن عربي»، فأصبح عربيا - نسبة ل «ابن عربي» - وقد أشفقت على «نصر» من غزارة إنتاج «ابن عربي»، لكن «نصر» لم يفقد الرؤية العامة ولم يته في الغابة.
ثم خلت اللجنة لمناقشتها السرية، وعادت وقرأ الدكتور «مكي» القرار: اجتمعت اللجنة المكونة من الأستاذ الدكتور «محمود على مكي» مشرفا، والأستاذ الدكتور «شكري عياد» مناقشا، والأستاذ الدكتور «أبي الوفا التفتازاني» مناقشا، في تمام الساعة التاسعة مساء الثلاثين من يوليو، التاسع والعشرين من شهر رمضان 1981م، وبعد المناقشة العلنية، قررت اللجنة منح الطالب «نصر حامد رزق» درجة الدكتوراه في الآداب من قسم اللغة العربية بمرتبة الشرف الأولى. انفجرت روح جميلة على المكان من فرحة في عيني أمي وأسرتي، وصعدت على المنصة أسلم على أعضاء اللجنة، وأتى المصور الذي أخذ لنا صورة معا، وقال: «الكاميرا تأخذ بعض الوقت حتى تشحن لأخذ الصورة التالية، ممكن تكملوا مناقشة الرسالة.» ابتسمنا حتى التقط الصورة التالية لنا.
7
على الرغم من حالة الاختناق السياسي التي تمر بها البلاد، فإن الشعور بلقاء الطلاب الجدد، والدخول إلى مدرج ثمانية عشر، أشعرني بسعادة غامرة. ومن اليوم الأول أوضح للطلبة أن المحاضرة طريق ذو اتجاهين، وأني أتعلم من نقاشهم بقدر تعلمهم مني، إن لم يكن أكثر، ودون نقاشهم وأسئلتهم فالمحاضرة لن تحقق هدفها. وأتذكر شعوري مع الدكتور «حسن حنفي» وأنا طالب مثلهم. وبدأت في ترجمة بعض النصوص المهمة إلى اللغة العربية من الإنجليزية، فترجمت دراسة «هيرش» عن «اتجاهات في التقييم الأدبي»، للعدد الثاني من مجلة ألف للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ودراسة «أندرية جبسون» «ملاحظات عن القصة والفكاهة»، للعدد الثاني من المجلد الثاني من مجلة «فصول». وبدأت أعد لبحث عن مفهوم المجاز (من تشبيه وكناية واستعارة) للكشف عن جذوره المعرفية في علم الكلام أو علم أصول الدين عامة، وربطه بالتصورات الدينية عن الله والعالم والإنسان، وبين تصور طبيعة اللغة وعلاقاتها بالعالم، وبين هذا كله وعلم البلاغة العربية، حتى أتى قرار رئيس الجمهورية رقم 490 لسنة 1981م في يوم ثمانية سبتمبر، وقد رفض عميد الكلية د. «حسين نصار» التوقيع على الخطاب الموجه من رئيس الجامعة «حسن حمدي» باستلام الخطاب، بنقل بعض أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين والمعيدين إلى جهات خارج الجامعة: «أبعث إلى سيادتكم بصورة من قرار السيد الأستاذ الدكتور وزير التعليم والبحث العلمي بتحديد الجهات التي ألحقوا بها تنفيذا للقرار الجمهوري سالف الذكر، رجاء التفضل بالإحاطة والعمل بمقتضاه.» فنقل د. «حسن حنفي» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، ود. «عبد المنعم تليمة» إلى وزارة التأمينات الاجتماعية، ود. «جابر عصفور» إلى وزارة التأمينات، د. «عبد المحسن طه بدر» إلى وزارة التعمير، «سيد البحراوي» إلى أمانة الحكم المحلي، ود. «نصر حامد أبو زيد» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، و«صبري المتولي» إلى أمانة الحكم المحلي.
ثار جدل بين المنقولين: ماذا نفعل؟ فاقترح البعض رفض تنفيذ النقل، فقلت لهم: «كموظف قديم وخبرة في دواوين الحكومة، بعدم تنفيذك النقل تعطي للدولة الفرصة على صينية من ذهب بفصلك من العمل. لا بد أن ننفذ النقل، وبعد ذلك نعمل ما تريد. وأنا ذاهب لتنفيذ النقل.» أكثر من ستين أستاذا صدرت قرارات بنقلهم خارج الجامعة بدعوى إسهامهم في أحداث الفتنة الطائفية. وكان التركيز على كل من له رأي وموقف سياسي في الجامعة من الأحداث الجارية، وأكثر من ثلاثة آلاف من زعماء المعارضة السياسية من كل التيارات قد تم اعتقالهم. بعد يومين ذهبت إلى ديوان عام وزارة الشئون الاجتماعية، إلى شئون الأفراد، لكي يسلمني عملي، فجاء بعد قليل وقال: سيادة الوزيرة آمال عثمان عايزاك تشرف في مكتبها نظرت إلى الموظف وقلت: «لكن أنا مش عايز، سلمني العمل وبعد ما تسلمني العمل أكون موظف تحت رياستها، بعد ذلك تأخذني لها زي ما تحب، لكن أنا مش موظف تحت رياستها.» ابتهج وجه الموظف، وكأنه شعر بنشوة أن يكون هذا تصور موظف تجاه رئيسه، بل الوزير المسئول. أخذ الأوراق، وبدأ يقرأ فيها وقال: ده مكتوب هنا إنك معاك دبلوم صنايع سنة ستين، ودكتوراه. دبلوم وتذاكر وتنجح وتبقى دكتور ويفصلوا واحد مكافح زيك؟ دي بلد خربانة. - سيبك أنت من الكلام ده، أنا حصلت على الدكتوراه لكن لم تأت الدرجة الوظيفية بعد، هتسوي حالتي على درجة مدرس مساعد بالماجستير، ولا درجة مدرس بالدكتوراه. - لا ماجستير ولا دكتوراه ، أنت أحسن لك تدخل بدبلوم الصنايع، دبلوم سنة ستين، تبقى درجة وكيل وزارة، لا مؤاخذة مع الاحترام للدكتوراه.
سلمني العمل وأعطاني إقرارا، فقلت: «طيب فين مكان عملي؟ فين مكتبي؟» - بقولك إيه، ما توجعشي قلبنا، أنت عارف إنهم جابوك هنا، شوية وتمر الهوجة وترجع المياه لمجاريها، وبعدين يا عم هم اللي فصلوا «طه حسين» كانوا حد افتكرهم، تيجي تاخذ مرتبك وتروح تألفلك كتاب وريح نفسك، وكل ما تيجي الوزارة عدي علي نشرب شاي.
حاولت أن أقنع أمي أن انتقالي إلى وزارة الشؤن نوع من الترقية، ولكي أثبت لها ذلك كنت أعطيها مبلغا كل شهر، فزدته، على الرغم من أن راتبي نزل إلى النصف، وزاد حمل الأعباء. «جابر عصفور» سعى للسفر إلى السويد، وساعده صديقه «محمد عطية عامر» رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة استوكهولم.
شهر وتم اغتيال الرئيس «السادات» في ساحة العرض العسكري. بعد حادث الاغتيال وقبل العيد بيومين جاء بعض الأصدقاء لزيارتي، وصاح أحدهم قائلا: «الراجل اللي كان مضايقك في عيشتك مات يا عم.» وما إن سمعت أمي ما قال حتى سألت عمن ضايقني في عيشتي، وكانت حزينة على قتل «السادات»، فلما عرفت بقرار النقل دعت على «السادات».
عدت إلى الجامعة، التي لم تكن نفس الجامعة التي تركتها منذ أشهر أربعة فقط، زرع الخوف في الطلبة، هم نفس الطلبة، لكن تغيروا. ألقي المحاضرة ولا يسأل أحد، ولا يستفسر أحد، ولا يتكلم أحد. الخوف خلق حالة من التوتر. شعرت بحالة عجز عن التواصل مع الطالب؛ فلا قيمة للتدريس داخل الجامعة. شعرت بأن أرجاء المدرج تدور بي، حتى سقطت على أرضيته. أخذت إلى البيت، وأخبرني الطبيب أني أعاني من حالة توتر بشعة. أخذت إجازة شهر، وقررت أن أستقيل؛ فالجامعة لم تعد مكانا صالحا للتعليم أو للنقاش أو للبحث. فقررت أن أذهب شهرين إلى فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وكانت هذه الخطوة هي وسيلة خروجي من الأزمة التي مررت بها؛ فطلبة السودان على الرغم من فقرهم، وعوز العيش، أعادوا لي الثقة في القدرة على التواصل مع الطلبة؛ كانوا مهتمين بالسياسة، وشغوفين للسؤال والنقاش، طوال الشهرين جعلوني أستعيد نفسي، وقررت أن أقضي شهرين كل عام في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم.
انتهيت من كتابة بحث عن الأساس الكلامي - نسبة إلى علم الكلام - لمبحث المجاز في البلاغة العربية، أستكمل فيه الأسئلة التي تولدت من دراسة الماجستير، هذه المرة أركز على لماذا انقسم المفكرون العرب إلى من يثبت المجاز بأشكاله في اللغة أو من ينكره، وما مغزى هذا الاختلاف في تصور كل فريق عن اللغة وأصلها، وما الإطار الفلسفي والفكري. ولن أفعل كما فعلت الدراسات السابقة بالقيام بعملية تقييم لجهود السابقين؛ فسوف أسعى للفهم والتفسير من خلال وجهة نظرهم. انقسم الموقف من وجود المجاز في القرآن إلى ثلاثة اتجاهات؛ اتجاه يعتبر أن المجاز قرين الكذب، ويجب أن ينزه القرآن عن وقوع المجاز فيه. ولأن القرآن الكريم نزل على لغة العرب وطرقهم في التعبير، فنفوا وجود المجاز في اللغة العربية أيضا. ويرفض مثلا «ابن القيم الجوزية» (ت: 751ه/1351م) تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، وهو يرفض أن تكون اللغة اصطلاحا بين الناس توافقوا عليه، بل هي توقيف من الله ليست نتاجا بشريا، بل هبة من الله للبشر؛ وعلى هذا الأساس فالنقل مقدم على العقل عندهم، والمعرفة مسار هابط من الله إلى الإنسان.
أما المعتزلة فالمعرفة عندهم تسير في اتجاه صاعد من العقل البشري متأملا في ذات الإنسان وفي الكون وصولا إلى معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل، معتمدين بقياس الغائب المجرد، غير المدرك بالحواس على الشاهد المحسوس، بهدف الوصول إلى معرفة الله بصفاته، ثم معرفة أوامره ونواهيه، التي تؤدي بالإنسان إلى الثواب وتنجيه من العقاب. ووسيلتهم لهذه المعرفة العقل الذي يبدأ من المحسوس مستخدما البديهيات ليصل إلى معرفة ما غاب عنه. ولكي يكون للكلام دلالة، فلا بد من المواضعة المتفق عليها في الكلام قبلا، ويضاف إليها معرفة قصد المتكلم حتى نستطيع فهم رسالته. وهذه المواضعة هي التي تنقل الاسم من معنى إلى معنى آخر، من هنا يأتي المجاز. وقد استفضت في شرح منهجهم في رسالتي للماجستير.
الاتجاه الثالث الأشاعرة، قالوا إن الكلام صفة قديمة لله، وقدموا الشرع على العقل، لكنهم جعلوا للعقل دورا اجتهاديا استنباطيا لفهم الشريعة.
كل هذه الجهود كانت الأساس الذي بنى عليه البلاغيون، حتى صاغ «عبد القاهر الجرجاني» (471ه/1107م) الفارسي التصورات النهائية لمفهوم المجاز وأقسامه؛ فيبدأ بالتفرقة بين أدلة العقول ودلالة اللغة. وهذا الفصل بين الدلالة اللغوية والعقلية يرتد إلى تصور للغة باعتبارها مجموعة من الألفاظ تدل على أشياء ومفاهيم خارج الذهن البشري؛ ولذلك يفرق «عبد القاهر» بين مجاز يقع في ألفاظ مفردة، وهو مجاز لغوي، وبين مجاز يقع في التركيب أو نظم الكلام، وهو مجاز عقلي. وتحدث عن أسبقية الاستخدام الحقيقي للغة على الاستخدام المجازي، ويؤكد على ضرورة وجود علاقة ما بين الاستخدام الحقيقي والاستخدام المجازي لألفاظ اللغة. إن الخلافات بين هذه الفرق حول قضية المجاز واللغة انتهت جميعا إلى إخضاع مفاهيم المجاز واللغة للقضايا العقلية الخلافية بينهم، وأثر «عبد القاهر» في جهود المتأخرين ك «السكاكي والخطيب القزويني»، وبذورها تعود إلى كتب المتكلمين باتجاهاتهم المختلفة. نشرت هذه الدراسة ضمن كتاب تذكاري عن أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ دراسات في الفن والفلسفة. وبدأت المشاركة في أنشطة أسرة «مصر» بالجامعة التي أخذت مني وقتا ومجهودا في عمل نشاط ثقافي حقيقي مع الطلبة لنقد الأوضاع الفكرية الحالية، وحالة الأمة، فنقرأ قصائد «أمل دنقل»، والتي كأنها كتبت الآن؛ فها هي إسرائيل تحتل عاصمة عربية، ولكن الأسرة حوربت حربا شرسة لنشاطها الفكري المختلف عن الأنشطة الترفيهية للأسر الأخرى.
8
عدم الإنجاب وضع ضغوطا كثيرة على زوجتي، وأمي تسأل في كل مناسبة أو غير مناسبة. امتقع وجهها حين أخبرتها أنها لن ترى أبناء لي؛ لأني لا أنجب لضعف الخصوبة عندي. منذ أن عادت إلى قحافة، بعد زواج أخي الصغير، بدأت صحتها تعتل. أزورها كل أسبوع. وبمساعدة صديقي الحميم «أحمد مرسي»، والذي كان على علاقة بالطبيب «إبراهيم بدران»، أكبر متخصصي القلب في مصر، وقد قبل مشكورا أن يذهب إلى القرية للكشف عليها وفحصها بعناية. قال لي : «شوف يا نصر، الست والدتك ليس عندها حاجة خطيرة، هي صمامات القلب، وممكن نعمل عملية تغيير الصمامات، لكن هذه السيدة كأنها قررت أن تموت، شعرت أن رسالتها قد تمت، فممكن العملية تنجح مائة بالمائة طبيا، لكن الأهم هو رغبة المريض في الحياة. وهي ست تحب النظافة والتطيب؛ فلو دخلت المستشفى، ولم تلق رعاية نظيفة ممكن نفسيا تموت، فأحسن ألا تتبهدل جراحيا.»
دخلت عليها وكان وجهها شاحبا من تأثير المرض، حاولت أن أحييها، فطلبت مني نقودا فقلت: «فيه إيه يا ست أم نصر، كل ما تشوفيني تطلبي فلوس، هو محمد قصر معك؟ ولا أنت نويتي تتزوجي؟» فقالت: «إنت بتغلبني ليه؟ أنا ربيتكم وتعبت، وعادي إني أطلب منكم فلوس.» - ما فيش حاجة لكن هو حد قصر معك، وبعدين أنت لازم تأخذي بالك من أكلك، أنت غالية علينا، ولا أنت زعلتي منا. - أنت أحسن ما تجيش تزورني، خليك في مصر وريحني، هو انت هتمشيني على مزاجك، آكل إيه ولا ما كلشي إيه؟
تحسبا لأي مكروه مفاجئ، عملت جمعية مع بعض الأصدقاء، أقبضها الأول. وصلت يوم زيارتي الأسبوعية من القاهرة، فوجدت حشدا من الناس يجلسون أمام البيت، توجهت إلى حيث توجد، وحاولت أن أكشف عن وجهها الساكن الآمن، وقبلت جبينها. آه يا أمي، وشريكة مشواري، مشيناه ربع قرن، كنت في الخامسة والثلاثين وأنا في الرابعة عشرة، أنفقت شبابك وجمالك وصحتك حتى تصل المركب إلى شاطئ الأمان، وفارقتنا قبل أن نرد بعضا من عطائك. ماذا أخذت من هذه الحياة؟ أعطيت بلا انتظار لعائد. شعور ليس مثله شعور، حتى يوم فراق أبي. رغبة شديدة في البكاء تمالكت نفسي، وذهبت إلى أخي محمد لأعطيه نقود الجمعية لإجراءات الدفن والعزاء، فقال: «أمك امبارح بالليل نادت علي، وقالت يا محمد لو مت صلوا علي الجمعة، وعايزة صوان ومقرئين مشهورين وجنازة محترمة.» وأخرجت خمسمائة جنيه وأعطتها لي تكلفة الجنازة. أدركت من حياة هذه السيدة زيف مسألة الرجل والمرأة في ثقافتنا، وفي فهمنا للنصوص الدينية وتأويلها للتمييز بين الرجل والمرأة، وقوامة الذكر على الأنثى؛ فكفاحها بعد موت زوجها، وخروجها للعمل حتى تستطيع العبور - بأسرة من ستة أطفال - إلى شط الأمان، في نموذج يضعف عنه الكثير من الرجال، حتى أدبنا العربي لا يحتفي بهذه الأم المكافحة التي تواجه الحياة، ويكتفي فقط بصورة الأم التقليدية.
9
قامت دار التنوير اللبنانية بنشر رسالتي للماجستير في طبعتها الأولى سنة اثنتين وثمانين، تحت عنوان «الاتجاه العقلي في التفسير»، ونشرت سنة ثلاث وثمانين رسالتي للدكتوراه تحت عنوان «فلسفة التأويل»، وقد لاقى الكتابان استحسانا لهاتين الدراستين الأكاديميتين. ونشرت ترجمتي في مجلة «فصول» بمجلدها الثالث، العدد الثالث، لدراسة «إيكيناوم أو هنري» عن «نظرية القصة القصيرة». وكان الروائي «إلياس خوري» قد أصدر كتابه النقدي الثالث «الذاكرة المفقودة» عن مؤسسة الأبحاث العربية بلبنان، عام ثلاثة وثمانين، فقدمت عرضا نقديا للكتاب في مجلة «فصول» بمجلدها الرابع، العدد الأول، سنة أربع وثمانين. المؤلف يطرح قضيته في المقدمة ثم يترك القارئ يعاني البحث عن الإجابة وسط تفاصيل واهتمامات تغطي نشاط المؤلف عشرة أعوام في الصحف والدوريات؛ فيبدأ بتحديد معنى عنوان الكتاب «فقدان الذاكرة» من الواقع العربي المتجسد العيني؛ الحروب اللبنانية التي ليست إلا حالة عربية شاملة تنبئ عن انهيار المشروع الحداثي العربي؛ مشروع تحديث للدولة لا تحديث للمجتمع. وبين النموذج الغربي والنموذج العربي الإسلامي القديم، ضاع الحاضر. والمؤلف يتجاهل أن الثقافة وإن كانت في جوهرها انعكاسا للواقع، إلا أن لها استقلالها الخاص وحركتها الذاتية النابعة من قوانينها، وكذلك الأدب والإبداع.
معضلة المنهج عند «إلياس خوري» في المساواة بين مستويات الواقع/الثقافة/الأدب ، وتحليله لأزمة الثقافة، يتجاوز قوانين الثقافة وفعاليتها الخاصة، وتظهر جلية حين يتعرض لأزمة النقد، حيث يساوي بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية، بل يتجاوز ذلك إلى نفي الوظيفة الثقافية الاجتماعية للنص الأدبي، كما نفاها عن الممارسة النقدية. كل شيء وصل في وعي المؤلف إلى حالة من الفوضى والعدمية عبر عنها على المستوى السياسي بسقوط النظام، وعلى المستوى الثقافي بفقدان الذاكرة، وعلى المستوى الأدبي بموت المؤلف. والحل الذي يطرحه علينا هو حل مستورد؛ فمفهوم موت المؤلف الغربي واستبقاء الشكل مرتبط بأيديولوجية تبريرية للنظام الرأسمالي الاستعماري. ومما يجعل استيراد هذا الحل وقوعا في أسر التبعية وتجاهلا متعمدا لمعطيات الواقع وظروفه - تكريسا للضياع والتشتت وفقدان الذاكرة الذي وعدنا المؤلف بتحليل أسبابه من أجل تجاوزه - يصعب الحديث عن أزمة واحدة في النقد العربي الحديث؛ فهناك تيارات ومناهج متعددة بتعدد القوى التي تتبنى وتقف خلفها، وحتى المنهج النقدي الواقعي الذي أتبناه يعاني أزمة لا يمكن توحيدها مع أزمة اتجاهات أخرى كالبنيوية مثلا؛ فأزمة منهجه تنبع من حاجته إلى التأصيل والتعميق الذي يمكنه من زيادة فعاليته في التعامل مع النصوص، إنما أزمة تيار البنيوية في غربته عن واقع الإبداع والثقافة العربيين.
فليس للتراث بمجالاته وجود مستقل خارج وعينا المعاصر. أما الوجود الفيزيقي العيني على رفوف المكتبات، فليس هو ما يعنينا، بل وجوده في معرفتنا وفي وعينا الثقافي. هذا الوجود غير مستقل. من هذا المنطلق كتبت دراسة لمجلة «فصول» في مجلدها الخامس، العدد الأول، عن مفهوم النظم عند إمام البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني»، المتوفى عام 471ه/1107م، في ضوء الأسلوبية، من خلال قراءة كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز». في هذه القراءة أحاول ألا أغفل المنطق الداخلي الخاص بالتراث من جهة، ولا أتعامل معه بمعزل تام عن الوعي المعاصر من جهة أخرى؛ قراءة للبحث عن المغزى الذي يثرى من خلاله وعينا النقدي المعاصر، قراءة لا تقف فقط عند المعنى الذي كان كامنا في عقل «عبد القاهر». وهذا ما فعله «عبد القاهر» نفسه مع التراث البلاغي السابق عليه .
مدارس الأسلوبية تبحث عن خصائص النصوص الأدبية، و«عبد القاهر» قضيته التي تشغله في كتابيه المذكورين هي التفرقة بين مستويات الكلام، من الكلام العادي حتى الكلام المعجز، مرورا على الكلام الأدبي، فنجد دفاعه عن علم الشعر. لكن علينا أن ندرك أن المحرك ل «عبد القاهر» هو قضية إعجاز القرآن. وهو لا يقنع بأن إعجاز القرآن خارج النص ذاته، أو في صدق إخباره عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو الإعجاز في بعض خصائصه الأسلوبية والبلاغية . إعجاز القرآن عند «عبد القاهر» يكمن في النص ذاته؛ في آياته، ويمكن اكتشاف هذا الإعجاز والوصول إليه في كل عصر. ويبدأ «عبد القاهر» بالصفات المشتركة بين الشعر والكلام العادي بانتمائهما إلى مجال اللغة، واللغة مجموعة من القوانين الوضعية على مستوى المفردات (الألفاظ) أو على مستوى التركيب (الجملة). والألفاظ عند «عبد القاهر» دوال على معان جزئية لا تكتسب دلالتها الكاملة إلا إذا دخلت في علاقات تركيبية مع غيرها من الألفاظ. وبالتدقيق نجد عنده مفهوما ضمنيا للتفرقة المعاصرة بين اللغة والكلام؛ النظام اللغوي القار في وعي الجماعة الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية، أما الكلام فهو التحقق الفعلي لهذه القوانين في حدث كلامي بعينه. ومفهوم النظم عند «عبد القاهر» يقترب إلى حد كبير من مفهوم الأسلوب، ويصبح النظم الذي يضع علم النحو قواعده هو علم دراسة الأدب أو علم الشعر، وعلم الشعر عنده يقوم على أساس لغوي مكين.
و«عبد القاهر» لا يجعل قوانين النحو المعيارية، من الخطأ والصواب، هي القوانين التي تحدد الفصاحة والبلاغة؛ فالألفاظ هي الخيوط التي تتآلف وفق قواعد خاصة لتصنع ثوبا، وقوانين النحو هي الأصباغ التي تفرق بين ثوب وثوب. والمعنى عنده محصلة تفاعل دلالي بين معاني الألفاظ من ناحية، ومعاني النحو التي أقامها المتكلم بين الألفاظ من ناحية أخرى. مفهوم النظم عند «عبد القاهر» يماثل مفهوم العلاقات السياقية عند علماء اللغة المعاصرين، ومفهومه ل «المعنى» و«معنى المعنى» يماثل مفهوم العلاقات الاستبدالية. وإذا كان علماء اللغة المعاصرون لا يفصلون بين المستويين ، وينظرون إلى المعنى الدلالي للنص على أنه محصلة لتفاعل هذين النوعين من العلاقات، فإن «عبد القاهر» يفصل بينهما أحيانا، ويدرك ترابطهما أحيانا أخرى؛ فهو لم يكن ليستطيع - ولا تثريب عليه في ذلك - أن يتجاوز تجاوزا كاملا حدود ثقافته وعصره.
10
الخلافات بدأت تظهر بيني وبين «أحلام» بسبب طبيعة عملي، وبسبب احتفائي الدائم بطلابي والوقت الذي أقضيه معهم، فتشعر أني أفضل الطلاب عليها، وكنت أحاول بقدر الإمكان أن أشركها فيما أعمل وما أهتم به. اقترب مني أحد أساتذة الكلية في تردد، سألني إن كنت أقبل السفر إلى اليابان لتدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا. لم أتردد أو حتى أفكر؛ فربما لن تتيح لي الظروف السفر إلى اليابان على نفقتي الخاصة. وكان الأستاذ مستغربا من موافقتي السريعة، في الوقت الذي كان السفر إلى الخليج أفضل لجمع المال. وكانت اليابان قد افتتحت قسما للغة اليابانية بجامعة القاهرة سنة أربع وسبعين، وعلى أثره افتتح قسم للغة العربية بجامعة أوساكا على سبيل التعاون بين الجامعتين. وكان الدكتور «عبد المنعم تليمة» هو أول من ذهب، وبعده أستاذ آخر قرر العودة فورا. كنت أريد أن أتعرف على تجربة الشرق بعد تعرفي على تجربة الغرب في رحلتي إلى أمريكا.
سافرت أنا وأحلام في مارس سنة خمس وثمانين. وأول شيء فعلته هناك هو أن بحثت عن صديقي وزميلي الياباني «محسن أوجاسا وارا» الذي قضى سبع سنوات في القاهرة يدرس اللغة العربية، وجدته يدرس في إحدى الجامعات اليابانية: كيف حالك يا «محسن»؟ - أنا بخير يا «نصر»، كيف حال الأسرة الكريمة، وحال الست أم نصر؟ - لقد توفيت منذ ثلاثة أعوام. - أنا آسف، لم أعرف، كانت ست عظيمة، أنا فاكر زيارتنا لقريتكم، وحزنها الشديد لبعدي عن أهلي. كانت تعاملني كأم. ما رأيك أن نذهب معا إلى قريتي لترى الريف الياباني؟ - الريف الياباني! طبعا دا أنا أتمنى أن أرى اليابان على حقيقتها في الريف.
لم أشعر في اليابان بنفس الغربة التي شعرت بها في المجتمع الأمريكي، على الرغم من حاجز اللغة التي فشلت تماما في تعلمها؛ فالجلوس على الأرض مثل طريقتنا في القرية، وقاعدة الحمام التي تشبه حماماتنا، عجز اللغة جعلني أهتم بالعلامات ودورها في الثقافة اليابانية؛ طقوس الأكل وألوانه الساحرة الجميلة، لكني لم أستسغ الطعم، فتشبع العين وتجوع البطن، لمن اعتاد الأكلات المصرية التي نتذوقها بكل حواسنا. التقاليد اليابانية في البيت. أما الجامعة فعالم غربي كامل. كان عندي وقت كبير للانخراط في أبحاثي وكتاباتي، والنظر إلى أحوال مصر من بعيد؛ فالبعد يجعل الصورة الكلية أكثر وضوحا، بعيدا عن تقلبات وضجيج ما هو يومي وآني.
فكتبت دراسة بالإنجليزية عن السيرة النبوية؛ سيرة شعبية، نشرت في مجلة جامعة أوساكا، عدد واحد وسبعين، ونشر نصها العربي بعد ذلك بمجلة الفنون الشعبية بالقاهرة، عدد ثلاثة وثلاثين، ديسمبر سنة إحدى وتسعين. حاولت أن أنظر إلى السيرة النبوية من منظور دارسي الأدب الشعبي، رغم الحساسية الدينية المرتبطة بذلك عند دارسي الأدب الشعبي، لكن هذه الدراسة مهمة لدراسة الدين الشعبي في ثقافتنا الذي يقابل مفهوم الدين الرسمي أو الدين النظامي. من هنا تعرضت للسيرة النبوية ليس بوصفها نصا دينيا بل بوصفها سيرة لأهم بطل في تراثنا الديني؛ البطل النبي؛ وذلك من خلال الجزء الأول من سيرة «ابن هشام». والتعامل مع السيرة النبوية بوصفها سيرة يحتاج إلى مهارات بألا نجزئ النص ولا نستبعد منه شيئا، فنتعامل معه في كليته بخلاف تعامل المؤرخ أو عالم الدين. وفصلت في مظاهر التشابه بين السيرة النبوية والسيرة الشعبية، مثل المزاوجة في القص بين الشعر والنثر، ومثل ذكر نسب كل شخصية بغض النظر عن أهميتها في الأحداث، وكذلك ملاحظة أن «ابن هشام» لخص وركز في الروايات التي أخذها عن الراوي الأصلي «ابن إسحاق» الخصيصة الرابعة؛ ألا وهي الإسناد في الروايات. وقسمت السيرة إلى وحداتها القصصية الأولى، ولاحظت دور الحلم - الرؤيا - وتفسيره في السيرة مما يحتاج إلى دراسة مستقلة أتمنى أن أقوم بها في المستقبل.
ودراسة عن نظرية التأويل عند الإمام «أبي حامد الغزالي» بالإنجليزية أيضا، نشرت في نفس المجلة في العدد اثنين وسبعين، ومقالة طويلة لمجلة «فصول » عن مفهوم النص في علوم القرآن، لكنها ضاعت في البريد. وشاركت مع د. «سيزا قاسم» لوضع كتاب يكون مقدمة لعلم السيميوطيقا، أو علم العلامات، يحوي ترجمات لدراسات مختلفة في هذا المجال. وأقوم بترجمة «مشكلة اللقطة» ل «يوري لوتمان» (1922-1993م)، ولآخرين «نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات». حاولت الاتصال بالأستاذ «توشيهيكو إيزوتسو» (1331ه/1914م-1412ه/1993م)، وكان قد دخل في عملية انعزال وانقطاع عن التواصل مع العالم، فأشار علي البعض أن أرسل له رسالة ربما يستجيب، فأرسلت له رسالة أخبره فيها أني باحث في التراث العربي والإسلامي ومن المعجبين بدراساته وأبحاثه عن القرآن، وأتمنى أن أتواصل معه، لكني لم أتلق أي إجابة منه. ووجدت له كتاب دراسة عن سيميوطيقا العلامات في اللغة والثقافة اليابانية.
لم أنطلق من موقف يقيم الثقافة اليابانية، بل حاولت أن أقترب من منطقها الداخلي، أن أتعلم الحكمة وراء هذه الثقافة والقيمة الجوهرية. ذهبت إلى مسرح «الكابوكي»؛ ممل جدا، لكني حاولت أن أكتشف الدينامية الثقافية ودور العلامات فيها، بل إني قضيت أسبوعا في أحد المعابد البوذية أعرف وأدرس المعتقدات الدينية في اليابان. الغربة جعلتني وزوجتي نتحاشى الصدام بقدر الإمكان. كنت مشغولا بكيفية تعامل المجتمع الياباني مع تراثه، وكيف تعامل مع تحدي الحداثة الغربية، فوجدت كتابا مكتوبا بالإنجليزية عن «البوشيدو، المكونات التقليدية للثقافة اليابانية»، كتبه دبلوماسي كان سفير اليابان في أمريكا «إينازو نيتوبي»، كتبه بالإنجليزية يعرف فيه القارئ الغربي بالتقاليد اليابانية، فقمت بترجمة الكتاب إلى العربية. واكتشفت بعد إتمام الترجمة أن هذا الكتاب قد ترجم من قبل سنة ثمان وثلاثين، وقدمت حفيدة المؤلف الترجمة لي. ولما اطلعت عليها وجدت أن المترجم لم يكن يتحدث الإنجليزية، بل استعان بصديق فرنسي يعرف الإنجليزية، فمضيت في استكمال ترجمتي، لكن ثقافتنا تقف نفس الموقف من التجربة اليابانية؛ فبعد خمسين عاما من الترجمة الأولى تظل تجربة اليابان أسطورة لنا. وهذا يعكس وضع ثقافتنا.
الترجمة ليست عملية نقل، بل هي في الأساس الأول إجراء حوار ثقافي يتجاوب في مضمونه مع إشكاليات ثقافتنا. وهذا الكتاب يتحدث عن علاقة الحاضر بالماضي حيث التواصل الثقافي والفكري في وعي الأمة، وهذا المفهوم يستدعي إلى الذهن نقيضه اللافت في ثقافتنا العربية؛ مفهوم الانقطاع بين الحاضر وتراث الماضي على مستوى الوعي. ومحاولات الوصل بين القديم والجديد في ثقافتنا ما تزال في بدايتها، لكنها تعاني واقعا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا يكرس التبعية. وأيضا العلاقة بالتراث الغربي الأوروبي عامة والأمريكي بشكل خاص. والكتاب دفاع ضد هجوم المستشرقين من مواطن ياباني تحول إلى المسيحية وتزوج من أمريكية، وكان عضوا في جمعية أصدقاء بعثات التبشير؛ فلا يعد بأي صورة من الصور معاديا للثقافات الغربية، لكنه يدافع عن تقاليد ثقافته اليابانية بدون أي استعلاء أو رفض، لكن موقف المثقف العربي من ثقافة الغرب يميل إلى الإحساس بالنقص بدرجات متفاوتة، بدءا من «الطهطاوي» حتى المثقف المعاصر؛ لذلك كانت الرحلة في ثقافتنا دائما من الداخل إلى الخارج. «الطهطاوي، طه حسين، ثم توفيق الحكيم، ثم لويس عوض، ومحمد مندور» ... إلخ. ونحن نحتاج إلى أن نفتح نافذة على اليابان الحديثة نحاورها ونتفاعل معها لنفتح نافذة أخرى غير نافذة الغرب.
والكتاب أيضا يعالج دور الدين في صنع الحضارة وتشكيل الثقافة؛ فموقف المثقف المنفصل عن تراثه وثقافته لحساب التراث والثقافة الغربيين خلق موقفا نقيضا، متمثلا في التعصب للتراث والتقاليد، لا بالمعنى الثقافي العام بل كما يتمثل في الدين بالمعنى الأخلاقي والشعائري. وهذا الموقف الدفاعي يحول التراث إلى مجموعة من الثوابت التي لا تخضع لأي شكل من أشكال التطور، ولا تتجاوز حدود المكان والزمان؛ وبذلك يختزل التراث في العقيدة والدين بعد أن تحول الدين ذاته إلى مجرد مجموعة من الشعائر، ونسق من الأوامر والنواهي، ونظام للتحليل والتحريم؛ وهو في العمق تجاوب مع مفهوم الاستشراق عن الإسلام، وهو مفهوم استورده المثقف العربي العلماني من الغرب. وقد انحصر اتجاه الإسلام الحضاري بين مطرقة السلطة مستخدمة الأزهر، والجماعات الدينية مستخدمة سلاح التكفير، فأصبح السؤال: ما الدين؟ وما الإسلام؟ لا يجرؤ أحد على طرحه، لكنه سؤال يجب أن يطرح ويسهم الجميع في الحوار إذا أردنا أن نخرج من ورطتنا الراهنة. كلنا نتحدث عن الإسلام وعن التراث الإسلامي وكأننا نتحدث عن مفهوم واضح متفق عليه، وليس الأمر كذلك على الإطلاق. وتجربة اليابان قد تكون مفيدة لنا في ذلك الأمر. والأمر الأخير الذي يمكن أن يفيد ثقافتنا من هذا الكتاب: الفروسية وتقاليدها كما يعبر عنها «البوشيدو». وقيم الفروسية موجودة في التراث العربي، مثل الشرف والإحساس بالعار أو الخجل وقيم الرجولة والاستقامة والعدل. وهي قيم تنحسر عن واقعنا الذي يسيطر عليه التجار سيطرة شبه تامة. تاجر يتصف بالفجر والخداع والجبن والقسوة ليس التاجر الذي يريد أن يبني وطنا، بل تاجر يريد أن يحقق مكسبا بأي طريقة؛ مما يجعل البعض يتعاطف مع صورة الإقطاعي القديم عند مقارنتها ببشاعة صورة التاجر الذي يحكم مصر. جهود مضنية تبذل لتفريغ ذاكرتنا وتجزيء تاريخنا كأننا نولد كل عقد من الزمان ميلادا جديدا من العدم، فنحيا بلا ذاكرة وبلا تاريخ، ويبدو الواقع الآني دائما ظاهرة فريدة تحتاج إلى تفسير.
كتبت مقدمة طويلة لترجمة تضع هذا الكتاب وتلك التجربة في سياق الثقافة اليابانية، وفي سياق هموم ثقافتنا العربية المعاصرة خلال القرنين الماضيين، تحدثت عن الثقافة وإشكاليات الترجمة، وناقشت مسألة أن الحرب مع إسرائيل هي المسئول الأول والأخير عن تخلف المنطقة العربية، ومسألة أن سبب نجاح وتقدم اليابان هو تبني نموذج التنمية الرأسمالي الغربي؛ التبرير الذي يقدمه دعاة انفتاح السداح مداح. نعم هناك تأثير غربي تكنولوجي واضح على الحياة اليابانية، لكن هناك فرقا بين نمط التأثر باستيراد المنجز المادي وتطويره طبقا للحاجة المحلية، دون أن يتحول الاستيراد إلى حالة إدمان؛ فالمواطن الياباني يرتدي «الكيمونو» جالسا على الحصير «التاتامي»، ينام على الأرض مفترشا «الفوتون»، يأخذ حمامه «الأفورو» بالطريقة التقليدية، وهو نفس المواطن الذي يتعامل مع أعقد منجزات التكنولوجيا الحديثة في عمله وفي حياته الخاصة؛ فالتكنولوجيا أدوات لتسهيل الحياة لا للتظاهر الكاذب أو الوجاهة الفارغة. وكيف انتقلنا في بلادنا من مجتمع البناء والتعمير والكفاح إلى مجتمع الوساطة والانتهازية وبيع كل شيء، حتى التراث والتاريخ، فبدد الخونة كل شيء. بددوا الوطن في اتفاقية الصلح المهين، وبددوا التاريخ بتحويل العدو إلى صديق، والطامع إلى حليف. وبددوا حلم فقراء الوطن من عماله وفلاحيه، وباعوه لسماسرة الانفتاح بأبخس الأثمان. نشرت الترجمة والتقديم بعد ذلك تحت عنوان «البوشيدو، المكونات التقليدية للثقافة اليابانية»، في بغداد، دائرة الشئون الثقافية، عام اثنين وتسعين.
وكتبت دراسة ضمنتها في كتابي مع د. «سيزا قاسم» لكتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا»، ودراستي كانت بعنوان «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، عرضت فيه أن ثقافتنا الراهنة يتقاسمها اتجاهان، يتعامل أحدهما مع ثقافة الغرب على أنها ثقافة التقدم والحضارة، وعلينا أن نقلدها تقليدا أعمى، واتجاه ثان يأخذ رد الفعل النقيض، فيحتمي بالتراث، يكرر مقولاته ويتبنى بعض مفاهيمه دون الوعي بأن هذه المفاهيم كانت استجابة لهموم الواقع الذي كان يحياه الأسلاف. والاتجاهان يهدران ظروف الواقع ويتجاهلان الحاضر بالتوجه صوب الغرب، أو صوب الماضي. «ولا خلاص من هذا المأزق إلا بأن يكون الحوار النابع من موقفنا الراهن هو وسيلتنا للتعامل مع الغرب وثقافته من ناحية، وللتعامل مع مفاهيم تراثنا وتصوراته من ناحية أخرى»، في عملية تهدف إلى مزيد للفهم للتراث والوعي به واستكشاف جوانبه التي يمكن أن تساعدنا السيميوطيقا على اكتشافه.
علم العلامات يتعامل مع اللغة باعتبارها نظاما من العلامات الدالة، تقارن بينها وبين غيرها من العلامات كإشارات المرور والأزياء؛ فإن مفهوم العلامة وطبيعتها يعد هو المفهوم الأساسي في هذا العلم، ويقابله في التراث مفهوم «الدلالة». درست العلاقة بين الدال والمدلول على مستوى الألفاظ. وعلماء المسلمين اتفقوا على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقة وضعية؛ أي يتواضع عليها، لكنهم اختلفوا على أصل المواضعة؛ هل هي من الله في البدء، أم هي في الأساس بشرية؟ حتى وصلنا إلى «عبد القاهر الجرجاني» (ت: 471ه/1107م) الذي فهم العلاقة بين الدال والمدلول على أنها علاقة بين الصوت والمفهوم الذهني الذي يشير إليه، لكن «عبد القاهر» كان محكوما بعصره، وبالقضية التي تحركه وهي إعجاز القرآن؛ لذلك حين يتحدث عن أن العلامات اللغوية لا تنبئ بذاتها عن المعاني العقلية، بل تدل عليها وتشير بالمواضعة والاصطلاح، بخلاف الفهم المعاصر الذي لا يفصل بين الدال والمدلول، بل يعتبرهما وجهين لعملة واحدة. وعند المتصوفة الوجود من أرقى مراتبه إلى أدناها ليس إلا تجليات ومظاهر لحقيقة واحدة باطنة هي الحقيقة الإلهية؛ فقد حول «ابن عربي» (ت: 638ه/1240م) الوجود كله إلى نص دال يشير إلى قائله ويدل عليه، واللغة أحد مظاهر تجلي هذا النص. وعلم العلامات يمكن أن يساعد كثيرا في دراسة جوانب التراث المختلفة، مثل كتب تفسير الأحلام في تراثنا ودلالاتها الثقافية. نشرت دار إلياس العصرية الكتاب، وبه ترجمتان لي مع الدراسة.
11
دراسة تراثنا من خلال علاقة المفسر بالنص؛ بدراستي تأويل المتكلمين المعتزلة للنص القرآني في الماجستير، ومن خلال دراستي لفكر «ابن عربي» المتصوف وتعامله مع القرآن، لمست دور النص القرآني ذاته في تشكيل مفاهيم «ابن عربي». منذ هذه الملاحظة وأنا مشغول بسؤال عن: هل هناك تصور في الثقافة العربية الإسلامية عن طبيعة النص؟ فقد تم التعامل مع النص القرآني في تاريخنا بأن كل فرقة تجذبه إلى مفاهيمها وتصوراتها، حتى في عصرنا الحديث؛ فمن محاولات جذب الإسلام للمفاهيم الاشتراكية وللعدالة الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، إلى المفاهيم الرأسمالية في السبعينيات في زمن الانفتاح الاقتصادي، وأن الله قد رفع بعضنا فوق بعض درجات، مما يشجع الرأسمالية؛ ومن دين الجهاد والحرب مع العدو الصهيوني، إلى دين وإن جنحوا للسلم فاجنح لها في السبعينيات؛ فلا بد قبل الحديث عن طريقة التعامل مع النص أن نبحث عن مفهوم لهذا النص؛ عن طبيعته. ونقاشي مع طلابي في جامعة القاهرة الأم، في شتاء سنة اثنتين وثمانين، حين أهديت إليهم هذا العمل؛ «اعترافا بأن التعلم في الجامعة ذو اتجاهين».
البحث عن ماهية النص هو بحث عن ماهية القرآن، ولا طريق للتعامل مع التأويلات النفعية الأيديولوجية دون الوقوف على مفهوم الثقافة لطبيعة النص القرآني، والبحث في طبيعة القرآن قد توقف منذ عشرة قرون، لكن لا سبيل للخروج من أزمة ثقافتنا في تعامله النفعي مع نصوص القرآن دون بحث هذا السؤال . وقد تجنبت كل محاولات التجديد التعامل مع هذا السؤال أو الاقتراب منه جزئيا، ولا سبيل للخروج من التطاحن بين السلفية والتجديد الحالي دون تكوين وعي علمي بالتراث؛ فالتجديد على أساس أيديولوجي لا يقل خطورة عن التقليد. والبداية كما أتصورها من العلوم التي أنتجتها الثقافة الإسلامية حول القرآن. ومن خلال عملية الجمع الذي تم في مواجهة خطر الغزو الصليبي على العالم الإسلامي، في كتابي «البرهان في علوم القرآن» ل «الزركشي» (ت: 794ه/1393م) وكتاب «السيوطي» بعده بأكثر من قرن «الإتقان في علوم القرآن» (ت: 910ه/1505م). وسوف أركز على مفهوم النص بين علوم القرآن المختلفة مما يربط الدراسات الإسلامية، وهي دراسات تنتظم علوما كثيرة محورها النص، سواء كان نص القرآن أو نص الحديث النبوي، ودراسة النص من حيث كونه نصا لغويا في بنائه وتركيبه ودلالته وعلاقاته مع نصوص أخرى في ثقافة معينة مجالها في الفكر المعاصر هو الدراسات الأدبية.
فمع مصدر القرآن الإلهي وقدسيته عندنا كمؤمنين به يظل نصا لغويا؛ فقد درسه اللغويون والنحاة والبلاغيون بحثا عن الإعجاز، وهي مقدمة تمهيدية لعلوم الفقه وأصوله وعلوم القرآن، ودرسه المتكلمون لإثبات النبوة ... إلخ؛ مما يجعل الدراسات الإسلامية ليست علما خاصا، بل مفهوما يتسع لكثرة من العلوم والتخصصات. والبحث عن مفهوم للنص في التراث يساعد في تحديد مفهوم موضوعي للإسلام يتجاوز الطروح الأيديولوجية؛ بحثا عن ماهية الإسلام. انطلقت من الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني، وأيضا من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى. والنص القرآني تشكل في الواقع والثقافة خلال أكثر من عشرين عاما، وألوهية مصدره لا تنفي واقعية محتواه ولا انتماءه لثقافة البشر؛ لأن القرآن يتحدث عن نفسه أنه رسالة، والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو نظام لغوي، والدراسة العلمية يكون مدخلها هو الواقع الذي ينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول عليه السلام، وعرب الجزيرة والثقافة التي تتجسد في اللغة. والنص في هذه المرحلة وبتلك الصورة منتج ثقافي؛ ليصبح بعد ذلك نصا منتجا للثقافة، العربية الإسلامية؛ لكونه النص المهيمن على هذه الثقافة، مستخدما منهج التحليل اللغوي، بادئا بما هو معلوم وصولا لكشف ما هو مجهول؛ من الحسي صعودا.
في الباب الأول من الكتاب بفصوله الخمسة تركيز على دور الواقع والثقافة التي نزل فيها نص القرآن في تشكيل وجوده، من خلال دراسة مفهوم الوحي وعلاقته بالثقافة العربية، وتقبل العرب لفكرة تواصل البشر مع غير البشر، ثم المتلقي الأول للنص وتجربة حياته وتعامل النص معه، ودور يتمه الذي شعرت به أنا أيضا في فقد أبي، وتعامل نص القرآن مع هذا اليتم. كذلك علما المكي والمدني في علوم القرآن، ثم علم أسباب النزول، ثم علم الناسخ والمنسوخ. ودور هذه العلوم في إبراز صلة النص القرآني مع الواقع وتعامله معه.
في الباب الثاني تناولت دور القرآن وآلياته في علاقته مع النصوص الأخرى في الثقافة العربية، وطرقه في إنتاج الدلالة والمعاني، من خلال خمسة فصول: فصل عن الإعجاز، وفصل عن علم المناسبة بين الآيات والسور، وفصل عن الغموض والوضوح، وفصل عن العام والخاص، ثم فصل عن التفسير والتأويل.
الباب الأخير يحاول الكشف عن التحول الذي تم لمفهوم النص ووظيفته في الثقافة العربية، والتحول الذي ساد هذه الثقافة حتى عصورنا الحديثة، بدراسة فكر «أبي حامد الغزالي» (450ه/1058م-505ه/1111م) الذي قام بدور خطير في صياغة المفاهيم والتصورات التي كتب لها الشيوع والاستقرار في مجال الفكر الديني، في محاولة لكشف أسباب بداية عزل النص عن الواقع وعن حركة الثقافة، والكشف عن جذور كثير من الأفكار والمفاهيم الشائعة في الخطاب الديني والمعاصر. بعد الانتهاء من كتاب مفهوم النص، جمعت الأبحاث والدراسات التي ألفتها خلال السنوات الخمس الماضية، وتقدمت إلى الترقية إلى درجة أستاذ مساعد للجنة الترقيات، وحصلت على الدرجة. وآثرت أن أقضي عامين زيادة باليابان؛ لما أتاحته لي من جو ساعدني على البحث والدراسة، ولأن تدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا لم يكن يأخذ من وقتي الكثير. وزرت ماليزيا، والتقيت جماعة «قاسم أحمد» التي تروج لمفهوم أن الإسلام هو القرآن وحده، والتعرف على تجربة المسلمين هناك، وحالة النهوض الاقتصادي عندهم.
12
كتبت مقالة لمجلة الفنون الشعبية نشرتها في مارس سنة سبع وثمانين عن «الفوازير، وظيفتها وبناؤها اللغوي». وكتبت دراسة عن الإنسان الكامل في القرآن باللغة الإنجليزية، نشرتها مجلة جامعة أوساكا باليابان بعددها السابع والسبعين، سنة ثمان وثمانين. وقمت بدراسة لجانب آخر من تراثنا، نشرتها مجلة ألف بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في عددها الثامن سنة ثمان وثمانين، عن آليات التأويل في كتاب «سيبويه» (140ه/758م-180ه/797م)؛ التأويل بمعنى كيفية معالجة «سيبويه» في كتابه «الكتاب» للغة بوصفها نصا بالمعنى السيميوطيقي، كيف حاول اكتشاف آليات اللغة كنص وصولا إلى دلالة هذا النص ومغزاه. لقد عاب اللغويون العرب المعاصرون على القدماء معياريتهم وأحكامهم التقييمية في دراسة اللغة؛ فقد وضع النحاة القدماء تعليلات ما هي إلا تأويلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية لتصنيفها بهدف الكشف عن نظام اللغة وصولا إلى حكمة واضعيها، لكن يجب علينا أن ندرك أن جهد النحاة القدماء جزء من نظام ثقافي عام تحكمه رؤية للعالم ذات طبيعة غائية، وكان درسهم اللغوي يواجه مشكلات لا تواجه المعاصرين، لكن الإشكال أن اللغويين في محاولة دراستهم للغة يستخدمون اللغة في التعبير عن دراساتهم أيضا؛ فألفاظ مثل الفعل والمفعول والمضارع والفتحة والحزم ... إلخ علامات في اللغة دالة، لكنها في البحث اللغوي تتحول إلى مفاهيم تحليلية؛ أي تمت لها عملية إعادة تفسير أو تأويل نقلتها من مجال الكلام إلى مجال اللغة، بالإضافة إلى أن اللغويين كان عليهم أن يتعاملوا مع القرآن باعتباره النص المعيار الذي يمثل النظام اللغوي بدقة، ولم يكن ممكنا للنحوي منهم أو اللغوي أن يضع قواعده دون أن يكون نص القرآن نصب عينيه.
وقد أخذت مفهوم «العامل» عند «سيبويه»؛ وهو مفهوم ذهني لتفسير ظاهرة علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة، وتصنيف الكلمات إلى عوامل ومعمولات أو متأثرات، وهي رؤية تقوم على تصور ذهني أن كل أثر لا بد له من مؤثر، وكل فعل لا بد له من فاعل، وكل معلول لا بد له من علة. وناقشت مفهوم القياس وأركانه الأربعة عند «سيبويه»، واختلافه عن القياس في الفقه؛ فالنحوي لا ينقل حكما من نص بل يستنبط بالتأويل والمقارنة أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين ظواهر اللغة. وتناولت مفهوم الشذوذ في حالة الخروج على القاعدة والنظام. وأدركت أن مفاهيم «سيبويه» في «الكتاب»، خاصة مفاهيم التقييم، تحتاج إلى دراسة دقيقة متتبعة لكل أحكامه. هذه الدراسة تقف موقف الدفاع عن النحو التقليدي أمام موقف المعاصرين المنادين بالمنهج الوصفي؛ لأن هجومهم «ينبع من نظرة تجزيئية تفصل علم النحو وسائر علوم الثقافة، ومن جهة أخرى ينبع من موقف تأويلي ضمني يتخفى تحت شعارات براقة. والهجوم على تأويلات النحاة دون فهم الدوافع والأسباب يعوق فهم طبيعة القضايا والمشكلات التي ساهمت في بناء العلم، وفي تحديد تصوراته ومفاهيمه؛ وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن تلمس آثارها في محاولات تجديد النحو العقيمة.» هذا عن التأويل في كتاب «سيوبه» وأهميته، أما التأويل الخفي في كتب الدارسين المحدثين - والذين ينكرون التأويل ويهاجمونه - فله حديث آخر. إن سنواتي الأربع في اليابان كانت سنوات إنتاج فكري، وحان وقت العودة للجامعة الأم. كان انطباعي عن اليابانيين أنهم لا يعبرون بملامحهم عن مشاعرهم، لكني فوجئت في مطار أوساكا بطلاب قسم اللغة العربية الذين درست لهم خلال السنوات الأربع؛ مائة طالب يصطفون صفين، ويرفعون لوحة مرسوما عليها قلب مكتوب به جملة باللغة العربية، وموقع عليها منهم جميعا، وغنوا لي أغنية يابانية جميلة. كانت حفاوة بالغة منهم، ووداعا أحمله في قلبي. وعدت إلى مصر في مارس تسعة وثمانين.
المواطن مفكرا
1
عدت من اليابان أحمل معي الدراسات التي أعددتها في هدوء الحياة هناك، حيث ركزت على الخطاب العربي المعاصر بادئا بالخطاب الديني، فاشتركت في الكتاب السنوي الثامن، قضايا فكرية، والذي يحرره الأستاذ «محمود أمين العالم» (1922-2009م) وكان موضوعه «الإسلام السياسي، الأسس الفكرية والأهداف». كتبت دراسة عن «الخطاب الديني المعاصر، الأسس الفكرية والأهداف العملية»، نشرت بعنوان «الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومنطلقاته»، أدرس فيها الظاهرة التي يسميها أتباعها «الصحوة الإسلامية»، ويسميها آخرون «الإسلام السياسي». ويجب دراستها في إطار الخطاب الديني العام بشقيه الرسمي والمعارض، وليس فقط في إطار خطاب الجماعات الإسلامية؛ لأن هذا الفصل يوحي أن هذه الجماعات نبت دخيل على الخطاب الديني؛ مما يجعل الحل هو «قطعها بالفأس». فرد فكر هذه الجماعات إلى فقه الإمام «أحمد بن حنبل» (164ه/780م-241ه/855م)، أو «ابن تيمية» (661ه/1264م-728ه/1328م)، وتلميذه «ابن القيم الجوزية»، هو عملية قفز وظلم؛ لأن فكر الجماعات يمر عبر الخطاب الديني المعاصر، وعبر الواقع الذي ينكوي به هؤلاء الشباب. ومن هنا ركزت على الخطاب الديني المعاصر بجناحيه الرسمي والمعارض.
وسؤالي كان: هل هناك خلاف بين المعتدلين والمتطرفين في الخطاب الديني؟ بالدراسة وجدت أن الخلاف يكمن في نقطتين؛ تكفير الحاكم والمجتمع، والثانية في تغيير المنكر باليد. فالتكفير واضح عند المتطرفين، وهو ضمني خفي عند المعتدلين، حتى الدولة تستخدم التكفير كجزء من أيديولوجيتها في مواجهة المعارضين. ومسألة تغيير المنكر باليد؛ فيرى المتطرفون أن التغيير يكون بأيديهم وفي الحال، والمعتدلون يؤجلون تغيير المنكر حين تحين الظروف. ورصدت خمس آليات يستخدمها الخطاب الديني في تفكيره وفي طرح مفاهيمه، وإقناع الآخرين واكتساب الأنصار. وقد يعذر مخالفيه في مخالفته في بعضها؛ أولها: التوحيد بين الفكر والدين. توحيد بين فهم الإنسان وتفسيره وبين الإسلام، فيتحدث عن موقف الإسلام ورؤية الإسلام، وليس فهمه أو تفسيره وتأويله لموقف ورؤية الإسلام. على الرغم من أن الفكر الإسلامي من بدايته يدرك أن هناك مجالا للوحي ومجالا للخبرة الإنسانية، فكانوا يسألون النبي إن كان ما قاله وحيا من الله أم هو الرأي والمشورة. والخطاب الديني المعاصر في توحيده بين فكره وبين الدين كأنه ضمنيا يتحدث باسم الله. الآلية الثانية: رد الظواهر إلى مبدأ واحد، أو بمعنى آخر اختصارها في جانب واحد، فيختصر العلمانية مثلا في مناهضة الدين، والماركسية في الإلحاد والمادية، والداروينية في حيوانية الإنسان، والفرويدية في الجنس؛ فيلغي بذلك القوانين الطبيعية والاجتماعية والسياق الذي ظهرت فيه الظواهر.
آلية أخرى للخطاب الديني: أن يعتمد على سلطة التراث والسلف، فيحول السلف واجتهاداتهم إلى نصوص غير قابلة للنقاش وإعادة النظر، ويربطها بالدين ذاته، فتكتسب قداسته، وينتقي من التراث ومن السلف ما يتوافق مع فكره، ويهمل بل ويلغي ما يتناقض مع فكره. وآلية أخرى: اليقين الذهني والحسم الفكري؛ مما يجعله لا يتحمل أي خلاف جذري مع أفكاره، فهو يمتلك الحقيقة الشاملة الواضحة وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية. الآلية الخامسة التي رصدتها: أن الخطاب الديني المعاصر يهدر البعد التاريخي، فيطابق بين النصوص وفهمه لها، مهملا أن النصوص التراثية لها لغتها وعالمها الذي تنتمي إليه، ويهمل حتى سياق الواقع المعاصر ومشكلاته وهمومه واختلافها عن هموم الماضي ومشكلاته وأسئلته.
الخطاب الديني وإن اختلفت أجنحته، المعتدل منها والمتطرف، يطابق منطلقاتهم الفكرية غير القابلة للنقاش. ورصدت منطلقين : الحاكمية، والنص. والبعض يرجع الحاكمية عند «سيد قطب» (1324ه/1906م-1386ه/1966م) إلى فترة التعذيب داخل السجون المصرية، ويقارن بين كتاباته في نهاية الأربعينيات وما كتب في «ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» بعد ذلك، لكن هذا التفسير لا يفسر الحاكمية عند «أبي الأعلى المودودي» (1321ه/1903م-1399ه/1979م) الذي لم يتعرض لما تعرض له «قطب» وأخذ عنه «قطب»، لكن مع تعمقي في دراسة خطاب «قطب» وجدت أن كتاباته الأولى بها الأصول العامة التي سيطرت على الخطاب بعد ذلك. ومفهوم الحاكمية جزء من التجربة الثقافية للمسلمين؛ فالخطاب الديني في تراثنا كان حريصا على نفي أي تعارض بين الوحي والعقل، واتفق الجميع تقريبا على أن النقل يثبت بالعقل، لكن الخلاف فيما بعد، هل يستقل العقل بعد ذلك أم يظل يمارس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها؟ والهجوم على التفكير العقلي ورفض الخلاف والتعددية - قديما وحديثا - يمثل أساسا من الأسس التي تقوم عليها الحاكمية. الأساس الثاني لها: المقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج البشر؛ فوضع الإنساني مقابل الإلهي يؤدي إلى عدمية الجهود الإنسانية. والحاكمية يستخدمها الخطابان الديني وخطاب السلطة السياسي ضد مخالفيهم.
المنطلق الثاني هو النص، والخطاب الديني يهمل البعد التاريخي للنصوص الدينية؛ فهو يتفق على أن النصوص الدينية قابلة لتجدد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء للتاريخية، بقصرها على النصوص التشريعية دون نصوص العقائد أو القصص. وعلى هذا المجال المحدود للاجتهاد، يؤسس الخطاب الديني لمقولة «صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان»، ويعارض إلى حد تكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني؛ فالنصوص دينية كانت أو بشرية محكومة بقوانين ثابتة. وكون القرآن منزلا من الله لا يخرجه عن الخضوع لهذه القوانين؛ فالله سبحانه يخاطب البشر بلغتهم، وبقوانين اللغة العربية الموجودة قبل تنزيل القرآن. هذه النصوص ثابتة في منطوقها، متغيرة في الفهم والقراءة. وحينما قال علماء أصول الفقه بأنه لا اجتهاد فيما فيه نص، فإن مفهوم كلمة نص عندهم تختلف عن مفهوم كلمة نص في لغتنا الآن، لكن الخطاب الديني بكل مستوياته، من معتدل (حكومي ومعارض) ومتطرف ، يقفز على كل ذلك. وإذا كان خطاب الجماعات الدينية يبدو هو الأعلى صوتا، فإنه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات سابقة، من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام؛ صدى كان يتردد خافتا طول الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز السلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات الدينية والخوارج فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت/الاستشهاد.
2
كان التعرض لقراءة اليسار الإسلامي في ممثله «حسن حنفي»، المولود عام 1352ه/1935م، وكيف تعامل مع التراث كنوع من نقد الذات من خلال نقد قراءة أستاذي، في دراسة نشرت في مجلة ألف بالجامعة الأمريكية، في عددها العاشر، بعنوان «التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي». والتأويل هو علاقة جدلية بين الدلالة والمغزى، بين الذات والموضوع. والتلوين هو الوثب على المعاني دون مراعاة هذه العلاقة الجدلية. وهذا الوثب ينتج قراءة مغرضة. وليس معنى هذا أن القراءة المنتجة هي قراءة بريئة، إنما هي حركة بندولية بين الدلالة/الأصل وبين المغزى/الغاية. ومشروع «حسن حنفي» سواء في صورته سنة ثمانين، والتي كان يسميها في حواراتنا «المانيفستو» أو في مجلداته الخمسة التي نشرت عام ثمانية وثمانين تحت عنوان «التراث والتجديد». والعدد الوحيد من مجلة اليسار الإسلامي الذي كتب معظمه «حسن حنفي»، واحد وثمانين، هو إعلان عن حسن النوايا يتلفح بالمبدأ الشيعي التراثي؛ التقية؛ تقية في مواجهة الخطر السياسي. وقد اعتمد التوفيقية على المستوى الفلسفي، لكني وجدت أن التوفيقية هي ركن أصيل في خطابه. ومزجه، ولا نقول خلطه، بين السياسي والفكري والأيديولوجي والإبستمولوجي دون تأسيس للفرع على الأصل، لا يكفي تبريره بالحيرة بين دور العالم ودور المواطن.
نقطة الانطلاق في خطاب اليسار الإسلامي هي توصيفه للمرحلة الراهنة للأمة بأنها تشبه عصر النهضة الأوروبي. من هنا تتحدد الاستراتيجية المناسبة، بالإصلاح الديني والاتجاه الإنساني ونشأة العلم، وأن الخلاف بين جناحي الأمة خلاف جذري فيما يرتبط بعلاقة كل منهما بالتراث؛ فالسلفية تمثل الاتباع، والعلمانية تمثل الابتداع، ويصبح الإبداع الذي يمثله اليسار الإسلامي بتجديد التراث. وهذه نقطة خلاف لي مع الخطاب؛ لأن تعامل جناحي الأمة مع التراث يتركز في طريقة استعمال كل منهما للتراث؛ فهو عند السلفيين إطار مرجعي، وعند العلمانيين غطاء وسند، وفي الحالتين فقد التراث وجوده الموضوعي لحساب التلوين الأيديولوجي والنفعي، وفشل كلا الاتجاهين في تأسيس معرفة علمية بالواقع أو التراث. خطاب «حسن حنفي» في تعامله مع التراث «يتردد بين أن يكون التراث فاعلا والماضي أساس الحاضر، وبين أن يكون التراث مجالا لفاعلية التجديد ويكون الحاضر أساسا لفهم الماضي بمعنى تبادل ثنائية الماضي/الحاضر، التراث/التجديد، مواقعها طبقا لزاوية التناول والتحليل دون أن تتأسس العلاقة بينهما كما ينبغي على أساس جدلي.»
والاختلاف بين اليمين الديني وبين اليسار الإسلامي في نظرتهما للتراث، حيث إن السلفي يربط ميكانيكيا بين الإسلام والتراث بعد اختزال التراث في جانب منه دون جوانب، إلا أن اليسار الإسلامي يرى التراث نتاج الواقع والبشر؛ فهو تاريخي خارج دائرة المقدس. لكن هذا الاختلاف على مستوى السطح، أما على مستوى البنية العميقة فيتفقان على تصور أن حل مشكلات الواقع الراهن يقبع في التراث؛ فاليمين يطرح شعار «الإسلام هو الحل»، واليسار الإسلامي شعاره تجديد التراث هو الحل. واليسار الإسلامي يرى التراث بناء شعوريا. وهذا التصور هو أساس عمليات الوثب التي يقوم بها؛ فهناك اختلاف بين البناء الشعوري والبناء التاريخي، حيث يكون الفكر مستقلا عن الواقع، لكن التصور المثالي للتراث المفارق للتاريخ والواقع يحول التراث إلى مطلق.
لكن المقتل الأساسي لمشروع اليسار الإسلامي لتجديد التراث «الإبقاء على بنية العلم كما صاغتها العصور المتأخرة على غرار البنية العقدية الأشعرية، مما سجن التجديد في إطار إعادة الطلاء وليس إعادة البناء.» فإن وضع لافتات جديدة ذات دلالة عصرية إلى جانب اللافتات القديمة، جعل التجديد يكمن دوره في المتن، ووضعت النصوص القديمة في الحاشية، فتحول التجديد إلى تلوين.
مشروع اليسار الإسلامي أقرب إلى الإخفاق منه للنجاح؛ لأخذه التراث كمرجعية، واعتباره أن قراءة جديدة للتراث يمكن أن تصلح الواقع، والقراءة ذاتها كانت انتقائية؛ إعادة طلاء. إلا أن له بعض الإنجازات في التعامل مع التراث؛ بأن أعاد تأويل العقائد، وعقيدة الألوهية، خاصة أنها محاولة من الإنسان لتجاوز اغترابه في العالم. وأصر على التعامل معها بوصفها تصورات ذهنية تمثل موجهات للسلوك. وقد ركز على علاقة الوحي بالواقع في بعده الأفقي، وليس كاليمين الديني الذي يركز على البعد الرأسي للعلاقة المتمثلة في أصل الوحي ومصدر الرسالة. إن قراءتي ما كان لها أن تتم إلا بالدور الذي قام به خطاب اليسار الإسلامي، من خلخلة الكثير من الثوابت والمسلمات المستقرة في وعينا الديني. وهذه القراءة هي محاولة لجذبه إلى آفاق إنتاج وعي علمي بالتراث والواقع في نفس الوقت بعيدا عن التلوين وصولا إلى أفق التأويل، في إدراك الواقع والتراث معا.
دخلت علي سكرتيرة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، تخبرني أن هناك شابا اسمه «أحمد النقيب» في انتظاري، لكنه في حالة من الهلع والدعاء وقراءة القرآن. سألتها: «من أحمد؟» قالت: «طالب الماجستير الذي حول الإشراف على رسالته إلى حضرتك لسفر أستاذه المشرف.» تساءلت: «وخايف من إيه؟» قالت: «مش عارفة، لكنه بذقن طويلة، هو من الجماعات الإسلامية.» تنبأت بسبب خوفه. فسألتني: «هل أدخله؟» قلت: «لا. أذهب إليه بنفسي.» ذهبت إلى مكان الانتظار وتعرفت إليه مباشرة من وصف السكرتيرة له: «أهلا يا أحمد، إيه رأيك نتمشى شوية لأني عايز أمشي رجلي؟» أحمد محسوب على تنظيم الجهاد، ودخل السجن. وعلى الرغم من أنه الأول على دفعته في المنصورة فلم يعين، فرفع قضية ضد الجامعة وكسبها فعين، لكن لضغط العمل في المنصورة حول إشرافه إلى جامعة القاهرة، ورسالته عن نظرية اللغة عند «ابن تيمية». قلت له إنه من حقه أن يختار المشرف الذي يرتاح إليه، وعليه أن يفكر في أي أستاذ يريد، وأنا أسعى مع إدارة القسم لتلبية طلبه. حاول أن يتكلم، فقاطعته قائلا: هذا حقك، وهذا رقم تليفون بيتي، فكر أسبوعا واتصل بي ، أخبرني بمن تريد. بعد أسبوع طلب لقائي ليخبرني أنه يريدني أن أشرف على رسالته، فقلت: أحمد، أنا ليس لي دخل في فكرك الديني أو السياسي، أنت حر فيما تؤمن به، لكن أنت تحت إشرافي باحث، والباحث لا يبحث عن موقف ما من موضوع البحث، بل هو يبدأ من أسئلة من نتاج بحثه، يعتصر المصادر والمراجع في سياقها التاريخي والاجتماعي بحثا عن الإجابة؛ فإذا كنت تريد أن تكون باحثا فيسعدني الإشراف عليك، وإن كنت تريد أن تكون داعية فابحث عن أستاذ آخر. قال مسرعا: «باحث، أريد أن أكون باحثا.»
3
نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابي «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» في سلسلتها «دراسات أدبية»، ليباع بخمسة جنيهات وأربعين قرشا. وشاركت في الاحتفالية التي أقمناها للذكرى العاشرة لرحيل أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وألقيت فيها بحث «قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية» في شهر مارس سنة تسعين، ونشر في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، عدد أربعة وعشرين، سنة تسعين. فبعد دراستي النقدية للفكر الديني يمينه ويساره، سعيت لدراسة أنماط الدلالة أو المعاني في النصوص الدينية، وخاصة القرآن. نشرت بعد ذلك في الكتاب الدوري «قضايا وشهادات» في عدده الثاني، سنة تسعين؛ فالفكر في جوهره حركة لاكتشاف المجهول ، نبدؤها مما هو معلوم لنا سعيا وراء المجهول، والفكر الديني أيضا يخضع للقوانين التي تحكم الفكر البشري، وليس له قداسة؛ لأنه يدرس الدين المقدس؛ فهناك فرق بين الدين والفكر الديني؛ فالدين بنصوصه المقدسة الثابتة، أما الفكر الديني فهو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج معانيها ودلالاتها، لكن السؤال الحقيقي هو: «كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يخفي هذا الفرق ويشيع إطلاقية لاجتهاداته وفكره تقارب حدود قداسة الدين؟!»
وصلنا إلى هذا الحال بعد قرنين من محاولة النهوض؛ لأن مشروع نهضتنا مشروع تلفيقي بسبب هشاشة الطبقة الوسطى حاملة لواء النهضة، وتبعيتها الاجتماعية والاقتصادية؛ الأمر الذي أدى بها إلى التبعية السياسية؛ فخطاب النهضة ظل يبارز نقيضه السلفي سجاليا بنفس السلاح، دون أن يسعى إلى تجاوز حالة السجال النفعي بإنتاج وعي علمي بالتراث، من هنا حالات التحول من مفكرين، بتقدم العمر، من اليسار إلى السلفية. وعلى الرغم من النجاحات الجزئية لخطاب النهضة، حيث رفع غطاء القداسة عن الفكر الديني القديم والحديث، مع وضع بذور التعامل مع التراث كظاهرة تاريخية، وبوصفه صراعا بين تيارات واتجاهات، لكن أهل التجديد لم ينتجوا وعيا تاريخيا علميا بالنصوص الدينية، وظلوا مثل أهل التقليد في ظل الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية.
والوعي العلمي التاريخي يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديما وحديثا؛ فعلوم القرآن التي تربط الآيات بالواقع، مثل أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ ... إلخ. لا بد أن نبني على ذلك باستخدام إنجازات علوم اللغة، خاصة في مجال دراسة النصوص؛ فالنصوص الدينية هي في الأساس نصوص لغوية، الله تعالى استخدم لغة البشر بقواعدها وارتباطها بالثقافة ليخاطب البشر، وهذه اللغة العربية التي استخدمتها النصوص الدينية تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم صياغة النصوص تبعا لها، ولكن للنصوص خصوصا المؤثرة منها فعاليتها وقدرتها الخاصة في التأثير في الثقافة، بل وإعادة تشكيلها. وتفرقة عالم اللغة السويسري «فرديناند دي سوسير» (1272ه/1857م-1330ه/1913م) بين اللغة والكلام؛ فاللغة هي النظام الدلالي للجماعة في كليته وشموليته بمستوياته الصرفية والنحوية والدلالية، وهي المخزون الموجود قبل الفرد الذي يستخدم هذه اللغة للكلام بها. والعلاقة بين اللغة والكلام علاقة جدلية باستمرار. والنصوص لا تنفك عن النظام اللغوي العام للثقافة، لكنها من ناحية أخرى تبدع شفرتها الخاصة التي تعيد بناء عناصر النظام الدلالي من جديد، فيضيف مبدعون بنصوصهم إلى اللغة ألفاظا وتراكيب ومعاني، وتقاس مدى إبداعية النصوص في الثقافة من تطويرها في النظام اللغوي. وهناك منطقة مشتركة بين اللغة والكلام هي التي تجعل الكلام مفهوما للمعاصرين للنص، وهي المنطقة المشيرة إلى الواقع والتاريخ، وخارج هذه المنطقة تكون دلالات ومعاني الكلام والنصوص مفتوحة وقابلة للتجدد مع كل قراءة جديدة وكل تغير في أفق القارئ وعصره وثقافته.
لكن هل قدسية مصدر نصوص القرآن تجعلها لا تخضع لقواعد كلام البشر؟ فالله سبحانه يرسل رسالة للبشر مستخدما لغتهم بقواعدها. وإلهية المصدر لا تنفي بشرية الوسيلة التي تحمل الرسالة، وفهم البشر لهذه الرسالة هو الهدف لو دققنا في نظرة النصوص الدينية الإسلامية لكل من القرآن الكريم والمسيح عليه السلام؛ فالقرآن كلام الله، وكذلك عيسى، عليه السلام، كلمة الله إلى «مريم» (سورة النساء: 177، آل عمران: 3). والقرآن ألقي على النبي محمد عليه السلام، كذلك عيسى (النساء: 171). وتم الاتصال عن طريق وسيط في الحالتين، هو الملك «جبريل» الذي تمثل للنبي في صورة أعرابي، وتمثل ل «مريم» بشرا (مريم: 17). فكلام الله تجسد في المسيحية مخلوقا بشريا، وفي الإسلام تمثل نصا لغويا؛ أي عبر اللحم والدم في المسيحية، وعبر اللغة العربية في الإسلام. والفكر الديني الإسلامي يؤمن أن كلمة الله عيسى إلهي المصدر لكنه بشر، وينكر على الفكر الديني المسيحي تصور طبيعة مزدوجة إلهية وبشرية للمسيح، ويصر على بشريته في حين أنه ينظر إلى القرآن ذي الطبيعة المزدوجة أيضا؛ فإلهية المصدر لكلام الله لا تنفي بشرية اللغة التي صيغ بها، والهدف هو التواصل مع البشر برسالة وبلاغ وهداية ونور ... إلخ من صفات القرآن لذاته. وموقف المعتزلة بتبني بشرية النصوص الدينية، رغم أهميته، يظل موقفا تراثيا تاريخيا دالا على بواكير وإرهاصات ذات مغزى لتأسيس الوعي بطبيعة النصوص الدينية، لكنه يظل شاهدا تاريخيا.
وجدت ثلاثة مستويات للدلالة في القرآن: دلالات ليست إلا شواهد تاريخية، لا تقبل التأويل المجازي، مثل كل ما يتصل بتجارة الرقيق، وملك اليمين للمعاشرة، إلى جانب الزوجات الأربع، وجعل عقاب الجارية نصف عقاب الحرة في الزنا، والتكفير عن الذنوب بعتق رقبة؛ لسقوط نظام العبودية ذاته. المستوى الثاني: دلالات قابلة للتأويل المجازي؛ فكلمة «عبد» في اللغة جمعها عبيد، لكن القرآن الكريم استخدم صيغة جمع جديدة، عباد، تاركا صيغة عبيد المتأصلة في ثقافة الجزيرة العربية لتدل على غير المؤمنين، في حين خصصت «عباد» للمؤمنين، بالإضافة إلى إلحاح النصوص على المساواة بين البشر في الجزاء الديني، وألا تكون التفرقة على أساس الإيمان والعمل الصالح؛ فموقف الإسلام يتجه في اتجاه المساواة وإلغاء العبودية؛ فحين يستخدم الخطاب الديني العبودية أساسا للعلاقة بين الإنسان والله لكي يؤسس عليها مفهوم الحاكمية، مهملا أساس الحب والرحمة، حيث يستخدم الخطاب الديني آلية التضييق الدلالي في مفهوم العبودية بالعودة به إلى عبيد ملغيا العباد، والطاعة وليس الحب والرحمة. وكذلك يستخدم آلية التوسيع الدلالي على أساس مجرد التماثل الصوتي، عند تناوله مفهوم الحاكمية، بين «حكم»، وتعني التحكيم والفصل بين متخاصمين اختاروا تحكيمك طوعا منهما، وبين «حكم» كما نستخدمها في عصرنا بمعنى الحكم الشامل في النظام السياسي.
المستوى الثالث من دلالات النصوص الدينية: دلالات قابلة للاتساع على أساس المغزى الذي يمكن اكتشافه من السياق الثقافي/الاجتماعي الذي تتحرك فيه النصوص، ومن خلال اتجاه حركة النص، من خلال علاقة الجدل بين المعنى والمغزى؛ فالمعنى هو المفهوم المباشر الذي يستنبطه المعاصرون للنص من منطوقه، ويمكن الوصول إليه من السياق اللغوي الداخلي والثقافي والاجتماعي، ويكون هذا المعنى ثابتا نسبيا. أما المغزى فينطلق من المعنى، لكنه محصلة القراءة والخبرة بهموم العصر وصراعاته. باغتني خبر وفاة أستاذي الدكتور «عبد المحسن طه بدر» (1932-1990م) ليعلن رحيل جيل من العظام في حياتنا الثقافية وفي الجامعة.
أرسلت مقالتين لمجلة «إبداع» التي تصدرها وزارة الثقافة، بعد تولي الشاعر «أحمد عبد المعطي حجازي» رئاسة تحريرها، نشرتا بشهري أبريل ومايو سنة تسعين ، عن مفهوم النص؛ بحثا في جوانب أخرى داخل الثقافة العربية الإسلامية. فالخطاب الديني المعاصر - حين يتمسك بالمبدأ الفقهي القديم «لا اجتهاد فيما فيه نص» في وجه أي محاولة للاجتهاد الحقيقي - فهو يعمل نوعا من المخادعة الدلالية؛ باستخدام كلمة «نص» للدلالة على كل النصوص الدينية - القرآن الكريم والأحاديث النبوية - بصرف النظر عن وضوح دلالة النصوص وغموضها. عرضت التطور الدلالي لدلالة «نص» لغويا من الحسي إلى المعنوي، ثم إلى الاصطلاحي. النص هو الواضح وضوحا لا يحتاج معه إلى بيان آخر؛ فكل ما غمض أو احتمل أكثر من معنى ليس بنص. وفي المقالة الثانية حاولت الكشف عن مفهوم الثقافة للنص من خلال تتبع مفهوم التأويل؛ عودة إلى استخدامه قبل الإسلام واستخداماته في النص القرآني، حيث ورد سبع عشرة مرة في القرآن، ولم يذكر الدال «نص» مرة واحدة. ووجدت أن الثقافة العربية تحمل مفهوما للنص أوسع من مفهوم النصوص اللغوية، مفهوما سيميوطيقيا، لكنه مفهوم يجعل السيادة للنصوص اللغوية على غيرها من النصوص. النص بالمفهوم المعاصر سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تنتج معنى كليا يحمل رسالة، سواء كانت العلامات باللغة الطبيعية - الألفاظ - أم كانت علامات بلغات أخرى. وإذا كانت الآية علامة والنص رسالة فإن الكون كله - في الخطاب القرآني - سلسلة من العلامات الدالة - الآيات - على وجود الله وعلى وحدانيته.
أخذنا شقة أنا وأحلام وبدأنا في فرشها. وتجددت خلافاتنا منذ عودتنا من اليابان، شكواها الدائمة من اهتمامي بطلبتي وطول الوقت الذي أقضيه معهم، فتضع نفسها دائما في وضع مقارنة بين اهتمامي بها وبهم، وفشلت كل محاولات أن أشركها فيما أكتب وأفكر، فكانت تنسخ الأوراق على ماكينة الكتابة دون أن تعيرها اهتماما، فوضعت جهدي في الإنتاج الفكري والعلمي.
كتاب «غالي شكري» «الكشف عن أقنعة الإرهاب، بحثا عن علمانية جديدة»، الذي أخذ من مادة ندوة «الدين في المجتمع العربي» التي عقدت في أبريل سنة تسع وثمانين بمشاركات «طارق البشري، وفهمي هويدي، وأحمد كمال أبو المجد» تحت اللافتة الدينية، و«محمد سعيد العشماوي، وميلاد حنا، وأنور كامل، وفرج فودة، وتوفيق حنا» تحت اللافتة العلمانية. قام «غالي شكري» بتحليل الخطاب. نشرت المقال بمجلة «أدب ونقد»، عدد يونيو، سنة تسعين. أردت أن أخطو خطوة أعمق في تحليل هذه المادة التي أشار إليها الكتاب؛ فأنماط الخطاب العربي التي ذكرها، بتحليلها نجد وراءها بنية ذهنية واحدة ناتجة عن سقوط مشروع النهضة بعد سلسلة الأزمات التاريخية التي مر بها، لكن الانهيار سببه أن معادلة النهضة بنيت على تلفيقية بين التراث والوافد الغربي على أساس نفعي براجماتي؛ لأن النخبة المفكرة هشة، نشأت في أحضان الإقطاع التابع للرأسمالية الغربية؛ فتحولت النهضة إلى تبرير نقل التكنولوجيا الغربية باسم الإسلام. ومع سقوط المشروع الناصري سقطت معادلة النهضة ذاتها، ولم يبق غير السلفية التي عززها الانفتاح، واشتداد ثروة البترول. وكان لقيام دولة إسرائيل دور في تعميق أزمة مشروع النهضة؛ مما عجل بسقوط هذه المعادلة التلفيقية. الخطاب عاجز عن إنتاج وعي علمي بتاريخية النصوص الدينية وتعامل معها من منظور سلفي، وارتفع صوت الراديو بخبر غزو القوات العراقية لدولة الكويت.
4
مع سقوط الأقنعة، والتدخل الغربي المباشر في الأراضي العربية، وكشف الإرهاب عن وجهه القبيح في شوارع القاهرة باغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب في الثاني عشر من أكتوبر سنة تسعين، فأصبح الصراع على أشده بين الجماعات الدينية المسلحة والسلطة، كتبت مقالا نشرته مجلة «القاهرة» في عددها يناير واحد وتسعين تحت عنوان «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، في ملف للمجلة عن الثقافة. العقل العربي ظل مشدودا طوال تاريخه إلى سلطة النص الديني والسلطة السياسية الحاكمة؛ فمنذ موقعة «صفين» في عهد الإمام «علي بن أبي طالب» وتحول الصراع من صراع اجتماعي سياسي إلى صراع حول معنى النصوص وتأويلها، وأصبح تأويل النص الديني شأنا من شئون الدولة، وصار عالم الدين موظفا في بلاط الخلافة؛ فأصبحت النصوص الدينية الإطار المرجعي الأول والأخير لكل القوى الاجتماعية والسياسية. من ناحية أخرى ظلت عين المفكر والمؤول على اتجاه السلطة السياسية، سواء كان مؤيدا أم معارضا، فأصبح النشاط العقلي تبريرا، وحينما يضاف إليها (النصوص الدينية كمرجعية أولى وأخيرة) الانتماء إلى أيديولوجية السلطة تصبح نوعا من التواطؤ. ومثال ذلك ما حدث أخيرا في عملية الكويت من كل الأطراف. وفي القديم تواطأ المعتزلة - حينما اقتربوا من السلطة - بقمع المخالفين لهم، وتقديم تبريرات دينية وسياسية نتيجة لبنيتهم الفكرية. ولا خلاص من هذا الموقف ولا استعادة للذاكرة إلا بالتعددية السياسية والفكرية، وترسيخ مبدأ الصراع الحر الخلاق لكل الاتجاهات، والتحول من نظام الوثوب على السلطة إلى نظام التداول الديمقراطي الحق لها.
حقق كتاب «مفهوم النص» توزيعا كبيرا في معرض الكتاب، وخصصت ندوة لمناقشة الكتاب يوم الثامن عشر من يناير واحد وتسعين، الساعة الواحدة، تكلم فيها د. «شكري عياد ود. جابر عصفور»، وكانت ندوة قيمة لي في نقدهم للكتاب. ونشر د. «حسن حنفي»، عرضا ومراجعة للكتاب في مجلة «فصول»، المجلد التاسع، فبراير واحد وتسعين. ونشر «جابر عصفور» مقالة طويلة في مجلة «إبداع»، عدد مارس، بعنوان «مفهوم النص والاعتزال المعاصر»، وضع الكتاب في سياق مدرسة التفسير الأدبي للقرآن في جذورها القريبة من «محمد عبده إلى أمين الخولي وشكري عياد ومحمد أحمد خلف الله»، ووضعها في جذورها القديمة التي تمتد إلى المعتزلة، وأيضا في السياق الثقافي المعاصر بتحدياته حين قراءة التراث. إلا أن «جابر» استطاع أن يقدم نقدا بناء وعميقا للكتاب.
وعد الكتاب مقدمة في الأصول التي ينبني عليها التفسير. وطرح أسئلة مثل ما مفهوم الكتاب للنص، وأن الدراسة داخلة في إطار آليات القراءة التطبيقية وليس أصول القراءة النظرية على نحو يجعل كتاب «مفهوم النص» دراسة في كيفية فهم طائفة من أهل السلف، وسؤال ما الإسلام؛ هل هو الإسلام كنص إلهي أم الإسلام من حيث هو نصوص ثوان بشرية يتم إنتاجها من النص الأول.
زاد انخراطي في النشاط الثقافي العام والتدريس داخل الجامعة من الشقة بيني وبين زوجتي «أحلام»، حتى أصبحنا نعيش معا وكأننا لا نعيش معا، شبه منفصلين في نفس السكن؛ لأزمة المساكن.
كان لتصرفات النخبة المثقفة خلال أزمة احتلال قوات «صدام حسين» للكويت، وبحثها عن المهدي المنتظر، فكتبت مقالة نشرتها مجلة اليسار في عددها الرابع عشر من أبريل واحد وتسعين بعنوان «المهدي المنتظر والعقل المأزوم»، تناولت فيها تطور الفكرة في الفكر العربي الإسلامي، ولها مثيل في اليهودية والمسيحية كفكرة المسايا أو المسيح المخلص المنتظر. وتناولت الفكرة عند الشيعة المغالين والمعتدلين، مثل الإمامية الاثني عشرية والزيدية، وعند الصوفية. وقد أفهم تعلق البسطاء والعامة بالفكرة، لكن ماذا عن المثقف المعاصر الذي انخدع بالنظم الديكتاتورية العربية؛ لأنها ترفع شعارات العدل والحرية، فأغمض العين عن ممارساتها الفعلية وانخرط في التبرير الذي وصل عند البعض إلى حدود التواطؤ النفعي؛ المثقف الذي يعادي الإمبريالية والصهيونية لكنه يتصور أن قيادة الحرب ضدها يمكن أن تكون ناجزة بالديكتاتورية التي تسحق الإنسان، وتصادر كل حقوقه أو تؤجلها لأجل غير مسمى بدعاوى زائفة نعلم جميعا أنها ترتبط باستقرار النظم الفاشية، وإحكام سيطرتها على رقاب العباد؛ المثقف الذي يزعم أنه يفكر تفكيرا علميا ويسقط في وهدة ميثولوجيا المهدي المنتظر، ويعيد إنتاجها برطانة مسوح علمية تكشف أزمة العقل العربي؟
نشرت دار «سينا» للنشر كتابا صغيرا لي بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، الذي نشرت جزءا منه في مجلة «الاجتهاد»، بيروت، العدد الثامن، سنة تسعين، تناولت فيه مفهوم الوسطية الذي يذكر على أنه السمة الجوهرية لتجربة المسلمين، وهو مفهوم أصله «الإمام الشافعي» (150ه/768م-204ه/821م) في مجال الفقه والشريعة أو مجال أصول الفقه، وأصله في مجال العقيدة أو أصول الدين «الإمام الأشعري» (ت: 330ه/942م)، واستنادا لهما أصله الإمام «أبو حامد الغزالي» (ت: 505ه/1111م) في مجال الفكر والفلسفة، وهو شافعي المذهب في الفقه، أشعري في أصول الدين. وهذا الكتاب ليس دراسة في أصول الفقه، بل دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها فكر «الشافعي» من خلال علم الفقه؛ أي دراسة الأصول النظرية التي أقام عليها «الشافعي» وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية، كدراسة في منهجه في التفكير بالمعنى الفلسفي للمنهج.
بدأت الدراسة من داخل الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، بوضع فكر «الشافعي» في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه، وفي مجال أصول الفقه، من خلال الصراعات الفكرية بين أهل الرأي وأهل الحديث في الفقه والشريعة، وعلى مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من «المشبهة والمرجئة»، والصراع الشعوبي بين العرب والفرس. وطريقة ترتيب الإمام الشافعي للأصول الأربعة للإسلام، وتأسيسه اللاحق منها على السابق؛ فالسنة تتأسس مشروعيتها - أي بوصفها مصدرا ثانيا للتشريع - على الكتاب، وعدهما جزءا عضويا دلاليا واحدا بأدلة نصية منتزعة من المنطوق أو المفهوم، وعليها بنى «الشافعي» الإجماع؛ فأصبح نصا تشريعيا. ويأتي الأصل الرابع القياس/الاجتهاد ليصبح استنباطا من النص، المركب من الأصول الثلاثة السابقة، فتم تدشين تحويل اللانص إلى نص لا يقل في قوته التشريعية والدلالية عن النص الأساسي الأول، ألا وهو القرآن؛ وما يؤدي إليه ذلك من تضييق مساحة الاجتهاد/القياس بعقله بوثاق النص بإحكام.
أعدت كلية آداب القاهرة مؤتمرا علميا كبيرا عن د. «طه حسين» في ظل مرور مائة عام على ميلاده، وكنت في اللجنة المنظمة للمؤتمر، وقد تعودت على المؤتمرات والتجهيز لها. ولفت نظري دكتورة عضو باللجنة المنظمة للمؤتمر من قسم اللغة الفرنسية، سألها أحد الدكاترة عن الحمام، وآخر عن قلم، فكانت حادة في الرد عليهما. اشتركت في المؤتمر بمحاضرة عن «طه حسين». وبعد إلقائها اقتربت مني هذه الدكتورة، وسألتني إن كان يمكنها أخذ نسخة من المحاضرة، فأعطيتها لها وتعرفت إليها؛ د. «ابتهال يونس»، مدرس حضارة فرنسية وحضارة مقارنة بالكلية. بعد انتهاء المؤتمر أقامت اللجنة المنظمة حفلة عشاء صغير على مركب بالنيل، فكانت فرصة أوسع للتعرف إليها. دخلت علي المكتب في الكلية بعد أن قرأت نص المحاضرة، وكانت لها تعليقات ونقاط كتبتها على الهامش، ودخلنا في نقاش طويل وعميق حول «طه حسين» ودوره في الثقافة المصرية.
ازداد اقترابنا خلال رحلة لمدريد ببداية شهر مارس بجامعة غرناطة للمشاركة في ندوة أخرى عن «طه حسين». أتينا لتناول الغداء، فقالت ابتهال لصديقتها: «المانيو فيه سمك اليوم كمان.» فقلت لها: «هو انتم تشمون السمك عن بعد زي القطط، أمس أيضا قلتما فيه سمك وفعلا طلع سمك، كيف عرفت أنه فيه سمك؟» ضحكت وبلهجة متواضعة قالت: «على الترابيزة سكينة سمك، فهذا معناه أنه هناك سمك.» قلت مباشرة: «سكينة سمك؟هو فيه حاجة اسمها سكينة سمك؟!» شعور جميل بالسعادة والمتعة للقدرة على النقاش والحوار معها في أي شيء.
5
أجرت معي الصفحة الثقافية بجريدة «الأهرام» التي يشرف عليها الأستاذ «سامي خشبة»، في سلسلة حواراتها الأسبوعية تحت عنوان «مفكر مصري جديد»، وأجراه معي الصحفي النابه «محمد حربي»، نشر على أسبوعين يوم واحد وثلاثين من مايو والسادس من يونيو سنة إحدى وتسعين. أنا لست صاحب مشروع فكري بالمعنى المتعارف عليه، أنا باحث أحاول تقديم قراءة علمية للتراث بدراسته في سياقه التاريخي والاجتماعي. وشرحت أن فكرة الوسطية التوفيقية للإسلام هي فكرة نتاج ظروف تاريخية وليست صفة جوهرية للعقل الإسلامي، كما يقول الخطاب الديني المعاصر. ونقدت فكرة الحرية عند المعتزلة كفكرة تاريخية مرتبطة بعصرها؛ فمفهومهم للحرية كان في مواجهة القدر وليس في مواجهة الواقع الاجتماعي، مطورا فكرتي عنهم في رسالة الماجستير؛ فالمعتزلة كانوا يمثلون لي إطارا مرجعيا خلال كتابة مفهوم النص. اتصلت بي د. ابتهال تعلق على حواري في «الأهرام»، وقالت: «أنا فاهمة يا دكتور نصر إن محمد حربي يقول: حوار مع مفكر مصري جديد. مفكر عظيم يا سيدي، لكن يقول مفكر شاب، دي مبالغة لا تقبل.» قالتها بطريقة جعلتنا ننخرط في الضحك.
ذهبت مع «هدى وصفي وجابر عصفور» لزيارة الأب متى المسكين في خلوته، بدير الأنبا مقار على الساحل الشمالي، في حرارة الصيف. كنت مشغوفا للقائه ومعرفة آرائه خصوصا منهجه في التأويل والمدخل الطويل لشرح وتفسير إنجيل «يوحنا» الذي كتبه. تشعب الحوار معه إلى تجربته الروحية من الصيدلة إلى الرهبنة سنة ثمان وأربعين، مرورا بآليات الشرح والتفسير وتأويل الرموز الدينية في الكتب المقدسة، ومشاكله مع «البابا شنودة» في نهاية عصر «السادات»، والحصار الذي مورس ضده، وتجربته في زراعة الصحراء واستصلاح أكثر من ألفي فدان في دير أنبا مقار بوادي النطرون والساحل الشمالي. والرجل محاور من الطراز الأول يجيد الاستماع والإنصات والتعبير عن نفسه بهدوء وثقة وتواضع العلماء وثقة الواصلين وهدوء أهل اليقين. نشرنا جزءا من هذا الحوار في العدد الثاني عشر من مجلة «ألف» عام اثنين وتسعين، بما يتوافق مع موضوع ملف المجلة. وقمت بجمع أبحاثي التي نشرت متفرقة خلال فترة الثمانينيات لتخرج في كتاب تنشره الثقافة الجماهيرية في طبعة شعبية بجنيه واحد، عن سلسلة كتابات نقدية، عدد أغسطس واحد وتسعين، تحت عنوان «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».
ساءت الأوضاع في الجامعة، يا لبؤس الحياة الأكاديمية والصراعات، لدرجة صعوبة تسجيل رسالة «علي مبروك» للدكتوراه تحت إشراف «حسن حنفي» في قسم الفلسفة لعدة دورات، وقال «جابر عصفور»: «لو قسم الفلسفة لا يريد تسجيلها، فلنسجلها نحن في قسم عربي.» التغيرات التي أدخلتها الدولة على الجامعة بوضع نظام الفصلين الدراسيين «الترم» بقرار إداري، دون أن ترتب المؤسسة الجامعية لذلك، فأصبح الأستاذ يقوم بوضع امتحانين وتصحيحهما؛ مما أخذ من وقته وجهده، بل وأدخلت نظام الانتساب الموجه بمصروفات ، فتضاعفت أعداد الطلبة. قبل قسم اللغة العربية ستمائة طالب لقسم يسع مائة، وزادت لتصل لألف، فأصبحت ألقي محاضرة لطلبة الانتظام، وأعيدها لطلبة الانتساب. ولأنني لا ألقي محاضرة مكتوبة فالتفاعل مع الطلبة يضيف إلى المحاضرة، فأصبح الطلبة يحضرون كل محاضرة؛ مما ضاعف الأعداد التي لم تجد مكانا لها لتجلس. في ظل هذا ألغيت مادة البحث، لكني كنت أصر عليها، وكنت سعيدا أن يشترك سبعة عشر طالبا بأبحاث من ضمن ألف. هذا الوضع استنزف الأساتذة؛ مما أدى إلى نوع من الغضب، فهدد الأساتذة بالإضراب، فحذفت الدولة كل الزيادات من رواتب الأساتذة، وقررت إدارة الجامعة تجديد المكتبة، ولم تبدأ أعمال البناء إلا أثناء العام الدراسي وكأننا في ورشة. زد على ذلك الكتاب المقرر، وتحديد حجم الكتاب وعدد الساعات. والطامة في دعم الكتاب الجامعي، طالبت وطالب غيري أن يكون الدعم بوجود نسخ من الكتاب في مكتبة الجامعة، بدلا من دعم كل طالب ببعض الجنيهات.
لقد تحول حلم الجامعة الذي سعيت إليه في الستينيات إلى كابوس. وعلى الرغم من ذلك كنت متحمسا للعمل والكتابة والمشاركة. انفعلت على ابن أختي الذي عاد من السعودية، وفي أول يوم له داخل المدرسة في مصر رفض الجلوس بجوار طالب لأنه مسيحي. وكل ما تعلمه هناك أن المسيحي كافر. قلت له: «لماذا عدت إذن؟ لماذا لا تعود للعيش هناك؟» لقد تم تجريف المجتمع من العقل، ومن تدينه الذي نشأنا عليه، وعلى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. دخل المجتمع في حالة غيبوبة، ولا سبيل للخلاص إلا بالحرية على كل الأصعدة، من حرية العقل والتفكير مرورا بالحريات الشخصية والسياسية.
كتبت مقالا نشر بمجلة «العربي» الكويتية في أكتوبر واحد وتسعين، كعرض نقدي لكتاب د. «زكي نجيب محمود» (1905-1993م) بعنوان «حصاد السنين وأمثلة التنوير المكبوتة»، السؤال الذي يشغلني: ما الذي جعل حصاد التنوير فقيرا إلى هذا الحد الذي وصل إليه واقعنا؟ أبحث عن الأسئلة المضمرة والمكبوتة؛ الأسئلة المقهورة إلى حد التحريم. أنقد الخطاب بهدف تجاوزه لتأسيس خطاب تنويري لا يتجاهل هذه الأسئلة، نازعا قناع التحريم، مسلطا عليها ضوء العقل. خطاب التنوير أسير اللحظة التاريخية التي ولد في رحمها في القرن التاسع عشر، محاصر بين تناقضاته مع بعض أطروحات نموذجه الغربي وهجومه وبين نقيضه السلفي الذي يرى في كل ما يأتي من أوروبا قضاء على الذات وانتهاكا للأصالة، لا يستثني إلا الناتج التكنولوجي الميسر لشئون الحياة اليومية. «زكي نجيب محمود» يدرك أن أزمة العقل هي المسئولة عن عثرات التنوير في بلادنا؛ فخطاب التنوير شديد الجرأة في نقد الواقع وفي نقد تاريخنا الثقافي والفكري والأدبي، لكنه يقترب على استحياء من تراث فكرنا الديني. وعجز خطاب التنوير أن يحدث وعيا علميا حقيقيا بالتراث خصوصا التراث الديني، فلجأ إلى موقف تبريري؛ لأنه وقع بين سندان الخطاب السلفي النقيض ومطرقة الخطاب الاستشراقي، فأصبح الدفاع عن التراث الديني لا نقده أو تحقيق وعي علمي بدلالته إحدى مهامه بوضعه في دائرة الوجدان.
سعى خطاب التنوير إلى التلفيق بين الأصالة والمعاصرة؛ مما جعله يبحث دائما عن حلول وسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي. خطاب «زكي نجيب محمود» مهتم بقضية المنهج الفكري ووضوح اللغة والمصطلحات، ونظرته ديناميكية للماضي والتراث، ففرق بين المعقول واللامعقول وانحاز للمعقول؛ مما مهد الأرض للوصول إلى تاريخية التراث الديني؛ التاريخية التي تنزع عنه القداسة. ونادى بوضوح الأفكار الذي جعلنا ننتقل من تحليل الفكر إلى تحليل الخطاب؛ فالإنسان وحدة واحدة.
علماء الدين الحكوميون، في نقدهم لشباب الجماعات الدينية، يتحججون بألا يتحدث في الدين من لم يتخصص فيه، كما لا يتحدث في الطب غير طبيب. وعلى الجانب الآخر يتطوعون بإصدار الأحكام في كل شيء، فكتبت مقالا نشر في مجلة «أدب ونقد»، عدد نوفمبر واحد وتسعين، بعنوان «إعطاء العيش لخبازه أو العودة لمحاكم التفتيش»؛ فاختصاص رجل الدين في شئون العقيدة لا يسمح له أن يزج بنفسه فيما لا يحسن، ويقف عند حدود الرأي ولا يتجاوز ذلك إلى إصدار حكم؛ لأن الناس تتوهم أن ما يصدر عنه من أحكام هي أحكام دينية لا تقبل النقاش ولا المراجعة.
علمت بخبر وفاة والد د . ابتهال، فذهبت أنا وأحلام للعزاء، وكانت قد زارتنا في البيت أكثر من مرة، وتوثقت صداقتنا، وكنت معجبا بالحوار والنقاش والمناقرة المستمرة منها.
6
في مجال اهتمامي بالخطاب العربي المعاصر عرضت عرضا نقديا كتاب دكتور مهندس «محمد شحرور» «القرآن والكتاب»، الصادر من دار الأهالي للطباعة في طبعته الثانية سنة تسعين، فكتبت مقالا لمجلة «الهلال» بعنوان «لماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟» في عدد أكتوبر واحد تسعين. وأنا لا أنكر مشروعية القراءة المعاصرة للتراث، لكن لا بد من شروط لمثل هذه القراءة لكي تكون قراءة تأويلية منتجة، وليست تلوينية مغرضة؛ فالقراءة المغرضة تسعى إلى التلفيق بين طرفين؛ أحدهما ثابت راسخ بديهي فكريا، والثاني طرف متحرك قابل للتشكيل وإعادة القراءة والتأويل لينطق بكل ما تريده هذه القراءة. وهي عكس القراءة التوفيقية التي تقوم على حركة بندولية متبادلة، يتبادل فيها الطرفان التفاعل لكي يصلا إلى حالة من التصالح أو التوافق.
فلماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟ وهل الإسلام هو إطارنا المرجعي الوحيد في كل الشئون التي تطرحها علينا حركة الحياة؟ فأين مجال الخبرة الإنسانية؟ وأين فاعلية العقل الإنساني المستقل؟ لقد أصبح هم القراءة العصرية أن تكتشف في النصوص الدينية ما هو معروف سلفا؛ فكتاب «محمد شحرور» يسعى إلى حل إشكالية شمول المعاني الدينية لكل المعارف الإنسانية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لكن الإسلام ذاته واقعة تاريخية في زمن ومكان معروفين، وسياق اجتماعي وسياسي معروف، ونصوص القرآن نزلت متواترة على بضعة وعشرين عاما؛ فعبر الفهم العميق لتاريخية الكتاب، وكشف ما هو جزئي ولحظي في تعاليمه، وتميزها عما هو مستمر ومتواصل، وليس عبر أن نكون عالة على عقول الآخرين. هم يكتشفون ويخترعون، ونحن نبحث عن هذه الاكتشافات في نصوصنا الدينية لنتعالى عليهم بوجودها عندنا من مئات السنين. رد د. «محمد شحرور» على المقال في عدد شهر يناير اثنين وتسعين، يشكك في مفهوم التاريخية، وحسنا فعل، فرددت عليه في عدد مارس فصلت فيه مفهوم التاريخي والتاريخية، ومفهومي المعنى والمغزى ودورهما في دراسة التراث والنصوص الدينية، نشر في مجلة «ألف» بعددها الثاني عشر سنة اثنتين وتسعين، مع جزء من حوارنا مع الأب «متى المسكين»، ودراسة لي بعنوان «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» صدرتها بمقولة «ابن عربي» التي أراد أن يحل بها إشكاليات الفكر الديني، وليس الإسلامي فقط: «الأمر محصور بين رب وعبد؛ فللرب طريق، وللعبد طريق؛ فالعبد طريق الرب؛ فإليه غايته، والرب طريق العبد؛ فإليه غايته.» أردت أن أتعمق أكثر مما فعلت من قبل في دراسة أساس مبحث المجاز في الصراعات السياسية والاجتماعية والفكرية، خلال دراستي للماجستير، ودراستي عن الأساس الكلامي - نسبة إلى علم الكلام - لمبحث المجاز. هنا درجة أعمق لإشكالية المجاز والنزاع حول الحقيقة، ومن أين تبدأ في الماضي وفي حاضرنا؛ فمن يبدءون من عالم المحسوس المدرك باعتباره عالم الحقيقة الموضوعي، والذي نقيس عليه ما هو غائب وغير مدرك بالحواس، فنقيس الغائب على الشاهد، ويكون العبد طريق الرب وإليه غايته، حسب تعبير «ابن عربي»، وعلى هذا الطريق سار المعتزلة والفلاسفة العقلانيون، فجعلوا الهدف من رسالة الله هو الإنسان والعالم، والله سبحانه وتعالى تنزل برسل وأنبياء، والإنسان هو الغاية؛ فيتم الوحي وفق آليات الإنسان ، بلغته ومن خلال ثقافته بما يتضمنانه من مجاز، وتغير في الدلالة من المحسوس إلى المجرد، من المدرك إلى المعقول، من الشاهد إلى الغائب؛ فعالمنا هو الحقيقة، وفي عالم الغيب يكون المجاز.
الطريق الآخر هو طريق من بدءوا من الله، أصل الوجود، فيكون الرب طريق العبد، فإليه غايته؛ فالوجود حركة دائرية تبدأ من أصل واحد هو الله، تخلق عنه الوجود بالتجلي أو بالفيض، أو بالخلق من مادة قديمة عند آخرين، أو بالخلق من عدم؛ فخلق الله العالم والإنسان. والهدف هو عودة الإنسان إلى الله، وما اللغة إلا وسيط. ويكون عالمنا هو المجاز، والحقيقة هناك. ولكلا التصورين سند من نصوص الكتاب والسنة. ولم تهدأ المحاولات والمشروعات الفكرية التي تسعى لجمع التصورين في منظومة فكرية واحدة، من «أبي الحسن الأشعري» (ت: 330ه/942م) إلى «أبي حامد الغزالي» (ت: 505ه/1111م) إلى «ابن عربي» (ت: 638ه/1240م)، لكن السؤال هو: لماذا أخذ كل طرف بجانب من الظاهرة الدينية؟
الحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية هي المفسرة للخلافات الفكرية، وبالأخص الدينية؛ بين من يصرون على الحياة في العالم، وبين من يرون هذا العالم مجرد معبر أو مجاز للعالم الآخر؛ عالم الحقائق الأزلية الثابتة. حاولت دراسة هذه الإشكالية من أجل الكشف عن امتدادات هذه الرؤى التراثية في الخطاب الديني المعاصر، فوجدت أن ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين والعقيدة هو المسئول دون شك عن حالة الارتباط والتشوش في فهم الظاهرة جزئيا، لكن المسئولية الشاملة تقع على عاتق ربط مركبة الحياة بمستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والاجتهاد فيها، بعجلة الدين والعقيدة. وهو ربط ليس أصلا في العقيدة، بل حدث في ظل صراع اجتماعي وفكري في تاريخنا.
7
لم يغادرنا عام واحد وتسعين دون صدور حكم محكمة أمن الدولة طوارئ، بالسجن ثماني سنوات على الكاتب «علاء حامد»، بعد قرار مجمع البحوث الإسلامية ضد روايته، ومصادرة مباحث المصنفات الفنية لها، وحبسه بسجن طرة بعد فصله من وظيفته، ليأتي عام اثنين وتسعين بمطالبة الكاتب «فرج فودة» رئيس الجمهورية في لقائه مع الكتاب في افتتاح معرض الكتاب، بوضع قانون للإرهاب. وشهد المعرض محاولة مصادرة كتب المستشار «محمد سعيد العشماوي» من قبل لجنة أزهرية. شاركت في ندوة «الثقافة العربية والموقف من التراث» التي حاضر فيها «جابر عصفور وحسن حنفي وجمال الغيطاني» يوم سبعة يناير، لتعقد في اليوم التالي مناظرة احتشد لها الآلاف، بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، شارك فيها د. «محمد أحمد خلف الله، ود. فرج فودة» ممثلا للتيار المدني، والشيخ «محمد الغزالي» ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين «الهضيبي، ومحمد عمارة»، وأدارها صديقي د. «سمير سرحان» رئيس الهيئة العامة للكتاب. أصبح الجو الثقافي مشحونا جدا بين الجبهتين. ونشر نص المناظرة مع استبدال العنوان إلى: «مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية».
أصبحت ممزقا بين مشاعري الدفينة تجاه «ابتهال»، فأكتشف كل يوم ما يقربني إليها، نلتقي يوميا في الجامعة منذ بدء الدراسة. حرصت على أن أخفي مشاعري نحوها؛ فأنا أعتز بصداقتها، ولا أريد لشيء أن يعكر صفوها وسموها العميق. عاتب على نفسي، مجرد التفكير في التصريح لها، فارق السن؛ فهي في سن أختي الصغيرة آيات، لا أقول ابنتي. شابة عذراء وأنا متزوج ولا أنجب. سألتني عن سبب حزني، فتعللت بذكريات من مرحلة الطفولة. مبهور أنا بعزمها وقوة شخصيتها. تأخذني إلى عالم جديد وأماكن مبهرة. في يوم خريفي جميل أمام بوابة الكلية، كنا في انتظار بعض الأصدقاء، متأخرين، في طريقنا إلى مناسبة ثقافية، نتجاذب أطراف الحديث، فقلت لها بصوت طفولي مازح: غريب أوي يا «ابتهال»، مع كل صداقاتك وعلاقاتك ولسه مافيش ارتباط ولا حتى خطوبة؟ قالت بمزاح: ليه عندك عريس؟ - ربما. - هو انت بقيت خاطبة؟! - إيه رأيك في واحد زيي؟ - زيك؟ ولا أنت؟
قلت بتردد: أنا. فوجئت بصوتها بدون تردد: موافقة. وصمت بيننا الحوار، ولم نعرف أين يذهب بعد ذلك. عدة أيام وتشجعت أن أفتح معها الكلام مرة أخرى: «ابتهال، لما كلمتك عن الزواج لم أكن أمزح.» قالت بنبرة واثقة: «مين قال إنك بتمزح، وتعجبت ليه أخذت منك الوقت الطويل دا كله علشان تقولها؟» - يمكن لأني مستكترك على نفسي، ولا أستاهلك.
لم أصدق أذني، إنها تبادلني نفس المشاعر. شعرت أن صخرة كبيرة بدأت تنزاح عن صدري، كلماتها كانت نجاتي وعوني في أن أتخذ القرار الذي خشيته منذ زمن، فجلست مع «أحلام» لأخبرها أنه من الأفضل لها ولي أن ننفصل، أو بمعنى صحيح أن يصبح انفصالنا رسميا. تركت لها الشقة التي فرشناها، واقتسمت معها مدخراتي النصف بالنصف دون أن تطلب.
بدأت أعرف أكثر عن «ابتهال» وعن أسرتها، وأكتشف أصولها التركية، ومكانة والدها عليه رحمة الله، كان سفيرا ومستشارا للغة الفرنسية، أحد تلامذة «طه حسين»، ودفعة «نجيب محفوظ». عاشت طفولتها بين فرنسا والنمسا. أخبرتني «ابتهال» بما حدث بينها وبين والدتها حين علمت بموضوعنا، ورفضت فكرة ارتباطنا تماما. طلبت أن أتواصل بوالدتها، والتي كانت مهذبة جدا، لكن حادة كسكين. سألتها عن سبب اعتراضها، قالت: «مقدرش أقولك، لازم تفهم لوحدك.» حاولت الاتصال بأخيها الذي يصغرها، فكان يتكلم معي وكأنه يتحدث عن طفلة وليس عن الدكتورة «ابتهال»، البالغة التي يمكن أن تتخذ قرارها بنفسها في أمور حياتها.
ذهبنا إلى محل المجوهرات واشترينا دبل الخطوبة، ولبستها في المحل، وعادت إلى البيت ورفعت إصبعها بالدبلة إلى والدتها، وقالت إنها خطبت، وإننا سنتزوج بعد انقضاء رمضان. حينما شعرت الأسرة أننا مصممان على الزواج لم يجدوا مفرا، فاقترحت الأسرة أن نقيم فرحا، فقالت «ابتهال»: «اعملوا فرح كبير وادعوا معازيم، لكن مش هنحضر.» فلم يكن معنا نقود. اشتريت لها خاتما، وعقدنا الزواج في الرابع من أبريل. ذهبنا لنتصور صورة الزواج، ومعنا والدتها طوال الطريق لم توجه كلمة لي ذهابا أو إيابا. جلسنا في بيت أسرتها قليلا، ثم توجهنا إلى شقة صغيرة حصلنا عليها من المساكن في ضاحية ستة أكتوبر النائية بالدور الأرضي. حينما اجتمعنا في شقتنا وأغلقنا بابنا، شعرت برغبة جارفة للبكاء، بكاء حبسته داخلي سنوات منذ وفاة والدي، حمل كبير حملته على أكتافي مع والدتي، عليها رحمة الله؛ فالآن تبدأ حياتي، الآن أعيش.
8
قبل الزواج انتهيت من مقال نشرته مجلة «أدب ونقد » في شهر مارس سنة اثنتين وتسعين، بعنوان «التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية، سلطة النص في مواجهة العقل»، كنت قد ألقيته في مؤتمر «التراث وآفاق التقدم في المجتمع العربي» بمدينة عدن باليمن في الثالث من فبراير الماضي. شغلني السؤال: لماذا حين يذكر التراث يتبادر إلى الذهن الدين أو الفكر الديني؟ ولماذا يلح علينا هاجس التراث هذا الإلحاح المؤرق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلقها بحبال الماضي كلما مررنا بأزمة؟ لقد قامت ثقافتنا المعاصرة باختزال التراث في الإسلام الذي أصبح هو الهوية التي إذا تخلينا عنها ضعنا. وتم اختزال الإسلام في الفهم الأشعري المسيطر لقرون، والفهم المعتزلي مهمش. وتم اختزال الآخر الغربي في الغرب المعتدي الغازي المحتل، أو الغرب المتقدم المتحضر المعلم؛ فهذه النظرة للتراث وللغرب لا خروج لنا من أسرها إلا بإدراك تاريخية التراث بعمقه إلى ما قبل الإسلام، وتعددية رؤاه وتوجهاته؛ أي بإنتاج وعي علمي بالتراث في سياقه التاريخي، وكذلك بإدراك تركيبة الآخر، وأن الغرب الغازي لا يمثل الإنجاز الحضاري، ولا نحصر الإنجاز الحضاري له في العلم والتكنولوجيا فقط، بل كلاهما ثمرة لشجرة أعمق وأوسع.
كلمة تراث لم ترد في النص القرآني بالمعنى الذي نستخدمه الآن، لكن الكلمة التي وردت تعبر عن معنى التراث كما نستخدمها هي كلمة السنة، وجاءت تعني طريقة حياة الناس أو الشريعة التي ارتضوها في الماضي؛ لذلك فسنة الرسول الكريم هي أقواله الشارحة والمبينة لما ورد مجملا في تعاليم القرآن، وما سواها من أقوال وأفعال يجب أن يدرج في سياق الوجود الاجتماعي؛ أي تفرقة قدمائنا بين سنة الوحي وسنة العادات. والسؤال هو: هل كل ما ورد في كتب السنن والأحاديث مع افتراض صحته جميعا ونسبته للنبي، هل يدخل في جانب الدين المقدس؟ «الإمام الشافعي» هو من بدأ وضع الأسس الفكرية والفقهية لإدماج السنة في الدين، وإعطائها استقلالية التشريع، ومن بعده «الأشعري» الذي ناهض فكر المعتزلة وأسس لسلطة النقل في مواجهة تيارات أخرى تحاول تأسيس سلطة العقل دون إهدار مجال فاعلية النصوص. وأتى «الإمام أبو حامد الغزالي» ليكمل نفس الخطوة في مجال الفكر والفلسفة. تكون موقفان من سنة السابقين أو التراث، يلوذ أحدهما محتميا من تقلبات الزمن والتاريخ وتغيراتهما بالتراث، وآخر يهتم بحاضره وواقعه دون أن يغفل فعالية التراث أو يتجاهلها. لكن الصراع حسم قديما لصالح النقل وضد العقل؛ لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وليست فكرية. هكذا تحددت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سلطة النصوص عبر النقل، وأصبحت مهمة العقل محصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة. هذه الآلية هي المسئولة عن جعل التراث الديني الإطار المرجعي الوحيد للعقل العربي، بالإضافة لمفهوم شمولية الدين.
الجانب الآخر: إشكالية علاقة العقل العربي بالآخر الغربي. فالاستشراق كذراع فكرية للاستعمار رسم صورة لنا بأننا مسلمون دينا ووطنا، وأن سر تخلفنا وانحطاطنا هو الإسلام؛ فشرع المفكرون المسلمون يدافعون عن الإسلام بأن سبب تخلفنا هو البعد عن الإسلام، وما تقدمت أوروبا إلا بقيم الإسلام ؛ فالعقل العربي تقبل رؤية الاستشراق أن الإسلام هو هويته، لكنه رفض ربط التخلف بالإسلام. وانخرطنا في رد فعل ولم نبحث عن أسئلتنا نحن النابعة من قضايانا، بل دافعنا بأن تم الفصل بين الإسلام والمسلمين، وإعادة تفسير تعاليم الإسلام لينطق بقيم التمدين والحضارة كرد فعل لما طرحه الغرب؛ فمارس خطاب النهضة التجديد على أساس نفعي لتحقيق مهمة تقبل المدنية الأوروبية. والخطاب السلفي يعتمد نفس الأساس النفعي في تأويل الإسلام والتراث لرفض المدنية الأوروبية. في كلتا الحالتين تم إنتاج وعي زائف بكل من التراث والحضارة الأوروبية، وبهذا الوعي الزائف أصبح العربي يحيا في الغالب تاريخا غير تاريخه، سواء كان لحظة ماضية في الزمان الأوروبي أو في زمانه التراثي، ولم يبق له في لحظته الراهنة سوى التبعية للغرب على مستوى الحياة المادية، باستيراد التكنولوجيا والاتباع لإحدى لحظات الماضي على مستوى الوعي، دون أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للتقدم والتطور والنهوض بردها إلى عملية تحرير الإنسان وتحرير عقله.
شاركت في ندوة بمدينة إشبيلية الإسبانية بعنوان «الأندلس ملتقى ثلاثة عوالم»؛ وذلك لبحث عن دور الأندلس في تشكيل الصبغة الفكرية لفلسفة «محيي الدين ابن عربي» الصوفية. وفي أثناء إعدادي للدراسة تنبهت إلى سيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمط سردي على بنية كتاب «الفتوحات المكية». ولا أقصد مجرد الحضور الطاغي للاستشهادات القرآنية المباشرة وغير المباشرة، بل أعني تعمد «ابن عربي» الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر تقليدا للبنية القرآنية التي يتحرر فيها السرد من وحدة الموضوع تحررا تاما. وشاركت بها في مؤتمر «الحضارة الأندلسية» بكلية آداب القاهرة في الحادي عشر من شهر يناير اثنين وتسعين، أعيد فيها النظر إلى خطاب «ابن عربي». وطلبت مني مجلة «الهلال» المشاركة في ملف لها عن التصوف، في عدد شهر مايو اثنين وتسعين، فكتبت «محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي».
في دراساتي السابقة عن «ابن عربي» حللت خطابه بالوقوف عند ما يقوله، لكن لا بد من قراءة تحفر درجة أعمق، تتلمس الدلالات الضمنية الكامنة والمستقرة وراء مستوى المعاني الظاهرة؛ بأن ندرس مستوى المسكوت عنه؛ فقد وقعنا كباحثين بدرجات متفاوتة في شراك القراءة الاستنباطية التأويلية الذاتية، التي تسيطر فيها فلسفة «ابن عربي» على تأويله. وكانت لإشارات الأستاذ «ميشيل شودكيفيكس» المستعرب الفرنسي في نهاية عرضه النقدي لرسالتي للدكتوراه، حافز على الاهتمام ببنية خطاب «ابن عربي»؛ فبينة أي خطاب تتحدد من مستويات أهمها مدى توافق البنية أو مخالفتها لما هو سائد. لا يتوقف تأثر نص «ابن عربي» أو تناصه بالنص القرآني عند حدود البنية الخارجية فقط، بل يندمجان ويتراكبان في مستويات متعددة من السياق، حتى ليصعب على القارئ في كثير من الأحيان فصل صوت «ابن عربي» عن الصوت القرآني في النص. ويبدو أن «ابن عربي» لا يحاول فحسب محاكاة جماليات النص القرآني، بل إبداع نص جديد يدخل القرآن في نسيج بنيته جزءا مؤسسا، هذا الطموح الإبداعي هو الذي أثار وما يزال غيظ الفقهاء ورجال الدين. «ابن عربي» يستحق قراءة شاملة تفصيلية تكشف أبعاد كل ذلك، وأتمنى أن أقوم بها يوما ما.
تقدمت إلى لجنة الترقيات بالجامعة للترقية إلى درجة «أستاذ»، يوم تسعة مايو سنة اثنتين وتسعين، بكتاب «نقد الخطاب الديني»، في طبعة دار الثقافة الجديدة، وكتاب «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، وبحث «إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني» كنص مكتوب على الآلة الكاتبة على وشك النشر، ودراسة باللغة الإنجليزية: «الإنسان الكامل في القرآن»، ومعه ملخص بالعربية نشر في مجلة جامعة «أوساكا» في اليابان، وبحث «التأويل في كتاب سيبويه» المنشور في مجلة «ألف»، ومقال «سلطة النص في مواجهة العقل»، ومقالان بمجلة «إبداع»: «مفهوم النص، الدلالة اللغوية»، والثاني «التأويل»، وبحث «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» المنشور في مجلة «ألف»، ومقالي عن «ابن عربي» في مجلة «الهلال»، ومقال «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد» ألقيته في ندوة «إشكاليات التكوين الاجتماعي»، ومقال مجلة «القاهرة» «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، والمقدمة التي كتبتها لترجمتي لكتاب البوشيدو. انتهى الطالب أحمد النقيب تحت إشرافي من رسالته للماجستير التي كنت راضيا عنها، وبدأت تذوب تحيزاته مع تطبيقه منهجا نقديا في دراسته ، وشكلت لجنة لمناقشة رسالته من أستاذ في اللغويات وآخر في العقيدة. وفي قاعة كبيرة بالجامعة لكي تكفي الأعداد الكبيرة التي أتت لحضور المناقشة، امتلأت بالسلفيين بلحاهم الطويلة، وسيدات منتقبات، فعلق أحد الأساتذة على المشهد قائلا لي: «أنت أحضرتنا هنا لنغتال ولا إيه؟!» وكانت زوجتي «ابتهال» الوحيدة من النساء الحاضرات بغير غطاء رأس، وتجلس خلفها زوجة أحمد تحمل طفلهما الرضيع. لاحظت «ابتهال» أثناء المناقشة احتياجها لترضع وليدها، فأخذتها إلى أحد المكاتب.
9
اشتد الاحتقان في المجتمع المصري، وتفاقم بوصول عمليات العنف الإرهابي لشوارع القاهرة، فسلكت السلطة طريقين؛ طريق التفاوض مع الجماعات الدينية المسلحة بين مجلس شورى جماعة الجهاد، داخل السجن بقيادة عبود الزمر، وكبار ضباط مباحث أمن الدولة، لكن السلطة اتجهت أيضا إلى تجنيد المثقفين في معركتها ضد الإرهاب والتطرف بدعوة من «أسامة الباز»، مستشار الرئيس، لمجموعة من المثقفين والكتاب والمفكرين الذين اشتهروا بروح المعارضة والنقد. وفي هذا السياق حدثت عملية إحلال رؤساء تحرير جدد لمجلات وزارة الثقافة، بهدف استيعاب رموز المعارضة الثقافية في العهدين السابقين لمثقفين تعرضوا للاضطهاد بدرجات في العهد السابق، وكانوا شديدي النقد للمثقفين الذين تعاونوا مع نظام «السادات» بدعوى التغيير من الداخل؛ فها هم أنفسهم تتغير وجهة نظرهم حين بدت لهم مخاطر الإرهاب بمدينة القاهرة. حركة سريعة للمثقف من أجل إطفاء الحريق الذي يكاد يلتهم السلطة؛ فليس لدى المثقف وقت لإنجاز صيغته التنويرية من خلال تحليل واع ونقد خلاق، بل نهلل للتنوير المعلب سابق التجهيز ونرفع أعلامه وشعاراته. وهذا التحرك لا يختلف في بنيته عما يفعله النقيض السلفي، حتى إن «جابر عصفور» بدأ يكتب: «من التنوير إلى الإظلام، ولماذا ينتكس التنوير؟!» في مجلة «إبداع». ما تفعله السلطة مجرد توجه نفعي للخروج من أزمتها. وها هو ود. «مصطفى هدارة» يرسل رسالة لرئيس الجمهورية كبلاغ في رؤساء تحرير المجلات الثقافية، ونشرتها مجلة «إبداع» عدد أبريل اثنين وتسعين.
بينما يخرج الكاتب «فرج فودة» من مكتبه بمدينة نصر السادسة مساء الثامن من يونيو بصحبة ابنه وصديق، وقد فتح عليهم النار عضوان بالجماعة الإسلامية يركبان دراجة بخارية ليقتل «فرج فودة». لقد استهدف الإرهاب المفكرين أيضا. عكفت على دراسة فكر النهضة في القرنين الماضيين في بحث نشر بمجلة «القاهرة» أكتوبر اثنين وتسعين، بعنوان «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق». لقد قامت معادلة النهضة عندنا على محاولة التوفيق بين التراث العربي الإسلامي، والذي تم ضمه وتوحيده بجوهر الإسلام، وبين التراث الأوروبي الغربي، والذي تم تركيزه في الاكتشافات العلمية وثمارها التكنولوجية؛ فأصبح الإسلام مرجعا لتقبل الوافد الغربي، ولعب التراث الغربي دور المعيار لسلامة فهم الإسلام ومشروعية تأويله؛ ف «رفاعة الطهطاوي» (1214ه/1801م-1289ه/1873م) كان مشغولا بالتصالح مع أوروبا التي كانت في وقته بمثابة الخصم المتفوق علينا، وليست بعد العدو المستعمر، لكن التعارض بدأ يتبلور مع انكشاف الوجه الاستعماري للاحتلال الأوروبي.
ومع التعارض كانت الحاجة إلى التوفيق بين الطرفين، والذي تم بالتفتيش داخل التراث عن مبررات لقبول ما هو صالح من منتجات الغرب العقلية والفكرية والاجتماعية والسياسية. وهذا ما قام به «جمال الدين الأفغاني» (1252ه/1838م-1313ه/1897م) و«محمد عبده» (1264ه/1849م-1321ه/1905م) بالبحث عن النافع من تراثنا الذي يمكن أن يلتقي مع النافع في نتاج الحضارة الأوروبية، وإن كان مفهوم النافع اتسع قليلا من منافع مادية إلى منافع فكرية وعقلية، لكن ظل مبدأ المنفعة هو المسيطر، مع ازدواجية النظر إلى الغرب كقوة احتلال، وأوروبا القرن الثامن عشر، وعصر الأنوار؛ فوقع العقل العربي بين من ينشدون الاندراج في سياق الثقافة الأوروبية ناظرين إلى أوروبا عصر الأنوار، وبين من ينشدون الانسلاخ عن الشيطان الأوروبي الغربي، محتمين بالهوية الإسلامية ناظرين إلى أوروبا الاستعمارية المتأهبة بجيوشها وأساطيلها لابتلاع العالم الإسلامي عامة، والعربي بصفة خاصة.
ازدادت الازدواجية تعقيدا؛ لأن التراث الإسلامي العقلاني المؤهل للتواصل مع أوروبا عصر الأنوار هو التراث الاعتزالي، وتراث «ابن رشد» على المستوى اللاهوتي والفلسفي، و«الرازي» و«ابن الهيثم»؛ فهو تراث مهمش في ثقافتنا. من هنا نفهم التردد عند «محمد عبده» بين أخذه بمفهوم الأشاعرة عن التوحيد، وجاوره بمفهوم العدل عند المعتزلة، والذي يتيح تفسير السببية التي يقوم عليها العلم التجريبي الحديث، وتردده في مسألة قدم القرآن وخلقه؛ المفهوم الذي حذف في الطبعة الثانية من كتابه «رسالة التوحيد» نتيجة للتردد بين مفاهيم الأشاعرة والمعتزلة. ونلاحظ التردد في منهجية «طه حسين» (1305ه/1889م-1329ه/1973م)؛ فالقراءة المتعمقة لكتابه «في الشعر الجاهلي» تكشف تجاورا بين منهجين لم يتم التركيب بينهما؛ منهج الشك عند «ديكارت»، ومنهج علماء الحديث في نقد الرواية كما يتمثل في نقد «محمد بن سلام الجمحي» للشعر (139ه/765م-232ه/861م)، لكن التناقض الحقيقي في منهج «طه حسين» تجده في مسألة اعتبار القرآن مرجعا تاريخيا للحياة الجاهلية وإنكار نفس المرجعية بالنسبة لقصص الأنبياء. وحدثت عنده انتقالة لمعادلة النهضة قليلا عن جيل «محمد عبده»، حيث أصبح الغرب عند «طه» أداة منهجية لتحليل التراث وفهمه ونقده.
الدافع النفعي المباشر حول عملية التوفيق بين طرفي معادلة النهضة إلى عملية تلفيق؛ فقد احتفظ كل من الطرفين بتمايزهما، بحيث إذا أمكن إسقاط أحد طرفي المعادلة، احتفظ الطرف الآخر بكل قوته وجبروته، وهذا ما نلمسه الآن من الانحسار بين التبعية الكاملة للغرب اقتصاديا وسياسيا وفكريا بالشروط الاستعمارية، وبين السلفية الرجعية الكاملة؛ فالتبعية تفضي إلى الديكتاتورية والاستغلال ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة، وتفضي السلفية إلى نفس النتيجة لكن باسم الدين والتراث في مجال تحقيق الهوية الخاصة؛ فحين يتبنى السياسي مشروعا فكريا ويطلب من المفكر معاونته في تحقيقه على أرض الواقع، فيبرر المفكر الغايات النفعية المباشرة للسياسي في الحالة الأولى، ويبرر السياسي الوسائل والغايات في الحالة الثانية؛ فإن هذه هي آفة النهضة؛ لأن المشروع الفكري ولد في رحم المشروع السياسي، «فعجز المفكر عن قطع الحبل السري الواصل بين إنتاجه الفكري وممارسة السياسة - سواء كان في صفوف المؤيدين أو المعارضين - جعل عين الممارسة الفكرية على اليومي والآني والمباشر، ولم تتحرك داخل حدود الفكري الجوهري والعلمي إلا قليلا.» ولهذه التلفيقية في تاريخنا القديم أمد بعيد.
وسواء تحدثنا عن معادلة النهضة في بعدها السياسي من «محمد علي» إلى «جمال عبد الناصر»، أو بعدها الفكري من «رفاعة الطهطاوي» إلى «حسن حنفي»، فهي عملية نخبوية تستبعد الجماهير استبعادا تاما من المشاركة. ولا سبيل إلا بالخروج من حكم النخب العسكرية أو القبلية أو الطائفية المستندة إلى حقوق الوراثة المرتكزة على مبدأي القوة والقهر؛ وذلك بالديمقراطية بمعناها الشامل، ديمقراطية العقل، وديمقراطية الحياة، بحق البشر المتساوي في جني ثمار الناتج القومي، وديمقراطية السياسة بحق تداول السلطة والمشاركة فيها عبر المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية. إن وصاية المثقف والسياسي تنتهي كلتاهما إلى نتيجة واحدة؛ الديكتاتورية السياسية المطلقة من جهة، وكهنوتية الفكر من جهة أخرى؛ فالوصاية تفضي إلى تثبيت الوعي الناقص وتأييده.
10
نشرت مجلة «أدب ونقد» في نوفمبر اثنين وتسعين مقالي «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد»، و«أحمد» كاقتصادي قام بقراءة كتاب «الخراج» ل «أبي يوسف» (113ه/738م-182ه/809م) تلميذ «أبي حنيفة»، وقراءة «أحمد» تمثل تيار القراءة الواعية للتراث بوصفه استجابة لظروف تاريخية موضوعية لم تعد قائمة، خلافا للمنهج التقليدي الذي يعتمد التراث إطارا مرجعيا شاملا يتحول معه الخطاب إلى ترديد مقولات وعظية إرشادية؛ فالتوصل إلى أن الإنتاج والموارد في مجتمع العصر العباسي - عصر «أبي يوسف » - كانت وقفا على الطبقة الحاكمة والسلطات الاقتصادية مركزة في يد الخليفة. و«أبو يوسف» بعكس أستاذه «أبي حنيفة» تبنى أيديولوجية السلطة، فاختفى من فكره مفهوم التطور الاقتصادي ودور السوق، لكن دراسة «أحمد صادق سعد» لم تستطع تفسير كثير من الظواهر الاقتصادية في مجتمع «أبي يوسف».
عدت إلى دراسة آليات الخطاب الديني المعاصر من خلال الدراسة التي قدمتها في مؤتمر «النص والسياق» بكلية آداب القاهرة في أكتوبر سنة تسعين، ونشرت الدراسة بمجلة «القاهرة» في يناير ثلاثة وتسعين، والذي يأخذ من تأويل نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف آلية من أهم آلياته على الإطلاق في طرح مفاهيمه وأفكاره؛ فالتأويل المنتج لدلالة النصوص يتطلب اكتشاف المعاني بتحليل مستويات السياق المختلفة. والخطاب الديني يتجاهل بعض هذه المستويات إن لم يتجاهلها جميعا؛ من أجل بحثه عن دلالة محددة مسبقا، فهل قدسية مصدر النصوص الدينية يجعلها لا تخضع لنفس قوانين التكوين والبناء للنصوص غير الدينية، طبعا دون أن يتطابقا؟ ف «عبد القاهر الجرجاني» (ت: 471ه/1107م) وصل في دراسته لقضية إعجاز القرآن إلى أن دراسة الشعر والنصوص الأدبية عامة، واكتشاف قوانين تشكيلها، وكيفية إنتاجها للدلالة، مدخل ضروري لا غنى عنه لدراسة النصوص الدينية. وإن كان «عبد القاهر» قد وقف في اكتشاف القوانين عند حدود الجملة أو قوانين النظم، فأنا أستلهم مغزى إنجازه بالنسبة لهمومنا المعاصرة. في الدراسات اللغوية الحديثة، حيث المرسل والمستقبل يجمعهما نظام لغوي مشترك مستقل وموجود قبلهما، المرسل يستخدم هذا النظام بطريقة فينتج نصا، والمستقبل له إطار تفسيري يقوم من خلاله تقييم الرسالة، فهل يمكن فهم النصوص الدينية - القرآن خاصة - خارج السياق الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع؟
المستوى الثاني: السياق الخارجي؛ سياق التخاطب، العلاقة بين المرسل والمستقبل؛ فإذا كان التركيز في النص على المرسل، فإنه يكون نصا أقرب للترجمة الذاتية، وإن كان التركيز على المستقبل يصبح نصا أقرب للتعليمي، وإذا تم التركيز على شفرة النص يكون أقرب للنص الأدبي.
المستوى الثالث: الداخلي. وقد توقف القدماء في علم المناسبة بين الآيات والسور عند حدود اكتشاف علاقات اجتهادية ذهنية أو لغوية. والقرآن ليس نصا موحدا، بل منظومة من النصوص. الجانب الثاني هو سياق الخطاب أو القول؛ فللقص سياق، الأمر/النهي، سياق الترغيب والترهيب، سياق الوعد والوعيد، سياق الجدل والسجال، أو سياق التهديد والإنذار، وسياق الوصف، سواء وصف مشاهد الطبيعة أو وصف الجنة والنار، وسياق العقائد والتشريعات.
المستوى الرابع: السياق اللغوي. ولا يقف عند حدود الملفوظ وحده أو دلالة الفحوى، بل يتسع ليشمل دائرة الصمت والمسكوت عنه في بنية الخطاب.
المستوى الخامس: سياق القراءة التي هي في جوهرها عملية فك شفرة وليست مجرد سياق إضافي خارجي للنص؛ فالنص لا تتحقق نصيته دون القراءة، من هنا يكتسب القارئ الضمني المتخيل في بنية النص ومشروعيته.
فمثلا، قضية الحاكمية في الخطاب الديني المعاصر في تأويل آيات سورة المائدة 44، 45، 47:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * ... الظالمون ... الفاسقون . فالسياق يفرض النظر إلى الآيات من 41-50؛ فهي تمثل وحدة سردية واحدة دون اجتزاء. الدلالة الثانية من دلالات إهدار السياق هو عملية التوسيع الدلالي لصيغة الفعل «يحكم»، بحيث يدل على المفهوم السياسي الحديث للحكم المرتبط بالدولة الحديثة، في حين أن كلمة «حكم»، بمعنى الفصل بين الخصوم في مشكلة خلافية جزئية، وهناك أيضا تجاهل أسباب النزول، وهو سياق خلاف حدث بين اليهود نتيجة التزييف والفساد والانحراف؛ مما ألجأ البعض منهم إلى الاحتكام إلى النبي، والنص يخير النبي بين أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم ويهملهم كما في الآية 42. إهدار السياق يحول النصوص الدينية بالتركيز على جانب المتكلم إلى مرجعية شاملة للحياة، وتصبح كل مجالات الخبرة الإنسانية فاقدة المشروعية، وتتحول كل صراعاتنا ومعاركنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى معارك دينية نخوضها على أرض تأويل النصوص. وهذا يزيف الوعي. إن ترسيخ مفهوم الشمولية عن طريق قراءة كل تطورات الوعي الإنساني تولد نوعا من القناعة بامتلاك كتابنا المقدس لكل ما وصل إليه الإنسان، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مما يرسخ سلطة الماضي وهيمنته على الحاضر؛ وبذلك يرسخ مفهوم الحاكمية، وهي الصياغة الحديثة لمبدأ شمولية النصوص.
أقامت مؤسسة «الهلال» احتفالية كبيرة بمناسبة مئوية مجلتها بدار الأوبرا في الرابع عشر من سبتمبر اثنين وتسعين. وفي المسرح الصغير كانت جلسة «الإسلام والعصر» التي أدارها د. «أحمد هيكل» وزير الثقافة الأسبق، وكان البحث فيها للمستشار «طارق البشري»، ألقت البحث نيابة عنه الصحفية د. «سلوى أبو سعدة»، وكانت بعنوان «الإسلام والعصر ملامح فكرية وتاريخية»، جاء فيها أن الإسلام هو أحكام الله المنزلة، ونصوصه ليست تاريخية. أما الفقه الإسلامي فهو اجتهادات البشر، وهي قابلة للصواب والخطأ. فعلقت وعبرت عن اختلافي مع كثير من الكتاب الإسلاميين؛ أن النصوص الدينية لا تاريخية، وأكدت على تاريخيتها وعلى إنسانية الوحي، ورفضت الربط بين العلمانية والإلحاد، وقلت إن ورقة المستشار «البشري» تهدر إشكالية النهضة و«تسبب صداما بين العقل الإسلامي والمجتمع»، وإن الإسلام أحد عناصر تراث هذا المجتمع، وليس كل تراثه. فأثنى د. أحمد هيكل على منهجي في التناول. وطبعت طبعة من كتابي «نقد الخطاب الديني» عن دار المنتخب العربي، في بيروت بلبنان، وسعت دار سينا لنشر طبعة أخرى منه.
في الطوفان
1
كانت اللجنة العلمية الدائمة للترقية قد قامت بتوزيع إنتاج نصر أبو زيد، يوم الثامن والعشرين من مايو، وشكلت لجنة من ثلاثة لقراءة الأعمال وتقييمها بعضوية د. «شوقي ضيف»، ود. «محمود علي مكي»، ود. «عوني عبد الرءوف». ومفروض أن تقدم تقريرها خلال شهرين، لكن لم يقدم د. «شوقي ضيف» تقريره، واجتمعت اللجنة للمرة الثانية في الرابع من سبتمبر ولم تقدم التقارير. زار د. «محمود علي مكي» د. «جابر عصفور» في بيته القريب من بيت د. «شوقي ضيف» رئيس اللجنة، وقال له: يا جابر أنا موفد إليك من د. شوقي ضيف. وهو كتب تقريرا سلبيا، ويرفض الترقية. ولأنك رئيس قسم اللغة العربية، أرسلني آخذ رأيك ورد فعلك على التقرير سرا؛ لمعرفته بصداقتنا وأنت عارف مكانته، وهو عايز يحافظ على صورته في القسم. وأنا اختلفت معاه، وحاولت إقناعه بأحقية نصر.
قرأ جابر التقرير.
قال مكي :
إنتاج نصر يستحق الترقية، وإن كانت هناك هفوة هنا أو هناك، فهي لا تقلل من قيمة الإنتاج العلمي على الإطلاق، واللجنة رقت كثيرين أقل قيمة وشأنا بكثير، ود. عوني أوصى بالترقية في تقريره.
عصفور :
يا دكتور مكي أنت أعلم مني أن الترقية العلمية تكون على أساس الجهد والاجتهاد في المنهج، وليس لاتفاقه واختلافه مع آراء لجنة التحكيم ومنهجهم، وإلا لما تقدم البحث العلمي.
مكي :
جابر أنا حاولت كثير معاه وفشلت، رافض هذه المناهج الجديدة. ولم يعجبه ما كتبه نصر عن الشافعي، وأنت عارف أنه كان شافعي المذهب في دراسته الأزهرية.
عصفور :
أنت عارف مدى كتمان أستاذنا «شكري عياد» الشديد، لكنه كان يعرب باستمرار لي عن ضيقه من مواقف الدكتور شوقي المتعصبة والمنغلقة الفكر، حتى إنه قال إنه كان أحد الذين تسببوا في محنة د. «محمد أحمد خلف الله»، زميل د. «شكري عياد»، وضد أستاذهم «أمين الخولي» في الأربعينيات، ورفض قبول رسالته للمناقشة لخروجها عن المأثور من القواعد المألوفة في معالجة النصوص القرآنية؛ لذلك فموقفي من التقرير دا هيكون الرفض في مجلس القسم، وأنا واثق أن هناك من سيقف معي، إحنا ورثنا أحكام وتقاليد الاختلاف منكم .
مكي :
ما في داعي لكل هذا، لولا أنه حريص على معرفة رأيك ما أرسلني إليك، وسأجد حلا معه أو أقنعه بتغيير التقرير.
ضرب مصر زلزال في الثاني عشر من أكتوبر اثنين وتسعين، خمسة وتسعة من عشرة بمقياس ريختر، توفي على أثره مئات الأشخاص والجرحى في القاهرة فانهارت عقارات. وتمت عملية قتل سائح بريطاني في ديروط على يد الجماعة الإسلامية في الحادي والعشرين من أكتوبر، بعدها بأيام في الثاني والعشرين من أكتوبر، تنحى د. «شوقي ضيف» من لجنة التقييم، وطلب إعفاءه لأن الإنتاج غزير ومتشعب، لا تسعفه عليه ظروفه الصحية، ووضع مكانه د. «عبد الصبور شاهين» في لجنة قراءة وتقييم أعمال «نصر أبو زيد». •••
أمام مبنى البنك الأهلي في جامعة القاهرة، التقيت وجها لوجه ب د. «عبد الصبور شاهين»، فحييته، وأظهر أنه لا يعرفني، فقدمت له نفسي، ودخلنا إلى البنك، وفي طريق خروجه نادى علي: «يا دكتور نصر، أنا عايزك لو سمحت في موضوع.» تركت مكاني في الصف وذهبت إليه وهو خارج من البنك في اتجاه سيارته، وبين الحين والآخر يتقدم أحد المريدين مقبلا يده، وهو يستغفر الله مبتسما، فقال: يا دكتور نصر، إذا أردنا أن نرقيك إلى أستاذ، فعلى أي تخصص تكون ترقيتك؟ - هذا يتوقف على هل هو المعيار القديم لتصنيف التخصصات، أم المعيار الحديث الذي لا يضع فواصل عازلة ويفتح المجال للتخصصات البينية. - وضح أكثر لو سمحت. - بالمعيار الكلاسيكي، فتخصصي هو الدراسات الإسلامية. - تقصد الفلسفة الإسلامية؟ - بل كل ما يحيط بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من تراث تفسيري يدخل تحت مفهوم الدراسات الإسلامية بالمعنى المتعارف عليه، في التصنيف الكلاسيكي المأخوذ به في الجامعات العربية. - وما هو التصنيف الحديث؟ - تخصصي يكون علم تحليل الخطاب. - أنا شاكر لك. •••
اجتمعت اللجنة الدائمة اجتماعها الرابع يوم الخميس، الثالث من ديسمبر، بعد سبعة أشهر من تقدم «نصر أبو زيد» لها، مما يخالف القانون. وقد رقت اللجنة كثيرين تقدموا معه وبعده؛ فقدم د. «محمود علي مكي» تقريره عن الأعمال، وختمه: «نرى أن إنتاجه كاف، يؤهله للترقية إلى درجة أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة.» وتقرير د. «عوني عبد الرءوف» عن أعمال «نصر أبو زيد» ختمه ب: «ترقى به للحصول على درجة أستاذ، والله الموفق وبه نستعين.» ثم تقرير د. «عبد الصبور شاهين» الذي ختمه: «الإنتاج المقدم لا يرقى إلى درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. والله ولي التوفيق.» وقبلت اللجنة تقرير د. شاهين بفارق صوت واحد، في الغالب صوت د. «شوقي ضيف». واعترض د. «سيد النساج» بشدة على رفض تقريرين لعالمين جليلين يوصون بالترقية، وقبول رأي تقرير واحد، وانسحب من اللجنة. وكان التقليد أن يوقع كل الحضور على التقرير الذي اختارته الأغلبية، فوقع الجميع بشرط شطب كل العبارات التي تتعرض لعقيدة الباحث أو مهاجمة أفكاره، وأن يعاد كتابة التقرير.
اجتمع مجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة في اجتماع طارئ، بعد أربعة أيام من تصويت اللجنة العلمية الدائمة ، يوم الإثنين السابع من ديسمبر، لمناقشة التقرير على مستوى الأساتذة بعدد مماثل لأعضاء اللجنة الدائمة، فحضر الدكاترة «يوسف عبد القادر خليف»، و«محمود علي مكي»، و«نبيلة هانم إبراهيم»، و«سيد حنفي حسنين»، و«محمود فهمي حجازي»، و«أحمد علي مرسي»، و«جابر عصفور»، و«طه وادي»، و«شوقي رياض»، و«عبد الله التطاوي»، و«أحمد شمس الدين الحجاجي»، و«سليمان العطار». ومنهم أربعة أعضاء في اللجنة العلمية الدائمة للترقيات. ولم يحضر الدكتور «شوقي ضيف» الاجتماع. رفض مجلس أساتذة قسم اللغة العربية بإجماع الحاضرين تقرير اللجنة لمخالفته التقاليد العلمية، وأعدوا تقريرا للرد اشترك في إعداده د. «محمود مكي»، ود. «جابر عصفور» ود. «نصر أبو زيد». وسجل المجلس التقدير للإنجاز العلمي الذي ينطوي عليه الإنتاج المقدم من الدكتور «نصر حامد أبو زيد»، وبإجماع الحاضرين، إنتاجا جديرا بأن يرقى بصاحبه كما وكيفا إلى درجة أستاذ في القسم، وأرسل رئيس القسم قرار مجلس أساتذة القسم وتقريره العلمي إلى مجلس الكلية، يوم الأربعاء التاسع من ديسمبر. اجتمع مجلس كلية آداب القاهرة في التاسع عشر من ديسمبر، وقرر تشكيل لجنة من «أ.د. مصطفى سويف، أ.د. عبد العزيز حمودة، أ.د. حسن حنفي، أ.د. جابر عصفور». وكتبت اللجنة تقريرها حول الموضوع، فنقدت تقرير د. «عبد الصبور شاهين»، ورفعت الأمر لمجلس الكلية في اجتماعه يوم التاسع عشر من فبراير، ووافق مجلس الكلية بالإجماع على التقرير؛ لينتقل الأمر إلى مجلس الجامعة.
2
كتبت تقديما للطبعة العربية لكتاب الكاتب الفرنسي فرانسوا بورجا، الذي صدر بالفرنسية سنة تسع وثمانين، ونشر بالعربي بعنوان «الإسلام السياسي صوت الجنوب»، ونشر تقديمي في مجلة العربي الكويتية كمقال في شهر أكتوبر اثنين وتسعين. عددت مميزات الكتاب من حيادية كمراقب غربي إلى حد كبير، وتركيزه على الظاهرة في المغرب العربي مما يبين خصوصية الظاهرة في بلدان المغرب؛ فلم يكن بحثا في الأيديولوجيا والمفاهيم النظرية، بل الفاعلية السياسية والاجتماعية. واعتماده على شهادات زعماء الحركات؛ مما جعل مادته خصبة لمزيد من البحث. ورده أسباب العنف إلى غياب الديمقراطية الحقيقية في الوطن العربي، وللركود الاقتصادي والاجتماعي. والقارئ للكتاب ينتهي إلى نتيجة مهمة وجوهرية مدرجة في ثناياه؛ أن الإسلام في النصوص المقدسة ليس وحده المولد لظاهرة الإسلام السياسي، كما يحلو لزعماء الاتجاهات الإسلامية أن يقولوا، بل الظاهرة متولدة عن واقع مركب. لكن الكتاب مكتوب للقارئ الفرنسي، ويدخل في حالة سجال للمؤلف مع الصورة السائدة في الإعلام الفرنسي من هجوم، فأخذ موقفا دفاعيا مما جعله يتبنى كثيرا من أطروحات الإسلام السياسي، دون فحص دقيق لمدى مطابقة هذه الأطروحات للواقع، مثل علمانية المشروع القومي، وقضية المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي، وأكدت أن المرأة التي لا يعاديها الإسلام السياسي هي المرأة المنخرطة في نشاطه والمندرجة بزيها وهيئتها ومفاهيمها في أيديولوجيته، لكن ماذا عن المرأة المتبرجة؟
بعد اجتماع طارئ لمجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة للرد على تقرير «عبد الصبور شاهين» بيوم، كتب الأستاذ «فهمي هويدي» في مقاله الأسبوعي يوم الثلاثاء الثامن من ديسمبر اثنين وتسعين عرضا لكتاب فرانسوا بورجا، وفي آخر جزء من المقال وجه النقد لي دون ذكر اسمي، يتهمني بالحساسية الشديدة إزاء الإسلام ذاته والعداء للظاهرة الإسلامية، وأني رافض لأي فهم وتفاهم، وأعتبر الإسلام تاريخا أقرب إلى الفولكلور الذي انتهى زمانه، فكتبت ردا على إشاراته نشرته الأهرام بعد شهر ونصف، يوم الأحد الرابع والعشرين من يناير سنة ثلاث وتسعين، بعنوان «خطاب الإسلام السياسي والعنف المستتر»، حللت فيه مقال «هويدي»؛ فالتطرف هو أخذ طرف في مواجهة طرف آخر، فكيف أكون ضد الكتاب وأنا من أشرفت على مراجعة ترجمته، وكتبت له تقديم، لكن ليس معنى هذا ألا أحلله نقديا. ولم يذكر «هويدي» ميزة للكتاب لم أذكرها، لكن خطاب «هويدي» أنه لا يقبل أقل من الاتفاق التام ومن التسليم المذعن لأطروحاته دون نقاش؛ فالعنف ظاهر في مقاله، فيصفني بالحساسية تجاه الإسلام والعداء الشديد للظاهرة الإسلامية، فهو لم يناقش أيا من الأفكار التي اختلفت فيها مع فرانسوا بورجا، مكتفيا بالأوصاف الموهمة بالانحراف الفكري والزندقة والكفر والإلحاد. وتصورت ذلك لخلفيته الأزهرية.
يوم الثلاثاء السادس والعشرين ، وفي مقاله الأسبوعي ضمن «هويدي» «صندوق مباشر» بعنوان «قضية منعدمة ومصارحة واجبة»، يرد على ما كتبت واصفا مقالي بمثابة بلاغ ضده، وذكر تاريخ نشر مقالي خطأ، وقال إنه خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة. وقال عني: «حساسيته إزاء الإسلام ذاته هي التي تحتاج إلى وقفة؛ فالرجل مشغول منذ سنوات بمسألة تأويل النص القرآني التي هي في جوهرها عبث بالنصوص وتعطيل لها، وهو القائل في كتابات عديدة بتاريخية النص القرآني، وهي فكرة تتعارض في منطقها مع مقتضى الإيمان الديني. لما قرأت هذا الكلام رثيت للرجل وفهمت لماذا رفضت اللجنة العلمية ترقيته من أستاذ مساعد إلى أستاذ.»
كتبت ردا عليه ولم تنشره «الأهرام»، ونشر بعد ذلك بثلاثة أشهر في مجلة «القاهرة» عدد أبريل ثلاثة وتسعين، أشرت فيه إلى أن العنف المستتر الذي حللته في خطاب «فهمي هويدي» في مقالي السابق، ها هو يمارس إرهابه في العلن، فيثبت صدق تحليلي، لكن لا أقبل منه التلميح المعرض بشأن جامعي لم يصدر به قرار ولم يتحول بعد إلى أن يكون شأنا عاما، وهو تلميح أخطر ما فيه السعي إلى التأثير في القرار بسلطة الإعلام المخولة له وبالصفحة الأسبوعية التي يستخدمها هنا استخداما شخصيا، ويعلم «هويدي» جيدا - كما تعلم المصادر التي زودته بالمعلومة - أن القرار النهائي كان وما زال هو قرار الجامعة، و«ما هكذا يا سعد تورد الإبل». •••
تناولت جانبا آخر في الخطاب الديني المعاصر، وهو بعد المرأة. وكتبت دراسة نشرت في مجلة «القاهرة»، فبراير ثلاثة وتسعين، تحت عنوان «المرأة؛ البعد المفقود في الخطاب الديني المعاصر»؛ فالخطاب العربي انتقل من خطاب نهضة إلى خطاب أزمة، والحلول المطروحة للخروج من هذه الأزمة تتركز كلها حول التراث الذي ارتبط بجوهر الإسلام، فيذهب السلفيون إلى أن الإسلام هو الحل، ويذهب الإبستمولوجيون إلى أن القطيعة مع التراث هي الحل، والتجديديون يذهبون إلى أن تجديد التراث هو الحل. والحديث عن قضايا المرأة في معزل عن سياق الواقع العام يؤدي للحديث عن الأنثى بما يستدعي المقارنة بينها وبين الذكر، وتدخل المناقشة كلها في إطار المفاهيم البيولوجية وما يترتب عليها من فروق عقلية وذهنية وعصبية، وهو الإطار العام الذي يتحرك فيه الخطاب الديني. ولأنه خطاب أزمة فإنه يلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيا لنفي الإنسان، ويتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية بحبسهم في سجن مفهوم أهل الذمة، وولاية المسلم على الذمي، المساوي لمفهوم ولاية الرجل أو قوامة الرجل على المرأة. وعملية الحضور الظاهري للمرأة في الخطاب الديني هي حضور يؤكد الفقد؛ لأنه حضور مرتهن بالنفي.
3
إن موقف مجلس قسم اللغة العربية بأساتذته وتقريرهم أعتبره قد منحني درجة الأستاذية بجدارة، وما قرار مجلس الجامعة إلا قرار إداري لا يتجاوز رفع راتبي بما قيمته وجبة واحدة لأسرة، لكن القضية هي حلم الجامعة الذي كافحت من أجله، فهل توافق جامعة القاهرة بتراثها وتقاليدها وتاريخها على تقرير تكفير لا صلة له بتقييم علمي ولا تحليل أكاديمي. ولو كان أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» - رحمه الله - موجودا ما حدث هذا.
دعاني د. «مأمون سلامة»، رئيس الجامعة المشهور بورعه ومجاورته الدائمة لمقام السيدة نفيسة، يوم الإثنين الأول من شهر رمضان، الثاني والعشرين من فبراير ثلاثة وتسعين. وبدأت عملية المواءمة؛ فكل تفكيره منحصر في الترقية والتقدم مرة أخرى. وفي حموة الحديث تساءل رئيس الجامعة: «إيه علاقة قسم اللغة العربية ب «الإمام الشافعي»؟ عملكم هو دراسة اللغة والأدب فقط، فلماذا تكتب كتابا عن «الإمام الشافعي»؟!» دار في فكري كيف لأستاذ دكتور رئيس جامعة أن يتصور أن «الإمام الشافعي» مجرد فقيه لا يدرسه إلا متخصصو الشريعة، لكن صديقي د. «أحمد مرسي» حاول أن يشرح لرئيس الجامعة قائلا: «شغل قسم اللغة العربية الأساسي هو تحليل الكلام، وما كتبه «الإمام الشافعي» كلام يهمنا تحليله، وهذا التحليل يندرج تحت مفهوم علم تحليل الخطاب، وهذا لا يتعارض مع دراسات من زوايا أخرى لنفس الكلام.»
ونائبه لشئون الدراسات العليا د. «محمد الجوهري»، بمرحه ومزاحه الدائم، يرى أن الخطر علي كامن في موافقة الجامعة على الترقية. «وما الفائدة إذا تمت ترقيتك ثم اغتالك واحد من إياهم ؟ هتنتهي المسألة بجنازة شعبية ومسيرات تندد بالإرهاب وتصبح بطلا شهيدا لفترة من الفترات وتخلدك الأغاني والشعارات ... إلخ.» وخرجت منه قهقته العالية، لكن ما لم يدركه رئيس الجامعة ونائبه أن موافقة الجامعة على تقرير التكفير سيعطي للقتلة فرصة ذهبية للذبح الشرعي.
بدأت وزارة الثقافة في إصدار كتيبات صغيرة رخيصة الثمن باسم «المواجهة»، تنشر فيها تراث مفكري التنوير، فنشرت «الإسلام وأصول الحكم» ل «علي عبد الرازق»، وكتبا ل «طه حسين ومحمد عبده وسلامة موسى»؛ مما أعطى لكثير من الكتاب المنتمين للتيارات الإسلامية مبررا للهجوم على هذه الكتب. وانتدب «جابر عصفور» ليرأس المجلس الأعلى للثقافة. وحدث انفجار أمام مقهى «وادي النيل» في ميدان التحرير بقلب القاهرة، وتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك في نفس اليوم. كانت أنباء قد تسربت عن وساطة الشيخ «محمد متولي الشعراوي» بين وزارة الداخلية وأعضاء جماعات العنف الدينية المسلحة، وأنه قد التقى «عبود الزمر»، المقدم بالمخابرات الحربية والمسجون في عملية اغتيال «السادات»، في ديسمبر الماضي، في مصلحة السجون بشارع الجلاء بوسط القاهرة. وهو اللقاء الذي يتابعه اللواء عبد الحليم موسى، وزير الداخلية، المشهور بشيخ العرب، ومن مريدي مقام السيدة نفيسة أيضا.
كتبت مقالا لجريدة «الأهرام» نشرته يوم الإثنين الثامن من مارس، بعنوان «الجامعة بين الحفاظ على الثوابت وتحقيق الإبداع»، أوضح فيه أنه لا سبيل أمامنا جميعا لتجاوز أزمتنا الراهنة إلا بنظام تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد الذهنية والعقلية بل والخيالية أيضا، وتنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون، وإشاعة مناخ الحرية في الثقافة والمجتمع، وليست الحرية السياسية فقط كحرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، بل حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون شروط مسبقة، ودون أهداف بعينها يسعى الباحث أو المفكر للوصول إليها. والجامعة هي نقطة البدء والختام، يشيع ذلك في جنباتها وداخل قاعاتها، فتعكسه في مرآة المجتمع. وفي نفس يوم نشر المقال، كان أول اجتماع لقسم اللغة العربية برئاسة الصديق العزيز «أحمد مرسي»، بعد رئاسة «جابر» للمجلس الأعلى للثقافة. خرجت من الاجتماع لطلب الدكتور «حسن حنفي» لي في شيء مهم، وكان صارم الوجه، وقال: كانت هناك اجتماعات ومشاورات، ليس مهما أن تعرف تفاصيلها، المهم هو ما أفضت إليه من نتائج. - كلي آذان مصغية. - أمامك ثلاثة اختيارات؛ الأول تكتب شكوى إلى رئيس الجامعة في الاتهامات التي يتضمنها التقرير، ويقوم هو بدوره بتحويل المسألة للتحقيق. - سبق ورفضت اقتراح الدكتور «مأمون سلامة» دا في لقائي به من أسبوعين. هو إيه موضوع التحقيق إلا أني أحاول أن أثبت أو أنفي الاتهامات، وكأننا في محاكم تفتيش، وأنا أرفض ذلك داخل الجامعة. - الحل الثاني، نظرا لموقف كلية «دار العلوم» المتشدد، وتهديد رجالها بتحريض الطلاب، نرى من الأفضل أن يكون القرار بعدم الترقية مع وعد أكيد من رئيس الجامعة ومن رجال دار العلوم أن ترقى المرة القادمة. - وما الضامن ألا يحدث مثل ما حدث الآن؟ - كلمة شرف. - كلمة شرف؟! أنا لا أثق في أي منهم. - يوقع رئيس الجامعة على قرار ترقية بتاريخ قادم، يكون ضمانه أن أضعه في جيبي. - وما الاختيار الثالث؟
ازدادت علامات الصرامة مشفوعة بالأسى والإحساس بالخطر على وجه الدكتور «حسن حنفي»، وقال: الرفض والمقاومة وترك الموضوع للرأي العام يكتب ما يشاء، لكن عليك أن تكون مدركا للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدث. •••
تم حجز الموضوع في الأدراج حتى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة يوم الخميس الثامن عشر من مارس ثلاثة وتسعين، بسبب استيلاء الحكومة السودانية على فرع جامعة القاهرة بالخرطوم بمعداته، وطرد الأساتذة والعاملين، ووضع موضوع ترقية «نصر أبو زيد» تحت بند ما يستجد من أعمال، وتم عرض موضوعات مشابهة من حيث الشكل، وتم التنبيه على أن مسألة مخالفة قرارات اللجان العلمية أصبحت ظاهرة في قرارات الجامعة، ويجب عدم إهدار تقارير اللجان العلمية. وعرض موضوع «أبو زيد» وأعضاء المجلس منهكون، وقد غادر الكثير منهم الاجتماع لانتهاء الموضوع الأساسي، فينتبه أحد العمداء ويقول: إن هذا الموضوع ليس كالموضوعات السابقة، وعلينا أن نتريث للاطلاع على الأوراق، لكن الإدارة تذكر بالقاعدة التي وضعتها منذ دقائق، وتتم الموافقة على تقرير «عبد الصبور شاهين» بعدم الترقية، فقرر د. «نصر» رفع قضية على الجامعة أمام القضاء الإداري في نفس اليوم. •••
يوم الإثنين الثاني والعشرين من مارس، التقاني عميد كلية الآداب د. «حسنين ربيع»، ووكيلاه «د. حمدي إبراهيم، ود. محمود فهمي حجازي»، لإقناعي ببساطة الأمر، وأنه يجب أن أجهز أوراقي للتقدم للترقية مرة ثانية خلال أشهر قليلة، فلا أحتاج للانتظار عاما، لتأخر اللجنة ستة أشهر في تقديم تقريرها، وأخبرني بأسف رئيس الجامعة حرصه على أن يتابع بنفسه مسألة حصولي على الترقية في الدورة الثانية، حتى أستاذي د. «شوقي ضيف» مقرر اللجنة، حينما تقابلنا قال: لماذا لا تتقدم للترقية مرة أخرى يا دكتور «نصر»؟ ابتسمت وقلت: «إن شاء الله.»
4
منذ أن أشار «فهمي هويدي» إلى تقرير اللجنة على صفحات جريدة «الأهرام» - قبل قرار الجامعة بشهر ونصف - فإنه جذب الأنظار إلى الموضوع؛ فما إن صدر قرار مجلس الجامعة في اجتماعه الطارئ إلا وقد كتب «هويدي»، يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من مارس، يتصدى لدعوة أطلقها البعض بتشكيل جبهة وطنية تحت تأثير العمليات الإرهابية، واعتبرها تحالفا علمانيا في مواجهة المد الإسلامي الراهن؛ مما سيكرس الحرب الأهلية الدائرة بين العلمانيين والإسلاميين. واقترح خلق مناطق فكرية آمنة لا يتناولها البحث والنقاش. كتبت مجلة «روز اليوسف» خبر حجب الترقية يوم الإثنين التاسع والعشرين من مارس، تبعته جريدة «الأخبار» بتقرير صحفي كتبته «عبلة الرويني» بعنوان «أزمة في جامعة القاهرة» يوم الأربعاء، وكتب «جمال الغيطاني» عموده «مسألة د. نصر»، و«فريدة النقاش» في جريدة الأهالي «الإرهاب يكفر أستاذا»، و«غالي شكري» في مقاله الأسبوعي بالأهرام «قضية نصر أبو زيد». ويوم الجمعة الثاني من أبريل، صدرت مجلة «المصور» بتحقيق ل «حلمي النمنم» «معركة في جامعة القاهرة حول ترقية أبو زيد». وفي خطبته الأسبوعية بجامع «عمرو بن العاص» - أول مساجد أفريقيا - تطرق الشيخ د. «عبد الصبور شاهين» والأستاذ ب «دار العلوم»، وعضو اللجنة الدائمة للترقيات، وصاحب التقرير، وعضو اللجنة الدينية بالحزب الوطني الديمقراطي، والاستشاري السابق لمجموعة «الريان» لتوظيف الأموال؛ إلى القضية. وفي المساء بأتيليه القاهرة نوقش كتاب «نصر أبو زيد» «نقد الخطاب الديني»، ناقشه «د. فؤاد زكريا، ود. جابر عصفور».
يوم الأحد الرابع من أبريل الثانية ظهرا، اجتمعت لجنة الوساطة بين وزارة الداخلية وأعضاء الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتقت وزير الداخلية اللواء عبد الحليم موسى، الذي وافق على الوساطة بشرط ألا تتم بشكل مباشر، وتم تكليف مدير مباحث أمن الدولة بالمتابعة، وتكون مجلس تنفيذي كان من أعضائه د. «عبد الصبور شاهين»، والكاتب «فهمي هويدي»، ووعد الوزير في النظر في طلب اللجنة بالإفراج عن المعتقلين الذين لم تصدر بشأنهم أحكام قضائية. وذكر «إبراهيم عيسى» فيما بعد أن «شاهين» قال: «إنه لا يخشى من إرهاب الشباب المتدين بقدر ما يخشى من إرهاب نصر حامد أبو زيد وروجيه جارودي.» مما ضايق بعض أعضاء اللجنة، فتصدى له «فهمي هويدي» معلقا: «ليس هذا موضوعنا يا دكتور، خلينا في موضوعنا الأهم.»
يوم الإثنين نشرت مجلة روز اليوسف تقريرا لوائل قنديل، ذكر فيه د. شاهين «أن تلك القضية لو تحولت إلى النائب العام، فربما يصبح مستقبل نصر أبو زيد مهددا بالضياع». وأشار التقرير إلى الحكم القضائي في حق د. رمضان عبد التواب عضو اللجنة العلمية للترقيات، والتي أقرت بسرقاته العلمية، وأشارت إلى د. «مصطفى هدارة» عضو نفس اللجنة، والذي أرسل رسالة شهيرة لرئيس الجمهورية بمثابة بلاغ ضد المثقفين الذين تولوا رئاسة تحرير المجلات الثقافية العام الماضي. وفي نفس العدد نشر د. فاروق عبد القادر مقالا طويلا بعنوان «تكفير الأساتذة في جامعة القاهرة».
يوم الثلاثاء السادس من أبريل، صدرت جريدة «الشعب»، المتحدثة باسم حزب العمل الإسلامي، بمقال ل «ليلى عنان» تدافع فيه عن التقرير، ومجلة «عقيدتي» الجديدة التي تصدر عن دار التحرير تدافع عن التقرير، و«جمال بدوي» رئيس تحرير جريدة «الوفد» المعارضة، يشكك في عملية التضخيم للموضوع، ونشر «حازم هاشم» تقريره بعنوان «المغضوب عليهم في الجامعة»، وفي جريدة المساء كتبت «عزة شلبي» «لجان الترقيات تحولت إلى محاكم تفتيش»، وفي نفس الجريدة كتب د. «فتحي عبد الفتاح»: إنه بالرغم من حصولهم في الجريدة على كل التقارير إلا أنهم آثروا الانتظار حتى تصدر الجامعة قرارها.
يوم الأربعاء، نشر «حنفي المحلاوي» حوارا له مع «عبد الصبور شاهين» بجريدة «الأخبار»، ذكر فيها أن هناك مؤامرة على الجامعة من إثارة هذا الموضوع، وأشار إلى تأييد د. «شوقي ضيف» لتقريره، وأن صوته بصوتين، وأن الذين يتحدثون في الموضوع ليس لهم علاقة بالإسلام، وأن سبب الضجة هو علاقة د. «نصر» بالإعلام. ورد عليه «جمال الغيطاني» في عموده بعنوان «على هامش الحوار». وفي جريدة الأهرام كتب «أحمد عبد المعطي حجازي» مقاله الأسبوعي بعنوان «لكن جهلت فقلت إن جميع من يهوى خلاف هواك ليس بعالم». وكتب «لطفي الخولي» مقالا صفحة كاملة «كتاب سيدنا أو جامعة القاهرة»، عرض للقضية وقرر فتح صفحة الحوار القومي الأسبوعية التي يشرف على تحريرها بالجريدة لتناول القضية، وسيبدأ بنشر التقارير الثلاثة للجنة القراءة وتقرير مجلس القسم وتقرير مجلس الكلية، وبعدها يفتح الباب للتعليقات. وفي جريدة «الأهالي» كتب تقرير صحفي بعنوان «الإرهاب يهدد أكبر قلاع الفكر في مصر». وكتب د. «إسماعيل صبري عبد الله» في جريدة «الأهالي» مقال «الإرهاب الفكري». ويوم الخميس خرج مجموعة من المثقفين في تظاهرة ضد الإرهاب أثناء إعادة افتتاح مقهى وادي النيل بميدان التحرير الذي فجر بعمل إرهابي.
يوم الجمعة في حديث صحفي بمجلة «المصور»، كشف وزير الداخلية «عبد الحليم موسى» عن اسم «عبد الصبور شاهين» كأحد من اشتركوا في الوساطة. ويوم السبت كتب د. «مصطفى محمود» بجريدة «الأهرام» تحت عنوان «مع عبد الصبور شاهين»، يؤيده ضد هياج الصحافة، وضد قبيلة الشيوعيين القدامى الذين انتهت دولتهم، ولم تبق لهم إلا راية العلمانية يتجمعون تحتها وخيمة الإلحاد يتظللونها، هاجوا وماجوا وملئوا الصحف ضجيجا وعجيجا، وكعادتهم خلطوا الأوراق واتهموا اللجنة واتهموا «عبد الصبور شاهين» بالإرهاب. وهاجم «مصطفى محمود» شباب الجماعات الإسلامية الذين أسماهم «المجرمون الذين يلقون القنابل بالفعل ويخربون البلاد ويقتلون العباد ويردون على الكلمة بالقنبلة.» ورفض دعاوى الحوار معهم. وما يفعلونه هو «الحرابة» وعقوبتها الإعدام. وكأنه يضع «أبو زيد» وشباب الجماعات الإسلامية معا.
يوم الأحد الحادي عشر من أبريل، كتبت جريدة الصحافة التونسية تقريرا عن الموضوع، «هل كان الدين معاديا للعقل؟» يوم الإثنين كتب «مصطفى أمين» في مفكرته عن الموضوع، و«ثروت أباظة» في مقاله الأسبوعي بالأهرام ينتقد «أبو زيد». يوم الثلاثاء كتب «محمود الورداني» بجريدة الحياة الصادرة من لندن «في قضية حامد أبو زيد». ونشرت جريدة الشعب كاريكاتير لشخص مكتوب عليه «نصر أبو زيد» يمسك بخنجر يغرزه في المصحف فتسيل منه الدماء، وعلى اليسار امرأة محجبة ذات ملامح هادئة، وفي الوسط شخص مزدوج الوجه؛ وجه ينظر إلى اليمين قائلا حرية الرأي، ووجه آخر ينظر إلى اليسار عابث ينظر إلى المرأة المحجبة ويقول تطرف. وهذا الشخص مزدوج الوجه مكتوب عليه العلمانيون. وبالصفحة الثانية التقرير الذي كتبه د. «محمد بلتاجي» أستاذ الفقه وأصوله عن كتابي «الإمام الشافعي»، فقط بدعوى أن هذا تخصصه، معتقدا أن كتابي كتاب في الفقه وأصوله.
يوم الأربعاء نشرت جريدة «الأهالي» تقريرا صحفيا بعنوان «الجامعة تتحول من منارة للعلم إلى إدارة موظفين»، ومقال «فريدة النقاش» «الارتزاق بالدين» تنتقد ركاكة لغة «عبد الصبور شاهين»، ومقالا طويلا للدكتور «محمد أحمد خلف الله» الذي تعرض هو نفسه لنفس موقف «أبو زيد» في الأربعينيات بعنوان «جامعة القاهرة والتقارير العلمية الوهمية»، يحلل بالتفصيل ويرد على تقرير «عبد الصبور شاهين». ونشرت جريدة «الأخبار» حوار «عبلة الرويني» مع د. «محمود علي مكي»، صاحب أحد التقريرين المؤيدين لأحقية «نصر أبو زيد» في الترقية، نشر الحوار بعنوان «لهذا وافقت ولهذا تراجعت»، ذكر أنه جرت العادة أن يوقع كل أعضاء اللجنة على التقرير الذي ينال الأغلبية؛ ولذلك وضع توقيعه على التقرير، مع الاشتراط بحذف عبارات كثيرة في التقرير، وأنه يسحب توقيعه. وكتب «جمال الغيطاني» عموده بعنوان في صميم المسألة. وبدأت صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» في نشر التقارير العلمية أسبوعيا.
الخميس الخامس عشر من أبريل، نشرت مجلة «صباح الخير»، جامعة الطرابيش، ل «محمد الرفاعي»، ومجلة «القاهرة» في عدد شهر أبريل ملف «تقرير جامعي يخفي وجه نصر أبو زيد وراء قناع سلمان رشدي»، تضمن تقرير د. «محمود علي مكي» وتقرير د. «عوني عبد الرءوف »، وتقرير د. «عبد الصبور شاهين»، وتقرير مجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وتقرير مجلس كلية الآداب، ونص تصريحات «شاهين» في جامع «عمرو بن العاص» يوم الجمعة إثنين أبريل. يوم الجمعة نشرت جريدة «الشعب» تقرير د. محمد بلتاجي عميد «دار العلوم»، الذي قدمه لرئيس الجامعة عن كتاب «الإمام الشافعي» ل «نصر أبو زيد» وانتقاده للكتاب، اعتمادا على ما ذكره د. «عبد الصبور شاهين» في تقريره عن كتاب «الإمام الشافعي» فقط؛ لأن تخصصه هو الفقه. وأضاف إلى ذلك جهل «أبو زيد» بأبسط الأمور؛ لأنه لا يعرف أن «الشافعي» ولد بعد زوال حكم بني أمية؛ لأن النسخة التي اعتمد عليها لم يكن بها تصويب الأخطاء الذي قدمه «أبو زيد» للجنة الترقيات. إن «أبو زيد» يدعو للتحرر من سلطة النصوص التي تعني الكفر بما فيها من أحكام، والعداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والجهالات المتراكبة بموضوع الكتاب الفقهي.
يوم الأحد تم إقالة شيخ العرب اللواء «عبد الحليم موسى» وزير الداخلية من منصبه بسبب الوساطة التي حاولها بين الدولة والجماعات الإسلامية المتطرفة، وتم تعيين اللواء «حسن الألفي » وزيرا للداخلية؛ مما يشير إلى رفض الدولة سياسة الوساطة والمهادنة مع التطرف والعنف المسلح، ففشلت وساطة الوزير مع الجماعات، كما فشلت وساطة رئيس الجامعة مع «أبو زيد» من قبل. يوم الثلاثاء بجريدة «الأهرام»، كتب «فهمي هويدي» «حذار من النار»، انتقد خروج موضوع ترقية «نصر أبو زيد» خارج إطار الجامعة، «وخارج اللجان العلمية، والمداولات أو التقارير التي يفترض أن تحاط بقدر من السرية». و«في مسلك غير مسبوق في الأوساط العلمية المصرية أقحم الرأي العام»، وقال: «نقرر بوضوح أن العبث بالنصوص الشرعية المتمثلة في القرآن والسنة على وجه التحديد ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين يتذرعون بحرية التعبير أو البحث، ويروجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النص أو نسبية الأحكام الشرعية أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره.» وصدرت «مجلة أدب ونقد» في عدد مايو ملف عنوان «تكفير عالم، قضية د. نصر أبو زيد والإرهاب الفكري في الجامعة»، متضمنا حوارا لي أجراه محمد حسين، نشر بعنوان «فهم النص بالحياة لا فهم الحياة بالنص». وكتب «الشيخ الغزالي» معتمدا على ما كتب «مصطفى محمود»، منتقدا «أبو زيد»، وأسماه الكويفر في جريدة «الشعب» في الرابع من مايو.
5
استكمالا لمناقشة قضية المرأة كبعد مفقود في الخطاب الديني، نشرت في شهر مايو بمجلة «أدب ونقد» دراسة بعنوان «المرأة في المجتمع، جراح اللغة وجراح الهوية»، حاولت العودة فيها إلى بنية اللغة العربية ذاتها في التعامل مع المرأة؛ فهي تفرق بين الاسم العربي والاسم غير العربي الأعجمي بعلامة النون الصوتية التي تلحق نهاية الأسماء العربية عند النطق، وهذا لا يحدث مع الأسماء الأعجمية. وكلمة العجم ذاتها تعطي العرب ولغتهم مكانة التفوق وما سواها بمثابة العجماوات التي لا تفصح ولا تنطق. هناك تحيز آخر ينبع منه التفرقة بين الاسم المذكر والمؤنث، فتساوي اللغة بين الاسم المؤنث والاسم الأعجمي؛ فبالإضافة إلى تمييزه عن الاسم المذكر بتاء التأنيث يمنع التنوين عن الاسم العلم المؤنث؛ فاللغة في بنيتها تمارس نوعا من التفرقة الطائفية، ليس ضد غير العرب فقط بل ضد الأنثى كذلك. وهذه النظرة لها امتدادها من اللغة إلى الخطاب المعاصر السائد؛ فتعامل المرأة معاملة الأقليات من خلال الإصرار على حاجتها للدخول تحت حماية ونفوذ الرجل. فالمذكر هو الأصل الفاعل، والمؤنث فرع ولا فاعلية له؛ فإذا كان ضمن جمع من النساء رجل واحد يشار إلى الجمع بصيغة المذكر دون المؤنث. واللغة العربية من اللغات التي ليس بها أسماء محايدة، ليست مذكرا ولا مؤنثا، كما الشأن في بعض اللغات.
وقد جاءت لغة شعراء الصعاليك ولغة القرآن تخرج عن هذه التقاليد اللغوية، فخاطب القرآن النساء مباشرة كما خاطب الرجال. ولنفهم القرآن يجب أن ننظر لما كان قبله لمعرفة مدى التغيير الذي أدخله على استعمال بنية اللغة، فجرح الهوية الذي تعرضت له الذات العربية الرجولية من الهزائم والتراجعات، وإحساسها بالعار والخجل، فلم تجد دواءها حتى الآن إلا باللجوء إلى الماضي، إلى الهوية الأصلية، إلى الرجولة. وحدث التشرذم بعيدا عن الوحدة، واستيقظت الطائفية بديلا عن القومية، وحل الانتماء للدين محل الانتماء للوطن؛ فأفرخ الثلاثة الإرهاب والعنف على جميع المستويات، المسلم ضد المسيحي والمسيحي ضد المسلم، والسني ضد الشيعي والعكس، والرجل ضد المرأة لتقمع في دارها، تخدم الزوج وتكنس البيت وتربي الأولاد منعا لوجع الدماغ.
تقدم المحامي «محمد صميدة عبد الصمد»، وهو مستشار سابق بمجلس الدولة، ومجموعة من المحامين «عبد الفتاح عبد السلام الشاهد، وأحمد عبد الفتاح أحمد، وهشام مصطفى حمزة، وأسامة السيد بيومي، وعبد المطلب محمد أحمد، والمرسي المرسي الحميدي»، من مكتب «محمد صميدة عبد الصمد»، ثلاثة وثلاثين بشارع جامعة الدول العربية بالمهندسين بالجيزة مقرا لهم، برفع دعوى حسبة للتفريق بين د. نصر أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس، بدعوى أنه خارج عن الإسلام ولا يجوز زواجه من مسلمة أو غير مسلمة، إلى محكمة الجيزة الابتدائية، دائرة الأحوال الشخصية، يوم الإثنين السابع عشر من مايو ثلاثة وتسعين.
كتبت دراسة نشرت ضمن كتاب عن المرأة بعنوان «هاجر»، نشرته دار «سينا» للنشر سنة ثلاث وتسعين عن «المرأة والأحوال الشخصية نموذج الخطاب التشريعي التونسي »، تناولت فيه النقاط الخلافية التي يناقشها التيار الديني المعاصر ضد بنود قانون الأحوال الشخصية الخاصة بالمرأة في القانون التونسي؛ إلى أي مدى بعد القانون عن اجتهادات فقهاء المسلمين في مجال الشريعة؟ فعند تناول النواحي النصية والفقهية والمنطقية، بصرف النظر عن نوايا المشرع التونسي وعن مقاصده، هل كانت علمانية أو إسلامية؛ فمثلا مسألة منع تعدد الزوجات، النص القرآني
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . فالخطاب الديني يركز على القسم الأول من الآية، ويتغاضى عن نكاح ملكة اليمين؛ لأن هذا الجزء الثاني كاشف عن هجرة الواقع والمجتمع لنظام الإماء؛ مما يشير إلى ارتباط النص بنظام كان قائما وانتهى، وأن العدد أربعة كان نوعا من التضييق لفوضى امتلاك المرأة في المجتمع العربي قبل الإسلام. وبوضع هذا النص خلال نصوص القرآن الأخرى التي تناولت الموضوع، نجد أن القرآن كان يقيد ممارسات كانت متاحة، ويتجه للحد منها وتقييدها بقوله
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . ودعوته للعدل، وتصريحه بعدم قدرة الإنسان على العدل ولو حرص، في قوله
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم . وتوصيف مسألة تعدد الزوجات بأنها من المباحات، حسب التقسيم الفقهي القديم لأصناف أحكام الشريعة من واجب يقابله محظور، ومندوب يقابله مكروه، وبينهم المباح، يجعلنا نحتاج إلى إعادة النظر في هذه التقسيمات التقليدية؛ فالتغيير الذي يتجه إليه القرآن من تقييد للممارسة لا يجعلها في نطاق المباحات. وناقشت مسألة الطلاق وحق المرأة في أن تطلق نفسها، وحضانة الأطفال والتبني والميراث، والمغالطة في وسم نظام «بورقيبة» أنه علماني، بالربط بين تصرفاته الشخصية الصبيانية وبعض آرائه، والربط الميكانيكي بين العلمانية والإلحاد.
كتبت مقالا نشر في مجلة «العربي» الكويتية بمايو ثلاثة وتسعين عن «ابن رشد» (520ه/1126م-595ه/1198م)، «التأويل والتعددية»، قرأت فيها كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»؛ فابن رشد هو عقلنا المهاجر من الثقافة العربية الإسلامية، ونحن في حاجة إلى أن نستقبله بروح جديدة ووعي مغاير لذلك الوعي الذي تسبب في تهميشه ثم طرده من ثقافتنا؛ فالباحثون الذين اهتموا بابن رشد اهتموا في الغالب بثمار فكره دون أن يهتموا بالشجر الذي أنتجها؛ فلم يهتموا بآليات تفكيره. وابن رشد يذهب إلى أن حاجتنا إلى الشريعة لا تقل عن احتياجنا للحكمة ولا تزيد؛ لأنهما نهجان متمايزان في المعرفة تحتاج إليهما البشرية لتعدد طبائع الناس في اكتساب المعرفة؛ فمن الناس من يكتسب المعرفة بالأقاويل البرهانية اليقينية، وأقاويل الفلسفة، والتفكير النظري التجريدي؛ ومن الناس من يكتفي بالأقاويل الجدلية التي يكتسب بها المعرفة، وهي معرفة ظنية؛ وفريق ثالث لا يقبل أقاويل البرهان ولا أقاويل الجدل، ولا يتسع طبعه إلا للأقاويل الخطابية، وهي معرفة تمثيلية؛ ولذلك راعت الشرائع السماوية اختلاف طبائع البشر.
هذه التعددية تجعل خطاب الله إلى البشر منفتحا لآفاق التأويل. وابن رشد يعتمد البرهان أساسا للتأويل ومعياره ومرجعية للمعنى؛ لأن معرفته يقينية. والتأويل لا بد أن يوافق قوانين اللغة العربية في استخدام المجاز ولا يعارضها. ومن الباحثين من ركز على الشرع عند ابن رشد وأهمل الحكمة، ومن ركز على الحكمة وأهمل الشرع، لكن كتابه عن العلاقة بين البرهان - وهو أساس التأويل - والشرع يشير إلى ثلاثة احتمالات؛ أولها: أن يصل البرهان إلى أمور سكت عنها الشرع. والثاني: أن يكون هناك اتفاق بين الحقيقة البرهانية وظاهر الشرع، فلا حاجة إلى التأويل. الاحتمال الثالث: أن يقع اختلاف وتناقض بين الحقيقتين، والحل يكون بالتأويل بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، دون الإخلال بعادة لسان العرب في استخدام المجاز.
في عدد شهر يونيو، نشرت عرضا نقديا لكتاب المفكر «محمد جابر الأنصاري» «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، وهو كتاب يتصف بالجرأة في طرح الأسئلة في هذا الزمن الذي نحتاج فيه إلى الجرأة؛ فللكتاب سؤالان مهمين؛ أولهما: عن سبب التناقض الحاد بين مأساة محاولتنا للنهوض وضعف استجابتنا لهذه الأزمة. وثانيهما: لماذا لم تحسم الأمة مصيرها وتكمل نهضتها وتحقق أهدافها كما فعلت أمم شرقية كثيرة غيرها؟ فعلينا أن نضع معادلة النهضة في سياقها الحقيقي؛ بفهم الذات في تاريخيتها وخصوصيتها، وفهم الآخر في تاريخيته وخصوصيته. ونقد الذات من أهم إنجازات الكتاب، لكن نقد الآخر خارج إطار فهمه تاريخيا أدى إلى تبرئة الذات من باب خلفي. كنت في تونس، عندما علمت أن بعض المحامين رفعوا قضية ضدي بالمحكمة.
6
كتبت مقالا نشر في مجلة «القاهرة» عدد مايو ثلاثة وتسعين، كقراءة نقدية في فكر «جابر عصفور»، من خلال كتابه «قراءة التراث النقدي»، وهو من أهم الكتب التي تتناول إشكالية القراءة مطبقة على تراثنا النقدي تحديدا من منظور كلي شامل، تتفاعل فيه الممارسة التطبيقية مع التنظير للقراءة في تفاعل جدلي قلما نجد مثيلا له في الأطروحات التي تمتلئ بها الساحة حول القراءة وإشكالياتها. وبسبب هذا التفاعل الجدلي بين الممارسة والتنظير اقترب الكتاب إلى حد كبير من تخوم حل إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الموروث والوافد، أو بين القديم والحديث ... إلخ من ثنائيات في الفكر العربي الحديث. حاول أن يقدم الحل التوفيقي الحقيقي القائم على إدراك عناصر التمايز والخصوصية في كل من القديم والحديث من جهة، وإدراك علاقات الاشتراك والتشابه من جهة أخرى، حيث تصهر عدسة الناقد الحداثي القطبين في كل موحد، يمثل إضافة حقيقية للمعاصرة ذاتها بقدر إدراك القديم موضوعيا متجاوزا إياه.
المقدمات المنهجية التي يبدأ بها الكتاب أعتبرها استنباطات واكتشافات منهجية في علاقة تفاعل مع التطبيقات الواردة في الجزء الثاني من الكتاب؛ ف «جابر» منذ رسالته للماجستير سنة ثمان وستين عن الصورة الفنية عند شعراء مدرسة الإحياء، والتي تولدت منها أسئلة أدت إلى العودة إلى دراسة الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي في رسالته للدكتوراه عام ثلاثة وسبعين، حيث استفاد من جهود «لطفي عبد البديع»، و«شكري عياد» (1921-1999م)، و«مصطفى ناصف» (1922-2008م)، بالإضافة إلى قراءته الخاصة في التراث النقدي الأوروبي الرومانسي ومدرسة النقد الجديد؛ فهو ينظر إلى التراث في إطار أوسع، لا يفرق بين مجالاته المختلفة، ومن خلال رؤية حديثة عصرية؛ فقراءاته الحداثية كناقد مركبة من عدسة أسئلة الإحياء، وعدسة القراءات السابقة للتراث النقدي الغربي، وعدسة قراءات التراث الملتهبة بأسئلة النهضة، وسقوط معادلتها بعد هزيمة سبعة وستين؛ فعلى المستوى النظري يتحرك من الجزئي إلى الكلي، وعلى مستوى المادة المقروءة يتحرك حركة بندولية بين القديم والحديث. ومن مفهوم الصورة الفنية في رسالتي الماجستير والدكتوراه، إلى مفهوم الشعر، ثم نظرية الفن أو نظرية النقد؛ ليعود على مستوى المقروء إلى نقد الإحياء ويقترب من طرح مفهوم رؤية العالم عند مناقشته لمفهوم الخيال عندهم. وفي كتابه «المرايا المتجاورة» عن النقد عند «طه حسين»، ودراسته عن تعارضات الحداثة، نقطة تحول حاسمة من النقد الماركسي التقليدي المشبع ببقايا الرومانسية إلى آفاق الحداثة. وظهر وعيه كناقد بأهمية المتوسطات القرائية بين القارئ والمقروء.
وجاءت شهادة الشيخ «محمد الغزالي» في قضية اغتيال المفكر «فرج فودة» في حمية المواجهة بين الشرطة وجماعات العنف الديني المسلح، حين ألقيت قنبلة على أتوبيس سياحي بمنطقة الأهرامات، في الثامن من يونيو ثلاثة وتسعين. وجاءت جلسة المحكمة الأولى لنظر قضية التفرقة بين «نصر أبو زيد» وزوجته، يوم العاشر من يونيو ثلاثة وتسعين، وحضر الجلسة المحامون: «محمد صميدة عبد الصمد، وأحمد عبد الفتاح، وعبد المطلب محمد»، وقدموا خمس حوافظ؛ عدد مجلة «القاهرة» أبريل ثلاثة وتسعين، وتقرير «محمد البلتاجي» عن كتاب «الإمام الشافعي»، وكتاب «مفهوم النص»، وتقرير ل «إسماعيل سالم» الأستاذ المساعد بدار العلوم، وخطيب مسجد نور الإسلام بالهرم، بعنوان «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، وكتاب «نقد الخطاب الديني»، وبعض مقالات الصحف ل «فهمي هويدي، ومصطفى محمود، وثروت أباظة». وطلبوا إدخال الأزهر في القضية. أجلت المحاكمة لجلسة الرابع من نوفمبر القادم. ونشرت جريدة «الأخبار» ثلاث مقالات للدكتور «البدراوي عبد الوهاب زهران»، وكان ثالثها يوم الحادي عشر من يونيو ثلاثة وتسعين. وبدأت صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» في نشر تعليقات المثقفين على تقارير اللجنة العلمية وتقرير مجلس القسم ومجلس الكلية، يوم السادس عشر من يونيو.
كتبت ردا على مقالات «البدراوي زهران» في «الأخبار» نشر يوم الخامس والعشرين من يونيو: حاول «البدراوي» في المقالة الأولى عرض ملاحظات في مجال المصطلحات لا قيمة علمية لها، وفي المقالة الثانية انتقل إلى السعي الحثيث لإثبات أنني لا أدافع فقط عن سلمان رشدي بل أدافع عن روايته «آيات شيطانية»، وأتى ببعض أقوالي في كتاب نقد الخطاب الديني، وتساءل «لماذا لم أناقش الرواية؟» في حين أن ما قلته في هذا السياق عن سلمان رشدي أو أولاد حارتنا كان مجرد أمثلة على اندفاع البعض إلى التكفير دون تثبت. وفي مقاله الأخير قفز قفزته نحو التكفير، ويدعي بالباطل أنني أنفي عن القرآن الكريم نسبته إلى الله.
في ختام تناول صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» لموضوع طالب الأستاذ «لطفي الخولي» الأطراف في القضية بكلمة ختامية، فأرسلت مقالا نشر في الرابع من أغسطس بعنوان «الإسلام بين الفهم العلمي والاستخدام النفعي». هناك نهجان في التفكير؛ نهج الثبات والتقليد، يحاول أن يقاوم التطور والتغير، فيقدم قراءة وتأويلات للتراث الإسلامي تجعله ينطق بهذه القيم، فيقومون باستخدام التراث الإسلامي بل والإسلام استخداما نفعيا ذا طابع سياسي. وأصبح لهذا النمط قاعدته الاقتصادية وجناحه السياسي والعسكري، فتحول الإسلام في تفكيرهم إلى مجرد وقود يحترق من أجل العراك السياسي ضد خصومهم. وهنا يسهل أن يتولى القيادة الدينية - خصوصا بين الشباب - أقلهم علما ووعيا وأكثرهم حركية سياسية؛ فلم تعد العبرة بفهم الدين بل باستخدامه. ونمط ونهج ثان للتفكير يركز على الفهم واستنباط الجوهري؛ فهم التراث والدين معا نقديا؛ فليس للتراث قداسة بما هو فكر بشري حول الدين، فهم بعيد عن الاستخدام النفعي للدين.
هذان النمطان من التفكير عاشا فترة طويلة في حالة سكينة زائفة، تتخللها بين الحين والآخر بعض المعارك الساخنة التي ما تلبث أن تهدأ دون أثر على الوعي العام بجوهر الخلاف ومغزاه. ولقد حاولت بكل جهدي العمل على ثلاثة محاور؛ أولا: دراسة التراث دراسة نقدية. وثانيا: نقد خطاب الإسلام السياسي بسبب تحويله الدين إلى وقود في المعارك السياسية. وأخيرا: محاولة تأصيل وعي علمي بدلالة النصوص الدينية. وأصحاب نهج الثبات يخوضون معركتهم ضد خطاب «أبو زيد» من أجل إسكاته إلى الأبد، إن لم يكن بالحرمان من الترقية فبإعلانه كافرا مرتدا بما يترتب على ذلك من نتائج تعرفونها. يوم الأربعاء الثامن عشر من أغسطس ثلاثة وتسعين، وقعت محاولة لاغتيال وزير الداخلية الجديد في إطار المواجهة شبه العسكرية بين الجماعات والدولة.
7
دخلت وزارة الثقافة الصراع بطبع سلسلة كتب المواجهة لنشر كتب مفكري النهضة، فدخل الأزهر المعركة أيضا؛ فبعد نقضه لفكر الجماعات في كتاب الملحق الشهري لمجلة «الأزهر» بنشر كتاب «نقض الفريضة الغائبة»، وبه فتوى ومناقشة لشيخ الأزهر «جاد الحق علي جاد الحق»، ورئيس لجنة الفتوى الشيخ «عطية صقر». وفي شهر يوليو نشرت وزارة الثقافة كتاب الشيخ «علي عبد الرازق» «الإسلام وأصول الحكم»، فنشرت مجلة «الأزهر» في ملحقها نقضا لكتاب «علي عبد الرازق»، ونشرت في سبتمبر رد هيئة كبار العلماء على الكتاب، ونشرت كتاب «العلمانية والإسلام» ل «محمد البهي» في الشهر التالي، وسلسلة «قضايا إسلامية» الصادرة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وأصدرت «فقه الخلافة وتطورها»، ونشرت مجلة «الأزهر» في ملحقها كتاب «الحسبة»، ودور الفرد فيها في ظل التطبيقات القانونية المعاصرة. وكأن الدولة في صراع داخلها في كيفية مواجهة خطر الجماعات وفكرها.
داخل جامعة القاهرة، ومع بداية العام الدراسي، وزع مجانا طبعة ثانية من كتاب «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، كتبه «إسماعيل سالم عبد العال» الأستاذ المساعد بكلية دار العلوم، نشرته دار «المختار الإسلامي»، يشير فيه إلى: «أثبت هنا ما قاله لي أستاذنا د. «أحمد هيكل» وزير الثقافة السابق، وكذلك د. «محمد بلتاجي» عميد كلية دار العلوم، حين علما برفع الدعوى للتفريق بين «أبو زيد» وزوجه، بأن أحرص على ألا يكون هناك أحد من أبناء دار العلوم حتى لا تبدو عداوة بين قسم اللغة العربية بكلية الآداب وكلية دار العلوم.»
أعادت مجلة «أدب ونقد» نشر مقال للأستاذ «أحمد أمين» «في الثناء على الاجتهاد»، وهو جزء من كتابه «يوم الإسلام»، فكتبت له مقدمة قصيرة عن مشروع الإصلاح الديني؛ ثوابته ومتغيراته، عرضت فيه لجوانب المصالحة ورفع التناقض، واللذين قام بهما تيار الإصلاح من «الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين» بين العلم والدين، معتمدين على تراث العقلانية الإسلامي، وعلى الاجتهاد في إطار الكليات التي لخصها الشوكاني (1173ه/1795م-1255ه/1834م) في الحفاظ على النفس والعقل والعرض والمال والدين، واستخدام هذه الكليات كمعيار لتصحيح الاجتهاد؛ إيمانا بالسيرورة والتغير والدعوة إلى الاجتهاد المطلق، والفصل بين العلم والدين. لكني أضفت أنه «يجب على مشروع الإصلاح الديني تأسيس عقلانية متجاوزة للعقلانية التراثية من جهة، وتأسيس مقاصد للشريعة على أساس قراءة اجتهادية معاصرة للنصوص الدينية.»
8
بمحكمة الجيزة الابتدائية، دائرة الأحوال الشخصية رقم 11 بشارع الربيع الجيزي، يوم الخميس العاشر من يونيو، وبغرفة المشورة، الساعة التاسعة، قدم محامي المدعين مذكرة اعتمدت في حججها على ما كتبه د. «محمد البلتاجي» عن كتاب «الإمام الشافعي»، وما كتبه تلميذه «إسماعيل سالم عبد العال» وما أخذه عن تقرير أستاذه «عبد الصبور شاهين» عن القضية، فاتهم «أبو زيد» ب:
العداوة الشديدة للقرآن والسنة.
الجهالات المتراكبة بموضوع الشافعي الفقهي والأصولي.
دعوته «للتحرر ليس من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان»، ولا معنى للتحرر من سلطة نصوص القرآن والسنة إلا بالكفر.
عداء «أبو زيد» ل «الشافعي» حين يقول: «الشافعي حين يؤسس لمبدأ تضمن النص حلول كل المشكلات تأسيسا عقلانيا، يبدو وكأنه يؤسس بالعقل إلغاء العقل.» وكأنه يعني أن إبقاء العقل لا بد معه من رفض النص.
يقول إن الإسلام دين عربي وليس دين للناس كافة.
القرآن منتج ثقافي.
والردة هي «جحد شيء من القرآن، أو القول بأن محمدا بعث إلى العرب خاصة، أو إنكار كونه مبعوثا إلى العالمين، أو القول بأن الشريعة لا تصلح للتطبيق في هذا العصر، أو أن تطبيقها كان سبب تأخر المسلمين، أو أنه لا يصلح المسلمين إلا التخلص من أحكام الشريعة.» لا يحتج علي بأن الدستور يكفل حرية العقيدة؛ لأن إعمال آثار الردة حسبما تقررت في فقه الشريعة الإسلامية ليس فيه ما يخالف أحكام الدستور ... هناك فرق بين حرية العقيدة وبين الآثار التي تترتب على هذا الاعتقاد من الناحية القانونية؛ فكل فرد حر في اعتناق الدين الذي يشاء في حدود النظام العام، أما النتائج التي تترتب على هذا الاعتقاد فقد نظمتها القوانين ووضعت أحكامها. خلاصة القول: هذه من دعاوى «الحسبة»، تدافع عن حق من حقوق الله تعالى، وهي الحقوق التي يعود نفعها على الناس كافة لا على أشخاص بأعينهم.
وقدم عشر حوافظ بنسخ من بعض كتابات «أبو زيد» وتقارير «البلتاجي وعبد العال» وصحف ومقالات، وطلبوا إدخال الأزهر في الدعوة. فأجلت المحكمة الجلسة للرابع من نوفمبر ثلاثة وتسعين، التي حضر فيها المدعون وممثل للأزهر، و«نصر أبو زيد» وزوجته وهيئة دفاع عنهما. وطلب المدعون إحالة الدعوى للتحقيق لإثبات خروج «أبو زيد» عن أحكام الإسلام. وطلب الدفاع فرصة للاطلاع، وكذلك مندوب الأزهر. فأجلت المحاكمة إلى جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر. اقترب «حلمي النمنم» الصحفي بمجلة المصور من المستشار «محمد صميدة عبد الصمد» - وهو نائب سابق لرئيس مجلس الدولة - رافع الدعوة؛ ليجري معه حديثا للمجلة نشره بعدد التاسع عشر من نوفمبر، «كان عبد الصمد مترددا»، ثم قال له: «بصراحة لا أتحدث مع إنسان لا أعرف هويته هل هو مسلم أو شيوعي أو علماني.» - لكنك تحدثت لأحد المراسلين الأمريكيين؛ فالأولى أن تتحدث مع مصري. - الأمريكان أزفت من الشيوعيين والعلمانيين. المسألة في منتهى البساطة أننا نرى في كتابات د. نصر خروجا عن الإسلام ... وأنا لا أعرفه شخصيا، ربما أكون قد حضرت ندوة له في مايو الماضي، ولكني عرفت عنه من كتابات الشيوعيين، لقد فوجئت ب «لطفي الخولي» و«أحمد عبد المعطي حجازي» و«غالي شكري» يكتبون عنه، وهويتهم جميعا معروفة ويعادون الإسلام، وبسرعة اطلعت على كتبه «نقد الخطاب الديني»، و«الإمام الشافعي»، و«مفهوم النص»، ووجدتها جميعا خروجا على الدين، وأصابني الذهول حين علمت أنه يدرس هذه الكتب لشبابنا في الجامعة، فلجأنا إلى القانون. تقدمت بشكوى إلى رئيس جامعة القاهرة مطالبا إياه بمنع د. نصر من التدريس، ثم تقدمت ببلاغ إلى النائب العام، ووفقا للقانون 161 من قانون العقوبات، والذي يجرم إهانة الأديان في مصر، ثم تقدمت ببلاغ إلى المدعي الاشتراكي ليتدخل طبقا لقانون حماية القيم من العيب، وأخيرا لجأت في 10 يونيو إلى القضاء ... لقد لجأت إلى القانون وأبديت رأيي، ولا شأن بكل ما يقوله الشيوعيون والعلمانيون على أرض مصر، وأنا شخصيا لا أعرف زوجة د. نصر ولا أريد لها الإيذاء ولا الضرر، ولكن لم يكن أمامي غير ذلك من وسيلة لكي أثبت قانونا وبحكم قضائي ارتداد د. نصر لكي نمنعه من التدريس في الجامعة، وأنا قد رفعت قضية حسبة عن المجتمع كله دفاعا عن الإسلام.
في جلسة الخامس والعشرين من نوفمبر حضر المدعي «محمد صميدة عبد الصمد»، وحضر المحامي «خليل عبد الكريم» دفاعا عن «أبو زيد» وزوجته، وقدم مذكرة دفاع دفع فيها أولا: بعدم انعقاد الخصومة لعدم الإعلان في المدة القانونية. ثانيا: لكي تقضي المحكمة بالتفريق يتعين عليها أن تحكم بردة الزوج، ولا يوجد نص في القانون المصري ولا في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما يجيز لأي محكمة أن تقضي بصحة إسلام مواطن أو كفره أو ردته. وأحكام التفريق التي صدرت دوائر الأحوال الشخصية كانت فيها ردة الزوج ثابتة بطريقة لا تدع مجالا للشك، مثل اعتناق مذهب البهائية، أو في حالة مسيحي أسلم ثم رجع إلى المسيحية. الدفع الثالث: بعدم جواز طلب إدخال الأزهر؛ لأنه ليس طرفا في الخصومة كما يعرفها قانون الإجراءات المصري، ولا يوجد في قانون الأزهر نص يجيز حضوره في القضايا ليبدي رأيه. الدفع الرابع: الاحتفاظ للمدعى عليهما بالرد في الموضوع بعد ذلك.
وحضر محام متضامنا مع «أبو زيد» وكذلك د. «ليلى سويف» ود. «أحمد حسين الأهواني» بكلية علوم القاهرة، والمحامي «عبد الله خليل» عن نفسه وعن المنظمة الدولية لحقوق الإنسان. فطلب المدعي «صميدة عبد الصمد» مدة للرد على مذكرة الدفاع، فأجلت الجلسة إلى السادس عشر من ديسمبر سنة ثلاث وتسعين.
عدت من مؤتمر علمي ببرلين بألمانيا حول مشكلات تفسير القرآن الكريم وتأويله في يوم نظر القضية، ولكن لم نحضر جلستها، لكني تألمت كثيرا من أن زميلي في كتاب قريتنا «مصطفى عمران» الذي حفظنا القرآن معا يقف في خطبته بجامع قحافة، ويكرر ما أشيع عني، حتى إن أخي «محمد» ثار عليه قائلا: لقد حفظتما القرآن معا. أصبحت القضية قضية رأي عام تواجهني في أي مكان أذهب إليه، توقفت أنا و«ابتهال» لشراء بعض الاحتياجات من سوبر ماركت للبيت خلال إجازة نهاية الأسبوع، وبينما أتجول بين الرفوف إذا برجل عجوز يشبه الآباء المصريين يراقبني ويدور حولي لمدة دقائق، واقترب مني وقال: «هو انت ...؟» أجبته: نعم، أنا فلان. انفجر الرجل غاضبا حتى تجمع الناس حولي أنا و«ابتهال» في المحل، صاح: «مش مكسوف من نفسك؟ إخص عليك، مولود من أب مسلم وأم مسلمة، وتسمي نفسك مسلم، وأنت جلبت الخزي والعار لهما بالطعن في القرآن وفي حضرة النبي، لعنة الله عليك، لازم أنت مجنون.» أخذ يكرر هذه الأسئلة مع تغيير ترتيبها.
نظرت إليه وقلت: «خلصت؟» فهز رأسه بالموافقة، فطلبت منه أن يسمعني وقلت له: «أنت لك مدة تلاحظني بعينيك، لو لم تكن تعرفني من الجرائد، فهل تحكم من تصرفاتي أني مختل عقليا؟» أجاب بالنفي، فقلت: «لو أحد زيك أو زي ابنك يعمل بجامعة في بلد أغلبيتها مسلمين زي مصر، وعايز يترقى ليزيد دخله لمواجهة غلاء الأسعار في السوبر ماركت دا، هل إنسان عاقل يقدم نفسه على أنه ملحد للجامعة، أم ينتظر حتى يترقى وبعدها يفعل ما يشاء. أنا مثلك في احتياج لمرتبي لمواجهة مصاعب الحياة، وهذه زوجتي.» وقدمت له «ابتهال». بدأ الرجل تهدأ ثورته، وقال: «طيب إيه المشكلة؟ لأن الناس التي اتهمتك ناس مش مغفلين، دول ناس أفاضل ومن أهل الله ...»
قلت: «أتفق معك أنهم من أهل الله. تريد معرفة سر المشكلة؟» هز رأسه بالموافقة. قلت: «أنا نقدت هؤلاء الرجال الأنقياء أهل الله لدعمهم شركات توظيف الأموال التي سرقت أموال المودعين باسم الدين.» بدأ الرجل بانفعال يصب لعناته على هذه الشركات، وذكر أن ابنه الذي شقي وتعب بالعمل في الكويت لعشر سنوات وضع أمواله في هذه الشركات، وضاعت كل نقوده. قلت له: «هذا هو السبب وراء ضجتهم، وهذا الرجل الذي قاد الحملة ضدي كان يعمل مستشارا لإحدى هذه الشركات، أنا مجرد مصري زيك لم يكن عندي مدخرات أستثمرها عندهم، لكني كنت أدافع عن المصريين مثلك ومثل ابنك وأحفادك، من ناس سرقوا الأموال تحت اسم الدين.» أقبل الرجل نحوي وقال: «يا بني لا تؤاخذني.» واحتضنني في وسط السوبر ماركت. شعرت بالارتياح. وفي السيارة مع «ابتهال» في رحلة الأربعين كيلومترا، عائدين إلى شقتنا بضاحية ستة أكتوبر، قلت لها: «أنا أحتاج أن أجلس مع كل مصري ومصرية حتى أشرح لهم الموضوع.»
9
توفي الدكتور «زكي نجيب محمود»، فكتبت مقالة نقدية لمجلة «المصور»، نشرتها في الرابع والعشرين من سبتمبر بعنوان «غربة الروح عن أهلها»، حيث إن معادلة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر وصلت صيغتها عند «زكي نجيب محمود» إلى: إما أن نختار حياة فكرية حقيقية معاصرة، وإما نلوذ بأصالة الآباء فيما خلفوه من إرث عظيم. ووضع الإشكال بهذه الصورة يجعلها أزمة مثقف بين العاطفة ممثلة في التراث والفكر ممثلا للعصر، وليست أزمة مجتمع. الجانب الثاني هو تصور التعارض بين ثقافة الغرب وثقافة التراث؛ مما جعل من الضروري أن يخضع أحد الطرفين للآخر، فحاول أن يأخذ ما هو نافع من التراث لوقتنا الحاضر؛ ففرق بين الشكل والمضمون، بحيث نأخذ الشكل القديم والقيمة وطريقة النظر، ونترك المضمون القديم؛ أي محاولة التوفيق بين الطرفين التي أدت إلى التلفيق بينهما. ولم ينجح في إنتاج مركب جديد يستوعب الطرفين ويلغيهما في نفس الوقت، فكانت العودة للتراث بعد هزيمة سبعة وستين عودة ملاذ، عودة عاطفية. وانتقل المشروع عند تلاميذه على يد «حسن حنفي» من استخدام قناع التراث إلى تجديد التراث، لكن هذا ليس كافيا، بل لا بد من الانتقال من تجديد التراث عند «حسن حنفي» إلى القراءة العلمية للتراث عند جيلنا.
إلا أن د. «محمد عمارة» كتب مقالا بجريدة «الشعب» في الرابع عشر من سبتمبر، حاول فيها أن يدافع عن «زكي نجيب محمود» بإبراز الجانب «الإسلامي» في كتاباته، فاتبع «عمارة» طريقته في إمساك العصا من المنتصف لينتهي إلى أن صورة الإسلام لدى «زكي نجيب محمود» قد تعدلت كثيرا لكنه لم يبلغ مرتبة من يلتزم بالمنهج الإسلامي التزاما كاملا.
فكتبت مقالا نشرته مجلة «أدب ونقد» في عدد يناير سنة أربع وتسعين، بعنوان «مات الرجل وبدأت محاكمته»؛ فبدلا من أن يدخلوا في نقاش حقيقي لأفكار وأطروحات «زكي نجيب محمود»، يقومون بتناول الأفكار والأطروحات والإبداعات من منظورهم الخاص وتفسير بعينه للإسلام، ويضعونه على أنه الإسلام الصحيح، وما سواه زيف وإلحاد، ويعتبرون أنفسهم المتحدثين الوحيدين باسم الإسلام، ومن يختلف معهم خارج عن الملة، في حين أنهم جماعة سياسية تستخدم الإسلام كأداة للحشد السياسي. وهذا الخلط يحول السياسة إلى دين، ويجعل الأحكام السياسية أحكاما دينية تفضي إلى التكفير والردة في النهاية، فيأخذون عليه استخدامه البراجماتي للتراث، وأنا أتفق معهم في ذلك، لكنهم يفعلون نفس الشيء. وهناك فرق بين النقد والاختلاف وبين الإدانة ونزع صفة الإسلام عن المفكر، بدليل المناقشة الهزيلة التي قدمها المقال عن «الوضعية المنطقية». إننا نحتاج إلى فتح الحوار ليخرج من إطار النخبة إلى الناس، لكن هل تتحمل أجهزة إعلامنا هذا النوع من الحوار؟ هذا هو السؤال.
في السادس والعشرين من سبتمبر جرت محاولة اغتيال رئيس الوزراء ووزير الإعلام، واغتيلت فيها الطفلة شيماء أمام مدرستها، وهجوم إرهابي على فندق «سميراميس» بعدها بشهر في وسط القاهرة. كتبت مقالا نشرته جريدة «الحياة» في لندن بعدد السابع عشر من أكتوبر، عن «المثقف العربي والسلطة»، وكتبت مقالات عن المعقول واللامعقول في حياتنا، نشرت بجريدة «الأهالي» في أكتوبر ونوفمبر وأول ديسمبر، عن كيف تحولت الأشياء اللامعقولة إلى أشياء معقولة في حياتنا؛ ليس لأن المجتمع تحاور حولها لإزالة غرابتها، بل أصبحت من تكرارها والتعود عليها معقولة، لكنه معقول يخرب الوعي ويسد طريقنا للتقدم. وأخذت من حالة اللانظام وفوضى المرور في شوارع القاهرة نموذجا؛ فالنظام ليس مسألة شكلية، بل عملية إعادة تركيب للذهن في المجتمع. والحكومة أصبحت إشارة مرور مضيئة؛ أحمر وأخضر وأصفر في نفس الوقت في كل الاتجاهات. وكتبت عن اللامعقول في الحياة السياسية المصرية، وكيف أن العمليات الإرهابية ما هي إلا أعراض للمرض الرئيسي وهو غياب الحريات، ولن تجدي عملية «مقاومة الإرهاب» التي تسعى إلى إسكاته دون الوصول إلى جذر الإشكال، وهو لامعقول التعارض بين الأقوال والسلوك الذهني عندنا، وأخذت من عملية نقل الآراء والأقوال التي تمت في قضية «أبو زيد» دون تفكير أو تثبت، حتى أصبح الحق يعرف بالرجال وليس الرجال هم من يعرفون بالحق.
لم يعد العمال الذين كانوا يعملون بالشقة المجاورة لنا منذ يومين، ربما قد أصيب أحدهم أو أهاليهم في حادث انهيار صخرة المقطم، فسألت جارتنا عنهم، فعلمت أن شقة من الشقق قد سرقت، فقبضت الشرطة على العمال «الشغيلة» واحتجزتهم. ذهبت إلى قسم الشرطة وسألت الضابط عنهم، فأخبرني باحتجازهم حتى يتم الوصول إلى الجاني، ولهم في الحجز عشرة أيام دون أن يعلم عنهم أهلهم وذووهم خبرا؛ فمن خبرتي السابقة في العمل بقسم شرطة، وكسل الضباط أن يقوموا بعملهم بحثا عن الجناة، فيحتجز العمال دون مراعاة لقلق أهاليهم عليهم، وجدت الضابط يقول لي: «يا دكتور أنت عايز إيه؟ لو فيه أحد منهم يهمك نخرجه لك.»
كانت هناك هذه الليلة ندوة في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن حرية الرأي بسبب قضيتي، فكدت أعتذر عن الذهاب، لكني ذهبت. وقلت إن الحديث عن حريات أكاديمية وفكرية هو نوع من الرفاهية، في وقت أبسط حقوق الإنسان فيه مهدرة، الحقوق التي يشترك فيها مع الحيوان. هل يمكن، في مجتمع مثل هذا، الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، بينما حرية المواطن الأولية مهدرة؟ ومهم جدا العمل على تأصيل حقوق الإنسان ثقافيا في المجتمع، وليس فقط تبريرها ثقافيا؛ فالمثقف عندنا هو المؤلف والمخرج والبطل ورافع الستارة، فلا نريده أيضا أن يكون هو الجمهور. وذكرت قصة ما حدث مع العمال.
وحين أتى الحديث عن دعوى الحسبة المرفوعة ضدي، انتفض المحامي المحسوب على التيار الديني الأستاذ «عادل عيد» غاضبا، وقال إن هذه الدعوى نوع من التهريج الرخيص، لا يصح أن نسكت عليه، إنه تهريج يسيء للإسلام والمسلمين أولا وأخيرا. وأشار إلى أنه كان ضمن هيئة دفاع من المصريين، والتي تطوعت بالدفاع عن المفكر السوداني «محمود طه» في السودان في سابقة مثل تلك. غاب الأستاذ «عادل» عن جلسة المحكمة لانشغاله، فاتصلت به أعلمه بموعد الجلسة التالية، وأذكره بأهمية حضوره، وأرسلت إليه ردي على النقاط المثارة في عريضة الدعوى. وبعد أن تعبت «ابتهال» في جمع النقاط التي طلبها من الكتابات لم يحضر الجلسة.
وصلت إلي خطابات تهديد بالقتل، فعينت لي الدولة حراسة، وأصبحت أدخل محاضراتي في مدرج ثلاثة عشر في حماية حامل سلاح، فلم تعد محاضرة. وكرهت الحال والتدريس في ظل قيد، على الرغم من هذا الجو وتلك الحالة التي تمر بها البلاد؛ من مواجهة مسلحة بين الدولة والجماعات المسلحة، ومحاولة إسكات صوتي بأي وسيلة؛ بداية بمصادرة الأستاذية إلى التكفير، وما يتبعه من تصفية معنوية تعقبها تصفية جسدية، إلى الفصل من الجامعة والاستتابة والتعزير، إلى التحويل للنائب العام، واستعداء الأزهر، ودعوى حسبة للتفريق بيني وبين زوجتي ؛ على الرغم من كل ذلك فلهذه الأزمة جوانبها المبهجة عند باحث تكشف الكتابات خلال الأشهر الماضية صدق وقوة النتائج التي توصل إليها في نقد الخطاب الديني. على أن الفارق بين المعتدلين والمتطرفين في التيار الديني هو فارق في الدرجة وليس فارقا في النوع، بل أستطيع أن أضيف أن التعاون بينهما وتوزيع الأدوار واضح على مستوى الخطاب، وأيضا الظهور الواضح لآلية النقل دون تثبت؛ هذا النقل الذي يفضي إلى الاتباع، وكلاهما يناقض النقد والإبداع ويعاديهما؛ فخطابي النقدي يمثل خطرا عليهم. مصدر سعادتي الآخر هو توفر هذه المادة الجديدة وإخضاعها للبحث والتحليل، للوصول إلى مزيد من الدراسة العلمية للخطاب الديني. ويكون سعيهم لتشويه خطابي وإسكاتي مادة للتحليل والاستنباط.
فكتبت دراسة بعنوان «أبو زيد والخطاب الديني»، نشرت في مجلة «قضايا فكرية» السنوية في عددها الثالث عشر عن «الأصوليات الإسلامية»، وتناولت كل الجوانب التي تناولها تقرير «د. عبد الصبور شاهين» و«د. محمد البلتاجي»، وتلميذهما بدار العلوم، وغيرهم، والتي ملخصها:
العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والدعوى إلى رفضها وتجاهل ما أتت به.
الهجوم الشديد على الصحابة وأئمة المسلمين.
الهجوم على القرآن وإنكار مصدره الإلهي، والحديث عن أسطورة الوجود الأزلي القديم في اللوح المحفوظ.
إنكار مبدأ أن الله، سبحانه وتعالى، هو الخالق لكل شيء، وأنه هو العلة الأولى، وإنكار الغيب.
الدفاع عن الماركسية والعلمانية؛ الفكر الغارب، ونفي صفة الإلحاد عنهما.
الدفاع عن «سلمان رشدي» وروايته «آيات شيطانية».
وبينت كيف يخرج «شاهين» الفقرات عن سياقها ليعطيها معاني أخرى من أجل التشويه، وأنه لا بد من التفرقة بين الدين والفكر الديني؛ فالدين هو المرسل من الله، لكن كل محاولة لفهمه أو دراسته واستنباط أحكام منه هي خطاب بشري ليس له قداسة الدين. هناك فارق بين نصوص القرآن وكل سعي إلى تأويل أو تفسير وفهم تلك النصوص، بل أتيت بما كتب «شاهين» نفسه عام ستة وستين في رسالته للدكتوراه الصادرة عن دار القلم «تاريخ القرآن»، عن مسألة الأحرف السبعة في قراءة القرآن، وبين ما يقوله الآن. ونقدت كل انتقاداتهم، ولن أكف أبدا عن النقد حتى تنجلي الظلمة عن العقل وتنفتح نوافذه للنور.
10
كان للتغطية الإعلامية الواسعة، ورد فعل كثير من الكتاب المصريين الذين تداعوا للمشاركة كرد فعل على تناول الإعلام الغربي للقضية، ومنهم الكاتب «جلال كشك» من أمريكا، فكتب عدة مقالات في مجلة «أكتوبر» في الأعداد الرابع عشر والواحد والعشرين من نوفمبر، ظل يدور ويجول على خطأ مطبعي عن علاقة «الإمام الشافعي» بالأمويين. وفي الخامس من ديسمبر يتهمني بدور لي في رفع القضية. ولم يتناول جهاز الإعلام الحكومي من إذاعة وتليفزيون القضية، وأعرض عنها، إلا أن إذاعة صوت أمريكا أجرت اتصالا تليفونيا بي لمناقشة الموضوع في وجود «جلال كشك» الذي ظل يدور ويجول على خطأ مطبعي عن علاقة «الإمام الشافعي» بالأمويين، وخلال الجدل اعتذر المذيع؛ لأن الأستاذ «جلال» توفاه الله في أمريكا، حيث كان يقيم، أثناء النقاش.
أجرت معي الكاتبة الصحفية «عبلة الرويني» حوارا طويلا نشرته مجلة «القاهرة» في عدد شهر نوفمبر، عن مشواري في الحياة وجهودي البحثية، وحاولت إيضاح مسألة قدسية النص وتاريخيته، وأن مصدره الإلهي لا يتنافى مع كونه رسالة من الله للبشر باللغة العربية. ونشرت مقالا شهريا بمجلة «أدب ونقد» تحت عنوان «خطاب الحرية»، بدأته بمقال في عدد شهر ديسمبر «ضد الكتابة المذعنة»، أناقش فيها التكفير الذي ينضح به كتاب تلميذ عبد الصبور شاهين والبلتاجي «إسماعيل سالم»، في كتابه الذي يوزع مجانا بالجامعة، «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، وكيف يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، بل ويتحدث باسم الذات الإلهية، وخلطه بين مناداتي بالتحرر من سلطة النصوص؛ السلطة التي يفرضونها في غير ما أنزل الله، وبين «التحرر من النصوص» التي لم أقل بها أبدا، لكنه السعي إلى التشويه من أجل الإقصاء والاستبعاد وإسكات صوتي. شاغلهم الأساسي هو الضجة الإعلامية التي قامت حول حرية البحث العلمي، والتي تختلف عن نمط تفكيره الذي تعود عليه من الإذعان والتسليم بسلطة الأكبر سنا والأعلى درجة ووظيفة؛ سعيا منه إلى الأستاذية.
قبل جلسة المحكمة، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من ديسمبر، في مقاله الأسبوعي بجريدة «الأهرام»، كتب «فهمي هويدي» مرة أخرى مقالا بعنوان «عبرة أبو زيد الأول»، يعرض فيه قضية الأستاذ «محمد أبو زيد» الذي رفعت ضده قضية حسبة للتفريق بينه وبين زوجته، أمام محكمة دمنهور الجزئية، وذلك عن آرائه في آدم، عليه السلام، وحكمت المحكمة بالتفريق، ولكن محكمة الاستئناف ألغت الحكم، وكتب القاضي: «أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل؛ فالإفرنج مشغولون بما يفيدهم وأنتم مشغولون بما لا يفيد.» وكأن «هويدي» يعتب على من رفعوا القضية، وأشار إلى عدم نقل الخلافات الفكرية إلى ساحة القضاء، والابتعاد بالقضاء عن وضعه في وضع الانخراط في تحيزات فكرية أو سياسية. فتعجبت من موقفه الآن.
جلسة المحكمة الخميس السادس عشر من ديسمبر، كانت جلسة المرافعة الأخيرة، نظر القاضي ثلاثة وأربعين قضية، وكانت قضية «أبو زيد» هي الأخيرة، واستمر النظر فيها أضعاف الوقت المستغرق في القضايا الأخرى؛ فهي القضية الوحيدة في الأحوال الشخصية التي يرفعها رجل ضد آخر. وقدم رافع الدعوى «صميدة عبد الصمد» مذكرة بدفوعه عن الجلسة السابقة، وطالب بأن يقدم الأزهر مستندات لديه؛ لأن شيخ الأزهر منوط به المحافظة على الدعوة الإسلامية. وقدم المحامي «رشاد سلام»، الحاضر عن «أبو زيد»، مذكرة دفاع، ودافع ببطلان حضور المدعين للجلسات لانتهاء دورهم برفع الدعوى؛ فهم ليسوا خصوما، لكن النيابة العامة هي الخصم في دعوى الحسبة؛ وعلى ذلك يكون طلبهم - بإدخال الأزهر طرفا - باطلا؛ لأنهم لا يملكون هذا الحق، وطالب برد كل طلباتهم؛ لأنهم لا صفة لهم في الدعوى، وطالب برد الدعوى، وشاركه بقية هيئة الدفاع في ذلك. وقدمت المحامية «أميرة بهي الدين» الحاضرة عن زوجتي مذكرة تطالب برد الدعوى، وكذلك الأستاذة «تهاني الجبالي»، والأستاذ «أحمد سيف الإسلام حمد». وقدم الدفاع خطاب مجلس قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة إلى رئيس الجامعة برفضه قرار اللجنة وتقرير القسم وتقرير مجلس كلية الآداب. وحجزت القضية للنطق بالحكم.
في جلسة الخميس السابع والعشرين من يناير، انعقدت المحكمة برئاسة القاضي «محمد عوض الله»، وعضوية القاضيين «محمد جنيدي ومحمود صالح »، ووكيل النائب العام «وائل عبد الله»، وسكرتير الجلسة. واستند الحكم على أن حكم محكمة النقض، الصادر سنة ست وستين، والذي جعل من لائحة المحاكم الشرعية وأرجح الأقوال من مذهب الإمام «أبي حنيفة»، ما لم يرد قواعد خاصة واجبة التطبيق نص عليها قانون المحاكم الشرعية، دون تفرقة بين قواعد موضوعية أو إجرائية؛ فإن هذا المنطوق للحكم يتصادم مع أحكام قانون 462 لسنة خمس وخمسين بإلغاء المحاكم الشرعية، وكذلك يغاير قانون المرافعات لسنة ثمان وستين، وكذلك بعد صدور دستور سنة إحدى وسبعين.
قانون 462 لسنة خمس وخمسين، الذي ألغى المحاكم الشرعية، وضع الأساس للتفرقة بين القواعد الموضوعية والقواعد الإجرائية التي تحكم مسائل الأحوال الشخصية، والتي أصبحت تخضع لقانون الإجراءات ما لم يرد حكم خاص بها في لائحة المحاكم الشرعية، أو في أي قانون آخر. وبعد صدور دستور واحد وسبعين، فإن تطبيق قاعدة أرجح الأقوال من مذهب «أبي حنيفة»، فهذا إعمال لأحد المذاهب قضائيا دون أن يصدر بها قانون. ونص المادة الثانية من الدستور بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، هو خطاب للمشرع، وليس للقاضي أن يعمله مباشرة بدون صدور تشريع. وبصدور قانون الإجراءات لسنة ثمان وستين، والذي نص في مادته الثالثة على «ألا يقبل أي طلب أو دفع لا يكون لصاحبه مصلحة قائمة يقرها القانون، والمصلحة التي يقرها القانون في هذا الصدد هي مصلحة حماية حق من أبدى الطلب أو الدفع أو حماية مركزه القانوني الموضوعي، ويجب أن تكون هذه المصلحة مباشرة.» وهذه الدعوى رفعت بحسبانها دعوى حسبة، لم يدع رافعوها أي مصلحة مباشرة وقائمة يقرها القانون، ولم تكن أحكام لائحة المحاكم الشرعية أو قانون آخر قد أوردت أحكاما تنظم شروط قبولها، وقانون المرافعات لم ينظم أوضاع هذه الدعوى في أحكامه. «حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته، وإلزام رافعيها بالمصاريف ومبلغ عشرة جنيهات مقابل أتعاب المحاماة.»
11
بدأت الأنشطة الثقافية لمعرض القاهرة للكتاب في اليوم التالي لصدور الحكم، وفي يوم السبت الخامس من فبراير سنة أربع وتسعين، في الحادية عشرة، وفي أكبر قاعة للأنشطة، وبحضور جمع غفير، تمت مناقشة كتاب «قضايا فكرية» السنوي الذي يشرف على إخراجه المفكر «محمود أمين العالم»، عن «الأصوليات الإسلامية في عصرنا الراهن»، وشاركت فيه بدراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، وكانت ظلال القضية والحكم فيها مخيمين على الندوة، إلا أن السيد «محمد صميدة عبد الصمد» قدم استئنافا للحكم يوم العاشر من فبراير. ونشر د. «حسن حنفي» دراسة في مجلة الاجتهاد اللبنانية عن كتاباتي بعنوان «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، في عدد ربيع سنة أربع وتسعين. في تلافيف الدراسة يبعد نفسه عن اجتهاداتي، فيقول: «ليس المطلوب فرقعات الهواء وبالونات الاختبار، وإلقاء النفس في فم التمساح، ومد اليد للدغ العقرب، وإلقاء النفس إلى التهلكة، ودوس على ألغام الحقل فيضيع المؤلف ويقتل نفسه بيده؛ لنقص في الخبرة وربما رغبة في الشهادة.» وأشار إلى أن نقد الخطاب الديني لم يعد من اليسار الإسلامي بل اليسار العلماني، واصفا دراستي الأخيرة من كتابي نقد الخطاب الديني. وقال عن اليسار العلماني: «إنه خصيم للفكر الديني وليس أحد تياراته.» لكنه يعبر عن خوفه «أن يتم استبعاد نقد الخطاب الديني وحصار مؤلفه»، ويختتمها بقوله : إن دراسته لكتاباتي أكبر تحية لي.
أخذت في كتابة ردود على ردود الفعل لكتاباتي خلال العام الماضي، ونشرت في مجلة «أدب ونقد» حلقات شهرية، فبراير ومارس وأبريل ومايو ويوليو وسبتمبر. نشرت بعد ذلك في كتابي «التفكير في زمن التكفير»، عن دار سينا للنشر، استكمالا للنقاط التي لم أتناولها في دراستي «أبو زيد والخطاب الديني»، ركزت فيها على «الإمام الشافعي» بين البشرية والقداسة. وكانت ردود الفعل شديدة لمجرد تناول تراث الإمام الكبير نقديا. والإشكال ليس في «الشافعي» ولا التراث، ولكن في طريقة تعاملنا مع التراث، والخطاب الديني التقليدي يرجع للتراث من أجل الفخر والتعظيم، في مواجهة الضعف والتراجع في واقعنا المعاصر، فيكون التراث عباءة للاحتماء، وليس مجالا للدراسة والفهم والتحليل والبناء على إنجازات أجدادنا والإضافة إليها. ولن يحدث هذا بدون نقد ووقوف على مواطن الضعف لنتجاوزها، وبواطن القوة لنأخذها أسسا للبناء عليها. فكتابي عن «الإمام الشافعي» لم يكن دراسة في الفقه وأصوله، كما تصور من انتقدوه، بل هو دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها «الإمام الشافعي» من خلال علم أصول الفقه؛ لذلك ففقه «الشافعي» ليس موضوعي، بل الأصول النظرية وطريقة التفكير التي استخدمها من خلال إجراءاته المنهجية وطرق الاستدلال التي طبقها في بنائه. وكلمة الأيديولوجيا أستخدمها بمعنى: «المنظور الذي يحدد للإنسان الصواب والخطأ والثواب والعقاب، ما المسموح والممنوع.» وفصلت مقصودي بكلمة «نص» على أنه: «كل نسق من العلامات اللغوية وغير اللغوية يؤدي إلى معنى كلي.» وكلمة النص الأصلي، وهو في حالة التراث الإسلامي، هو القرآن. وكلمة النصوص الثانوية هي كل ما يترتب على النص الأصلي، مثل السنة واجتهادات العلماء والفقهاء في الفهم والتفسير؛ لذلك فكلمة النصوص الدينية السياق هو الذي يحدد معناها.
وتعبير «صياغة الذاكرة» الذي اعترض عليه الكثير يدور حول الخلاف في فترة انتقال الثقافة الإسلامية من الشفهية إلى التدوين في العصر العباسي الأول. فكان السؤال: إذا تعارض العقل مع المنقول عن السلف، فلأيهما تكون الولاية على الآخر؟ فأنصار ولاية العقل على النقل استخدموا التأويل من أجل رفع التناقض، وأنصار أن تكون الولاية للنقل تمسكوا بالدلالة الحرفية للنصوص، وحاولوا توسيع مجال النصوص، وحرصوا على شموليتها لكل جوانب الحياة من جهة أخرى؛ أي ترسيخ سلطة النصوص أو هيمنتها وشموليتها، وهي سلطة تضيفها الجماعة إلى النصوص، فكان المسلمون الأوائل يفرقون بين ما هو مجال للوحي وما هو مجال للخبرة البشرية؛ لذلك حينما ذكرت تعبير «التخلص من سلطة النصوص»، وليس من النصوص، بل من السلطة التي يفرضها البعض على النصوص من أجل فرض تأويلاتهم وتفسيراتهم وقراءاتهم هم للنصوص، ومن يختلف معهم يصبح مهرطقا وملحدا بل وكافرا.
لذلك فالآيات التي ذكرها الدكتور «محمد البلتاجي» ليدلل على شمولية النصوص بالإضافة إلى آيات الحاكمية الثلاث التي ناقشتها في دراسة إهدار السياق، أورد هو الآيات التالية:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (سورة الأحزاب: 26)،
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا (النور: 51)،
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء: 65)،
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (النحل: 89).
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3).
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله (الشورى: 10).
في الآيات الثلاث الأولى تشير إلى الوجود الفعلي الشخصي للرسول عليه الصلاة والسلام، يحكم بعد استماعه لكل الأطراف بوصفه قاضيا وحاكما. وهو ما ليس حاصلا الآن، وما بين يدي المسلم نصوص تحتاج للفهم بإعمال العقل والاجتهاد. والانصياع والخضوع الذي يتكلم عنه د. «بلتاجي» في تفسيره يرتبط بوجود الرسول حاكما وقاضيا في شئون العقيدة والدين، وقد خالفه الصحابة في شئون الدنيا في أكثر من مناسبة. والآيات التالية حينما تشير إلى تبيان كل شيء ليست بالمعنى الحرفي، بل هي إشارة إلى كل شيء يخص العقيدة الإسلامية، ولا تمتد إلى ما وراء ذلك من معارف طبيعية واجتماعية حصلتها خبرة البشر في تسيير شئون حياتهم، وهي نفس الدلالة في الآية رقم خمسة. والآية السادسة
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله
لا يكشف السياق إلا عن دلالة الاختلاف بين المسلمين وغيرهم؛ أن هذا الاختلاف مردود إلى حكم الله تعالى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى الآيتين السابقتين لها في السورة.
مفهوم سلطة النصوص بشموليتها لكل الوقائع هو تأويل بشري للآيات، يؤدي إلى إلغاء تلك المناطق الدنيوية التي تركها الإسلام للخبرة والتجربة والعقل الإنساني، ومفهوم الشمولية هذا يفضي إلى القول بالحاكمية، وتحكيم الفهم الحرفي للنصوص في كل مجالات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويعتمد على تأويله لآيات الحكم الثلاث، في سورة المائدة، بانتزاعها من سياقها، ويضفي عليها دلالات لا تقولها؛ وذلك من أجل إخفاء سلطتهم التي يسعون لفرضها من وراء تأويلاتهم للنصوص. وهي السلطة التي أناقشها وأدعو للتحرر منها، وليس التحرر من النصوص، كما يحاول أن يصور المغرضون. وكيف تفهم النصوص بدون العقل واجتهاده في الفهم والقراءة؟ وهذا ما يحاربه دعاة السلطة والسيطرة والهيمنة باسم الدين والعقيدة. «إنهم يقدسون الماضي تقديسا أعمى، وينفرون من أية محاولة لإعادة اكتشاف هذا الماضي.»
12
الكثير من الناس يتصور أن ما في أذهاننا يتطابق مع الواقع العيني، وكلما كان ما في الذهن قديما اكتسب لقدمه قداسة. والكارثة أن المثقفين والمتخصصين يفكرون بنفس الطريقة. وهذا ناتج عن تصور لطبيعة اللغة قد عفا عليه الزمن؛ تصور أن «العلاقة بين اللفظ والمعنى الذي يدل عليه علاقة تطابق». فنقول «المرض الخبيث» تحاشيا لذكر اسم المرض ذاته؛ اتقاء لشره حتى بعدم استحضار اسمه. وقد صاغ الكثير من المفكرين المسلمين القدماء مفهوما عن اللغة بوصفها نظاما من العلامات، فيشير شيخ البلاغيين العرب والمسلمين «عبد القاهر الجرجاني» أنه ليس هناك علاقة ضرورية بين اللفظ «ضرب» وحادث الضرب ذاته، بل اللفظ مجرد علامة على الفعل، وكان يمكن أن تدل علامة لفظية أخرى لو توافق عليها الناس؛ أي إنها علاقة اصطلاح مباشرة بين اللفظ والمعنى، أو الاسم والمسمى.
إلى أن أضاف عالم اللغة السويسري «ألفريد دي سوسير» (1272ه/1857م-1330ه/1913م) فقال: إن اللفظ سواء كان مكتوبا أو منطوقا، دال على صورة سمعية. بدليل أننا نتحدث إلى أنفسنا بدون إصدار أصوات أو قراءة كلمات. والمدلول أو المعنى لا يشير إلى شيء في الواقع الخارجي، بل يشير إلى تصور ذهني؛ فمدلول العنقاء لا يشير إلى شيء في الواقع الخارجي، إنما هو مجرد تصور ذهني. ويصل «دي سوسير» إلى أن «العلامة اللغوية عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران (الصورة السمعية والمفهوم) ارتباطا وثيقا، بحيث يتطلب وجود أحدهما وجود الثاني.» هذا التصور أنهى إلى الأبد التصور الكلاسيكي عن علاقة اللغة بالعالم كتعبير مباشر عن هذا العالم؛ فاللغة لا تعبر عن العالم الموضوعي، بل يعاد إنتاج هذا العالم من خلال التصورات والمفاهيم الذهنية القارة في وعي الجماعة ولاوعيها؛ فحين نقول «مات الخليفة الأول أبو بكر الصديق» هي جملة تشير إلى واقعة في العالم خارج اللغة ، لكن قوانين اللغة تكشف عدم التماثل؛ فالجملة تقول إن الفعل «مات» والفاعل هو «أبو بكر الصديق»، وهذا ليس صحيحا في الواقع؛ فأبو بكر، رحمه الله، لم يفعل فعل موته، ونحويا الفاعل هو كلمة «الخليفة»، وهي وفي الواقع الخارجي وصف للشخص، وكلمة «أبو بكر» هي بدل من كلمة الخليفة.
المسألة الثانية: العلاقة بين القدرة الإلهية والفعل الإلهي، وعلاقتهما بالعالم؛ فذات الله الأزلية القديمة لها صفات أزلية، منها قدرة الله المطلقة؛ لأنها صفة من صفات الذات. القدرة بمعنى الإمكانات غير المتناهية للأفعال، وقدرة الله غير متناهية، لكن العالم الذي نعيش فيه متناه؛ حيث بدأ الزمن بخلق العالم، وهو فعل افتتاح التاريخ؛ فهو واقعة تاريخية؛ أي إن العالم محدث، حتى من قالوا بقدم العالم في تاريخ الفكر الإسلامي كانوا يتحدثون عن المادة التي صيغ منها العالم؛ مما لا يتنافى مع تاريخية إيجاد العالم، سواء كان خلقا من عدم أم كان صنعا من مادة قديمة. التاريخية هنا تعني الحدوث في الزمن، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المطلق المتعالي، الوجود الإلهي، والوجود المشروط الزماني. وإذا كان إيجاد العالم هو فعل افتتاح الزمان، فإن كل الأفعال التي تلته تظل أفعالا تاريخية بحكم أنها تحققت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية محدث حدث في لحظة من لحظات التاريخ. من هنا فقدرة الله أزلية بما هي صفة للذات، غير متناهية، ومن حيث هي إمكانات للأفعال، بينما الأفعال متناهية تاريخية لتعلقها بعالم متناه؛ فليس كل ممكن متحققا. «من هنا فكلام الله يعد فعلا. والالتباس يأتي من عدم التمييز بين صفة العلم وصفة الكلام؛ فعلم الله مثل قدرته، هما مطلقان وأزليان، ولكن حينما يتجلى هذا العلم في كلام يحدث في الزمن فهنا تم الدمج؛ بما أن القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الذات، وليس فعلا كما ذهب المعتزلة، فكان من السهل استنتاج أن القرآن قديم وليس مخلوقا؛ بناء على اختلاف القدماء في هل كلام الله صفة من صفات الذات الإلهية الأزلية، أم فعل من أفعالها. وتم الاستناد إلى التعبير القرآني «اللوح المحفوظ»، الذي دون فيه القرآن كدليل على قدم القرآن، لكن السؤال هو: هل اللوح المحفوظ مخلوق أم قديم؟ وأكيد أنه مخلوق، وإلا قلنا بتعدد القدماء، وهو التصور الذي رفضه كل المفكرين في التراث الديني الإسلامي، فكيف يكون القرآن القديم مدونا في لوح مخلوق محدث؟! وحتى الاستناد إلى أن الله ابتدأ الخلق بالأمر الكينوني «كن»، فلا بد أن يفهم الأمر الإلهي الكينوني «كن» فهما مجازيا. وهذا لا ينفي كون الكلام الإلهي يدخل في دائرة الأفعال، وليس الصفات الأزلية القديمة المحايثة للذات. ولا يمنع إطلاقا من وصف الله سبحانه بأنه متكلم وسميع وبصير، صفات محايثة للذات لا تظهر إلا في الأفعال، وظهورها في الفعل هو التحقق التاريخي. والفعل الإلهي له شقان في علاقته بالتاريخ؛ شق أفعال سابقة على الوعي الإنساني - وقعت خارج التاريخ - مثل فعل الخلق والتكوين. الشق الثاني هو الفعل الإلهي في التاريخ، ويتم دون تجاوز قوانين التاريخ.»
والإنسان كائن تاريخي؛ أي يقع فعله في التاريخ ويتشكل به، لا بمعنى تتابع الوقائع في الزمن، بل بمعنى السياق السوسيولوجي العام للوجود الإنساني. و«النصوص الإلهية» هي «رسائل من الله ، سبحانه وتعالى، إلى الإنسان، مهمتها هي تعديل مسار الإنسان؛ لذلك يختار الله لغة الإنسان، واللغة ظاهرة اجتماعية تاريخية ثقافية. وهذا التواصل بين الله والإنسان يتكون من مرسل هو الله، سبحانه وتعالى، ومستقبل هو الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ورسالة هي النصوص الدينية، ويتم هذا التواصل عبر شفرة، وهي لغة القوم الذين نزلت إليهم الرسالة. ولأن الرسالة تهدف إلى سعادة الإنسان، فيكون الإنسان هو المخاطب بها، ويكون الإفهام هو غايتها.» من هنا فكرة تاريخية النص القرآني؛ أي ليست كما يشيع من يسعون لقتل خطابي - بزعم كاذب - بأن القرآن يتحول إلى فولكلور، ويوضع في متحف التاريخ؛ فإذا كانت النصوص البشرية تتجاوز زمنها لتدل في زماننا، فما بالك بنص مقدس. والنص القرآني يستمد مرجعيته من اللغة ومن الثقافة، ومن هنا فهو منتج ثقافي على الرغم من مصدره الإلهي . والنص القرآني منتج ثقافي أنتج الثقافة الإسلامية.
نشر حوار مع عالم دين كبير بمجلة «المصور» في عدد الحادي عشر من فبراير أربعة وتسعين، يناقش «ادعاء الغرب بأن العقل الإسلامي لا يفهم مبدأ السببية المباشرة للظواهر الطبيعية، وأنه ينسب العلة الحقيقية للظواهر كلها إلى المشيئة الإلهية»، فكتبت مقالا هو «انتصار الجهل بملكوت الله»، نشر بجريدة «الأهالي» في عدد الثامن من يونيو أربعة وتسعين، أعرض فيه الصراع بين التيار الديني العلمي العقلاني ممثلا في المعتزلة وابن رشد أساسا، والتيار الديني ذي النزعة الروحية الخالصة المتمثل في الأشعرية كما جسدتها كتابات «أبي حامد الغزالي»، وكيف أن أفكار البشر نحولها إلى عقائد، ولطول سيادتها تصبح أصلا من الدين ولم تعد مجرد أفكار وتصورات.
13
كتبت مقالا نشرته مجلة «الطريق» البيروتية، في مايو سنة أربع وتسعين، عن حالة «الاستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر»؛ فالصراع يدور في جوهره على أرض الإسلام بين من يريدون إسلاما عصريا ومن يريدون أسلمة العصر، وعرضت بعض الأمثلة من الكتابات في الصحف المصرية التي تناولت هذه القضية، وهي في جذورها خلاف حول فهم الإسلام، وحول علاقة الدين بالدولة؛ فممثلو الخطاب الديني يوصفون الاستقطاب بأنه بين الإسلاميين والعلمانيين، وخصومهم يتحدثون عن أنه صراع بين ثقافة تقليدية محافظة وثقافة ليبرالية - أو ثقافة التنوير - وفريق ثالث يحاول أن يمثل الوسط المعتدل. وكتبت عدة مقالات لمجلة «الناقد» التي تصدر في لندن، وقد نشرت من أول شهر يوليو، فكتبت عن «عصيان الدين أم عصيان الدولة؟» وعن «أرثوذوكسية معممة»، ومقالا آخر في عددها الرابع والسبعين عن «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة، قراءة في فكر محمد أركون» (1345ه/1928م-1430ه/2010م) وهو يحاول البحث عن خصوصية اللغة الدينية، ومنهجه في بحثه يختلف عن منهج الوضعية الاستشراقية الذي يكتفي بالوصف المحايد المغلف بادعاء الموضوعية والمعتمد على المنهج الفيلولوجي؛ فأركون يسعى من داخل منظومة الفكر الديني عامة والإسلامي خاصة، ولكنه ليس من منطلق الخطاب الإسلامي الشائع المنتشر والمسيطر؛ فهو يسعى لتجاوز عمليات الاستخدام الأيديولوجي للدين من خلال مستويات نقد الخطاب الإسلامي وخطاب الاستشراق معا، معتمدا على العقلانية الأوروبية، وأيضا بنقد الماضي والتراث، ثم ثالثا يحاول أن يقرأ الوحي/القرآن قراءة تزامنية مضادة للقراءة التي تسقط معانيها على النصوص، أو القراءة التجزيئية التي تفتت النصوص لتجعلها تنطق بما تريد هي. وهو يحاول الخروج مما هو سائد بوعي جديد لا يتصادم كليا من أجل التعايش بين الأديان الثلاثة من جهة، وبين خطابه العلمي والخطاب الإسلامي السائد من جهة أخرى، مما جعله يقدم بعض الترضيات حتى لا يحدث الصدام.
حاولت في مقال نشرته مجلة «العربي» الكويتية، في عدد مايو سنة أربع وتسعين، بعنوان «المقاصد الكلية للشريعة، قراءة جديدة»، أن أعمق منهج أسلافنا علماء الأصول في محاولتهم استخلاص مقاصد الشريعة، عبر «القراءة التفصيلية المتأنية والعميقة للنصوص الدينية ذات الطابع التشريعي، من خلال علاقاتها التركيبية ببعضها بعضا من ناحية، وعلاقاتها بنصوص العقيدة والأخلاق» من ناحية أخرى، باستنباط الكليات من الجزئيات تصاعدا، وإعادة قراءة الجزئيات من خلال هذه الكليات من خلال تفاعل بين الكلي والجزئي. وهذا المنهج قابل للإضافة إليه بتطور أساليب المعرفة في عصرنا؛ فالنص الإسلامي جزأته العلوم الدينية في التراث، فانشغل علماء الأصول بالأحكام والتشريعات، واهتم علم الكلام بالعقيدة ، واهتم التصوف بالأخلاق، وعلم اللغة والبلاغة التقليديين، لكن علوم اللغة الحديثة تهتم بمستويات الدلالة الكلية التي لا تفصل بين التشريعي والعقدي، وبين الدلالة المستنبطة من القصص القرآني والدلالة الكلية للنص الإسلامي في سياق تفاعله مع الواقع الاجتماعي والتاريخي. والقراءة الكلية للنص الإسلامي، في تعامله مع الواقع، أخذت موقفا واضحا ضد الجاهلية، وكانت تعني في هذا السياق الثقافي العصبية والتعصب، فجاء الإسلام بالحلم؛ أي العقلانية في مواجهة الجاهلية، وبالحرية نقيضا للعبودية، وهو متصل ومبني على المبدأ الأول.
المبدأ الثالث: العدل الإلهي. وهذه المبادئ - العقل والحرية والعدل - منظومة متماسكة ومترابطة، وتستوعب المقاصد الخمسة التي وضعها القدماء، في حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال، بالإضافة إلى تضمن هذه المبادئ الثلاثة القواعد الاجتهادية للقدماء مثل الاستحسان والمصالح المرسلة واستصحاب الأصل وإباحة الضرورات للمحظورات وغيرها. إنها جهود تحتاج إلى مؤسسات بحثية جديدة على صلة بمنهجيات العلوم الإنسانية المتطورة، وما يتصل منها بدراسة النصوص وفهمها وتأويلها.
كتب د. «محمد عمارة»، الأستاذ بدار العلوم، مقالا بالمجلة ذاتها، نشر في يوليو بعنوان «ألف باء الحوار»، يرد على مقالي، فكتبت مقالا نشر في عدد شهر أغسطس بعنوان «نحو حوار عقلاني متكافئ: نعم لتحرير مضامين المصطلحات». ود. عمارة انطلق من أن هناك تيار أهل الموروث وتيار أهل الوافد. من هنا يتولد التوجس وتوقع سوء القصد حينما يتصدى باحث ليس محسوبا على أصحاب الحل الإسلامي للكتابة عن الإسلام والتراث. وهو يتساءل ماذا أعني بالعقلانية، وبالحرية وبالعدل، وهل هي عقلانية التنوير الغربية أم العقلانية المؤمنة. وعلى الرغم من أني شرحت في مقالي ماذا أعني، فإنني حددت العقل «بالفعالية الذهنية التي تحول الأدلة - حسية أم نقلية أم تجارب وجدانية - إلى معرفة تعمق بدورها هذه الفعالية بمزيد من الصقل والصفاء والحدة»، وكذلك فعلت مع المفاهيم الأخرى، لكن «عمارة» وضع مجموعة من المماحكات اللغوية، حينما ذكرت تعبير «سنن التاريخ» على أنه يفضل تعبير «سنن الله»، ولا يسعني إلا تذكيره بمفهوم الدهر في التراث الذي لا يجوز للمسلم أن يسبه لأنه هو الله؛ فالقول بوجود سنن تاريخية لا تعني إنكار الوجود الإلهي، معاذ الله. وكذلك فعل مع تعبير اللحاق بركب الحضارة، ومع مفهوم الحرية. «إن أغلب حواراتنا ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات وللتوجس المتبادل والبدء من افتراض سوء القصد.»
عقدت محكمة استئناف القاهرة أولى جلساتها للنظر في طعن «صميدة عبد الصمد» ضد حكم المحكمة الابتدائية؛ سعيا منه ومن تابعيه للتفريق بيني وبين «ابتهال»، في السادس والعشرين من يوليو أربعة وتسعين. ونشر د. «عبد الصبور شاهين» كتاب «قصة أبو زيد وانحسار العلمانية بجامعة القاهرة»، ولم يكن فيه شيء يذكر سوى مقالات مجمعة من الصحف كتبها بعض المناصرين لموقفه. وطلبت مني مجلة «العربي» أن أجري حوارا مع الأستاذ «محمود أمين العالم» بمناسبة بلوغه السبعين؛ لينشر في عدد شهر سبتمبر سنة أربع وتسعين، فرحبت جدا؛ فالأستاذ «العالم» بنشاطه الضخم الذي يحسده عليه الشباب، وخطابه المفتوح الذي جعله يحظى باحترام خصومه قبل مريديه، وهو خطاب نقيض للخطاب المغلق المتعصب؛ فخطابه يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب النقيض يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو. وهذا ما حصنه ضد المهاجرة من اليسار إلى أقصى اليمين كما فعل أقران له.
حاولت أن أخرج من أزمة القضية التي عشت فيها خلال العام الماضي ونصفه بالعودة لدراساتي، فكتبت دراسة نشرت بمجلة «فصول» تحت رئاسة «جابر عصفور»، في عدد خريف أربعة وتسعين، في المجلد الثالث عشر، بعنوان «الرؤيا في السرد العربي حافز سردي أم وحدة دلالية؟» فمنذ ملاحظتي لدور الرؤيا في السيرة النبوية حين درست السيرة كسيرة شعبية وأنا أريد دراسة الرؤيا في السيرة وفي القرآن. «وللرؤيا وتأويلها دور كبير في السرد العربي، وللدال اللغوي أرى عدة دلالات؛ فقد تكون إدراكية بالبصر، مثل قول القرآن الكريم في الآية السادسة والسبعين من سورة «الأنعام»:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . وقد تكون الحلمية بالرؤيا في المنام، مثل الآية الرابعة من سورة «يوسف»:
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . وقد تكون العلمية بمعنى نعلم/نعتقد، مثل الآية الثامنة والسبعين من السورة ذاتها:
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين .» ونجد أن هناك تفرقة بين رؤية ما هو حسن أو خير، وبين الحلم الذي غلب عليه رؤية الشر والقبيح؛ مما جعل الرؤيا أداة معرفية؛ فالرؤية الصادقة جزء من النبوة، في حين يكون الحلم مصدره الشيطان.
حللت الرؤيا في القرآن الكريم بوصفها نصا سرديا داخل النص السردي الذي ترد فيه، والتفرقة بين توظيف الرؤيا كحافز أو مفتتح للسرد، وبين كون الرؤيا وحدة دلالية في سلسلة الأحداث، مثل رؤيا «يوسف» ورؤيا السجينين ورؤيا الملك. وتحليل دلالة القميص في دلالته الكاذبة على أكل الذئب ل «يوسف»، ودلالة القميص في براءة «يوسف» من الاعتداء على امرأة العزيز، ودلالته الثالثة في عودة بصر والد «يوسف» بقميص البشارة الذي ألقي على وجهه. ودرست الرؤيا في الجزء الأول من كتاب السيرة النبوية برواية «ابن هشام» عن «محمد بن إسحاق»، والتي تمثل وحدة سردية. ورؤيا جد النبي «عبد المطلب»، وكذلك عرضت للرؤيا في الفكر العربي الإسلامي، وكيف انتقلت النبوءة في السرد إلى النبوءة في نظرية المعرفة في جانبيها الإشراقي والصوفي، ومنها إلى الخطابات كأداة أيديولوجية تسعى بها إلى تحقيق مشروعيتها المعرفية في الثقافة، مثل رؤيا «المأمون لأرسطو»، ورؤيا «أبي الحسن الأشعري» للرسول عليه السلام ليعلمه كيف يرد على المعتزلة. ورؤى «الشافعي» وتأكيد الصوفي الكبير «ابن عربي» في كتابيه «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم» ما هي إلا بشارات نبوية أمليت عليه. وفي العصر الحديث لو نظرت إلى نص «نجيب محفوظ» من كتابه «كفاح طيبة» إلى آخر نصوصه ودور الرؤيا عنده. حاولت تقديم دراسة متواضعة دعوة لمزيد من الدراسات في هذا المجال.
جمعت الدراسات التي كتبتها ردا على ادعاءات التكفير ضد إنتاجي في كتاب صدر عن دار «سينا» للنشر، بعنوان «التفكير في زمن التكفير»، ومقالات عن المرأة في كتاب صغير سوف يظهر في شهر نوفمبر عن دار نشر «نصوص» لمجموعة شابة؛ لتكون إهداء إلى «ابتهال» في عيد ميلادها؛ «فبدونها ما كان ممكنا أن تمر علي محنة الأشهر الماضية كما مرت في وجودها»، بعنوان «المرأة في فكر الأزمة». وجاء - مساء الجمعة الرابع عشر من أكتوبر - خبر طعن الأستاذ «نجيب محفوظ» في رقبته وهو في طريقه من بيته إلى حلقته الأسبوعية، ويطل الإرهاب بوجهه القبيح ويحاول نهش كاتب آخر في هذه الحرب التي تمرح في المدينة، فيا ترى على من الدور؟
14
داخلي طاقة كبيرة ودعم «ابتهال» يزيدونني رغبة في مواصلة البحث والدراسة، فكتبت دراسة نشرتها مجلة «ألف» للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية في عدد سنة خمس وتسعين، بعنوان «العالم بوصفه علامة»، حاولت أن أستكمل الدراسة السابقة التي كتبتها في الثمانينيات - من القرن العشرين - عن «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، فقمت بدراسة العلامات في القرآن الكريم؛ كيف يحول النص القرآني العالم الخارجي كله إلى مجموعة من العلامات - بالمعنى السيميوطيقي - أو الوحدة الدلالية، ودور النص القرآني في صياغة المفاهيم النظرية والفلسفية اللاحقة عن اللغة والدلالة، وأيضا طبيعة اللغة الدينية وآليات تشكلها من بيئة اللغة الأم، وكيف أعاد تشكيل بيئة اللغة ذاتها فيما بعد. وبدأت بسورة «العلق»، والتي تمثل النص الافتتاحي للنص القرآني الأكبر، وكيف حولت آيات القرآن فيها العالم الخارجي والتاريخ الإنساني وقصص السابقين إلى علامة تجسد الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر؛ ثم سورة «الرحمن» التي حدث فيها انفتاح للدلالة الضمنية في سورة «العلق» بتحويل النعم ذاتها إلى علامات تشير إلى المنعم؛ وسورة «القمر» التي حولت الأحداث التاريخية للسابقين إلى علامات دالة كذلك؛ وسورة «النحل» حول فيها النص القرآني العالم إلى نظام من العلامات الدالة على مطلق كلي واحد، سواء العلامات الكونية أو التاريخ البشري؛ وبهذه السورة ترتفع نبرة التهديد عن السور السابقة، وبها تركيز على علامات خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وإلقاء الرواسي في الأرض، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وإنزال الماء من السماء. وحللت خلق السموات والأرض والجبال وخلق الإنسان، ثم خلق الليل والنهار. القرآن يحول كل ما يدركه الوعي الإنساني بحسه إلى «علامات/كلمات»؛ فالجبال مثلا رواس تمنع الأرض أن تميد، دلالة على القدرة الإلهية وعلى نعم الله، وهي تحمي الإنسان فيتخذ منها بيوتا، وفي سياق التهديد تتصدع الجبال من خشية الله، والجبال قوة عاقلة؛ فقد أشفقت من حمل الأمانة وحملها الإنسان. الجبال يمكن أن تكون علامات دالة على قرب الساعة، فتصير
كالعهن المنفوش ، كالآية «5» من سورة «القارعة».
بالقرآن بذور تطورت في الفكر الإسلامي بعد ذلك عن وجود نصين؛ نص مسطور بين دفتي المصحف، ونص كلمات الله المنشورة في صفحة الوجود. رصدت تلك الجوانب المختلفة عند المتصوفة والمعتزلة وابن رشد، وتوصلت إلى أن اللغة الدينية تحيل العالم إلى علامة، وتحول اللغة الأصل إلى علامات - بالمعنى السيميوطيقي - في محاولة لامتلاك وعي المتلقي. والنص القرآني يبدأ من الدال آية/علامة في اللغة حتى ينفتح الدال آية ليستوعب الأحكام والتشريعات والنصوص، ثم تصبح هذه الدلالة المضافة هي المركز، ويتم إقصاء الدلالة اللغوية السابقة على القرآن إلى الهامش؛ فاللغة العربية ككل يحولها القرآن إلى نسق فرعي في بنائه الدلالي. ونحتاج إلى دراسات كثيرة ومركزة لكشف جوانب طبيعة اللغة الدينية، وما هذه الدراسة إلا إشارة.
في ظل حالة الاستقطاب التي تعيشها ثقافتنا كان لإعادة نشر كتاب الشيخ «علي عبد الرازق» «الإسلام وأصول الحكم» ضجة، فأردت إعادة طبع كتاب قد صدر بالتركية عام أربعة وعشرين، ونقله إلى العربية «عبد الغني سني بك»، لتعيد نشره «دار النهر للنشر والتوزيع» بالقاهرة، وكتبت مقدمة طويلة تضع الكتاب وإشكالية الخلافة وسلطة الأمة في السياق الراهن للقضية، وفي سياق صدور الكتاب في بدايات القرن العشرين، وسياق الخلافة ذاتها ومحتوى الكتاب في العشرة القرون الأخيرة من تاريخ المسلمين. تعرضت بالتفصيل لموقف د. «محمد عمارة» من قضية الخلافة في بداية السبعينيات - من القرن العشرين - وهو الذي أعاد نشر وجمع تراث التنوير والنهضة، بل ونشر كتاب «علي عبد الرازق» في مجلة «الطليعة» القاهرية اليسارية عام واحد وسبعين، وأعاد نشره في دراسة للظروف والوثائق الأساسية عام اثنين وسبعين في مؤسسة الدراسات العربية بلبنان. وهناك فارق بين «عمارة» السبعينيات - من القرن العشرين - و«عمارة» التسعينيات، والذي نشر سبع مقالات في جريدة «الحياة» اللندنية أعاد نشرها بجريدة «الشعب» في الحادي عشر من يناير سنة أربع وسبعين؛ لتلويث «علي عبد الرازق» وكتابه، فتحول الكتاب عند «عمارة» السبعينيات - من القرن العشرين - من محاولة لمناهضة تحالف الإنجليز والملك «فؤاد» لملء الفراغ الناتج عن إلغاء الخلافة في «تركيا» سعيا لتنصيب الملك «فؤاد» خليفة تحت سيطرة الإنجليز بالكامل؛ ليصبح عند «عمارة» التسعينيات جزءا من المخطط الاستعماري الغربي. يحاول إثبات أن الشيخ «علي عبد الرازق» تراجع عن أفكاره معتمدا على اجتزاء فقرات من محاضرة للشيخ، ألقاها في الجامعة الأمريكية في مارس سنة اثنتين وثلاثين بعنوان «الدين وأثره في حضارة مصر الحديثة»، نشرتها كجزء من الكتاب كشفا لتزييف «عمارة» التسعينيات . وظهر من تحليل خطاب «عمارة» أن السياسة هي التي توجه الفكر عنده، أو سيطرة الأيديولوجيا على المعرفة.
فبعد الحرب العالمية الأولى، وما حدث للدولة العثمانية - رجل أوروبا المريض - ونجاح أتباع «تركيا الفتاة»، قرر المجلس الوطني الكبير في «أنقرة»، في نوفمبر سنة اثنتين وعشرين، إعلان تركيا جمهورية وإلغاء السلطنة بعد فصلها عن الخلافة. وكان قرار الفصل بين منصب السلطان ومنصب الخليفة يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي عن الأتراك، فخرج هذا الكتاب الذي أعيد نشره كدراسة فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطنة، وكتب آخرون يرفضون هذا الإجراء مثل الشيخ «محمد رشيد رضا» في المنار، وكتاب ل «مصطفى صبري» أحد المعارضين لحزب «تركيا الفتاة»، حتى ألغي منصب الخلافة ذاته في مارس سنة 1341ه/1924م، فسعت أطراف عديدة للسعي للخلافة. وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءا من هذه الجهود، فكتب الشيخ «علي عبد الرازق» كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليقول به إن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين بل هي اجتهاد بشري للمسلمين، واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعلي بين الخلافة والسلطنة منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائما فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد والتحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين، وتلك هي الإشكالية التي يتعرض لها الكتاب؛ فمشكلة الخلافة ما زال البعض يناقشها من زاوية الدين لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة لا من باب السياسة.
تقدمت في شهر فبراير للترقية إلى أستاذ مرة ثانية بعد تغيير اللجان العلمية، وكنت حريصا على ضم الدراسات التي هاجمها «عبد الصبور شاهين» كجزء من إنتاجي، وأضفت إليها ما أنتجته من دراسات خلال الفترة السابقة، ومن ضمنها كتاب «التفكير في زمن التكفير»، وبه مناقشة لكل ما أثير حول إنتاجي وأفكاري.
15
بعض من يتصدون للحديث عن الإسلام يحصرون كل مجالات الحياة الإنسانية بين دائرتي الحلال والحرام فقط، وتوسعوا بطريقة غير مسبوقة في المحرمات؛ فكتبت مجموعة مقالات لجريدة «أدب ونقد» كان أولها «كلام ليس جديدا تماما عن الإسلام والشعر»، نشر في شهر يناير سنة خمس وتسعين، عرضت أقسام الأحكام الخمسة التي وضعها المفكر الأصولي القديم؛ الواجب والمندوب، والمباح وهو أوسع الدوائر، وهو ما يمكن أن نصفه بالحلال، ثم المكروه والمحرم. والفكر الذي يوسع دائرة الحرام مشكلته تكمن في خلطه بين ما هو محرم دينيا وفقهيا وبين المحرم اجتماعيا، فهل الشعر يدخل في دائرة الحرام بالمعنى الديني، أم يدخل دائرة المكروه، أم إنه في الحقيقة يقع في دائرة المباح؟ تناولت تعامل نصوص القرآن مع مسألة الشعر، وفي المقالة الثانية في فبراير بعنوان «الدفاع عن الشعر من أجل تأسيس علم البيان، قراءة في مقدمات عبد القاهر الجرجاني»؛ فآيات القرآن لا تتحدث عن الشعر بل عن الشعراء، و«عبد القاهر» في كتابه «دلائل الإعجاز» وضع علم البيان على رأس العلوم؛ لأنه العلم الذي يدرس الكلام الذي بواسطته توصل المعرفة وتنقل، ومفهومه للبيان لا يقف عند حدود دراسة الكلام في مستوى التواصل فقط، بل يدرسه في مستواه الفني الرفيع شعرا ونثرا. وعلم البيان يعتمد على دراسة النحو؛ فهو قانون اللغة، ومن جهة أخرى دراسة الشعر حيث تتجلى مستويات البراعة والفصاحة والبيان. والمقالة الثالثة في شهر مايو بعنوان «الدفاع عن الشعر، الحيثيات»، عرضت لحيثيات «عبد القاهر» شيخ البلاغيين العرب عن أهمية دراسة الشعر كضرورة إنسانية دنيوية، «حيث إن الفضائل أساسها العلم، والعلم أساسه اللغة والبيان». وهناك ضرورة أخروية؛ «حيث إن علمي اللغة والبيان هما أداة الكشف عن حجة الله المتمثلة في إعجاز كلامه سبحانه وتعالى. و«عبد القاهر» يناقش هؤلاء الذين يستندون إلى النصوص الدينية في كراهة الشعر، وهو ما سأتعرض له في المقالة التالية.»
منذ أن حصلت على كتاب «وليام جراهام» بعنوان «ما وراء الكلمة المكتوبة، الجوانب الشفاهية للنصوص الدينية في تاريخ الأديان»، في طبعته الورقية الصادرة في مارس سنة ثلاث وتسعين عن منشورات كامبريدج بنيويورك بالولايات المتحدة، وأنا أريد الكتابة عنه، فكتبت عرضا له نشرته مجلة «العربي» الكويتية في عدد مارس سنة خمس وتسعين تحت عنوان «البعد المفقود من الدراسات الدينية»، يبدأ المؤلف بطرح سؤال: ما النص الديني؟ بهدف إعادة النظر في التعريف الشائع في سياق التراث الأوروبي الذي يشير إلى النصوص التي دونت أو طبعت دون ما هو شفاهي/سمعي متداول. والمؤلف يطرح مفهوما للنصوص الدينية لا يتجاهل طبيعة الوظائف الشفاهية/السمعية، ويسميه المفهوم العلائقي؛ الذي يعتمد على العلاقة بين النص أو النصوص المعنية، وبين الجماعة أو الجماعات التي تؤمن بها. ويفرق بين نمطين من دراسة النصوص الدينية؛ أولهما دراسته بوصفه نصا مقدسا، فيركز على المعنى العلائقي السياقي الناتج عن تفاعل الجماعة مع ذلك النص، فيدرس ماذا يعني النص بالنسبة للجماعة التي تؤمن به؛ كيف تفسره وتوظفه في كل جوانب حياتها. ونمط ثان يدرس النص بوصفه وثيقة، فنركز على الخلفيات التاريخية مثل نشأة النص وتطور مراحله المختلفة. ويدرس النصوص المقدسة في التراث الإنساني مركزا على التراث الغربي والهندي والإسلامي. وهذا المفهوم يطرح تحديا علينا - نحن دارسي الظاهرة الدينية - بعدم التركيز فقط على النصوص المكتوبة في ممارسات الجماعات الدينية بالتركيز على الكتابي وإهمال الشفاهي تماما. واكتشفت خطورة التقصير من جانبنا بإسقاطنا من مجال اهتمامنا ودرسنا البعد الشفاهي ونحن ندرس النصوص الدينية، بل وأسقطنا كل ما يتعلق بالحياة الدينية في تركيزنا على النص المدون المكتوب، وهو ما يجب فورا تداركه بالعودة إلى المفهوم العلائقي الذي وجد أولا، وما زال موجودا في التراث الإسلامي وفي الحياة الدينية الإسلامية.
فشلت الدعوة للحوار الذي دعت إليه السلطة كحوار من أعلى يعتمد على الإقصاء، فجاءت العشر الأواخر من رمضان بدعوة للحوار بين «عادل حسين» الاقتصادي وعضو حزب العمل ممثلا لتيار الحل الإسلامي، وبين «رفعت السعيد» عضو حزب التجمع وممثل اليسار المصري. وقد نشرت جريدة «الأهالي» الصادرة عن حزب التجمع نص الحوار في الأول من مارس سنة خمس وتسعين، فكتبت دراسة تحليلية نشرت ضمن كتاب من كتب سلسلة «الأهالي» عدد اثنين وخمسين عن «المواجهة بين «رفعت السعيد» و«عادل حسين» حول الاعتدال والتطرف»، وكانت مداخلتي بعنوان «مقاربة منهجية، عادل حسين ورفعت السعيد خطابان أم خطاب واحد؟» فحالة الانقسام التي يمر بها المجتمع تجعل من التكاتف من أجل صياغة مشروع للإنقاذ الوطني، أساسه الاتفاق على الحد الأدنى من الأهداف المشتركة، ونتفق على الآليات لتحقيقها؛ فشرحت مجموعة ضوابط منهجية ومنطلقات لعلم تحليل الخطاب، ومستوى المنطوق، ومستوى قراءة الفحوى أو المفهوم، ومستوى الدلالات المضمرة، ثم مرحلة تحليل بنية الخطاب من خلال ما يكون في بؤرة الخطاب وما في هامشه من عناصر. في هذا الحوار نحن إزاء خطابين يعطي كل منهما ظهره للآخر تماما، فافتقد الحوار تحديد الموضوع وتحديد نقاط الاختلاف، واستخدم كل منهم آلية توظيف النصوص لإقصاء الآخر. ولم تختلف لغة الوعظ الديني في خطاب «عادل حسين» عن لغة «رفعت السعيد» الماركسي الداعية، رغم اختلاف المفردات. وخيم على الحوار الطبيعة السياسية لا الفكرية؛ فلم يتحقق حوار بقدر ما هي مواجهة. وسبب ذلك هو غياب الأبعاد المعرفية في كلا الخطابين لحساب الأبعاد السياسية المباشرة، فكان الناتج مجرد مساجلة.
16
كان غبار قضية محاولة منع عرض فيلم المهاجر ل «يوسف شاهين» في المحكمة على أشده، فكتبت مقالة لجريدة «الحياة» بلندن بعنوان «تجديد الفكر الإسلامي أسئلة واقتراحات».
وكتبت دراسة أكثر تفصيلا نشرت بمجلة «القاهرة» في عدد شهر مايو عام خمسة وتسعين، بعنوان «التنوير الإسلامي جذوره وآفاقه»، أدرس فيها إنجاز «ابن رشد» في الفكر الإسلامي ، وفي سياق عقلانية المعتزلة، والتي مهدت له، وكيف كان لهذا الجهد حضور في الفكر الإسلامي الحديث المتأثر بالاحتكاك بعصر الأنوار الأوروبي من خلال نموذج خطاب «الإمام محمد عبده»؛ فالمعتزلة قالوا إن للكلام الإلهي قصدية تستنبط، ليس من داخل الكلام بل نابعة من الفهم العقلي للوجود خارج اللغة، وخارج الكلام الإلهي ذاته. وهناك دلالات عقلية وجوبية لا تختلف من مجتمع إلى آخر أو ثقافة إلى ثقافة؛ فهي دلالات يتفق عليها العقلاء بصرف النظر عن المكان والزمان، مثل دلالة الفعل على الفاعل، وبها علاقة تلازم عقلية.
النوع الثاني من الدلالة هو الدلالة الاتفاقية التي يتفق عليها البشر، مثل اللغات التي تعتمد على الإشارات والحركات الجسدية، أو العلاقة بين الدال والمدلول في اللغات الطبيعية؛ فكلمة «رجل» في اللغة العربية تشير إلى نفس مدلول كلمة
Man
الإنجليزية. من هنا قال المعتزلة بالحاجة إلى العقول لاستنباط الدلالة القصدية للكلام الإلهي. ولا يستقل الكلام الإلهي استقلالا تاما إلا فيما يتصل بالأحكام الشرعية، وهو الجانب الذي ركز عليه علماء الأصول والفقهاء تركيزا أساسيا.
المعرفة الفلسفية عند «ابن رشد» تقوم على التأمل في آيات العالم باعتبارها دالة على الصانع، مستخدما البرهان الفلسفي والمعرفة الدينية بفهم الآيات اللغوية في القرآن. ولأن خطاب الشرع موجه إلى الناس كافة على اختلاف قدراتهم الذهنية، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومن يصدق بالجدل، ومنهم من يصدق بالخطابة. والبرهان أساسي وضروري لمعرفة الدين والشرع، وما ظاهره في الشرع مخالف للبرهان العقلي لا بد أن يقبل التأويل. والتأويل يكون «بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير إخلال بعادة لسان العرب في التجوز»؛ فالمعتزلة و«ابن رشد» جعلوا من معرفة العالم بالاستدلال العقلي، أو في عصرنا بمناهج العلم المعاصر وتقنياته، مدخلا أساسيا لفهم كلام الله، ومرجعية اللغة كنظام رمزي يشير إلى العالم من ناحية، وكشفرة للرسالة الإلهية الكلامية من جهة أخرى.
واستجابة لتحدي أوروبا حاول «محمد عبده» التجديد من خلال تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلافات ؛ فأخذ مفهوم التوحيد عند «الأشاعرة»، ومفهوم العدل عند المعتزلة، لكنه تخلى عن الانتقائية بين المعتزلة والأشاعرة، ورتب أصول الإسلام حسب ترتيبها عند المعتزلة، وجعل النظر العقلي هو الأصل الأول للإسلام، ووسيلة الإيمان الصحيح، والأصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والثالث البعد عن التكفير، والرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق بمحاولة كشف القوانين الطبيعية والإنسانية في الكون والواقع، والخامس قلب السلطة الدينية. من هنا فمعرفة العالم بقوانينه الطبيعية والإنسانية والاجتماعية أساسية لفهم وتأويل الكلام الإلهي. •••
أصدرت بيانا إلى الأمة نشرته مجلة «روز اليوسف»، في عددها الصادر في السادس عشر من مايو، بعنوان «الحقيقة أو الشهادة»، قلت فيه: لأنني باحث مسلم وهب حياته للدفاع عن الإسلام، وكرس طاقته الذهنية والعملية للكشف عن غايته النبيلة ومعانيه الإنسانية السامية في مناخ يسيء للإسلام، ويعرضه لهجوم الأعداء بسبب بعض الذين يستغلون معانيه الإنسانية النبيلة لتحقيق غايات نفعية دنيوية رخيصة على حساب مصلحة الأمة ومصالح المواطنين مسلمين وغير مسلمين؛ لذلك أدهشني بقدر ما أثار غضبي سعي هؤلاء سعيا حثيثا لقتلي بدلا من مناقشة أفكاري ... والجدال معي بأساليب البرهان العقلي الرشيد ... لقد سمحوا لأنفسهم باتهامي بالردة ... والزيغ عن الإسلام، وطالبوا بالتفريق بيني وبين زوجتي.
ولأن الإسلام الناصع الصفاء لا يسمح لهم بذلك ... فقد حاولوا التخفي وراء عباءة القانون متجاهلين أن دعوى تكفير المسلم بلا برهان ترتد - عند الله سبحانه وتعالى - على المدعي؛ فالله وحده هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ... ولأنني أعتز بإيماني بالله وبرسوله، وإيماني بنبل الإسلام وإنسانية مقاصده، فإنني أعتز كذلك بقيمة اجتهاداتي الفكرية والعلمية ... لذلك لن تنال مني فتاواكم المغرضة، ولا محاولاتكم المستميتة لقتلي، سأظل أناضل عن الإسلام مسلحا بالوعي العلمي والمنهجية الصارمة ولو كان دمي هو الثمن، ولا سبيل إلا الحقيقة أو الشهادة، أو معانقة النور يضيء عقول المسلمين، ويفتح أمامهم سبيل التقدم،
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
غضبت من تصرف «جابر» بإضافته الشهادتين لنص البيان تحت إلحاح وزير التعليم، ونشره بجريدة «الأخبار »، وكأنني أعترف أني قد خرجت من الإسلام لأعود إليه، وشعرت بمرارة منه رغم تأكيده أن الأمر خرج عن يده في نشر هذا البيان في جريدة الأخبار؛ ليفسره البعض تفسيرا خاطئا كما فعلوا مع نائبة البرلمان الأردنية.
تلقيت دعوة من معهد الدراسات المتقدمة في برلين للعمل لمدة عام، من أكتوبر سنة ست وتسعين. ومنذ عامين كنت انضممت إلى مجلس تحرير الموسوعة القرآنية التي تقوم جامعة «لايدن» الهولندية خلال الأعوام القادمة، جامعة الدراسات الإسلامية العريقة التي أصدرت الموسوعة الإسلامية. وتعرفت على بعض الباحثين الهولنديين، منهم رئيس المعهد العالي للدراسات الآسيوية، والسفير الهولندي بالقاهرة ذاته متخصص في الدراسات الإسلامية، وله كتاب عن سوريا. وكان رئيس المعهد الهولندي بالقاهرة «فريد ليمهاوس» متخصصا في الدراسات الإسلامية، وهو مترجم القرآن إلى اللغة الهولندية، ودراساته كلها عن التفسير، فألقى محاضرة عن أبحاثي ودراساتي. وكنا قد تبادلنا الرأي خلال العام الماضي عبر الهاتف.
جاء قرار مجلس جامعة القاهرة بالموافقة على قرار لجنة الترقيات الجديدة بترقيتي إلى أستاذ، في نهاية شهر مايو، ردا للاعتبار تأخر عامين. وكنت قد جمعت ما كتب في الصحف السيارة عن القضية بمساعدة «ابتهال»، وكتبت مقدمة طويلة لها بعنوان «القول المفيد في قضية أبو زيد»، شرحت فيه خبايا القضية ومواقف الأطراف قبل وأثناء الأزمة. وقامت جريدة الأهالي بنشره في عدد خاص بشهر يونيو، بعنوان «القول المفيد في قضية أبو زيد»، بقلم عقل مصر وضميرها، جمع وتقديم د. «نصر حامد أبو زيد».
17
منذ أن قدم الأستاذ «محمد صميدة عبد الصمد» استئناف رقم 287 لسنة 111 قضائية، في العاشر من فبراير سنة أربع وتسعين، ذكر في استئنافه لحكم محكمة الدرجة الأولى التي حكمت لصالح «نصر أبو زيد»، وزوجته «ابتهال يونس»، أن حكم الدرجة الأولى خالف حكم محكمة النقض المذكور. ثانيا: معنى حكم النقض هو العودة إلى مذهب «أبي حنيفة» عند عدم وجود قوانين بقواعد خاصة، ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية؛ هما القانون في الأحوال الشخصية. ثالثا: هذه الدعوى المرفوعة تنبع من ولاية أضافها الشارع سبحانه على كل من أوجبها عليه . رابعا: إشارة حكم محكمة النقض ضمنيا إلى النيابة العامة كدور المحتسب. خامسا: حكم محكمة القضاء الإداري في مسألة خروج الآثار المصرية. سادسا: عرض مجموعة من الأقوال عن الحسبة.
عقدت الجلسة الأولى في السادس والعشرين من يوليو سنة أربع وتسعين، فقدم الأستاذ «خليل عبد الكريم» محامي «نصر أبو زيد» مذكرة دفاع تمسك فيها بكافة الدفوع التي طرحها في محكمة أول درجة، ورد على أسباب الخصوم في الاستئناف، فقال: إن حكم محكمة النقض 30 مارس سنة ست وستين، والذي يستندون إليه، أصبح بعد صدور دستور سنة إحدى وسبعين غير مواكب للبيئة التشريعية الجديدة. ثانيا: إن ما ورد في قوانين الأحوال الشخصية من أحكام هو الواجب التطبيق حتى لو كان يخالف أرجح الأقوال في مذهب «أبي حنيفة». ثالثا: الخصوم يخلطون بين مفهوم الولاية في دعوى الحسبة؛ فهي غير مفهوم المصلحة بالمعنى الحديث. رابعا: حكم محكمة النقض أشار إلى النيابة في مسألة إثبات النسب للمولود، ولم تذكر وجود نيابة مفترضة في الحسبة. خامسا: حكم المحكمة الإدارية الذي يستندون إليه ما دخله في قانون الأحوال الشخصية؟ سادسا: لا يوجد محتسب أو ديوان مظالم كما ورد في الاستشهادات التي كانت حول رفض العلاقة من البداية، وهو ليس في حالة زواج، كما بين د. «نصر» ود. «ابتهال».
فتحت المحكمة الباب لتقديم مذكرات، فقدمت نيابة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية مذكرة في 19 يناير سنة خمس وتسعين. وقدم الأستاذ «سيف الإسلام عبد الفتاح حمد» مذكرة دفاع ركزت على الجوانب الإجرائية. وقدمت النيابة في 12 فبراير مذكرة ثانية قالت فيها: إنه لا يمكن القول بارتداد المستأنف ضده الأول بحيث يجب التفريق بينه وبين زوجته. وأما بالنسبة لتعريض المستأنف ضده بالدين الإسلامي ومقدساته في كتاباته، فإنه يجوز مساءلته قضائيا. عقدت المحكمة جلسة في 18 مايو رد فيها الأستاذ «خليل عبد الكريم» على مذكرة النيابة الأولى، وعقدت المحكمة جلسة في 29 مايو تعذر فيها المداولة، فأجلت المحكمة إلى يوم الأربعاء 14 من يونيو النطق بالحكم.
دخل رئيس المحكمة المستشار «فاروق عبد العليم مرسي»، العائد منذ مدة قصيرة من السعودية، بلحيته الكثة، يرتدي زيا يشبه أزياء أهل الباكستان، وعضوية السيدين «نور الدين يوسف ومحمد عزت الشاذلي»، وبحضور السيد رئيس النيابة «محسن عبد الرحمن»، وأمين السر «أحمد عبد الحميد عبد الجواد». وحضر الجلسة الأستاذ «محمد صميدة عبد الصمد»، والأستاذ أيمن البدري عن المحامية «أميرة بهي الدين» عن د. «ابتهال يونس». استند الحكم إلى أن حكم المحكمة الابتدائية بعدم قبول الدعوى هو حكم في مسألة موضوعية تتعلق بأصل الحق في الدعوى؛ مما يجعل محكمة الدرجة الأولى قد استنفدت ولايتها بالفصل في النزاع؛ ومن ثم تتصدى محكمة الاستئناف في الفصل في الموضوع. وقال في الحيثيات: إن المحكمة الابتدائية تختص بدعاوى الفرقة بين الزوجين بجميع أسبابها؛ ومن ثم فإن دعوى التفريق بين الزوجين بسبب ردة أحدهما تختص بها المحكمة، ويكون البحث في حصول الردة من عدمه مسألة أولية تختص بها المحكمة، والمحكمة تفرق بين الاعتقاد الذي يكون داخل الإنسان وبين الردة التي لها كيانها الخارجي، ولا بد أن تظهر هذه الأفعال بما لا لبس فيه. النيابة العامة في مذكرتها للمحكمة كان عليها أن تقول إن كتابات المستأنف ضده لا تشكل في نظرها ردة، أو تقول إنها تشكل ردة موضحة أسباب الرأي الذي تقول به أو تطلب طرق إثبات، غير أنها لم تفعل. «حكمت المحكمة حضوريا بقبول الاستئناف شكلا وبإلغاء الحكم المستأنف ضده، ورفض الدفوع المبدأة من المستأنف ضدهما بعدم الاختصاص الولائي، وبعدم انعقاد الخصومة، وبعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذي صفة، وباختصاص المحكمة ولائيا بقبول الدعوى. وفي الموضوع بالتفريق بين المستأنف ضده الأول والمستأنف ضدها الثانية، وإلزامهما بالمصاريف عن الدرجتين وعشرين جنيها مقابل أتعاب المحاماة.»
عدت من الجامعة، وكان آخر يوم في الامتحانات. اتصل بي الصديق «عادل حمودة» يسألني عما سأفعل. لم أكن أعرف ماذا يقصد، وكأنه شعر بذلك مني، وفي نبرة صوت بها بعض الاندهاش سألني إن كنت لم أعرف أن المحكمة قد حكمت اليوم بالتفريق بيني وبين «ابتهال». شعرت أنا و«ابتهال» بنوع من الغضب. أنهيت المكالمة معه واتصلت بالأستاذ الشيخ «خليل عبد الكريم» المحامي لأعرف منه ما حدث، فأكد لي الخبر، وقال بنبرة بها أسى: «أرجو ألا تعتبرنا قصرنا.» عاتبته بشدة؛ فأنا أعرف مدى تعبه وجهده في البحث والتنقيب في المراجع وفي كتب التراث، ما يساوي مجهود رسالة دكتوراه. لم نتوقع هذه المفاجأة، ولا أعرف كيف ينفذ حكم كهذا؛ هل أترك الشقة أم تتركها دكتورة «ابتهال»؟ وهل ينفذ بانتزاعنا من بعضنا بعضا بالقوة؟ حاولنا التغلب على شعور الغضب وهول المفاجأة. على الساعة السابعة كان الخبر قد انتشر، ولم يتوقف التليفون عن الصريخ. المفكر السوري «عزيز العظمة»، ووزير التعليم د. «حسين كامل بهاء الدين»، والذي قال لي: «هذه ليست قضيتك وحدك، هي قضيتنا جميعا، ولن نقف مكتوفي الأيدي، وسوف نتولى أمر إجراءات النقض، ونحن لا ندافع عنك إنما ندافع عن المجتمع.» «ابتهال» تقوم بالرد على التليفونات التي لم تتوقف، لا أعرف كيف مرت هذه الليلة. صباح اليوم التالي الخميس غمر الشقة الصغيرة الأهل والأصدقاء؛ الروائي «عبده جبير»، وصديقي الشاعر «محمد صالح» الذي لم يتوقف عن المزاح كعادته. وحضر «جمال الغيطاني» رئيس تحرير «أخبار الأدب» ومعه الصحفي «محمود الورداني»، و«عزت القمحاوي»، والمصور «يوسف ناروز». واتصل الدكتور «أسامة الباز» الذي عاد للتو من الخارج يعرب عن مساندته. أصبحت الشقة كدوار عمدة، بها ضيوف طوال الوقت. وكان عندي مناقشة لرسالة ماجستير في جامعة طنطا يوم الثلاثاء العشرين من يونيو، فوجئت بدواع أمنية، وخوف أحد الأساتذة من أن تتعرض المناقشة لهجوم إرهابي، وكان وضعا مخجلا. وماذا سيحدث في أربع رسائل أخرى مفروض أن أناقشها هذا الصيف. كانت الدولة قد رفعت الحراسة عني بعد صدور الحكم السابق. ومع حكم الاستئناف والتهديدات بالقتل التي بدأت تترى، عينت الشرطة حراسة دائمة تقيم معي، وتذهب معي في كل مكان. بدأت أشعر بالاختناق، فاتصلت بعميد الكلية أطلب منه أن يختار أحد الأساتذة ليصحح أوراق الامتحان للوضع الذي أنا فيه، لكنه أصر على أن أقوم بتصحيحها، وحتى لا يتصور الطلبة أن الكلية جزء مما يحدث لك.
قاب قوسين
1
وصلت بنا الطائرة إلى مدريد بإسبانيا في السادسة صباحا، ألقينا حقائبنا بالفندق، واندفعنا إلى الشارع نجمع حريتنا التي خطفت منا خلال الأربعين يوما الماضية، كنا في سجن كبير. قضينا أنا و«ابتهال» وقتا جميلا كنا في حاجة إليه على الرغم من حرارة شهر يوليو. برق الشهر مسرعا، وتوجهت «ابتهال» إلى منحتها الدراسية، وذهبت إلى المكتبة القومية بمدريد أبحث عن المراجع لأكتب ردا فكريا على حيثيات حكم الاستئناف، تاركا الرد القانوني للقانونيين، نشرته مجلة «أدب ونقد» في شهر سبتمبر سنة خمس وتسعين؛ حيث إن القاضي وضع تعريفا للردة بأنه: «الرجوع عن دين الإسلام، والمرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، وركنها التصريح بالكفر، إما بلفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه بعد الإيمان.» والمقصود بالكفر «يلزم أن يكون ما صدر من المدعي بردته مجمعا على أن يخرجه من الملة عند كافة علماء المسلمين وأئمتهم مع اختلاف مذاهبهم الفقهية.» لكن للأسف الشديد لم يلتزم القاضي بالتعريف الذي استقاه؛ فبالعودة إلى المصادر التي أشار إليها الحكم يمكن أن نكتشف أن حدود الأفعال والأقوال التي تدخل في حيز الردة تنحصر في المرتد «فعلا»؛ من أتى بفعل السجود لصنم أو إلقاء المصحف في قاذورة، أما المرتد «قولا» فهو من جرت على لسانه كلمة الكفر بما هو داخل في حيز الإيمان، وهو كل ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.
فالقاضي يقرأ النصوص قراءة حرفية، ويعزلها عن سياقاتها في الماضي؛ فالفقيه القديم حينما قال بمقولة المعلوم من الدين بالضرورة يخرج من منظومة فكرية متكاملة، بها الفقه وعلم الكلام والفلسفة؛ فالعلم الضروري يقصد به: الذي ليس في حاجة في علمه إلى نظر أو استدلال. بلغة عصرنا البدهيات. والعلم النظري يقصد به: الذي ينتج عن نظر أو استدلال. كما قال الباقلاني المتوفى 304ه/917م في كتابه «تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل»، صفحة 35 و36، وفي كتاب «الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به»، صفحة 13؛ فمحتوى الإيمان الذي يعد الارتداد أو الخروج عنه كفرا هو: ما يعلمه المسلم علما ضروريا؛ أي دون حاجة إلى نظر أو استدلال أو تفكير فيه. وليس في كل ما أورده القاضي من أقوال قول واحد ينكر علما ضروريا؛ أي بدهيا في الدين؛ فليس ثمة قول ينكر أن الله واحد، وأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
نبيه ورسوله، أو ينكر الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو يحرم حلالا أو يحل حراما، وإنما كل ما ورد هو من قبيل الاجتهادات النظرية الاستدلالية، بل إن الحكم انحرف انحرافا واضحا عن التعريفات المستقاة من كتب الفقه، وذلك حين عاد ليدمج فيها تصوراته الشخصية لتمهد له السبيل لإصدار حكم الردة.
وتناولت في موقف الحكم من كتاباتي مسألة مسألة، وعرضت وجهات نظر للشيخ «الإمام محمد عبده» فيها، وبينت عجز القاضي بسبب منهجه الحرفي في فهمه للنصوص، وعن فهم المعاني التي كتبتها ؛ ومن ثم انتزاع الاجتهادات من سياق الأدلة في مسائل الميراث وملك اليمين والجزية وعالمية الإسلام. وقدم الحكم قراءة مبتسرة للنصوص تنتزعها من سياقها قصدا ليحملها معاني لا تحتملها.
قبل مغادرتي مصر كنت قد بدأت التحضير لجزء ثان من كتابي «مفهوم النص»، سيكون عن مفهوم النص في السنة، وكان كتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية هو جزءا منه، لكن أمامي الآن سؤال مهم نتج مما حدث يشغلني، وهو: «لماذا تتعرض شجرة التنوير للذبول بل والموت كلما نمت قليلا؟» فكتبت دراسة نشرتها مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية تحت عنوان «مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد»، في عددها السادس عشر سنة ست وتسعين؛ ف «ابن رشد» لم يطق الفقهاء وجود رفاته على الساحل الأفريقي، فجمع الرفات في ناحية على ظهر دابة، وكتبه على الجانب الآخر، لينقل إلى الساحل الشمالي في الأندلس، وها أنا هنا على نفس الساحل بعد قرون، فكيف استطاع خطاب «الغزالي» الذي أصبح خطاب المركز والمهيمن أن يحصر خطاب «ابن رشد» في الهامش؟!
فحالات تراجع الجديد أمام القديم تسهم في تثبيت القديم في مكانته؛ فالمفكر حين يتراجع موهما نفسه أنه تراجع تكتيكي، لحين تتهيأ الظروف ويتطور وعي العامة، ما هذا إلا وهم. مهمة البحث التحليلي النقدي هو تفكيك الأفكار القديمة ونزع قناع القداسة عنها بردها إلى سياقها الأصلي بوصفها نتاجا بشريا تاريخيا؛ ف «أبو حامد الغزالي» (ت: 505ه/1111م) خطابه ذو بنية مزدوجة؛ فهو خطاب سلطة بامتياز في الشق الأشعري منه كمتكلم، يساند السلطة السياسية، ويبرر سيطرتها وهيمنتها وديكتاتوريتها أيديولوجيا، وهو أيضا خطاب للعامة والخاصة في شقه الصوفي كعزاء تجابه به سطوة السلطة. ويقدم لسلطة الدولة السنية سلاحا في صراعها ضد سلطة الشيعة؛ فوسطية «الغزالي» تلاقت فيها الأنظمة المعرفية الثلاثة التي أشار إليها «محمد عابد الجابري»؛ البيان والبرهان والعرفان، لكنها وسطية أفضت إلى تبرير السياسي بالفكري، وجعلت المعرفي تابعا للسياسي، وهذا كله في سياق انهيار شامل أدى إلى نكوص العقل الإسلامي وتحصنه بالسلفية؛ دفاعا عن وجوده ضد هجمات المغول والتتار.
و«ابن رشد » (ت: 595ه/1198م) رأى أن الخطر هو أن يكفر الناس بالحكمة أو بالشريعة؛ نتيجة لإشاعة التأويل بين الناس بأدلة الجدل والخطابة، «ففعل كما فعل «الغزالي»، وطالب بالنهي عن قراءة كتب الحكمة إلا لمن كان من أهل العلم، فوقع «ابن رشد» في شراك «الغزالي» بحله الوسطي، بأن تحجب المعرفة عن العامة، فلا تطرح عليهم أدلة الجدل أو البرهان. و«الغزالي» يبدأ حركته المعرفية من عالم الملكوت، ومنه إلى النص، ومن النص إلى عالم الحس والشهادة. والتأويل عنده هو فك شفرة النص الديني من أجل فهم العالم الذي تمثل اللغة تعبيره المجازي، لكن منهج الحركة المعرفية عند «ابن رشد» حركة معاكسة، يبدأ من العالم الطبيعي إلى ما وراء الطبيعة أو ما بعدها»، نزولا إلى النص الديني بالتأويل الذي تواصل به «ابن رشد» مع التراث المعتزلي. وخلال رغبته وسعيه للحركة من موقع الهامش قدم تنازلات، أو بتعبير «محمد أركون» ترضيات، والتي عمقت هامشيته؛ لأن هذه الترضيات بطريقة غير مباشرة كرست مركزية «الغزالي» بما تمثله من دلالات؛ فإذا كان لنا أن نستدعي «ابن رشد»، فليكن استدعاؤنا له ليس من أجل الصراع الأيديولوجي، بل من أجل تعميق فهمنا لأنفسنا ولتراثنا ولعصرنا.
أثناء بحثي عن بعض كتب التفسير بالمكتبة الوطنية في مدريد، عثرت على ترجمة للقرآن، يعود تاريخها لعام 1921م لصاحبها «محمد أحمد علي، هندي»، ينتمي إلى المدرسة الأحمدية، ولم تكن مجرد ترجمة إلى الإنجليزية، بل تفسيرا ضم ما يزيد على ألفين من التفسيرات المرقمة، تعرض لكل المشكلات المطروحة على الفكر الإسلامي في الغرب، سواء المرتبطة بالمسيحية أو بطبيعة السيد المسيح، وقضية الجبر والاختيار والناسخ والمنسوخ من منظور الدفاع عن الإسلام. ووجدت كتابا آخر ل «الطاهر بن عاشور» التونسي (1295ه/1879م-1390ه/1972م) بعنوان «التحرير والتنوير»، وهو كتاب في التفسير، فتركت موضوع السنة، وانشغلت بالبحث في إشكاليات التفسير والتنوير منذ «الطهطاوي ومحمود طه» في السودان، و«محمد شحرور» في سوريا، و«محمد إقبال والسيد أحمد خان وأبي الأعلى المودودي» في الهند، حتى «سيد قطب»؛ لدراسة إشكاليات التأويل في العصر الحديث، ووصلت إلى قرار هو أن أقبل المنحة الدراسية في جامعة «لايدن» وألا أعود إلى مصر.
2
لو عدت لمصر سيعطل المعلم بداخلي، ولأصبحت كباحث مشدودا للسجال؛ فلا بد من حماية الباحث «نصر أبو زيد» من القضاء عليه داخليا؛ حتى يتاح للمعلم العودة إلى طلابه أكثر عافية. كان ذلك وراء قبولي منحة جامعة «لايدن»، ولمكانة الدراسات الإسلامية الرصينة فيها. فوصلنا إلى هناك في الخامس والعشرين من أكتوبر عام خمسة وتسعين. «لايدن» تبعد أربعين دقيقة بالسيارة من العاصمة الهولندية، أمستردام. أقمنا في سكن تابع للجامعة، هو استراحة للأساتذة الزائرين؛ شقة صغيرة في الطابق الثاني بمبنى يطل على حديقة عامة. استقبلنا مصريون وعرب مقيمون في هولندا، وفي معيتهم أغنية «أم كلثوم» «على بلد المحبوب وديني»؛ فاللجوء ظاهرة عربية. وسفير مصر في هولندا رجل مهتم بحقوق الإنسان، أصر أن نتناول الغداء في بيته، وكان بنفسه في انتظارنا في المحطة، وغمرتنا زوجته الكريمة بترحابها.
طالت لحيتي، وازداد وزني أكثر. قمت بتدريس مادة التفسير لطلبة قسم اللغة العربية للسنة الثانية، وحاولت التغلب على التوتر الدائم بالعمل المتواصل، وبدأت أتعلم استخدام الكمبيوتر الذي وفرته لي الجامعة، واكتشفت به عالم السحر المنظم، أحمله معي في كل مكان، وأصبحت قادرا على إنجاز أبحاثي ودراساتي بصورة أسهل وأسرع. بدأت أشارك في تدريس برنامج في مستوى الماجستير في الفكر الديني والمقارن، مقارنة بين إندونيسيا والعالم العربي ومصر، وبدأت الإشراف على رسالة ماجستير، وأخرى للدكتوراه، لطالبين من إندونيسيا. والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية تزداد. قام «فريد ليمهاوس» بترجمة مختارات من كتاباتي إلى اللغة الهولندية، نشرت في أمستردام، كان قد عزم عليها حينما كنا في القاهرة. وكذلك الأستاذة «شريفة مجدي» المصرية المقيمة في ألمانيا من عام ستة وسبعين، والحاصلة على دكتوراه في الإسلام السياسي، قامت بترجمة أجزاء من كتاب «نقد الخطاب الديني» إلى الألمانية. وكتب «نافيد كرماني» المقدمة، ونشرتها دار «ديبا» في فرانكفورت.
في إجازة أعياد الميلاد وبداية السنة، سافرت «ابتهال» إلى القاهرة في زيارة، ولم أرد الذهاب. وعملت على دراسة باللغة الإنجليزية عن «الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال»؛ فهناك فجوة دائما بين النصوص، سواء كانت دينية أو دنيوية، والواقع الفعلي كظاهرة إنسانية. وأخذت الفكر الإسلامي كمثال تطبيقي لهذه الظاهرة. والأديان حينما تكرم الإنسان فهي تكرم الإنسان المؤمن بهذا الدين، ويتبع هذا الدين كطريق للخلاص، أما الإنسان غير المؤمن بهذا الدين فإنه يصبح عاصيا، مصيره العذاب الأخروي؛ أي يصبح إنسانا بلا حقوق. والإسلام في نصوصه الأساسية الأصلية يؤكد مفهوم احترام الإنسان؛ من حيث هو إنسان بصرف النظر عن عقيدته أو لونه أو جنسه، لكن حين نتجاوز تلك المبادئ المثالية إلى الحياة الاجتماعية، والممارسات التاريخية في المجتمعات الإسلامية، تجد صورة أخرى لحقوق الإنسان؛ لذلك فالتحليل يتطلب أن ننتقل من النصوص التي تمثل الوحي الإلهي إلى الفكر الإنساني؛ أي إلى الطرائق التي فهم بها الإنسان هذه النصوص.
فتناولت المسألة عند اللاهوتيين المسلمين (علماء الكلام)، وعند الفلاسفة والمتصوفة، ثم الإنسان في الفكر الفقهي، واكتشفت أنه الإنسان غاب كمفهوم اجتماعي في الفكر الإسلامي. والأصولية الإسلامية الحديثة التي اتخذت من مفهوم الحاكمية مقولة استبعدت أي مرجعية أخرى سوى مرجعية العلماء والفقهاء في مجال تنظيم الحياة الإنسانية، لكن للإنصاف فإن الأصولية صارت نزعة كونية لها تجلياتها الدينية والمعرفية والثقافية والأيديولوجية، وهي في مجملها نزعة تحصر مفهوم الإنسان . وعلينا أن نضع على رأس مهامنا بلورة مفهوم الإنسان الذي يكتسب إنسانيته من الانتماء إلى عرق أو جنس أو ثقافة بعينها، أو من انتمائه إلى طبقة بالمعنى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي. وناديت بأهمية فهم الثقافات الأخرى في إطار إنجازاتها وسياقها دون أن نفرض عليها معايير تقييم من ثقافة أخرى ترى نفسها أعلى وأسمى.
كتبت «ابتهال» «صرخة في ذكرى حزينة، فاعل مفعول به»، نشرتها جريدة «الأهالي»، قالت فيها: إن القضية لم تكن شخصية قصد بها «نصر وابتهال»، بل مقدمة لطابور طويل. اقتربت الذكرى السنوية ولا عزاء للسيدات؛ فليس من حقهن القيام بأي فعل. لقد كرم الله المرأة، فحولها جلادونا إلى أداة ووعاء ومفعول به. هكذا أصبحت كامرأة أداة لعقاب «نصر أبو زيد». إنها النتيجة المنطقية لنظرة جلادينا للمرأة. إذا كانت المرأة مجرد أداة للمتعة، فإنها يمكن أن تتحول إلى مجرد أداة للعقاب؛ بحرمان الرجل الذي يقتنيها من أداة للمتعة ... هل نسي هؤلاء أن الصفات التي يلصقونها بكلمة امرأة، كوعاء وأداة ومتعة، تنطبق على أمهاتهم؟ هل هناك من يرضى أن تطلق مثل هذه الألفاظ والعبارات على أمه، ولا أقول على زوجته أو أخته أو ابنته؟ أم نسي هؤلاء أن الأم امرأة، وبفضل كونها امرأة صارت أما؟
طلب مني المحامون أن أوثق في القنصلية المصرية البيان الذي أصدرته العام الماضي في مجلة «روز اليوسف»، بعنوان الحقيقة أو الشهادة؛ ليكون وثيقة رسمية بإسلامي، ففعلت. ونشرت دار مدبولي كتابي التوثيقي للقضية «القول المفيد في قضية أبو زيد». وجمع المركز الثقافي العربي - بجهد مديره الصديق «حسن ياغي» - بعض دراساتي في الأعوام السابقة في كتاب «النص والسلطة والحقيقة»، ذهبت إلى مدينة «هانوفر» في شمال ألمانيا للمشاركة في ندوة تتناول الأدب وحرية الإعلام وحقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية، في مايو سنة ست وتسعين، اشترك فيها باحثون من مصر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين وإندونيسيا وبنجلاديش وأمريكا وهولندا وألمانيا. وقدمت ورقة نقدية للفكر الديني التنويري، والعلاقة بين حرية البحث العلمي وحرية الفكر عموما، واستخدام الدين في مواقف سياسية. وفي إحدى جلسات ندوة «لغة الشعر ونصوص القانون» بدأت كاتبة من بنجلاديش اسمها «تسليمة نسرين» تقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقرة فقرة، وتقارن بين كل مادة من مواده وبين ما جاء في القرآن وفي الأحاديث؛ فحق العمل من حقوق الإنسان، والإسلام يمنع النساء من العمل والتعليم. وإذا كان الغرب يفرق بين الأصوليين والإسلام، فهي تعتبرهما شيئا واحدا. وختمت كلمتها بقراءة عدد من قصائدها بالإنجليزية وقصيدة بلغة بلادها. فطلبت التعقيب وقلت لها: «لا يستطيع أحد أن يتهمني بأنني ضد حريتك؛ لأنني شخصيا مضطهد بسبب حرية الرأي، وأنا الوحيد القادر على أن أقول لك إن ما ذكرته خطأ. لقد تعاملت مع نص إعلان حقوق الإنسان باعتباره نصا مقدسا بل أكثر قداسة من القرآن، فلماذا لم تنتقدي مثلا التطبيق المنحاز من الغرب لمبادئ حقوق الإنسان؟ فهل من المعقول أن «هنتنجتون» يتكلم عن الإسلام باعتباره حضارة وهو القائل بصراع الحضارات، بينما تتكلمين أنت عن الإسلام باعتباره تخلفا، ناسية أن الإسلام أنتج حضارة استمرت لعدة قرون؟ ووضعت النصوص وتفسيرها في سلة واحدة. وليس من المناسب أن ننسج خطابنا ليرضى الغرب عنا. أما القصيدة التي أعجبتني من قصائدك فهي تلك التي لم أفهمها.»
3
بعد صدور حكم محكمة الاستئناف بالتفريق بين «نصر أبو زيد» وزوجته بدعوى ارتداده، تقدم فريق من المحامين عنهما بطعنين، 478 و481، وقدمت النيابة العامة طعنا في الحكم إلى محكمة النقض، رقم 475 لسنة 65 قضائية، يوم الثامن من أغسطس سنة خمس وتسعين، طالبت فيه بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه. وتم إعلان المطعون ضدهم؛ المحامي «صميدة عبد الصمد» وآخرين، الذين صدر حكم الاستئناف لصالحهم يوم الثلاثين من أغسطس، فقدموا دفاعا يوم الحادي عشر من سبتمبر، وطلبوا فيه رفض الطعن. ورأت غرفة المشورة بمحكمة النقض أن الطعون جديرة بالنظر، فحددت لنظرها جلسة الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، أمام الدائرة المدنية والتجارية والأحوال الشخصية برئاسة المستشار «محمد مصباح شرابية»، وعضوية «فتحي محمود يوسف وسعيد غريان وحسين السيد متولي وعبد الحميد الحلفاوي».
أرسل المحامي العام الأول لنيابة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية - المستشار «محمود عبد العال عبد الرسول» - خطابا إلى فضيلة المفتي «محمد سيد طنطاوي»، في الخامس من شهر مارس سنة ست وتسعين، يطلب الإفادة عن الرأي الشرعي في مذكرتين؛ فجاء رد المفتي في السادس من مارس: «حيث إنه لم يحدث أثناء نظر الدعوى أو الاستئناف أن الدكتور «نصر أبو زيد» الذي حكم بالتفريق بينه وبين زوجته، نوقش في مؤلفاته أو معتقداته شخصيا في التهم الموجهة إليه، فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يجب قبل الحكم بالتفريق بين إنسان مسلم وزوجته أن يناقش هذا الإنسان مناقشة دينية دقيقة ومتصلة في معتقداته ومؤلفاته وجميع ما صدر عنه أو اتهم به؛ لاحتمال رجوعه عما صدر عنه أو اتهم به، أو لاحتمال أن ما قاله يقبل التأويل الصحيح ولو من بعض الوجوه ... ونظرا لخطورة الحكم بالتفريق بين مسلم وزوجته، نرى أنه لا يكفي صدور الحكم لمجرد قراءة ما كتبه، بل لا بد من إنذاره أكثر من مرة بوجوب حضوره أمام الهيئات القضائية المختصة لمناقشته فيما اتهم به مناقشة علمية متأنية ومفصلة يشترك فيها جميع الأطراف الذين تهمهم أمثال هذه القضايا الخطيرة التي هي قضايا حياة أو موت.»
عقدت جلسة المحكمة في الثاني والعشرين من أبريل سنة ست وتسعين، ودافع عن «نصر أبو زيد وابتهال يونس» المحامون: مكتب «منى ذو الفقار» وزوجها «علي الشلقاني»، و«أحمد الخواجة»، و«عبد العزيز محمد» ود. «عبد المنعم الشرقاوي». وقررت المحكمة حجز القضية للحكم في الرابع والعشرين من يونيو. وكان لحكم الردة تأثير على مستوى العالم في العام الماضي، فسعت الحكومة إلى تغيير في قانون الإجراءات. بالقانون 81 لسنة 96، والذي أقر في الثاني والعشرين من مايو سنة ست وتسعين في مادته الثالثة؛ يقضى بإلزام جميع المحاكم ومحكمة النقض أن تحيل من تلقاء نفسها ودون رسوم ما يكون لديها من مسائل الأحوال الشخصية على وجه الحسبة، والتي لم يصدر فيها أي حكم، إلى النيابة العامة المختصة وفقا لأحكام هذا القانون، وذلك بالحالة التي تكون عليها الدعوى، وتقضي من تلقاء نفسها واحتراما للنظام العام، بعدم قبول أي دعوى لا يكون لصاحبها مصلحة شخصية مباشرة فيها، وقائمة يقرها القانون ما دام لم يصدر فيها حكم بات. ونظم القانون مسألة الحسبة، وأن تكون عن طريق النيابة العامة. فتقدم دفاع «نصر أبو زيد» بطلب إلى المحكمة في الثاني والعشرين من مايو بفتح باب المرافعة بعد صدور القانون، لكن المحكمة مدت الأجل للحكم إلى الخامس من أغسطس، ورفضت إعادة فتح الباب لمرافعة الدفاع.
يوم الإثنين الخامس من أغسطس، قدمت حكمها بتأييد حكم التفريق وبرفض الطعون فيه، مستندة إلى أنه لا توجد في القانون المصري «قاعدة قانونية خاصة تمنع أو تقيد من إقامة دعوى الحسبة في وقت رفع الدعوى»، وحتى القانون الجديد الذي أدخل نظم إجراءات دعوى الحسبة «مما يعد إقرارا من المشرع بوجودها»، وإن كان القانون الجديد يتطلب أن يكون رافع الدعوى ذا مصلحة، فإنه وقت رفع الدعوى كان صاحب مصلحة في القانون القديم؛ «فقد رفعت الدعوى وصدر حكم نهائي فيها قبل صدور القانون ... فأحكام هذا القانون الجديد لا تنطبق على الدعوى ...» وكانت قد حجزت للحكم قبل القانون المذكور؛ ولذا فإنه لا مبرر للاستجابة له. «الطعن بالنقض لا تنتقل به الدعوى برمتها إلى محكمة النقض، وما يعرض عليها ليست الخصومة التي كانت أمام محكمة الموضوع، بل ينصب الطعن على محاكمة الحكم الذي صدر»، و«لمحكمة الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع وتقدير الأدلة، ومنها المستندات المقدمة فيها، والموازنة بينها، وترجيح ما تطمئن إليه منها وتراه متفقا مع واقع الحال في الدعوى». وحكم الاستئناف بالتفريق قدم، مما ورد بأبحاثه التي لم ينكر صدورها عنه، أن ما عناه بالنصوص على النحو الذي ذكره بها؛ نصوص القرآن والسنة النبوية، وأن آراءه التي ضمنها مؤلفاته وأحصى الحكم بعضا منها هي من الكفر الصريح الذي يخرجه من الملة، بما يعد معه مرتدا عن الدين الإسلامي، ويوجب التفرقة بينه وبين زوجه ... ما دام قد ألم بآرائه التي انطوت عليها مؤلفاته عن بصر وبصيرة، ولا على الحكم إذا لم يأخذ بتقرير مجلس أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتقرير مجلس قسم اللغة العربية بها؛ إذ لم يتعرضا لما حوته مؤلفاته من آراء تعد مساسا لأصول العقيدة الإسلامية ... إن النص لا يعدو أن يكون جدلا فيما لمحكمة الموضوع من سلطة فهم الواقع في الدعوى وتقدير الأدلة، وهو ما لا يجوز إثارته أمام هذه المحكمة. «إن حد الردة لم يكن معروضا على محكمة الموضوع، واقتصر الحكم على التفريق بينهما باعتبار أن ذلك من الآثار المترتبة على الردة؛ ومن ثم فإن ما أثير في هذا السبيل ليس له محل من قضاء الحكم؛ ومن ثم فإنه يكون غير مقبول.» ورفضت المحكمة الطعون الثلاثة، وألزمت الطاعنين بالمصروفات، وثلاثين جنيها مقابل أتعاب المحاماة .
كنت بالجامعة حينما اتصلت بي «ابتهال» وطلبت مني ألا أرد على التليفونات، وأن أعود إلى البيت لأمر مهم. لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء؛ فاليوم كان موعد النطق بالحكم. فكتبت بيانا عنوانه «أنا أفكر فأنا مسلم»، أرسلته إلى مجلة «روز اليوسف»، التي نشرته في عددها في الثاني عشر من أغسطس، كتبت فيه: «لا مفر من الإقرار بأن هذا الحكم الظالم يبدو كأنه يعلن للعالم الذي بدأ بالفعل الدخول في القرن الحادي والعشرين أن المسلمين فشلوا في دخول القرن المنصرم، فهل تبدد بالفعل كل شيء؛ التاريخ والتراث والوطن؟ هل صار شعارنا الآن «أنت تفكر إذن فأنت مرتد»، بعد أن كان في كل عصور ازدهار الفكر الإسلامي «أنا أفكر لأنني مسلم»، أو «لأنني مسلم فيجب أن أفكر»؟»
يا أهل مصر المعمورة لا تصدقوا كلام القاضي أنني مرتد، ولو كان في النقض؛ لأن المرتد والعياذ بالله لا يتقدم بردته لينال لقب الأستاذية في جامعة في بلد مسلم إلا لو كان مجنونا. وقد عشت بينكم طفلا وصبيا وشابا وكهلا، وخدمت وطني في كل مواقع العمل من «هيئة المواصلات اللاسلكية» إلى الجامعة، ولم تظهر علي أعراض جنون من أي نوع، منذ حوالي ربع قرن وأنا أدرس لأبنائكم في القاهرة والخرطوم وبني سويف، فهل سمعتم أن أحدا من طلابي اتهمني بالكفر، أو كفر بتأثير تدريسي له أو لها؟ كل الذي حدث يا أهلي وعشيرتي أنني رفضت الانصياع للظلم والجهل في أروقة الجامعة العريقة، وقلت «لا» عالية مدوية ... يا أبناء وطني، مسلمين ومسيحيين ... فقد لقيت من مساندتكم ودعمكم ما هو جدير بكم، وعلي أن أرد الجميل فأثبت لكم أنني جدير بدعمكم ومساندتكم، والسبيل الوحيد هو الاستمرار في العمل؛ البحث والكتابة في أي مكان من أرض الله الرحبة الواسعة. صوتي سيكون دائما معكم في كل معارك الحق والعدل والشرف، وستصلكم كتاباتي واجتهاداتي الفكرية من أي مكان أكون فيه؛ فليس الوطن مجرد مكان نعيش فيه، بل هو بالأحرى حلم يعيش فينا. لقد صار الدفاع عن حضارة الإسلام منذ الآن أكبر من أن يكون هما أكاديميا، صار مسألة حياة أو موت، أن نكون أو لا نكون. وإذا كان شعار العالم «أنا أفكر فأنا موجود»، فليكن شعارنا «أنا أفكر فأنا مسلم».
رغم الحالة النفسية من الحكم، سأضع جهدي في أبحاثي وطلابي؛ فهذا هو طريقي، وبخاطرك يا مصر. تقدم الأستاذ «عبد العزيز محمد» نقيب محامي القاهرة دفاعا عن «نصر أبو زيد وابتهال يونس» باستشكال لوقف تنفيذ الحكم. وكانت هناك جلسة في الحادي والعشرين من أغسطس، وجلسة ختامية في الحادي عشر من سبتمبر، لتصدر المحكمة حكمها يوم الأربعاء الخامس والعشرين من سبتمبر سنة ست وتسعين، برئاسة المستشار «سعيد أيوب»، بوقف تنفيذ حكم التفريق بين «ابتهال ونصر»، مستندة إلى أن حكم النقض «لم يتعرض من قريب أو بعيد لخصومة التنفيذ الماثلة، حيث لم تكن معروضة عليه؛ ومن ثم فإن هذه الخصومة تخرج عن نطاق ما قضت به محكمة النقض» ... «بما لا يحول، وأن تتصدى هذه المحكمة بوصفها قاضيا للتنفيذ للفصل في هذه الخصومة، دون أن تكون قد تجاوزت حدودها بالاقتراب من دائرة الموضوع الذي فصلت فيه محكمة النقض؛ فالحق في التنفيذ هو حق مستقل» ... «وهذا الاختلاف بين الحقين يوجب بحث مدى توافر شروط صحة خصومة التنفيذ. وأول الشروط الواجب توافرها في خصومة التنفيذ هو أن يكون لطالب التنفيذ صفة في طلب التنفيذ ... وحيث إنه صدر القانون رقم 81 لسنة 96 بأن جعل شرط المصلحة الشخصية والمباشرة والقائمة لازما لقبول أي دعوى ...» «فقد حكمت المحكمة بوقف تنفيذ حكم محكمة استئناف القاهرة الصادر بجلسة 14 يونيو 1995م في استئناف رقم 387 لسنة 111ق القاهرة.» وبذلك لم ينفذ حكم التفريق بين «نصر أبو زيد وابتهال يونس»، ولكن ظل حكم الردة قائما.
4
نشرت مجلة «أدب ونقد»، في عدد سبتمبر سنة ست وتسعين، نص ورقة كنت قد قدمتها في ندوة التجديد والاجتهاد في فكر «الإمام محمد عبده» عن «مشروع الإصلاح الديني بين التحدي الأوروبي والتخلف الداخلي»، كشفت في هذه الورقة وعي «محمد عبده» رغم سياق السجال الذي فرضته أوروبا على العقل الإسلامي، فإنه لم ينزلق كثيرا للسجال، ويتقوقع داخل سياج دفاعي، يبرئ الذات من كل النواقص، ويلصقها بالآخر الأوروبي. وكان على وعي بأن الصراع معه ليس صراعا دينيا، لكنه في الأساس «صراع قوة ونزاع مغالبة»؛ لذلك ميز الإمام بين الدين من حيث هو وضع إلهي عن طريق الوحي، وبين الدين بوصفه سيرورة اجتماعية؛ أي التفرقة بين المقدس والاجتماعي وبين الدين كوضع إلهي، والدين من حيث هو سيرورة تاريخية إنسانية. وتناول الإمام شأن الحكم والحكومة تفصيلا عن العدل والشورى وعلاقة الحاكم بالمحكوم في المجلدين الرابع والخامس من تفسير المنار، مما يحتاج إلى دراسة أخرى مستقلة.
أنا و«ابتهال» لم نتصور يوما أن ما حدث هو قضية شخصية، وهذا ما ساعدنا على الاستمرار، لكن ما حدث يجعلني أعود دائما للسؤال: لماذا يخفق خطاب التجديد في الفكر الإسلامي؟ لذلك أردت أن أعمق النظر عن طريق النقد الذاتي لأزمة منهج التفسير الأدبي للقرآن، في دراسة نشرتها مجلة «الكرمل» التي يشرف على تحريرها الشاعر الفلسطيني الكبير «محمود درويش»، في عددها الخمسين سنة سبع وتسعين. والاتجاه الأدبي ممكن أن نعود به إلى القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، بجهود المعتزلة من جانب، وجهد «عبد القاهر الجرجاني» من خلال مناقشة قضية إعجاز القرآن التي طور فيها أفكار «الجبائي وعبد الجبار» المعتزليين، فقال «الجرجاني» إن الإعجاز في القرآن ليس في المفردات بل في النظم، من هنا فإن معرفة قوانين وطرق البيان في أرقى تجلياتها بدراسة الشعر يكون واجبا دينيا، وهو الأصل والأساس في فهم القرآن ونظمه للوصول إلى إعجازه.
وفي العصر الحديث، كان «محمد عبده» هو من أعاد نشر وتدريس كتابي «عبد القاهر الجرجاني» عن بلاغة وإعجاز القرآن، في دروس البلاغة بمدرسة «دار العلوم»، وكان إسهامه الكبير في أن القرآن ليس كتاب تاريخ، وأن القصص القرآني من أجل العبرة لدوافع أخلاقية، وأيضا أن القرآن خاطب العرب على حسب فهمهم وتصورهم للعالم في القرن السابع. وجاء «طه حسين» الذي بنى على ذلك فقال إن القرآن ليس نثرا ولا شعرا؛ إنه قرآن. وقال إن قصة «إبراهيم» وحضوره وزوجته «هاجر» وابنها «إسماعيل» إلى الحجاز، قصة كانت موجودة قبل نزول الوحي، وإنها خلقت لتسهيل العلاقة بين قبائل اليهود وأهل يثرب. واستخدم القرآن القصة لدعم صلته باليهودية والمسيحية كدين إبراهيمي. وكان «طه حسين» على رأس البعثة العلمية التي اكتشفت كنوز التراث المعتزلي التي كانت مدفونة في المكتبة المتوكلية باليمن.
في ظل سيادة النسخة العربية من التيار الرومانسي على الحياة الأدبية، طبق «سيد قطب» المنهج الأدبي لدراسة القرآن لكن من منطلق انطباعي، لكن «أمين الخولي» (1311ه/1895م-1384ه/1966م) قال إن المنهج الأدبي هو المدخل الوحيد للبدء به في دراسة القرآن؛ لأن العرب تقبلوا القرآن تقديرا لقيمته الأدبية؛ لذلك فقبل دراسة ما هو ديني أو فلسفي أو عقدي أو أخلاقي أو فقهي، لا بد من دراسته أدبيا وبلاغيا ولغويا. وربط «الخولي» بين دراسات اللغة والبلاغة والدراسات القرآنية، وأن دراسة مسألة إعجاز القرآن في الفكر القديم تقوم على البلاغة القديمة، فعلينا استبدالها بالبلاغة المعاصرة. وفصل «الخولي» منهجه في تعليقه العربي على كلمة «تفسير» في الترجمة العربية للموسوعة الإسلامية، والتي نشرها فيما بعد في كتابه «مناهج التجديد»، وعرضت تفاصيل قضية رسالة دكتوراه تلميذه «محمد أحمد خلف الله» (1333ه/1916م-1417ه/1998م)، الذي أخذ منهج أستاذه «أمين الخولي» وقام بتطبيقه على «قضية الجدل في القرآن» في دراسته للماجستير، وفي الدكتوراه عن الفن القصصي في القرآن الكريم، والتي أشرف عليها الأستاذ «الخولي»، فقام بجمع القصص في القرآن، ورتبها حسب ترتيب نزولها من أجل تحليلها في سياق بيئتها الاجتماعية، وحالة الرسول النفسية، وتطور الرسالة الإسلامية للوصول إلى المعنى الذي فهمه العرب وقت النزول؛ فالقرآن ليس كتابا في العلوم ولا التاريخ أو السياسة، بل دعوة هداية ومرشد أخلاقي. والقصص القرآني قص أدبي يوظف لأهداف خلقية وروحية ودينية، ومن الخطأ التعامل معه على أنه حقائق تاريخية خالصة. وانحصار العقل الإسلامي في سؤال الحقيقة التاريخية للقصة في القرآن لم تجعله يدرك الأبعاد الأخلاقية والروحية للقصة القرآنية.
ورصدت وقائع الأزمة في الجامعة وفي المجتمع، وما حدث مع «خلف الله» من تحويله إلى عمل إداري سنة 1947م، ومنع الشيخ «أمين الخولي» من الإشراف على رسائل الدراسات الإسلامية، وخير تلميذه، أستاذي «شكري عياد»، بين تغيير التخصص أو تغيير الأستاذ، فاختار أستاذه وغير تخصصه من الدراسات القرآنية إلى النقد. ولم ينشر رسالته للماجستير عن يوم الحساب في القرآن إلا بعدها بثلاثة عقود، وإن كانت رسالة «خلف الله» نشرت أربع مرات بتقديم من «أمين الخولي». توصلت إلى نتيجة؛ إن أزمة المنهج الأدبي لتفسير القرآن تعود لغياب أساس لاهوتي/ثيولوجي/عقدي/كلامي متكامل؛ لأن الرؤية اللاهوتية السائدة بشكل عام هي الرؤية الحنبلية التي تعتمد على مفهوم قدم القرآن، وغابت منها التفرقة التي كان يقيمها المسلمون الأوائل بين ما هو إلهي أبدي وما هو مرحلي مرتبط بأسباب نزول الوحي الإلهي. غابت هذه التفرقة في اللاهوت الإسلامي المعاصر. وهذا ما يجعل الاتجاه الأدبي في نظر معارضيه أنه يقضي على قداسة القرآن، وعلى صلاحه لكل زمان ومكان، وعلى مصدره الإلهي.
الثابت تاريخيا وثقافيا أن القرآن هو رسالة أوحى بها الله سبحانه إلى نبيه الإنسان محمد
صلى الله عليه وسلم ، هذا التواصل تم عبر «كود» أو شفرة لنظام لغوي؛ فالمرسل غير قابل لإخضاعه للدراسة العلمية، والمدخل الطبيعي للدراسة العلمية للنص القرآني من خلال الحقائق اللغوية، بتحليل سياق النص والثقافة التي نزل فيها. والسياق يعني الحالة الاجتماعية السياسية التي شكلت أوضاع من أرسل النص إليهم، بما فيهم المتلقي الأول للنص. والثقافة تعني رؤية العالم المتضمنة في اللغة. والبداية تكون من الحقائق الإمبريقية حول النص. والسؤالان المهمان في هذا السياق هما: السؤال الأول: كيف يمكن التوفيق بين الطبيعة الإلهية للنص وبين مكوناته من الثقافة التي نزل فيها وبلغتها؟ السؤال الثاني: كيف يمكن التوفيق بين الجوانب الثقافية واللغوية للحياة العربية للمتلقين للوحي، وبين صلاحه لكل زمان ومكان وعابر لكل لغة وكل ثقافة أو قومية؟ وتناولت المسألتين بالمناقشة في البحث. لقد كانت محاولة «محمد عبده» قاصرة ومحدودة لتقديم أساس لاهوتي/عقدي للتفسير الأدبي للقرآن الكريم في كتابه «رسالة التوحيد»؛ لأن جهده لم يكن نقديا ولا مبدعا، بل انتقائيا لما يراه نافعا للوقت، فأخذ من مدارس كلامية/لاهوتية مختلفة دون إدراك التناقض، وهذا الغياب للنظرية مؤسسة كلاميا/لاهوتيا هو سر أزمة اتجاه المنهج الأدبي في تفسير القرآن الكريم.
5
الندوات والمؤتمرات والكتابة باللغة الإنجليزية والتدريس في «لايدن»، شغلتني عن أبحاثي. كتبت عن «الإسلام وحقوق الإنسان» مقالة نشرت سنة ست وتسعين، ودراسة عن «الصفات الإلهية في القرآن، تحليل للبناء اللغوي» نشرت في ألمانيا، ومقالة عن «قضية أبو زيد» نشرت في لندن، ودراسة باللغة الإنجليزية عن «البنية النصية للقرآن» نشرت ضمن كتاب «أوروبا والإسلام في الماضي والحاضر» بهولندا عام سبعة وتسعين، وكتبت مقالة بالعربية بعنوان «من علمانية بداية القرن إلى أصولية نهايته» نشرتها «عبلة الرويني» بالعدد الثاني من مطبوعاتها «حرية» التي تحررها عن لجنة الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد، من مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان بالقاهرة، يناير سبعة وتسعون. وفي المؤتمر السنوي للجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط في شهر يوليو، كان لقائي الأول بابنتي شيرين أبو النجا منذ تركت مصر. وتذكرت حين قالت لي وهي مدرس مساعد: «ممكن أناديك بابا؟» واستمرت علاقة الأبوة والبنوة بيننا، وأثناء القضية كانت نعم السند ونعم الابنة. كان المؤتمر عن إعادة النظر إلى الإسلام، وشاركت بمحاضرة عن «العلمانية ومشروع الإصلاح الديني».
عدت إلى «لايدن» يوم عيد ميلادي، أعطتني «ابتهال» مقالا في جريدة الأهالي، «رسالة إلى د. نصر أبو زيد»، حركت داخلي شجونا أكثر، فكتبت لكاتب الرسالة «مرتد كلمة لن أنساها أبدا»: «أنا غاضب أم حزين، أم هي حالة من الخصام، مع قناع الوطن القاسي، الطارد، القاتل أحيانا، حفاظا في النفس، على وجه الوطن الطيب، الكريم، المتسامح، المعطاء؟ نعم أنا غاضب من هذا القناع المتوحش البربري، وحزين لأنه يخفي الوجه الجميل ... أسعدتني رسالتك؛ فقد ساعدتني، كما ترى، في إظهار كوامن الشجن الرابض في النفس ... هنا أتمتع بمناخ أكاديمي في مجال الدراسات الإسلامية؛ فإما مشغول في الإعداد لمؤتمر، وإما أعد محاضرة، وإما أراجع كتابا بطلب من إحدى المجلات الأكاديمية ... هذا المناخ من المستحيل أن يتوافر في مصر الآن. فهل يمكن أن أعود لأدرس تخصصي؟ لعلهم سيطلبون مني أن ألزم بيتي لأسباب أمنية فأتقاعد قبل سن التقاعد ... أليس من حقي أن أكون غاضبا وحزينا؟ ثم أليس من حقي بعد ذلك كله أن أستثمر غضبي وحزني استثمارا إيجابيا يجعل للغربة معنى وللمنفى الاختياري قيمة؟» نشرتها «الأهالي» في عدد نهاية يوليو.
كتبت عرضا نقديا لكتاب «فاطمة المرنيسي» نشر في مجلة «نور»، ع12، خريف سنة سبع وتسعين، بعنوان «الإسلام والديمقراطية والمرأة، دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي»، والذي سيطرت لفظة الخوف على عناوين فصوله، وإن كانت فاطمة تركز على قضايا المرأة، فهذا الكتاب يدخل بها إلى عمق العلاقة بين الحاكم والمحكومين في سياقها السوسيوتاريخي، للمس أزمة المرأة في الواقع والتاريخ، بحثا عن الديمقراطية والإسلام، وعن الخوف من الحداثة والتحديث، وعن الخوف من العلم الحديث، ويصبح السؤال: ما علاقة ذلك بقضايا المرأة؟ فإن كانت عملية التحديث تعني إجراءات عملية - ذات طابع سياسي اجتماعي - تفرضها ضرورات نفعية، فإن الحداثة تمثل التأسيس المعرفي للتحديث داخل ثقافة ما؛ أي نقل الخبرة الحداثية من النفعي المباشر إلى مجال الوعي. في تحليلها لإشكالية الحداثة، اتخذت من حرب الخليج نقطة مهمة، في حين أغفل الكتاب حدث إنشاء دولة إسرائيل بالدعم الغربي وهزيمة سنة سبع وستين، واتخاذها من عام 622 ميلادية بداية التاريخ، وكأن العالم لم يكن له وجود قبل ذلك ؛ مما جعل مفهوم الجاهلية عندها مفهوما غير زمني، مفهوما يتلخص في الشرك والوثنية والجهل. ومن الأهمية بمكان أن نفرق بين الإسلام - في نصوصه الأساسية - وبين الفكر الإسلامي، ونكف عن النظر إلى التاريخ بوصفه تاريخ ملائكة أبرار «لا يعصون الله ما أمرهم»، وإلى التراث بوصفه مخزن المعارف والحقائق الثابتة الخالدة. وهي الصورة التي ثبتها في الأوهام نموذج استخراج الثروة العربية - البترول - التي كانت مخبوءة، والتي لم تحتج إلا للحفر لتتحول إلى ملايين بلا عرق أو عمل أو كفاح؛ لأنه حتى الحفر قام به الأجانب نيابة عنا.
نشر البحث الذي عرضته في ألمانيا العام الماضي عن «الاحتمالات النقدية للوصول إلى فكر ديني مستنير»، ودراسة أخرى نشرت في ألمانيا عن «مفهوم حقوق الإنسان، عملية التحديث في سياق الهيمنة الغربية»، وعرض نقدي لكتاب «مايكل ليكر» «عن المسلمين الأوائل واليهود في المدينة المنورة». وأصبحت أتحدث بلسانين، فكتبت لمجلة «سطور» مقالتين؛ الأولى عن «الثقافة بين التجانس والتهجين»، تعرضت فيها للدور الذي تقوم به الثقافة الشعبية المعيشة، وكيفية الاندماج فيها بتركيزها على فعل التواصل، وبين الثقافة الرسمية التي تركز على شكل الخطاب، فتسعى إلى السيطرة والهيمنة. واستعرضت الصراع بين الثقافتين في تجربة المسلمين من القدم حتى العصر الحديث، وكيف أن الثقافة السائدة هي هجين، لا هي ثقافة رسمية تصوغ رؤية نقدية للعالم، ولا هي ثقافة شعبية تحمي بالتواصل البناء الاجتماعي من التفكك، فهجين الثقافة السائد هو نوع من فقر الروح وتخلف العقل.
المقالة الثانية كانت عن «إشكالية التراث، التأويل العلمي والقراءة النفعية»، عرضت باختصار نشأة مصطلح التأويل في الثقافة العربية والغربية، واتساع المصطلح في العصر الحديث من مجال الدراسات الدينية حتى صارت التأويلية هي جوهر ولب نظرية المعرفة؛ أي قراءة لأي ظاهرة بوصفها بناء معقدا من العلاقات، بين الذات والموضوع، والسياق ونسق المعاملات، والرسالة. وهو ما لم تصل مفاهيمه إلى مفاهيم التأويل والتفسير في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة. وتناولت تعامل التيارات المختلفة مع التراث، من تيار القطيعة المعرفية مع التراث إلى تيار «الإسلام هو الحل» أو «التراث هو الحل»، أو تيار التقليد. وأيضا التيار الثالث؛ تيار التوفيق واستلهام التراث. ومشكلته أيضا أن التوفيق عنده يتم على أساس المنفعة الأيديولوجية، وليس بالمعنى المعرفي؛ مما جعل التوفيق يفضي إلى التلفيق. إلا أني وجدت أن لكل من التيارات الثلاثة مفهومه للزمن والتاريخ؛ فعند تيار الانقطاع الزمن ينفصل فيه الحاضر عن الماضي انفصالا تاما، وعند تيار التقليد أو «الإسلام هو الحل» يعتبر الزمن الحاضر نقطة تراجع واضمحلال، وأن الكمال في الماضي الذي يجب أن يعاد بناء الحاضر على مثاله ليصير المستقبل آمنا. أما التيار التوفيقي فالزمن عنده هو الحاضر، وهو نقطة التقاء الماضي بالمستقبل؛ فهو نقطة تفاعل خبرات لا سكون فيها، ومع إدراكه على المستوى النظري للعلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل يظل مسكونا بهاجس الماضي؛ فالتراث الأكثر امتلاء بالعافية وبالخبرة، وأيضا ممتلئ بهاجس الآخر الغربي الطامع المستعمر المهدد للهوية. ففي الحالات الثلاث، التراث لا ينطق بل تنطق به الأيديولوجيا، ولا سبيل لتغيير ذلك إلا بتغيير شروط العملية المعرفية للتعامل مع التراث.
لم أصدق أذني حينما اتصل بي من القاهرة صحفي أخبرني أنه ذهب إلى الجامعة يسأل عن كتبي، ففوجئ أنها سحبت من الجامعة، وحاول أن يلتقي عميد الجامعة ولكنه لم يستطع، فنشر الصحفي الموضوع بعنوان «ثقة نصر أبو زيد كاملة في جامعته التي لا تثق فيه». وفي زيارة «ابتهال»، الأستاذة بنفس الجامعة، للقاهرة كانت غاضبة جدا لسحب كتبي من مكتبة الجامعة. أصرت على لقاء العميد، وواجهته بحقيقة سحب الكتب، وسألته عن السبب، وحين أجابها «أنه لا يعرف من فعل هذا»، فقالت: «إن لم تكن تعرف، فلتأمر بتحقيق لتعرف من قرر هذا القرار؟ أنا لا أتحدث عن «أبو زيد» زوجي، أنا أتحدث عن «أبو زيد» الأستاذ في هذه الجامعة، لو الأمر كذلك فلماذا لا تفصل كل الأساتذة الذين درسوا له وأعطوه الماجستير والدكتوراه، وبالمرة تغلق القسم؟» عملت على تنظيم ندوة علمية بجامعة «لايدن» عن «الدراسات القرآنية على أبواب القرن الواحد والعشرين»، وجعلنا من أحد محاورها محورا عن الدراسات الأدبية، فكنت الوحيد من العرب والمسلمين المشارك في هذا المحور بجوار باحثين من ألمانيا وكندا وجنوب أفريقيا، فقلت إن الدراسات القرآنية ستزدهر خارج الدراسات العربية وخارج العالم العربي.
6
دعيت إلى زيارة جامعة بولاية واشنطن عام ثمانية وتسعين. وفي ندوة حضرها بعض المصريين، سألني أحدهم وكان من الدبلوماسيين: هل حقيقي أنك قلت لزوجتك إنك لو مت ألا تعيد جسدك للدفن في مصر؟ قلت: «نعم.» ثار الرجل علي وقال: «لا بد أن يثور المصريون جميعا عليك.» قلت له: «أنت ترى مصر مقبرة، لكني أحب مصر أن تكون وطنا، وليست مجرد مقبرة.» والتقيت جمعا من المصريين في ندوة عامة بجامعة كولومبيا بنيويورك، وأقاموا إجراءات أمنية كموقعة حربية. كان لقاء أعاد لي حميمية الحوار مع جمهور من المصريين. والتقيت «ماري آن ويفر» عن طريق الصديق «فكري أندراوس» التي كتبت مقالا في مجلة النيويوركر العريقة عني، نشر في عدد الثامن من يونيو ثمانية وتسعين. أعددت دراسة للنشر في مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في عدد سنة ثمان وتسعين، بعنوان «قضية المرأة بين سندان الحداثة ومطرقة التقاليد، دراسة في تاريخ النصوص» كتبتها بالعربية؛ لأن سلسة الهزائم العربية المتوالية أججت من جديد طرح أسئلة الهوية والتراث والخصوصية، لكن هذه المرة من منظور عرقي طائفي في الغالب؛ مما ينعكس على المرأة والأقليات. والحالة الدولية تغذي ذلك التوجه. وللأسف، فقوانين الأحوال الشخصية عندنا تستند إلى مرجعية الشريعة دون أن تصاغ الشريعة صياغة قانونية منضبطة، لا تسمح إلا بقدر من الاجتهاد في تنزيل النص القانوني على الواقعة المنظورة أمام القاضي. ودون تحقيق الصياغة القانونية الدقيقة المنضبطة تلك، سيظل القضاء في مجال الأحوال الشخصية بناء هشا رخوا تخضع الأحكام فيه لاتجاه تفكير القاضي المتأثر حتما بالمناخ الاجتماعي والسياسي العام.
وأخذت نموذج جدل بين اثنين، منهم من يؤيد خروج المرأة من بيتها للعمل وآخر يمانع، وتأويل كل منهما حول الآية الثالثة والثلاثين من سورة «الأحزاب»:
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، كنموذج للتأويل والتأويل المضاد. نحن نحتاج إلى منهج للقراءة السياقية؛ القراءة التي تنظر للمسألة من منظور أوسع، هو منظور مجمل السياق التاريخي/الاجتماعي - القرن السابع الميلادي - سياق نزول الوحي عبر سياقات أسباب النزول، وترتيب النزول، وسياق السرد القرآني، ومستوى التركيب اللغوي، ومن بعد مستوى التحليل النحوي والبلاغي، وليست البلاغة التقليدية القديمة فقط، بل بتوظيف البلاغة الحديثة بأدوات علم تحليل الخطاب وعلم تحليل النصوص في إنجازاتها المعاصرة، وأيضا سياق المقارنة بين ما كان قبل الإسلام وما بعده من خلال المنطقة المشتركة بينهما التي تمثل منطقة التقاء القديم والجديد.
تتبعت النصوص الدينية المتعلقة بقضايا المرأة في القرآن الكريم، والتي جعلت لها مقصدا أساسيا من مقاصد الخطاب القرآني، وهو المساواة بين الرجل والمرأة، مثل قوله تعالى:
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (سورة النساء: آية 124) (وأيضا النساء: 1؛ والنحل: 97؛ والأعراف: 189؛ وغافر: 40؛ والتوبة: 71 و72). ثم تناولت النصوص القرآنية التي أتت في سياق سجالي للرد على دعاوى المشركين العرب الذين نسبوا لله الإناث بمقولتهم إن الملائكة بنات الله، مثل آيات سورة النجم (19-28)، والخطاب القرآني يدين ممارسات العرب ضد البنات مثل:
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (سورة النحل: 57-59) (وسورة الزخرف: 15-19؛ والصافات: 149-155؛ والإسراء: 40). ونصوص الآيات التي وردت في سياق وصفي خلال سرد قصصي، ومن شأنه يكون تعبيرا عن المتكلم، مثل ما ورد على لسان «أم مريم» في سورة آل عمران (35-37).
وتناولت الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء التي تناولت قوامة الرجال على النساء، وطرحت السؤال: «هل الآية تشرع للقوامة أم تصف واقع الحال في عصر ما قبل الإسلام؟» وبالنظر في مجمل السياق القرآني حينما يذكر القرآن التفضيل الإلهي لبعض البشر على بعض، فوجدت أن المقصود هو وصف التفاوت الاجتماعي الاقتصادي الملحوظ بين البشر والذي تحكمه قوانين السنن، وذلك الوصف هو من أجل العظة والاعتبار، كما لاحظ ابن خلدون في استخدام الفعل «انظر » في الآية:
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (الإسراء: 21). فالقوامة إذن ليست تشريعا بقدر ما هي وصف للحال. ثم تناولت النصوص التشريعية بحثا عن معناها الذي فهمه المسلمون الأوائل في فترة نزول الوحي، ومن المعنى ننتقل إلى مغزاها لنا الآن. وقد وردت معظم هذه النصوص في سورة «النساء» التي نزلت في المدينة المنورة بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد في السنة الرابعة من الهجرة، واستشهاد عدد كبير من المسلمين؛ مما نتج عنه وجود عدد كبير من اليتامى والأرامل؛ فجاءت أحكام الزواج والطلاق والمواريث، فناقشت هذه النصوص، وناقشت تعدد الزوجات والميراث والحجاب والعورة. إن التلاعب الدلالي بالنص الديني - قرآنا وسنة - دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص، تاريخا وسياقا وتركيبا، لغة ودلالة، هو ما يؤدي إلى التأويل والتأويل المضاد.
كتبت مراجعتين بالإنجليزية لكتاب «الجنة المفقودة، صراع الإثنيات في الشرق الأوسط»، الذي كتبه «كان نيوفهجيذ» نشر في مايو، وعرضا نقديا لكتاب «صورة النبي محمد في الغرب، دراسة في فكر «مرجليوث» و«وات»»، نشر في أغسطس في مطبوعة «ببلو ثيكا لدراسات الاستشراق»، ودراسة بالإنجليزية عن «تحديث الإسلام أم أسلمة الحداثة؟» نشرت في لندن سنة تسع وتسعين.
وكتبت بالعربية مراجعة لعمل «ألفت الروبي وثقافة الاستبعاد ... مؤامرة ضد فن القص»، وبجهد صديقي «نافيد كرماني» الذي قابلته في أروقة جامعة القاهرة ببداية التسعينيات، وجهده في ترجمة كتابات لي إلى الألمانية، وجهد الصديقة العزيزة د. «شريفة مجدي»، وأذكر الأيام الأربعة التي قضيناها في بيت «نافيد» بعد ميلاد مولودته، يسجلون معي تسجيلات صوتية من أجل كتابة كتاب عن سيرتي الذاتية باللغة الألمانية، وها هو الكتاب يخرج هذا العام عن دار نشر «هردر». وفي عشاء بمدينة «فرايبورج» بألمانيا في برد ديسمبر، احتفالا بالكتاب، قال لي الناشر عن رغبة الدار في نشر كتيبات تخاطب القارئ الأوروبي العادي عن أعلام الروحانية في الشرق والغرب. واقترح الدكتور «والتر»، مسئول النشر في الدار، أن أكتب كتابا جديدا عن «ابن عربي» مساهمة مني في هذه السلسلة، ويكون الكتاب باللغة الإنجليزية ليسهل ترجمته إلى الألمانية بسرعة.
ترجمت إلى العربية دراستي المنشورة بالإنجليزية عام ستة وتسعين عن «الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين الواقع والمثال»؛ لتنشر ضمن كتاب يجمع كتابي الصغير في بداية التسعينيات «المرأة في فكر الأزمة»، إلى كتاباتي التي كتبتها في موضوع المرأة منذ ذلك، في كتاب واحد بعنوان «دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة»، ويصدر هذا العام عن المركز الثقافي العربي ببيروت. كتبت دراسة محببة إلى قلبي؛ لأنها تأخذني إلى عالم التصوف، «اللغة/الوجود/القرآن، دراسة في الفكر الصوفي»، نشرت في العدد اثنين وستين، شتاء سنة تسع وتسعين، من مجلة «الكرمل» التي تصدر من «رام الله» بفلسطين. والتجربة الصوفية في جوهرها محاولة لتجاوز حدود التجربة الدينية العادية؛ التجربة العادية التي تقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية والامتناع عن فعل المحرمات، لكن الصوفي يطمح إلى الدخول في تخوم الإحسان الذي قال عنه الملك جبريل عليه السلام: «أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك.»
وللتعارض بين تجربة التدين العادية وتجربة التصوف على مستوى الفهم والتفسير ليس إلا اهتمام المتصوفة بقضايا اللغة والدلالة؛ فنتيجة للعنف المادي واللغوي الذي مارسه أصحاب تجربة التدين العادية والفقهية ضد المتصوفة، فاستعاض المتصوفة عن اللغة العادية بلغة الرمز والإشارة، سواء في تفسيراتهم للقرآن الكريم أو في تعبيراتهم عن تجاربهم الروحية ومواجدهم في أحوالهم ومقاماتهم. وفرقوا بين مصطلحي الإشارة والعبارة؛ فالإشارة إيحاء بالمعنى دون تعيين وتحديد مما يجعل المعنى منفتحا، أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقا ونهائيا. وبنى المتصوفة هذا التمييز على تمييزهم في الخطاب الإلهي بين المعنى الظاهر وبين الدلالة الباطنية؛ فظاهر الخطاب الإلهي هو ما يدل عليه الخطاب بدلالة اللغة الوضعية في بعدها الإنساني، أما الدلالة الباطنية للخطاب الإلهي فهي مستوى أعمق؛ مستوى اللغة الإلهية؛ لذلك طور المتصوفة مفهوم الأشاعرة عن الكلام الإلهي؛ فقد ميز الأشاعرة بين كلام الله الأزلي القديم أو الكلام النفسي، والذي هو صفة الذات، وبين التلاوة الإنسانية التي تتصف بالحدوث. فطور المتصوفة هذه التفرقة أن هناك البعد الإلهي للخطاب والبعد الإنساني؛ فالبعد الإلهي يتجلى في القرآن وفي الوجود، فالقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، والوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق. وأكد المتصوفة على العلاقة بين الظاهر والباطن، أو بين العبارة والإشارة، بل أكدوا أن الظاهر بدونه يستحيل النفاذ إلى الباطن. وبجانب استخدامهم الإشارة والرمز في تفسيراتهم استخدامهما في التعبير عن تجاربهم الروحية، ولكنهم كانوا يتبعون المنهج الإلهي الذي استخدم لغة الستر والإشارة في خطابه سبحانه؛ للتلاؤم مع مستويات العقول، وكذلك فعل المتصوفة؛ اتقاء هجوم أهل الظاهر عليهم.
وحللت مغزى الموازاة بين اللغة والوجود وبين الوجود والقرآن في فكر «ابن عربي»، لكن السؤال هو: هل نجح منهج الستر والرمز في حماية العرفان من هجوم المتهجمين؟ وهل نجحت محاولات الفلاسفة في إخفاء براهينهم عن عقول العامة من حماية الفلسفة؟ فقد اختفت روحانية الدين تحت وطأة الاستخدام السياسي النفعي له من جانب الحكومات والمعارضين على السواء. وبالمثل ضاعت الفلسفة، وتم تجريم الفكر باسم الحفاظ على التراث وحماية المقدسات. لتكن المعرفة كالماء والهواء عبر تعليم ديمقراطي في مجتمعات تعترف بحق كل فرد في المعرفة وبحقه في حرية الفكر والتعبير. إن العالم الإسلامي مهدد بالعودة إلى عصور الفوضى، ما لم يفتح نوافذ مجتمعاته مشرعة لكل مواطنيه - بصرف النظر عن العقيدة والعرق أو الجنس والثقافة - وما لم يفتح نوافذ الحوار الحر الخلاق مع المجتمعات الإنسانية كافة.
7
كتبت دراسة باللغة الإنجليزية نشرت عام تسعة وتسعين عن «تفسير القرآن والرؤية للكون في الفكر الإسلامي»، تناولت كيف استقى «أبو حامد الغزالي» ومن بعده «محيي الدين ابن عربي»، من القرآن ومن غيره، تصور أن الكون نور من نور الله، كما ورد في القرآن، فسؤال كيف نشأ العالم الواسع المتعدد بواسطة خالق واحد، وماذا يعني الخلق، وهل هو خلق من عدم، وكيف، ولو حدث الخلق من مادة ألا يعني هذا قدم المادة أيضا، وهل يتعارض هذا مع مفهوم وحدانية الله. وكتبت دراسة أخرى نشرت في أمستردام بالإنجليزية في يناير ألفين، بعنوان «صورة أوروبا في نماذج من السرد الروائي في مصر ». وكتبت مراجعة بالإنجليزية لكتاب بعنوان «إصلاح العالم الإسلامي». وخرجت الطبعة الأولى لكتابي «الخطاب والتأويل» يجمع بعض دراساتي بالعربية في الأعوام السابقة.
فوجئت بمنحي كرسي «كليفرنجيا» (1892-1980م) من جامعة لايدن، وهو كرسي لمدة عام، فقرأت عن الرجل الذي تماهيت مع مواقفه الإنسانية؛ فعندما أصدر الاحتلال النازي لهولندا قرارا بفصل جميع الأساتذة اليهود من الجامعات الهولندية، ألقى الأستاذ «كليفرنجيا» محاضرة بجامعة لايدن سنة أربعين أعلن فيها استهجانه للقرار، ودعا الطلاب إلى تمزيقه ودوسه بأقدامهم. وبعد المحاضرة جرت تظاهرات في لايدن، وأغلقت الجامعة الوحيدة التي اعترضت على القرار، واعتقل الأستاذ؛ فقررت الجامعة سنة سبعين إنشاء هذا الكرسي الفخري ليمنح كل عام لشخصية عامة في مجال الحريات، وخصوصا الحريات الدينية. بدأت في إعداد محاضرتي، وقررت الكتابة عن الرواية العربية وعن ملحمة «الحرافيش» للأستاذ «نجيب محفوظ». ومع اقتراب موعد المحاضرة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فسألت نفسي: ماذا سيكون موقف الأستاذ الذي دافع عن اليهود عام أربعين لو طلب منه محاضرة اليوم؟
وفي أول يوم من شهر رمضان، السابع والعشرين من نوفمبر ألفين، ألقيت محاضرة بالإنجليزية بعنوان «القرآن، التواصل بين الله والإنسان»، قلت في مقدمتها: «هذه لحظة من أعظم لحظات حياتي. الكلمات لا تستطيع التعبير عن مشاعري أو تصور ما أريد أن أقول. منذ ستين عاما كان البروفيسور «كليفرنجيا» رجلا شجاعا مهموما بما هو صواب وما هو خطأ، وقف في نفس القاعة ورفض بشجاعة الظلم الواقع من الاحتلال النازي ضد اليهود الهولنديين بفصلهم من وظائفهم. وتكريمي بالجلوس على كرسي الأستاذية الذي يحمل اسمه يشير إلى القيم الأكاديمية والإنسانية التي دافع عنها. أشعر من واجبي أن أبدأ محاضرتي بالحديث عن تصوره وتواصلي مع ما دافع هو عنه؛ فالعدل يعتمد على حرية الإنسان الكاملة وعلى المساواة، وهو صلب هذه المحاضرة، لكن هل يمكن الحديث عن العدل دون الحديث عن الوضع في العالم الآن؟ هل تسود العدالة؟ أشير هنا على سبيل المثال بالضرب بالرصاص والقذف بالقنابل الذي تتعرض له المدن الفلسطينية من الجيش الإسرائيلي. مواطنون عزل منهم أطفال يقتلون يوميا . جريمة الفلسطينيين ببساطة أنهم يريدون دولة مستقلة، يريدون بيوتا ومدارس ومستشفيات آمنة. منذ ستين عاما لم يصمت «كليفرنجيا» وهو يرى آخرين يفصلون لمجرد هويتهم. ماذا كان سيقول لو كان بيننا اليوم؟ هل كان سيتردد في الدفاع بوضوح وبشجاعة، لو كان مكاني، عن حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على الأرض المحتلة سنة سبع وستين؟»
بدأت المحاضرة من سؤال: ما القرآن؟ وعرضت ما قاله اللغويون عن أصل كلمة «قرأ»، هل هي بمعنى «جمع» أو هي بمعنى «ردد»؟ وهو الرأي الذي أميل إليه لنزول القرآن شفويا، ولم يجمع في مصحف إلا بعد وفاة الرسول الكريم، بل إن القرآن لم يتعامل معه ككتاب مكتوب في الحياة العامة منذ حياة المسلمين الأوائل حتى أتى عصر الطباعة. والتعريف الذي أجمع عليه المسلمون للقرآن: «أنه كلام الله الذي أوحي به إلى النبي محمد باللغة العربية على مدار ثلاثة وعشرين عاما.» وهذا التعريف له ثلاثة جوانب: كلام الله والقرآن والوحي. ومفهوم كلام الله كما ذكر القرآن أن كلام الله لا نهاية له؛ مما يجعل القرآن كنص يمثل مظهرا خاصا من كلام الله، وحدث خلاف بين المسلمين حول طبيعة القرآن هل هو قديم أبدي أم هو مخلوق محدث، لكن مفهوم أنه قديم هو الذي ساد. الجانب الثاني من تعريف القرآن: هو جانب الوحي، وهو قناة الاتصال التي تنزل من خلالها القرآن على النبي محمد، وهو لغويا «الاتصال في خفاء». وذكر القرآن ثلاثة طرق للاتصال بين الله والعالم: أن يكون من وراء حجاب، كما حدث مع موسى من وراء الجبل، والثاني أن يرسل رسولا يوحي إليه، والثالث هو الوحي، كما أوحى للنمل. فالقرآن إذن تجل من تجليات الكلام الإلهي، أوحي به إلى النبي محمد بواسطة الملك جبريل.
من هنا يمكننا التمييز بين ثلاثة جوانب من القرآن: محتواه، ولغته، والجانب الثالث تركيبته أو بنيته. وليس هناك تناقض بين إلهية مصدر القرآن وبين محتواه المتصل بتركيب اللغة وتاريخيتها وخلفيتها الثقافية. بتعبير آخر، فالمحتوى الإلهي عبر عنه باللغة الإنسانية. وهذا المدخل اللغوي الإنساني هو المدخل الأصيل والأساسي لفهم النصوص كلها، وكذلك هو المدخل لفهم القرآن وتركيبة القرآن وبنيته، يتجلى فيهما البعد الإنساني؛ فالقرآن نزل منجما (مفرقا) على أكثر من ثلاثة وعشرين عاما، وأيضا خلال عملية جمعه، واختلاف الترتيب الحالي للسور، ترتيب التلاوة عن ترتيب النزول، وليس فقط عملية التنقيط والتشكيل التي دخلت عليه بعد ذلك، بل تركيبة القرآن ذاته، مثل الآيات التي ورد فيها:
يسألونك ، خمس عشرة مرة، عن الخمر والميسر واليتامى وعن المحيض والإنفاق والأنفال.
والجانب الثالث: لغة القرآن؛ فللقرآن استخدام خاص للغة العربية كخطاب للتأثير على المتلقي؛ فقد حول القرآن ألفاظ اللغة العربية إلى دلالات بالمعنى السيميوطيقي، دلالات تدل على حقيقة واحدة، وهي الله، تنقل المتلقي من العالم المشاهد إلى عالم الحقيقة الإلهية. وكل الأجزاء ما هي إلا علامات وإشارات وآيات تدل على الله، وليست علامات طبيعية في العالم. وحتى التاريخ الإنساني أيضا ما هو إلا سلسلة من العلامات. وتناولت في القسم الثاني من المحاضرة الدور الذي تقوم به الصلاة وشعائرها، والحج وشعائره، والعلاقة بين الميكرو المتمثل في الصلاة، والماكرو المتمثل في الحج، وما يحققانه من تواصل واتصال بالله. وتناولت في القسم الرابع من المحاضرة دور قراءة القرآن في حياة المسلمين، من ترتيل وتعليم وحفظ وتأثيره في الحياة اليومية من ألفاظ خصوصا في العامية المصرية. وفي الختام فالقرآن لا يمثل للمسلمين أسلمة الحياة، ولا هو أيضا الفصل التام بين الدين والحياة. وإن كان الفصل بين سلطة الدولة والدين ضرورة، فإنها لا تعني عزل الدين في خلفية الحياة الاجتماعية؛ فالقرآن يقدم نموذجا للتواصل بين الله والعالم، ويعلمنا ليس مجرد قوانين أو سياسات بالمعنى الضيق للكلمتين، إنه يعلمنا أن الفهم الحرفي لنصوصه تسجن كلام الله في اللحظة التاريخية لنزول القرآن، فيجب علينا أن ندرك تلك اللحظة، لكن أيضا ألا نهمل الدور الذي قام به القرآن في تشكيل حياة المسلمين، وإدراك طبيعة اللغة الدينية للقرآن.
وأوجه الشكر لجامعة لايدن، وللأكاديمية الهولندية، والزملاء في الدراسات الإسلامية والدراسات العربية، وإلى قسم المشروعات. والشكر الجزيل لطلابي الذين تعلمت منهم أكثر مما تعلموا مني، والصديقة «منى ذو الفقار» التي جندت نفسها لقضيتي أنا وزوجتي. وأشكر صديقي د. «أحمد مرسي»، والصديق الكريم د. «محمد أبو الغار»، وشكري إلى ابنتي «شيرين أبو النجا»، الذين اكتملت سعادتي بحضورهم من القاهرة ليكونوا هنا، وإلى أمي - رحمها الله - ومعروفها علي. وأشكر رفيقة الدرب «ابتهال» على مساندتها وحبها، والأهم إيمانها بالتحدي. وشكري إلى د. «فريال غزول» وإلى «شيرين» لمراجعة المحاضرة لغويا.
8
أدركت صعوبة أن أكتب عن «ابن عربي» (560ه/1165م-638ه/1240م) بلغة ليست لغتي الأولى، وكدت أن أعتذر عن الكتابة عنه للناشر الألماني، لكنه لم يسمح لي بالاعتذار، ووافق أن يتحمل تكاليف الترجمة من العربية إلى الألمانية، وفوجئت أن الأستاذة «آن ماري شميل» وهي من هي في ريادة الدراسات الصوفية قد تفضلت مشكورة بالموافقة على أن تترجم ما أكتب بالعربية إلى الألمانية. وحرص الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، على تقديم بعض كتاباتي للقارئ في سلسلة مكتبة الأسرة. انتهيت من كتابة الكتاب في يونيو ألفين وواحد، فأهديته إلى أهلي في القرى والنجوع؛ فمن أغانيكم تعلمت الغناء. كان عمي حسن سمك - رحمه الله - أول من علمني الشعر في قريتي، وأول من علمني التصوف؛ فإليه ولكم أهدي هذا الكتاب.
فمنذ رسالتي للدكتوراه وأنا أتوق للعودة للسباحة في محيط فكر «ابن عربي» مجددا، لكن يبدو أن خوف الغرق ظل ماثلا في وعيي، فكنت أعود لقراءة بعض أشعاره أو مراجعة فكرة ما، أو للتأكد من صدق استنتاج ما سبق أن توصلت إليه. في التمهيد ربطت بين عصر «ابن عربي» - القرنان السادس والسابع الهجريان، الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان - وبين قرننا الواحد والعشرين. المفكرون الفلاسفة دائما قلقون على مستقبل العالم؛ فالحداثة في أوروبا اعتمدت على عصر التنوير الذي حرر الإنسان من سلطة الكنيسة وقوانينها الإطلاقية؛ مما أدى إلى الطرف النقيض بجعل النسبية مفهوما مطلقا، وحركة المد الاستعماري، وتوظيفها السياسي لتصنيف البشر إلى متحضرين هم أبناء الغرب، وسواهم من البشر همج، وسيطرة ثقافة أهل الشمال التي رأت فيها ثقافات الجنوب المحلية رمزا للظلم والعدوان، والعولمة التي تحولت إلى إله جديد له قوانين لا يجوز مخالفتها، بل لا بد من الخضوع والانصياع لقوانينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. لقد صارت العولمة دينا، ظالما، فسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد والتصدي للاهوته المضمر باستدعاء الدين في كل الثقافات بلا استثناء، وفي داخل المجتمعات التي أخرجت الحداثة أيضا تم استدعاء الدين، لكن لا يكفي استخدام الأسلحة الدينية التقليدية، بل لا بد من شحذ أسلحة دينية جديدة لم يتحصن ضدها إله العولمة بعد.
في هذا الإطار يأتي فكر «ابن عربي» الذي يعكس بانوراما الفكر الإسلامي في عصره، وهو همزة الوصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، بل إنه أسهم في إعادة تشكيل التراث الإنساني مؤثرا فيه، بدليل دراسات المستعرب الياباني «تشيكو أوزوتسو»، والمستعرب الإسباني «آسين بلاسيوس»؛ فاستدعاء «ابن عربي» مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات قد يجعلنا نجد في تجربته وتجاربهم ما يمكن أن يمثل مصدر إلهام في عالمنا؛ فالتجربة الروحية هي مصدر الإلهام للتجربة الفنية، وهي الإطار الجامع للدين والفن. وفي السياق الإسلامي استعادة ابن عربي من الهامش إلى متن الثقافة مرة أخرى. ونتيجة لسيطرة الرؤى السلفية على الخطاب الإسلامي، والآلة الإعلامية الغربية نجحت إلى حد كبير في جعل الإسلام عدو الحضارة والتقدم، وتجعل من المسلمين مجموعة من الإرهابيين القتلة، فلا تنوع ولا تعدد في الفكر الإسلامي؛ لذا فنحن نحتاج إلى ترسيخ قيمة الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل، محل الصراع والحروب، وهنا يبرز فكر «ابن عربي» كرصيد ثري لنا جميعا.
اعتمدت في الكتاب على ما قاله «ابن عربي»، فنتعرف إليه من خلال ما أخبرنا هو عن نفسه؛ أي الصورة التي رسمها الشيخ بنفسه لنفسه، والسؤال الأول هنا هو: لماذا اتخذت حياة «ابن عربي» هذا المسار الخاص، رغم انتمائه لأسرة كانت كل ظروفها ترشحه للعمل في الديوان أو الانخراط في سلك الحياة العسكرية؟ والسؤال الثاني هو: إلى أي حد يعد هذا التحول في حياة الشيخ انقلابا؟ وهل كان انقلابا بالفعل أم كان تطورا طبيعيا في بناء الشخصية؟ فتتبعت سيرته من خلال النصوص التي تتضمن وقائع يحكيها الشيخ عن حياته وترتيبها زمنيا وتحليل محتواها. في الفصل الأول تتبعت تحول الفتى «ابن عربي» مما أسماه الجاهلية إلى طريق الولاية، والذي بدأ في فترة مبكرة من حياته بلا شيخ ولا معلم، وعلاقته بالشيوخ الذين يذكرهم بإجلال كبير، وكانت علاقة ندية وتكافؤ.
وسؤال: لماذا رحل الشيخ عن الأندلس والمغرب إلى المشرق بلا عودة؟ وهو ما تعرضت له في الفصل الثاني، ونقدت رؤية «هنري كوربان» عن عدم انتماء خطاب «ابن عربي» إلى عصره وإلى عقيدته، فنظرت إلى الشيخ من جانب التاريخ بما يرتبط به من قيود الزمان والمكان، وتجربة «ابن عربي» من خلال جدلية العلاقة بين الروحي الكوني والتاريخي الثقافي؛ فخطاب «ابن عربي» موزع بين صفاء فكره وتعالي تجربته الروحية، وبين تجربة زمانه وانتمائه الثقافي والحضاري والديني، والتعارض بين سمو خبرة الروح وزمانية الوجود الإنساني. تطورت رؤية «ابن عربي» للواقع الذي رحل من مغربه إلى مشرقه بحثا عن خلاص؛ فلما وجد الأمر في المشرق لا يقل سوءا عنه في المغرب أدرك أن لا خلاص إلا باليقظة الكبرى. وفي الفصل الثالث علاقته بابن رشد، وكان آخر ما شاهده «ابن عربي» في الأندلس قبل تركها نهائيا هو جنازة ابن رشد الفيلسوف والقاضي، صديق والده. فهل كان «ابن رشد» آخر خيط يربطه بالأندلس وبالمغرب؛ فلما انقطع الخيط بوفاة ابن رشد قرر الرحيل بلا عودة؟ وحللت في فصلين اللغة الإشارية وسيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمط سردي على بنية كتاب الفتوحات المكية. وفي النهاية عرضت نموذجا للتأويل عند «ابن عربي» لم أعرضها في رسالتي للدكتوراه منذ عشرين عاما عن التأويل في القضايا اللاهوتية والوجودية والمعرفية، فحللت هنا تأويله للشريعة ومسائلها.
نشرت مقالا بمجلة «الثقافة الجديدة» العراقية عدد 295، عن «هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي؟» تناولت مسألة: هل هناك في النصوص التأسيسية مفهوم للحكم والسلطة؟ وما علاقة هذا المفهوم - إذا كان موجودا - بالتجربة التاريخية؟ فمن دلالة «حكم» في القرآن التي تشير إلى القضاء، ويتم توسيع دلالتها لتضم الحكم بالمعنى السياسي عند المودودي وسيد قطب. وفي التجربة النبوية يمكن أن يقوم بدور تأسيس سلطة سياسية، لكن لا يمكن اعتبار كل تأسيس لسلطة تأسيسا لدولة. وما نسميه بالدولة الإسلامية في حقيقتها لها بنية إمبراطورية، وهي جزء من إمبراطوريات ذلك الوقت. وقد وترك الخلفاء والسلاطين المجال للسلطات المحلية حرية تطبيق القانون. ومع انهيار الإمبراطوريات وظهور الدولة الوطنية الحديثة كان التحدي؛ فمنذ جمع «محمد علي باشا» علماء الأزهر ليحاولوا وضع قانون طبقا للشريعة يحكم به ولم يستطيعوا. والمشكلة تكمن في تحويل الشريعة إلى قانون يفهمه الناس . وإذا تركت الشريعة على بنيتها الحالية فهي إعادة إنتاج إمبراطورية، حيث يقرر كل مفت وكل فقيه وكل واعظ الرأي الذي يراه صوابا. وهذا يتعارض مع الدولة الحديثة التي تعني توحيد البناء القانوني وسيادة القانون. وفي مصر نشأ نظامان قضائيان، وجعلت الشريعة محصورة في الأحوال الشخصية، وأعطيت للقاضي بها وظيفتان متناقضتان؛ وظيفة القاضي الذي يطبق القانون، ووظيفة المشرع الذي يعود بنفسه إلى الفقه الحنفي ويختار، في زمن استقلت فيه السلطة التشريعية عن السلطة القضائية.
نشرت لي مقالة باللغة الإنجليزية في يونيو ألفين وواحد عن مفهوم العدل في القرآن، تناولت فيها مفهوم العدل في القرآن، ومفهوم العدل الإلهي، وعن العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية، وعن العدل والقسط، وذلك من خلال مجالات مفهوم العدل في الفقه وفي اللاهوت الإسلامي والفلسفة والتصوف، وقبلها جميعا في التفسير. وخرج في نفس العام المجلد الأول من الموسوعة القرآنية عن جامعة «لايدن» من مطبعة بريل، والتي أنا عضو في مجلس تحريرها منذ سنوات، وبه مشاركة لي عن التكبر.
9
منذ جريمة اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، بنيويورك، أخذت المسائل شكلا بشعا، فإذا انتقدت الفكر التقليدي الإسلامي يقال عنك إنك متحالف مع الغرب ضد الإسلام، وإذا انتقدت الغرب يقال إنك أصولي تدافع عن «أسامة بن لادن»؛ الأمر الذي دفعني للاعتكاف ثلاثة أشهر في مكتبي، وإلى تغيير رقم تليفوني والإيعاز لسكرتيرتي بأنني غير موجود. وقررت أن أجمع أشيائي وأحزمها وأعود إلى مصر. لقد أصبح من المستحيل أن أرجئ مشروعي النقدي وأدخل في سجال، مبارزة هنا وأخرى هناك، لكن في نهاية الأشهر الثلاثة قررت ألا أتخلى عن دوري النقدي؛ لأنني لو تخليت عنه لأصبحت في غربة حقيقية؛ فكتبت مقالا نشرته «السفير» في بيروت في الثالث عشر من يناير ألفين واثنين، بعنوان «النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب». وفكرت في كتابة مجموعة من المقالات عن تجديد الخطاب الديني لجريدة الأهرام، عالجت فيها مسألة علاقة الخطاب الديني بمجمل الخطاب العام، والمسألة الثانية هي معنى التجديد ودلالته وآفاقه ومحاذيره، لكن «الأهرام» نشرت مقالة واحدة في الرابع والعشرين من فبراير ولم تنشر بعدها، إلى أن نشرت مجلة «الزمان» المقالات في سنوية أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعنوان «تجديد الخطاب الديني، ملاحظات واقتراحات»، ونشرته مجلة «سطور» بعد ذلك بعنوان الإصلاح بالقتل. وقد نشرت جريدة الأهرام ويكلي في عدد الثاني عشر من سبتمبر ترجمة له تحت عنوان «الجنة بأي طريق؟»
اتصلت بي باحثة من جامعة أمريكية اسمها «إيستر نيلسون» في مايو، وأتت للقائي بهولندا، والتقينا على مقهى أسفل مترو لايدن، شمرت أكمامي للحوار، طلبت مني أن أكتب كتابا عن حياتي باللغة الإنجليزية يعرض رحلتي الشخصية والفكرية دون التركيز على وقائع القضية، أخبرتها باستخدامي للغة الإنجليزية كلغة علمية، لكن أجد صعوبة في الكتابة بها كلغة قص. واهتماماتي الأكاديمية تجعل كتابة كتاب عملية صعبة. فعرضت علي أن نتحدث وتسجل هي حوارنا، ثم تصوغ الكتاب بالإنجليزية، وأراجعه وأدخل عليه التعديل.
سافرت إلى دمشق تلبية لدعوة مؤسسة «المدى» الثقافية بمناسبة مئوية «عبد الرحمن الكواكبي» (1264ه/1849م-1318ه/1902م). وفي مداخلة لي تعليقا على محاضرة وجدت مساندة كبيرة، وكتبي مقروءة. تجولت في أحياء دمشق القديمة وصولا إلى مقبرة باب الصغير حيث يرقد جثمان «نزار قباني» الذي كان مات في لندن بعيدا عن وطنه، ورفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع. اهتمت السلطة بجثته، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله للوطن. وزرت قبر «ابن عربي»، وقبر «صلاح الدين» المتواضع، وتأملت مسألة الموت. تجولت مع «علي الأتاسي» الذي أجرى معي حوارا نشره فيما بعد في السابع عشر من أكتوبر، في ملحق جريدة «النهار» اللبنانية. وبالليل حضرت حفل موسيقى غنى فيه المطرب «محمد منير» أغانيه في فيلم المصير عن «ابن رشد»، وحينما وصل إلى جملة «لسه الأغاني ممكنة» رغم استماعي لها كثيرا من قبل أجهشت في البكاء.
محاضرتي أدارها المفكر «صادق جلال العظم»، وكانت القاعة مكتظة بالناس، الكراسي امتلأت والطرقات والكوريدورات، ففتحوا قاعة أخرى ووضعوا بها مونيتور. كان وضعا مقلقا للسلطات وللمنظمين. واستمرت الندوة - أسئلة وإجابات - حوالي ثلاث ساعات ونصف. شعرت أنه نوع من التضامن معي. كانت محاضرتي بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا»، وهي القضية التي تمتلك علي حياتي الآن؛ فالحياة تتجدد بالحركة والصيرورة، في حين أن النص ثابت في منطوقه؛ ولذلك فالمسلمون يسعون دائما لفض هذه العلاقة بين الواقع والنص، من خلال عمليات التفسير والتأويل، وعرضت سريعا مقولات المعتزلة واعتمادهم على مقولة المجاز اللغوي لفض التناقض بين ظاهر منطوق النص والعقل، واستخدامهم لقياس ما هو غائب عن حواسنا بقياسه على ما نراه في شواهدنا.
وفي العصر الحديث، «الإمام محمد عبده» هو من بدأ يدرس كتابي شيخ البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني». وسعى في كتابه «رسالة التوحيد» إلى استعادة علم الكلام الاعتزالي، خصوصا في مبدأ العدل، وإن كان استعاد أيضا مفهوم التوحيد عند الأشاعرة، لكن «عبده» قال إن القرآن كتاب هداية وليس كتابا في التاريخ أو العلم ... إلخ. ونظر إلى القصص القرآني على أنه ليس تاريخا، وإنما المراد به الاعتبار والعظة من السياق، وليس المهم في القصة صدق ما تحكيه من وقائع وأحداث، بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تستنبط منه العظة. وركز «عبده» على أن الله يخاطب الناس على قدر عقولهم وأفهامهم؛ لذلك فعملية التأويل عنده تستند إلى مرجعية اللغة العربية كما استخدمها العرب في عصر النبوة. وجمع بين العقل والنقل، ورفض النقل الذي يتعارض مع العقل.
وعلى الرغم من أن كتاب «طه حسين» في الشعر الجاهلي لم يكن موضوعه التأويل، فإن آراء «محمد عبده» عن القصص القرآني أنها تمثيلات كانت موجودة، وفي بحث «طه حسين» عن مدى انتساب الشعر الجاهلي فنيا للحياة الجاهلية؛ فهو يعتبر أن القرآن هو أصدق مرآة للحياة الجاهلية. وقد اعتمد الكثير على ورود قصة هجرة النبي «إبراهيم» بولده «إسماعيل» والسيدة «هاجر» إلى أرض الحجاز دليلا على أن هناك عربا مستعربة من الجنوب هاجروا إلى الشمال وتعربوا، واكتسبوا لغة أهل الشمال، وتخلوا عن لغتهم الحميرية. وأول «طه حسين» قصة «إبراهيم وإسماعيل وهاجر» معتمدا على اجتهاد «محمد عبده» أنها من القصص الذي كان معروفا عند الناس ومتداولا ، وأن القصة القرآنية هي «تمثيل»؛ أي أمثال، وهي من المتشابهات، ولم يتضمن رأيه بأي حال ما توهمه البعض بالتشكيك في صحة القرآن، بل رأيه أن ورود القصة في القرآن ليس دليلا على صحتها التاريخية بقدر ما هو دليل على وجودها في وعي المخاطبين بالقرآن وفي ضمائرهم؛ فمنطلق «محمد عبده» بعدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ، وأن أسلوب القرآن يحدده الغرض الديني الوعظي للقص، ولا علاقة له بالتتابع المنطقي أو التاريخي للوقائع خارج القرآن. أخذ «طه» هذه المقدمة وأضاف إليها مقدمة أخرى هي جدة أسلوب القرآن، ومن هاتين المقدمتين استنبط نتيجة مضمونها أن القرآن أثر فني بالغ مارس تأثيره هذا على المعاصرين لظهوره.
ثم يأتي الشيخ «أمين الخولي» ويركز على «الأثر الفني للقرآن»، ويقول إن القرآن هو كتاب العربية الأكبر وأثرها الفني الأقدس، ويتجه في اختلافه عن «محمد عبده» - والذي ركز على الهداية في القرآن - إلى أن الغرض الأول هو دراسة البيان كغرض أول لعملية التفسير، وإن كان «محمد عبده» يشير إلى علمي البلاغة التقلديين (المعاني والبيان) باسم علم الأسلوب؛ ف «الخولي» تفهم البيان معتمدا على علوم البلاغة الحديثة، فركز على مشكلة المنهج في كتبه التسعة، وخصوصا كتابه «مناهج التجديد والبيان»، وهو منهج التحليل الأدبي. وخطوات المنهج تتحدد من طبيعة النص ذاته من حيث البنية والتركيب العام؛ فليس هناك منهج واحد وخطوات محددة سلفا للتعامل مع كل أنماط النصوص، ووحدة المنهج لا تنفي تعدد الإجراءات.
ولأن الشيخ «الخولي» خريج مدرسة «القضاء الشرعي»، فإن تأثره بعلماء أصول الفقه واضح في منهجه بجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، وترتيبها تاريخيا قبل القيام بالتفسير، لكن هنا مشكلة، وهي أنه يتحدث عن تأثير البيان القرآني على المتلقي، وهذا التأثير تم طوال التاريخ من خلال بنية القرآن كما هي في المصحف الحالي؛ أي من خلال ترتيب التلاوة. فهل هذا نوع من التناقض؟ والشيخ «الخولي» يحتاج منهجه ومفاهيمه للدراسة الأدبية إلى دراسة مستقلة نفهم موقف الشيخ أكثر؛ لأنه أقرب إلى مفاهيم المدرسة الرومانسية المشبعة بمفاهيم الكلاسيكية الجديدة، وهي مفاهيم تتناول النص الأدبي من حيث الموضوعات والمضامين أكثر من تناولها له من حيث الشكل والبنية. وظل تلاميذ الشيخ «أمين الخولي»، «بنت الشاطئ، ومحمد أحمد خلف الله، وشكري عياد»، متمسكين بدرجات متفاوتة بمنهج وحدة الموضوع وترتيب النزول.
وناقشت ردود «الخولي» على الداعين إلى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. ويعتبر «الخولي» هو الامتداد المعرفي والتركيبي لكل من «محمد عبده» ومن «طه حسين» على مستوى المنهج، لكن أضيف إلى التحدي الخارجي الأوروبي - والذي واجه «محمد عبده» و«طه حسين» - تحديا آخر داخليا عند «الخولي»؛ هو المتمثل في نمو التيار السلفي. وعلى مستوى المضمون يضيف «الخولي» إلى وعي «محمد عبده» بالتراث المعتزلي و«ابن رشد» إنجازات علماء أصول الفقه والبلاغيين في مجال التحليل اللغوي؛ لاستثمار الأحكام من النصوص عن طريق وحدة الموضوع وترتيب النزول، ويضيف إلى منهج «طه حسين» «اللغوي الفني» أبعادا من نظرية الأدب عن تأثير البيئة، وعن التأثير النفسي للأدب في القارئ. وعسى تطوير منهج الأستاذ «أمين الخولي»، وفقا لإنجازات المعرفة المتنامية في مجال المعرفة الإنسانية - وخاصة «الألسنية والتأويلية» - أن يمثل تجاوزا لحالة الركود في مجال الدراسات القرآنية. وهذا هو ما يشغلني.
كنت بالغ السعادة بأنني ما زلت أستطيع التواصل مع الناس؛ فهذه هي أول محاضرة عامة مع جمهور عربي كبير. وكانت سعادتي أكثر بالشباب الذي لم يأخذ فرصته، وناقشت تخوفاتهم على الإسلام من استخدام المناهج الحديثة لدراسة القرآن. وقال أحد المثقفين: «إنك لو كنت بسوريا لما حدث لك ما حدث بمصر.» مشيرا إلى أن السلطة الحاكمة ما كانت لتدع هذا يحدث، فقلت له: أفضل أن أعيش في بلد أناسه لم يعجبهم ما كتبت، ولم يستطيعوا الرد عليه بالكتابة فذهبوا إلى المحكمة، عن العيش في بلد تقمعهم السلطة بعنفها واستبدادها. الشباب حضروا في اليوم التالي إلى الفندق ودار حوار أكبر، ونظموا بعض الأنشطة الثقافية التي دعوني إليها. وكنت أود مقابلة الشيخ «حسين فضل الله» الأمين العام لحزب الله، ولكنه كان ببيروت، فسعى بعض الشباب إلى الاتصال به، وأتى الرجل إلى دمشق لألتقي به في بيت له خارج دمشق، في منطقة «السيدة زينب»، وكان كريما وأهداني كتبه، وكان بصحبته بعض مشايخ الشيعة من البحرين والإمارات، وأخبرني أنهم يعتبرونني من المفكرين المجددين في الإسلام. ودخلنا في نقاش علمي جميل عن فهم النبي للقرآن، ومدى بشرية هذا الفهم. وصدر المجلد الثاني من الموسوعة القرآنية الصادرة باللغة الإنجليزية عن جامعة لايدن، ولي به ثلاث مساهمات عن القرآن في الحياة اليومية، وأخرى عن الصحة والمرض، وثالثة عن العزم.
10
اتصلت بصديقي رئيس قسم اللغة العربية لتجديد إجازتي، فأخبرني أنها السنة الثامنة - فالقانون يسمح بخمسة أعوام فقط - شكرته جزيلا، فاستطرد يكلمني عن امتنان كثير من المصريين لعدم صمتي عن الفساد المنتشر في حنايا مصر، وخصوصا داخل الجامعة، وعن امتنانهم لنجاحاتي في الغربة. أعربت عن تفهمي لما يقول، وسألته: هو ليه مستحيل أن أدعى لعضوية مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه؟ - لا، أبدا، ليس مستحيلا، المسألة أنه ليس هناك رسائل في تخصصك. - هو دا صحيح؟ واحدة من تلامذتي نوقشت رسالتها من أسبوعين.
رد بسرعة متسائلا: حقيقي؟ قلت له: نعم لقد تواصلت معي، بل وأرسلت رسالتها، هي تلميذتي، على الأقل يدعوني القسم للمناقشة. - أنا آسف يا نصر، الوضع غم في الجامعة وفي القسم، أنت لازم تكون مبسوط جدا إنك رحلت من الهم دا.
قارنت بين قسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه وقسم اللغة الفرنسية الذي تنتمي إليه «ابتهال»؛ فهي تسافر إلى مصر كل شهرين منذ انتقالنا إلى هولندا لرؤية والدتها، وتشارك في مناقشة رسائل. وها هي جامعة القاهرة لا تريدني، وربما لن تطأ قدماي أرضها محاضرا أو أستاذا. فإلى متى أظل منتظرا دعوة جامعة القاهرة التي لن تأتي. وها هي جامعة «لايدن» هي الأخرى تتردد في إعطائي درجة أستاذ دائم منذ مساندتي المعلنة للانتفاضة الفلسطينية ودعمي للمقاومة وخطابي النقدي للسيطرة الغربية. إني أعيش في حالة من الانتظار التي تقتلني، لم أمر طوال حياتي بهذا الإحساس؛ ففي أقسى الظروف كان دائما قراري في يدي، الآن أنا في حالة انتظار؛ فمصيري يخرج من يدي ، لا أستطيع أن أقرر. المستقبل غامض. كنا في تركيا، حاولت «ابتهال» أن تخفف عني، وكنت في حالة من الضيق الغاضب، لكن تسامحها وحنانها كان أغلب من ضيقي، فقالت: إنت غاضب لأن «لايدن» لم تقرر بعد، لكنك أستاذ معروف في كل العالم، شوفت البشر والامتنان على وجوه من استمعوا إليك في الندوة العلمية، افتح عنيك. إنت بدأت تحول نفسك إلى ضحية، إحنا في أحسن حال، صحتك عال، ووزنك نزل، وتستطيع أن تعطي من أي مكان أنت فيه. إنت ليه غضبان؟
أتانا خطاب من مؤسسة «أنا ألينور روزفلت» الأمريكية تختارني هذا العام ألفين واثنين للحصول على جائزتها السنوية في حرية العبادة، بالإضافة إلى آخرين، منهم زعيم جنوب أفريقيا الكبير نيلسون مانديلا. فداهمتني الوساوس؛ مؤسسة أمريكية، ولماذا أنا؟ ولماذا هذا العام؟ كان رأي «ابتهال» أنها جائزة محترمة، وتأثيرها خرج عن حدود أمريكا، لكن ماذا يقول عني الناس في العالمين العربي والإسلامي. اتصلت بصديقي العزيز الشاعر «زين العابدين فؤاد» في القاهرة، وأعرف أنه سيصدقني القول، أسأله عن رأيه. فقال إنه سوف يحضر من القاهرة ليكون معي في تسلم الجائزة إن أردت. فقررت قبول الجائزة، وإن كان الأمريكيون أرادوا أن يرسلوا رسالة من خلالي فسوف أستخدم هذه المناسبة لإرسال رسالة أيضا. احتفال هذا العام سيكون في هولندا حسب التقليد لخلفية عائلة الرئيس الأمريكي روزفلت وأصوله الهولندية، وتعطى الجائزة في السنوات زوجية العدد بهولندا، وفي الأعداد الفردية من السنين في أمريكا.
قبل الحفل بيومين، تقابلت مع الرئيس المساعد للمؤسسة على عشاء، وسألته كيف وصلوا إلى اسمي. أخبرني أن المؤسسة أرادت أن تبحث عن شخص مسلم يعتقد في المبادئ الأساسية التي عاش من أجلها «روزفلت»، وتركنا الأمر للناس في جريدة «زيلاند» الهولندية ورئيس تحريرها، كان في دورة تعليمية بجامعة «لايدن» عام خمسة وتسعين، وهو الذي اقترح اسمك، وأرسلنا إلى جامعة «لايدن» فرشحك رئيس قسم الدراسات الآسيوية بالجامعة.
في يوم الاحتفال، الثامن من يونيو، كان حضور ملكة هولندا وزوجها، و«إليزابيث ومارجريت»، من عائلة الرئيس «روزفلت»، وأعضاء اللجنة . وارتديت أنا و«ابتهال» و«زين العابدين» وزوجته «جوسلين» الكوفية الفلسطينية التي طلبت أن يأتوا بها معهم من القاهرة، وألقيت كلمة قصيرة شكرت فيها المؤسسة، وأثنيت على جهاد الفائز معي الرئيس «مانديلا»، وأشرت إلى الرسالة المزدوجة التي تعنيها هذه الجائزة حينما تعطى لأول مسلم؛ ففيها رسالة للعالم الإسلامي وللعالم الغربي أيضا.
عادت «ابتهال» إلى القاهرة للتدريس بالجامعة في سبتمبر، فقبلت دعوة مؤسسة برلين للدراسات المتقدمة لمدة ستة أشهر للعمل على التأويلية الإسلامية واليهودية. وأصبحت وحيدا، تتخاطفني الهواجس، أكلم «ابتهال» تليفونيا ثلاث مرات يوميا. وفي العاشر من سبتمبر اتصلت بي في الصباح، وقالت: أنا عندي خبر مش كويس. صمتت قليلا، ثم قالت: «السيد ابن عمك تعيش إنت، توفي صباح أمس.» أنهيت المكالمة معها، وخرجت في طريقي للجامعة. في منتصف الليل اتصلت بها وقلت لها: أنا تعبان. ردت بلهفة: أجيلك لايدن فورا. - لا. بس أنا مفتقدك جدا. - نصر، السبب مش فقدانك لي، دا شيء أكبر من كدا، إنت حاسس باليتم للمرة الثانية بفقد السيد ابن عمك وأبوك الثاني.
ازدادت داخلي الرغبة في العودة؛ فلو كنت في البلاد الآن ربما كنت في عون السيد، سوف آخذ زمام حياتي مرة أخرى، لن أنتظر جامعة القاهرة تدعوني للانضمام الأكاديمي لها، ولن أنتظر «لايدن» تعطيني «أستاذ دائم»، وأنا مقبل على الستين في الثامن عشر من نوفمبر.
سجلنا «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» في سويسرا، أنا و«محمد أركون» و«جورج طرابيشي» ومفكرون من العالم العربي ورجال أعمال، كمحاولة لتشكيل كيان يسهم في عملية التحديث الفكري في العالم العربي، ويسعى إلى جذب تبرعات من العرب، من أجل هذا الهدف، بعد ما حدث من عنف العام الماضي.
بعد نهاية الفصل الدراسي في منتصف ديسمبر، اتصلت ب «ابتهال» في القاهرة، وقلت: أنا «جاي عايز أزور السيد» ومش عايز أقابل أحد. قالت: لازم نخبر محاميتك «منى ذو الفقار». ومنى ما زالت طوال كل هذه السنوات تحاول، وقادت العمل في القضية منذ الاستئناف. وحينما عرفت منى أصرت أن نتصل بالأمن. أرسلت لي الباحثة الأمريكية «إستير نيلسون» بالإيميل مخطوطة كتابنا عن حياتي، صوت المنفى قبل ركوبي الطائرة في طريقي إلى القاهرة. في المطار اندهشت من نفسي؛ فلم تتسارع دقات قلبي، ولم يلحظني أحد، وكل الأحاسيس التي كنت أتصورها ستحدث لم تحدث، وكأني تركت البلاد أمس. أخطأت شقتي في السادس من أكتوبر. المكان كما هو، حتى نتيجة الحائط ما زالت على تاريخ يوليو سنة خمس وتسعين.
اتصل بي ضابط أمن كبير يخبرني أنهم يعينون لي حراسة تصحبني، انفعلت ورفضت، كيف أذهب إلى «قحافة» في حراسة؟ فكان الرجل حليما، وقال: كيف ستسافر إلى هناك؟ - بالقطار. - كويس، الحراسة الدائمة لنا في كل قطار، سنخبرهم بوجودك بالقطار، وخذ رقم التليفون دا؛ فإذا شعرت بأي شيء غير عادي ولو بسيط، اتصل بهذا الرقم فورا، وده يا دكتور نصر ليس مجال اجتهاد. أي أحساس بخطر اتصل.
وضحكنا. أصررت أن أذهب إلى «قحافة» وحدي، وكانت «ابتهال» في شدة القلق، لكني أصررت. زرت بيت ابن عمي السيد، والتقيت ابنته التي حاولت أن تخفف من ألمي لعدم وداعي له، فقالت: «لا تحزن، أيامه الأخيرة كانت مليئة بالألم، لو شوفته لشعرت براحة أنه توفي ورحم من ألمه.» وأنا أسير في الشارع مع أخي محمد، سمعت صوتها من الداخل تقول: «هو دا نصر ابن أبو زيد يا ولاد؟» فقلت: إزيك يا شوقية. ودخلت سلمت عليها، وأخذتني في حضنها. وذهبت للعزاء في زميلي في الكتاب وخطيب مسجد بالقرية، مصطفى عمران. قضيت ثلاثة أيام مع إخوتي وأسرهم في حضن قريتي.
عدت إلى القاهرة، وكانت «ابتهال» في حالة شديدة القلق، حاولت أن أعرف السبب، فقالت بحدة: «يا نصر إنت كل كلامك خلال الفترة الماضية كان عن الموت، ففجأة تقرر العودة، وتقرر زيارة «قحافة» وحدك، فكأنك قررت الموت، وعايز تموت وحدك في هدوء، في حضن قريتك. عايزني أفكر في إيه؟» اعتذرت على ما سببته لها، وقلت إنني فقط أردت زيارة القرية في هدوء. وذهبنا لقضاء بضعة أيام في الساحل الشمالي، وطلبت «منى ذو الفقار» أن تعد حفلة صغيرة في بيتها، تدعو إليها المحامين الذين اشتركوا في الدفاع عني، فلا يصح ألا أقابلهم، فاتفقنا أن تكون الحفلة في ليلة عودتي إلى لايدن. وأخرج من بيتها إلى المطار. وفي اللقاء تكررت الطلبات من الحضور: لماذا لا تعود يا دكتور نصر؟ حتى إن أحدهم أخذته الحمية وقال: «يا رجل إنت لازم ترجع، حتى ولو كان فيها موت، من أجل القضية والوطن.» وما إن سمعته «ابتهال» حتى كادت أن تفتك به، وردت عليه: «وتمشوا في الجنازة وتترحموا على البطل فقيد الإرهاب والشهيد، وأشيل أنا الهم.» فقلت لأنقذه منها: «أنا لا بطل ولا مفكر مستنير، ولا عايز أموت، أنا إنسان أحب الحياة جدا، ما أنا إلا خوجة، باحث، ولا مستعد أبقى شهيد.» وحضر في نهاية اللقاء بزخمه «أسامة الباز» بجسمه النحيل، وفي سياق الجدال قال: «معندناش حرية في بلدنا تستحمل نصر أبو زيد.» كانت هذه الزيارة زادا وقوة نفسية لي عدت بهما إلى هولندا.
أنشأت جامعة «الإنسانيات» بأوتريخت كرسيا باسم «ابن رشد»، باسمه العربي وليس اسمه اللاتيني «آفريوس»، للدراسات الإسلامية، وأصبحت أول أستاذ لهذا الكرسي، وأصبحت أدرس يوما واحدا بجامعة لايدن. اتصل بي د. «حسن حنفي» - مع اقتراب عيد ميلادي الذي يتقارب مع عيد ميلاد زوجته فريدة - يخبرني بضرورة أن أرجع قبل بلوغي الستين بعشرة أيام لأستلم عملي، وأخرج على المعاش وأنا مستلم عملي؛ حتى لا يسعى أحد إلى حرماني من أن أكون أستاذا متفرغا بجامعة القاهرة. وقال إنهم لم يفعلوها مع أحد من قبل، لكن ممكن أن يعملوها معك، وأن أقدم على إجازة مرة أخرى بعدها بأسبوع. فعدت لمصر في الثامن والعشرين من يوليو ألفين وثلاثة. واتصل بي صديقي د. «السيد البحراوي» يدعوني إلى احتفال القسم بالدكتور «شوقي ضيف»، بمناسبة حصوله على جائزة «مبارك» في الآداب هذا العام، وسألني إن كنت أمانع في الحضور لموقف الدكتور «شوقي» أثناء مشكلة ترقيتي، فتذكرت ما قاله لي د. «إحسان عباس» الباحث الأردني، وزميل دراسة د. «شوقي ضيف»، والذي قال لي: «شوقي ضيف رجل طيب، هو خاف يرقيك وتطلع كافر فيدخل النار، وخاف ألا يرقيك وتكون رجل كويس، فيدخل النار أيضا، فانسحب.» تذكرت ذلك حين دعاني د. «سيد البحراوي»، فوافقت على الحضور.
أخطو في الجامعة لأول مرة منذ ثماني سنوات، سلمت على كل الناس والفراشين الذين أعرفهم، وحينما دخل د. «شوقي ضيف» فاجأني بأن قبل يدي، فبهت من تصرفه، وسعيت إلى يديه أقبلها، لكنه لم يمكني. وفي كلمته ردد اسمي مرات. وفي بيت «زين العابدين فؤاد وجوسلين» الذي سيتولى الطبخ كالعادة في هذه التجمعات الكبيرة، التقينا في احتفال جميل، «أحمد مرسي، محمد صالح، عبد الحميد حواس، أمينة رشيد، رضوى عاشور، سعيد الكفراوي، محمد أبو الغار، سيد البحراوي، وعماد أبو غازي»، والكثير من الأصدقاء، وطوق «زين» عنقي بشال حرير، وهو يغني: يا حرير إسكندرية لبسوك الفلاحين. وذكرنا سعيد الكفراوي بحكايات الشباب، خصوصا مهر عروسته «أحلام» الذي أعطاه والده لي ول «جابر عصفور» الذي لم أره؛ حتى لا يصرفه سعيد كما فعل مرات من قبل؛ لنعطيه لوالد عروسته. وقال سعيد: «لقد حل نصر الغضب، فهل ثمة مبرر للمنفى؟» ودعاني صديقي محمد أبو الغار إلى لقاء في بيته، حضره «صنع الله إبراهيم، منى ذو الفقار، جمال الغيطاني، عادل حمودة، عدلي رزق الله، منى أنيس، وشيرين أبو النجا، فريدة النقاش، حسين عبد الرازق»، وغمروني بحبهم وعطفهم، وقد دخلت الستين. ونشرت مجلة «ألف» في عددها الثالث والعشرين عام ألفين وثلاثة بالجامعة الأمريكية، الترجمة الإنجليزية لدراستي السابقة عن القراءة الأدبية للقرآن ... إشكالياتها قديما وحديثا، والتي نشرت في مجلة «الكرمل» سنة ست وتسعين.
11
منذ مناقشة رسالتي للماجستير، سنة ست وسبعين، وأنا أود دراسة دور الجدل بين المسلمين الأوائل واللاهوتيين المسيحيين في نشأة علم الكلام، بجانب ما تناولته من عوامل سياسية واجتماعية وثقافية في الماجستير، وأيضا لهذه الحالة التي نعيشها، وازدادت بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، والمواجهة العسكرية المباشرة من القوى الغربية في العراق. في هذا السياق، كانت دراستي لعملية الجدل الإسلامي المسيحي التي حدثت في القرن الثاني الهجري، بدايات القرن الثامن الميلادي ، وتأثير القراءة والفهم المسيحيين في نشأة قضايا علم الكلام أو اللاهوت الإسلامي. اعتمدت في هذه الدراسة ما كتبه يوحنا أو يحيى الدمشقي (34ه/675م-108ه/749م) باللغة اليونانية، وقد اعتمدت على الترجمة الإنجليزية عن اليونانية من خلال ترجمة «دانيال ساس»، وعلى ما كتبه «ثيودور أبو قرة» (109ه/750م-184ه/825م) الذي سار على طريق «يوحنا الدمشقي»، وسياق هذا الجدل والتحدي الذي مثلته أسئلة المجادل المسيحي بخطابه اللاهوتي المسيحي في ثمانية قرون ضد الدين الجديد، وكيف أخذ المجادلون المسلمون التحدي بجدية، وكيف أثر هذا في تشكيل قضايا علم الكلام ومسائل اللاهوت الإسلامي الذي لم يكن قد استوى على عوده بعد، وكانت مقولاته «غير نضيجة»، فقرأ المجادل المسيحي النصوص الدينية الإسلامية ليرد عليها، وكذلك فعل المجادل المسلم مع التوراة والإنجيل.
كيف تعامل المجادل المسيحي مع خطر الدين الجديد، ويجب أن نضع في حسباننا أن «يوحنا وثيودور» يكتبون للمسيحي الشرقي لتثبيت اللاهوت المسيحي ضد غواية الدين الجديد من وجهة نظرهم. و«يوحنا» كان أبوه يعمل في بلاط الدولة الأموية كما كان جده يعمل في الدولة البيزنطية، وقد تولى «يوحنا» العمل في بلاط الأمويين بعد والده، ودرس القرآن وتعلم العربية كما يبدو، اعتزل الحياة العامة سنة 89ه/730م، وذهب إلى دير «سابا» قرب القدس، وكتب ضد عملية تحريم عبادة الصور وتبجيل الأيقونات، وأدين في مجمع «هيرا» سنة 113ه/754م، لكن رد إليه الاعتبار في مجمع «نيقية» الثاني سنة 146ه/787م، وعلى نهجه سار «ثيودور أبو قرة» الذي لا نعلم عن حياته الكثير. في هذا المناخ كان الآباء المؤسسون لعلم الكلام من «معبد الجهني» (ت: 80ه/700م)، و«غيلان الدمشقي» (ت: 99ه/718م)، و«الجعد بن درهم» (ت: 120ه/738م).
في كتاب «يوحنا» «نافورة المعرفة» قسم خاص بالبدع، ذكر منها مائة بدعة وواحدة، من ضمنها الإسلام، ولم يكن اللفظ المستخدم للتعبير عن المؤمنين بمحمد بالمسلمين، بل يشار إليهم بأنهم الإسماعيليون؛ نسبة إلى «إسماعيل»، أو السراسيون؛ إشارة إلى أبناء «هاجر» التي طردتها «سارة»؛ أي بتعبير آخر مطاريد «سارة». وقد اعتبر «يوحنا» هذه الدعوة ما هي إلا هرطقة من ضمن الهرطقات المسيحية التي ظهرت من قبل، مثل أتباع آريوس (ت: 336م) الذي قال إن الله واحد وكل ما سواه مخلوق، وأتباع «نسطور» (ت: 450م) الذي نادى بالطبيعة البشرية الكاملة للمسيح. وعرضت لثلاث قضايا محورية تم حولها الجدل، وهي الكلمة الإلهية؛ وعيسى طبقا للقرآن هو كلمة الله المخلوقة، وهذا في نظر اللاهوت المسيحي هرطقة. القضية الثانية هي قضية الصفات الإلهية. والقضية الثالثة الجبر والاختيار. عرضت لجدل القرآن مع النصارى، والإشارات التي لها دلالات تاريخية في القرآن، مثلما جاء في سورة «الروم» عن معركة القدس بين الفرس والروم (615-616م)، واضطهاد «ذو نواس» لنصارى «نجران» في سورة «البروج»، وما ورد في السيرة عن هجرة الحبشة. وتعرضت بعد ذلك لجدل «يوحنا وثيودور» ضد الإسلام. هذا الجدل - حينما أخذه المسلمون مأخذ الجد - كان جدلا منتجا. وأردت أن أقول إن ما نواجهه الآن بما يسمى الخطاب المعادي للإسلام، نعم قد يكون هو خطابا معاديا، وقد نأخذه بانفعال فنتألم، لكن لو اعتبرناه تحديا ونشتبك معه فكريا، فربما يحدث نوعا من الفعالية المثمرة في جسد الفكر الإسلامي المصاب بفقر الدم الفكري؛ ففي التجربة التي سردتها لم يقتل «يوحنا»، ولم تخرج مظاهرات ضد «ثيودور»، بل تم التعامل معهم فكريا.
ركزت جهدي في المنهج الذي نحتاجه لنتجاوز به الفشل وضعف الثمار التي أثمرها خطاب التجديد خلال القرنين الماضيين باعتمادهم على نفس الأساس اللاهوتي (الأشعري/الحنبلي). وجاءت ندوة باريس التي دعيت إليها حول موضوع السبل العملية لتجديد الخطاب الديني في الثاني عشر من أغسطس ألفين وثلاثة، فقدمت ورقة بعنوان «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»؛ فمنذ عصر الخليفة العباسي «المتوكل» (205ه/847م-247ه/861م) توقف النقاش حول إشكالية تعريف «الكلام الإلهي» وعلاقته بالذات الإلهية، والتي عرفت بقضية «خلق القرآن»، وحسمت بأمر سياسي، وتم تحديد العقائد الصحيحة وتمييزها عن العقائد الباطلة، واعتبرت عقيدة «خلق القرآن» بدعة، وصار تصور القرآن الأزلي القديم هو العقيدة الصحيحة، حتى أتى «محمد عبده» (1849-1905م) في العصر الحديث في كتابه «رسالة التوحيد»، وفتح النقاش حول قضية الوحي وكلام الله. وفي الطبعة الأولى انحاز لموقف المعتزلة، لكن حدث تغيير لهذا الموقف في الطبعة الثانية من الكتاب التي أخرجها تلميذه «رشيد رضا»، منحازا لموقف «الأشاعرة» الذي يميز بين الصفة الأزلية للكلام الإلهي والقرآن المتلو المحكي بأصواتنا البشرية، وهذا هو المخلوق. ومنذ هذا التردد ظلت محاولات التجديد تدور في فلك اللاهوت الأشعري، ورويدا رويدا غاب هذا التمييز الأشعري بين جانبي الكلام الإلهي لحساب الموقف الحنبلي الذي يصر على صفة واحدة بلا تمييز، وهي أن كلام الله أزلي قديم وصفة من صفاته الأزلية القديمة.
وتعرضت لبعض المحاولات الجزئية التي حاولت الاقتراب منها دون أن تتناول السؤال المكبوت من القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي؛ فعرضت ل «محمود محمد طه» (1909-1985م) في السودان، والذي حاول التمييز بين رسالتين في الوحي؛ الرسالة المكية وهي الأصل والجوهر، ورسالة ما بعد الهجرة وهي الرسالة المدنية. والإشكال هو أنه يعطي نفسه الحق في فهم علمي المكي والمدني والناسخ والمنسوخ من علوم القرآن خارج سياق التاريخ الاجتماعي والسياسي للمسلمين. وقريب من هذه المحاولة محاولة «محمد شحرور» المولود عام 1938م، رغم اختلاف الأسلوب، حيث المصحف يحتوي على جانبين؛ الجانب الأول: جوهر ثابت هو القرآن، ومصدره هو النبي، وهو المتشابه الذي يحتاج إلى الراسخين في العلم لفهمه وتأويله. والجانب الثاني من المصحف هو: الجانب الواضح، وهو الكتاب، وهو التاريخي المؤقت القابل للتطور، ومصدره هو الرسالة والرسول. و«شحرور» يتعامل مع اللغة ككائن هلامي بلا معجم وبلا دلالة استعمالية؛ مما يجعله يستنطق القرآن بمعان ودلالات محددة سلفا.
وتعرضت لمحاولة اثنين من المشاركين في الندوة؛ مشاركة «جمال البنا» المولود عام 1920م، وهو يميز تمييزا حادا بين الإسلام والمسلمين؛ حيث الإسلام جوهر ثابت متعال لوثته الأفهام حين اختلط الإسلام بالحضارات القديمة. ومن جهة أخرى يتعامل مع النصوص التأسيسية كنصوص بلا سياق إنساني مفارقة للتاريخ وللثقافة؛ مما يجعل قراءته تتميز بالانتقائية، ويسهل من ذلك نفيه للثقافة الإسلامية بما فيها الفقه من أفق منظوره التفسيري. وعرضت لتجربة «خليل عبد الكريم» (1930-2002م)، وهو مشغول بالنقد التاريخي، لكنه لا يكاد يتجاوز عنده منهج نقد الرواية في التراث. وفي صراعه مع سلطة التقديس يوظف النقد التاريخي لغايات براجماتية، فيقع في انتقائية واضحة للنصوص التراثية التي تحقق غايته، ويهمل تلك التي تعارض أهدافه. ويمكن أن نستثني من كل هذه المحاولات محاولة «حسن حنفي» المولود عام 1935م، الذي أعاد وأفاد عن العلاقة الجدلية بين الإلهي والإنساني في مفهوم الوحي. وأيضا المفكر الباكستاني «فضل الرحمن» (1919-1988م)، الذي أكد الدور الإيجابي للنبي في عملية الوحي، قائلا إنه لم يكن مجرد ساعي بريد. لكن سؤال كلام الله ظل غائبا عنده.
وحاولت أن أضع بعض النقاط التي أفكر فيها؛ فسؤال القدماء في القرون الأولى من تاريخ الإسلام استجابة للسؤال المسيحي حول تناقض القرآن في فهمه للمسيح، بكونه كلمة الله وروحا منه وبين كونه إنسانا مخلوقا من جهة أخرى. كان السؤال هو ما إذا كان كلام الله قديما أزليا أم محدثا مخلوقا. ومفهوم أن القرآن كلام الله الأزلي القديم، وصفة من صفات الذات الأزلية القديمة؛ فتصبح اللغة العربية قشرة على معانيه. وبما أنها قشرة فإن علوم اللغة والبلاغة والأسلوب والدلالة هي علوم مهمتها إزالة القشور للبحث عن الدرر الكامنة. وهذا التعريف هو الأساس الذي يسوغ أسلمة العلوم بالقدر الذي يسوغ العنف والقتل والتكفير باسم الله؛ فإذا كان هذا هو سؤال التراثيين فإن سؤالنا الآن في سياق الدرس العلمي والفهم الموضوعي هو: ما معنى أن القرآن كلام الله؟ وتتفرع عنه أسئلة كثيرة عن طبيعة الوحي وكيفيته، وهل كان تواصلا باللغة أم تواصلا بالإيحاء والإلهام.
فإن الله تعالى يقول:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
والتراثيون قسموا طرق التواصل من قراءة هذا النص إلى ثلاثة أنماط؛ الأول: الوحي بمعنى الإلهام كما في كلام الله لأم موسى. والثاني: هو كلامه مع موسى من وراء حجاب الجبل. النمط الثالث: هو نمط الوحي في الإسلام عن طريق وسيط هو جبريل. وقالوا عن هذا التواصل بين جبريل ومحمد كان تواصلا لغويا بالعربية، وهو تفسير تتأبى عليه الآية التي تنص على أن «الرسول/الملك» «يوحي» إلى البشر بما يشاء الله، ومعنى ذلك أن الاتصال بين جبريل ومحمد كان اتصالا غير لغوي، اتصالا بالوحي؛ أي بالإلهام. وهناك روايات كثيرة تنسب إلى الرسول أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس أو طنين النحل. من ذلك ينفتح الباب للنقاش عن معنى التنجيم، ما معنى أن القرآن نزل مفرقا حسب الأحوال والملابسات؟ وسؤال آخر نابع منه هو: هل القرآن نص واحد أم كثرة من النصوص لكل منها سياقه الخاص؟ وسؤال ينبع من ذلك: لماذا حين جمع القرآن في مصحف لم يرتب حسب النزول؟ وهذا ليس تشكيكا في القرآن، بل لفتح النقاش بحثا عن حكمة الترتيب الحالي، سواء كان هذا الترتيب إلهيا أو بشريا كما يذهب البعض. ودراسة عملية الجمع والتدوين في المصحف، كيف بدأت؟ وكيف تطورت من رسم المصحف بلا تنقيط ولا حركات أو فواصل أو علامات وقف؟ وما علاقة كل هذا بالقراءات المعتمدة؟ ولا نتغافل أو نتجاهل الصحائف الباقية من مصاحف مختلفة، والتي تم العثور عليها بالمصادفة في سقف أحد مساجد صنعاء باليمن بعد سقوط السقف بفعل المطر سنة 1972م، وهي مكتوبة بخط حجازي.
إذا لم يتغلب علينا ضعف الإيمان فنرفض مجرد النقاش وفحص الوقائع، ونصر على أن نجمد عقولنا؛ فإن هذه الأسئلة لن تهدم الدين ولن تزعزع اليقين، بل من المؤكد أنها ستفتح لنا مجالا للفهم لنمتلك تراثنا ونبني عليه من خلال طرح أسئلتنا نحن، بدل أن يكون تراثنا عبئا علينا كما هو الحال الآن. فمتى نبدأ؟ هذا هو السؤال. خرج هذا العام المجلد الثالث من الموسوعة القرآنية، وبه مشاركة لي عن الاضطهاد.
12
منذ محاضرتي عام ألفين لكرسي «كليفرنجا» للحريات في جامعة «لايدن»، التي ركزت فيها على تحليل البعد الرأسي في عملية الوحي. عملية التواصل بين الله والنبي محمد هي العملية التي أنتجت القرآن. وكنت وصلت في محاضرة العام الماضي في باريس إلى أن النظر للقرآن كمجموعة من النصوص لكل منها سياقها، لكن ظلت القضية تشغلني. وفي محاضرة كرسي «ابن رشد»، في جامعة الإنسانيات بأوتريخت، كانت محاضرتي كأستاذ للكرسي في السابع والعشرين من مايو ألفين وأربعة، «إعادة التفكير في القرآن، نحو تأويلية إنسانية»، أن النسخة الأولى لرسم المصحف دون تنقيط وإعراب قد تم إنجازها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (23ه/644م-35ه/656م)، والنسخة النهائية للمصحف بعد إضافة علامات التنقيط وعلامات الإعراب قد تم إنجازها في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. وبها تمت عملية التقنين للمصحف الحالي.
أنا هنا أطور أطروحتي حول الجانب الإنساني في الوحي/القرآن، خطوة أبعد بالانتقال من البعد الرأسي الذي ركزت عليه في محاضرة عام ألفين إلى البعد الأفقي. ولا أعني به مجرد عملية التقنين التي أشرت إليها، ولا عملية البلاغ التي قام بها النبي عليه السلام، ولا عملية الانتشار الأفقي الناتجة عن فعل التبليغ، ولا أعني بها أيضا التراث التفسيري الذي حول النص الإلهي إلى فهم إنساني، لكن أعني بها المحايثة لعملية الوحي ذاتها، والمتمثلة في دوال وإشارات ما تزال ماثلة في بنية النص المدون في المصحف. هذا البعد يمكن إدراكه وتقديره، إذا حولنا منظورنا في التعامل مع القرآن من منظور كونه نصا إلى النظر إليه باعتباره خطابا أو بالأحرى خطابات، لكل منها سياقه الذي لا تستبين دلالة الخطاب إلا به.
وأنا كنت أحد الدعاة للخاصية النصية للقرآن، متأثرا بالمنهج الأدبي عند الشيخ «أمين الخولي»، ومتأثرا بأساليب الدراسات الأدبية الحديثة، لكني بدأت أدرك خطورة التعامل مع القرآن بوصفه نصا فقط؛ من حيث إنه يقلل من شأن حيويته، ويتجاهل حقيقة أن القرآن ما زال يمارس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين بوصفه خطابا لا مجرد نص. وكان القرآن، وما يزال، في الفترة الأولى من تاريخ المسلمين قبل الوصول لمرحلة التقنين النهائي للمصحف، وقبل تحول الإسلام إلى مؤسسات، ينظر إليه بوصفه الخطاب الحي، بينما كان المصحف بمثابة النص الصامت؛ فنسخ القرآن لم تتوفر بشكل واسع إلا مع دخول المطابع الحديثة في القرن التاسع عشر الميلادي، الثالث عشر الهجري، في العالم العربي والإسلامي. ومع انتشار الأمية، فإن تأثير القرآن منطوقا في الحياة اليومية عند المسلمين طوال هذه القرون. وإن التعامل مع القرآن فقط بوصفه نصا سينتج دائما تأويلية شمولية أو تأويلية سلطوية، وكلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
في رسالة الماجستير رصدت تحول القرآن إلى أرض للمعارك الفكرية والسياسية بين المتنازعين، وتعامل المتكلمون مع القرآن من منظور نص مكنهم من ترسيخ المبدأ التأويلي الأول عن المحكم والمتشابه. ونزاعهم حول المعنى تطور إلى نزاع حول المبنى. ما المحكم وما المتشابه من آيات القرآن؟ وميز الفقهاء وعلماء الأصول مبدأهم التأويلي على أساس التمييز في الخطاب الإلهي بين المتقدم والمتأخر في ترتيب النزول، وتعاملوا مع القرآن بوصفه نصا وباعتباره كتابا بالمعنى القانوني، فتمت صياغة مقولة الناسخ والمنسوخ بأقسامها الأربعة؛ المنسوخ لفظا وحكما، والمنسوخ حكمه وبقي لفظه، والمنسوخ لفظه وبقي حكمه، والقسم الرابع الثابت حكما ونصا. وإذا كان النص البشري يخضع لسيطرة مؤلفه ويعكس قدراته، فإن النص الإلهي - ومصدره الله سبحانه وتعالى - لا بد أن يقع في أرقى مستويات البناء التي لا يمكن أن تستوعب تناقضا ما؛ فأي تناقض أو اختلاف في الكتاب الإلهي لا بد أن يكون ظاهريا؛ فالهدف عند المتكلمين والفقهاء كان رفع التناقض عن النص الإلهي. ولم يكن من الممكن للمتكلمين أو الفقهاء أن يدركوا أن ما يبدو لهم تناقضا ليس إلا مواقف وترتيبات لا يمكن فهمها إلا بالعودة لسياقها الخطابي؛ أي سياق التحاور والتساجل والجدل والاختيار والرفض والقبول ... إلخ؛ أي يتطلب منا الاهتمام بالطبيعة الخطابية للقرآن، بدلا من تركيز الاهتمام بالكامل على الطبيعة النصية التي أسهمت في إغلاق الاحتمالات، وتثبيت احتمالات موجهة أساسا بأيديولوجيا المؤول السياسية أو الثقافية أو العقدية أو المذهبية.
وبسبب سيطرة مفهوم القرآن بوصفه نصا على مجمل الدراسات في الشرق والغرب، جعل من الصعب تقديم نسق بنيوي دقيق للخطاب القرآني. وكتاب «القرآن بوصفه نصا»، والذي يتضمن بحوث المؤتمر العلمي الدولي الذي عقد في نوفمبر عام ثلاثة وتسعين بقسم الدراسات الشرقية بجامعة «بون» الألمانية، أبرز التحول في الدراسات القرآنية في الأكاديميات الغربية من نموذج البحث عن أصول وجذور القرآن في التراثين اليهودي والمسيحي، إلى نموذج النص كما تم استقباله في تاريخ المسلمين في شكل المصحف. وقد قدمت الموسوعة الإسلامية في الطبعة الثانية تصنيفا للشكل أو الأشكال الأدبية في القرآن، وهي: آيات القسم، والآيات التي تشير إلى الآيات الكونية والقصص وآيات الأحكام، وأخيرا الآيات الدعائية التعبدية. و«محمد أركون» رغم تأكيده على طبيعة القرآن بوصفه خطابا، فهو يتبنى تصنيف «بول ريكور» الفيلسوف الفرنسي، للأشكال الأدبية في العهد القديم، والمبنية على أساس تبني التعريف النصي؛ فالخطاب القرآني عنده يتكون من الخطاب النبوي أو التنبؤ، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، ورابعا الخطاب التقديسي، ثم الخطاب التعبدي. والنظر إلى القرآن على أنه نص يجعلنا نبحث باستمرار عن مركزية النص، هل مركز القرآن هو الجهاد، والحدود ... إلخ، أم إن مركزية النص القرآني في الصبر والرحمة، وتقبل الآخر ... إلخ؟ وهذا هو المدخل للتأويل والتأويل المضاد. ومفهوم الخطاب يخرجنا من هذا الصراع.
ويمكنني القول إن القرآن لا يمثل خطابا أحادي الصوت، بل هو خطاب تعدد الأصوات بامتياز؛ بمعنى أن ضمير المتكلم لا يشير دائما إلى المقدس، فصوت المقدس لا يعبر عنه دائما بضمير المتكلم «أنا»، بل كثيرا ما يمثله الضمير الغائب «هو»، وهو دائما «أنت» في الخطاب التعبدي الدعائي. هذا عن الأصوات في القرآن. وإذا نظرنا للحوار في القرآن بداية من حوار السجال فسجال القرآن مع المشركين، والنوع الثاني هو سجال القرآن مع المؤمنين. والحوار التفاوضي مثل الحوار مع النصارى وتطوره من التفاوض إلى الجدل. الصنف الثاني: الحوار التفاوضي كان مع اليهود، والذي تطور من التفاوض والجدل إلى الحرب. ودراسة كل هذه الجوانب في الخطاب القرآني تحتاج إلى فريق بحثي كامل يعمل عليها، وتحتاج إلى مجلدات ترصدها. وقد عرضت في المحاضرة بعض النماذج التي توضح كل هذه الجوانب، من تعدد الأصوات ومن الحوار السجالي والحوار التفاوضي. في القسم الثاني من المحاضرة، والتي نشرت في كتاب، كان عن عملية التجديد في الفكر الإسلامي منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وكيفية استجابة العقل المسلم لتحديات الاكتشافات العلمية الجديدة وأسئلة العقل والعقلانية، بالإضافة إلى التحديات السياسية.
شاركت بورقة عن «اليسار الإسلامي إطلالة عامة» بمعهد «إبراهيم أبو لغد» للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت، بينت فيها أنه لو أخذنا تعريفا عاما جدا لليسار بأنه: الحركات السياسية والفكرية التي تدافع عن حقوق الفقراء والمستضعفين. وهو كل نزوع نحو التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتحرر الفكري ونحو العقلانية؛ أسلوب حياة ونمطا في التفكير. وأوضحنا اليمين بأنه: الحركات السياسية والفكرية التي تؤيد الحرية الفردية في مجال الاقتصاد، وتقف ضد أي محاولة لتوزيع الثروة أو لتقريب الفوارق بين الطبقات. وهو يتمسك بالتقاليد والمحافظة، والميل إلى تثبيت الواقع. وعرضت لجوانب هذا الفكر في تراثنا منذ القدماء إلى العصر الحديث، حتى هزيمة يونيو سنة سبع وستين.
تمت دعوتي لزيارة إندونيسيا، في السادس والعشرين من أغسطس، أسبوعين من المركز الدولي للإسلام والتعددية، ونظمت لي مجموعة من الأنشطة، وكان عدد من كتبي قد ترجم إلى اللغة الإندونيسية، وبعض تلاميذي الإندونيسيين في لايدن في الدراسات الإسلامية قد عادوا إلى إندونيسيا، وأصبحوا أساتذة في الجامعات والمعاهد الإندونيسية، وتعرفت إلى أكبر منظمتين إسلاميتين هناك؛ «المحمدية» التي تأسست عام ألف وتسعمائة وثمانية، و«نهضة العلماء» التي أنشئت بعدها بأربع سنوات. والتقيت رئيس «نهضة العلماء» وحفيد مؤسسها الذي أصبح رئيس إندونيسيا فيما بعد «عبد الرحمن وحيد». وأشرفت على ورشة عمل تحت عنوان «نقد الخطاب الديني»، وتم افتتاح مؤسسة «عبد الرحمن وحيد» لغرس بذور التعددية والسلمية في الإسلام، ودعاني لألقي كلمة في الافتتاح. وقضيت يومين في المعهد العالي للفقه. استقبلوني استقبال شيخهم الجليل. واكتشفت أن كتابي «مفهوم النص» المرفوع من مكتبة جامعة القاهرة، يدرس باللغة العربية في المعهد على الرغم من أنه مترجم عندهم. وكتبت مقدمة لكتاب «قراءات نقدية في الفكر المعاصر» ل «عاطف أحمد» الذي نشرته دار المحروسة. وخرج كتابي مع «إيستر نيلسون» بالإنجليزية عن مشوار حياتي تحت عنوان «صوت المنفى ».
13
أصبحت زياراتي لمصر منتظمة في كل إجازة دراسية، ودعاني د. «حسن حنفي» لإلقاء محاضرة في الجمعية الفلسفية المصرية، وكان لطيفا جدا في الإطراء علي. وألتقي «علي مبروك» منذ لقائنا في لايدن مرة أخرى. وألتقي «جابر عصفور» منذ عمليته في القلب بفرنسا، وباتصالي به عادت علاقتنا، واحتفظ كل منا بموقفه مما يحدث. وفي نوفمبر ألفين وخمسة اتصلت بي لجنة جائزة «ابن رشد» للفكر الحر؛ لأنها اختارتني للتكريم هذا العام. وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من نوفمبر، بمعهد جوته ببرلين في ألمانيا، حضرت أنا و«ابتهال»، وحضر السفير المصري في ألمانيا وممثل الجامعة العربية وكوكبة من المفكرين. وقالت المؤسسة إنها تمنح جائزتها «لمفكر عربي إسلامي متميز ومجتهد في أصول الدين؛ هو «نصر حامد أبو زيد»، ولكفاحه المتواصل من أجل إعادة قراءة معاني القرآن قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي دافعا حريته الشخصية ثمنا لذلك.» ورغم رمزية هذه الجائزة التي تبرعت بقيمتها للمؤسسة نفسها، لكن هذه الجائزة مثلت عندي معنى ربط اسمي ب «ابن رشد» الذي أعتلي أستاذية كرسي باسمه. وهذه الجائزة على الرغم من أنها تأتي من ألمانيا من مفكرين ونشطاء عرب، فهي تمسح العار الذي لحق بقيمة الحرية - حرية البحث العلمي وحرية العقيدة - في عالمنا العربي والإسلامي، الذي لا توجد به جائزة واحدة لحرية الفكر. وألقيت محاضرة أشرك بها الحضور في همومي الفكرية بعنوان «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، عرضت فكرتي عن الطريق للخروج من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب.
انخرطت في مشروع كتابة دراسة ل «حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، تحليل نقدي تاريخي»، واعتمدت على القسم الثاني من محاضرتي لكرسي «ابن رشد» بتشجيع ودعم الجامعة، وتعاونت معي دكتورة «كاتاجان أمير بور» في الفكر الإيراني، ودكتور «محمد نور كوليس سيتوان» في الفكر الإسلامي الإندونيسي. والسؤال الذي يشغلني هو: إلى أي مدى انخرط الإصلاحيون في تجديد الفكر الإسلامي انخراطا حقيقيا؟ وهل استطاعوا تحدي الصورة السلبية للغرب، والتي يرفعها التقليديون؟ فمنذ القرن الثامن عشر الميلادي وحركة الإحياء الإسلامي في الهند على يد «شاه ولي الله الدهلوي» (1112ه/1702م-1174ه/1762م)، و«محمد بن عبد الوهاب» (1113ه/1703م-1204ه/1791م) في نجد، قبل المرحلة الاستعمارية، وهي محاولة إحياء وإعادة للتقاليد من أجل الوحدة والاستقرار والتضامن، وحاول كل منهما استدعاء سلطة سياسية، وسلطة الفقه لإصلاح حال الأمة. لكن لاختلاف مجتمع المسلمين في الهند عن المجتمع النجدي في الجزيرة العربية؛ فإن المسحة الصوفية كانت واضحة في الهند، فجاء الإحياء قائما على التصوف وعلى الشريعة، وللطبيعة الثقافية الهندوسية والبوذية فقد كان عنده تداخل بين «ابن تيمية» الحنبلي (728ه/1328م) و«ابن عربي» (638ه/1240م) الصوفي، لكن الثقافة في نجد قائمة على التقاليد والأعراف القبلية، فكان الإحياء قائما على «ابن تيمية» فقط.
في القرن التاسع عشر مع الاحتلال الغربي المباشر، تناولت «سيد أحمد خان» (1231ه/1817م-1313ه/1897م) في الهند، «ورفاعة الطهطاوي» (1214ه/1801م- 1289ه/1873م) في مصر، و«أحمد فارس الشدياق» (1217ه/1804م-1303ه/1887م) في سوريا، و«جمال الدين الأفغاني» (1252ه/1838م-1313ه/1897م)، و«عبد الرحمن الكواكبي» (1264ه/1849م-1318ه/1902م) في سوريا، و«محمد عبده» في مصر (1264ه/1849م-1321ه/1905م). أصبح السؤال هو: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ كانت الاكتشافات العلمية من ناحية، والتقدم التكنولوجي متمثلا في الأسلحة الحديثة من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة الغرب كتحد سياسي؛ فأعادوا التفكير في السنة ونقد الأحاديث ونشأة تفاسير جديدة للقرآن؛ فوضع «سيد أحمد خان ومحمد عبده» الأرضية لمفكرين في القرن العشرين لفتح المعنى القرآني؛ فكان «سيد خان» مهموما بتحدي العلم الحديث، و«عبده» مهتما بالعقلانية. وإن كان خط «سيد خان» أوصلنا إلى اتجاه الإعجاز العلمي في القرآن، على أساس احتواء القرآن على كل الحقائق العلمية، فإن «محمد عبده» مهد الأرض للاتجاه الأدبي في تفسير القرآن. وكأن حركة الإصلاح تناولت المصادر الأربعة للشريعة التي وضعها القدماء في القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد، فتم نقد حلقاتها حلقة حلقة، بداية من تقليد اجتهادات السابقين والمذهبية الفقهية، ثم نقد الإجماع، ثم نقد السنة، لكن ظل الاقتراب من القرآن - باستثناء محاولة «محمد عبده» - بعيدا عن التفكير فيه أو الاقتراب منه.
ركزت على القرن العشرين؛ قضاياه لا أشخاصه؛ قضايا مثل الشريعة والقانون والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق المرأة وحرية العقيدة وحرية الفكر وحقوق الأقليات وماهية الكتب المقدسة. وعرضت لبعض التجارب في مصر وإيران والعراق وفي إندونيسيا، وكيف انتقل التوجه من الإصلاح حتى وصلنا إلى السلفية وظهور الإسلام السياسي في بدايات القرن العشرين، وحركة الخلافة في الهند التي حصلت على تأييد حزب المؤتمر، حتى إن المهاتما «غاندي» كان عضوا في اللجنة المركزية للخلافة، وأصدرت اللجنة بيان الخلافة عام عشرين، حتى ألغى حزب المؤتمر هذه العلاقة ولجنة الخلافة في الهند عام اثنين وعشرين. وعرضت لمسألة الدولة الإسلامية وتسييس القرآن، ومسألة الجدل الفكري حول أدبية القرآن، وقضية الإسلام والثقافة. في إندونيسيا، الديمقراطية وحرية التفكير وحقوق الإنسان؛ ونموذج الدولة الإسلامية في إيران. الغرب موجود في هذا الجدل الدائر في العالم الإسلامي بين الإسلام والحداثة، في مصر وتركيا وإندونيسيا والهند وإيران؛ فالغرب الثقافي دفع إلى تبني قيم الحرية، أما الغرب السياسي فوقف حائلا بين تبني قيم الحداثة والحرية، بل ولدت مقاومة للحداثة، والتي نظر إليها على أنها عملية تغريب وجزء من الهيمنة الغربية. ثم عرضت لمجموعة من المفكرين بالتحديد في مسألة الإسلام والشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال جهود «محمد أركون» (1928-2010م) عن إعادة التفكير في الإسلام، و«عبد الله النعيمي» في مسألة الشريعة وحقوق الإنسان، و«رفعت حسن» وآخرين عن التأويلية الأنثوية، وأيضا «طارق رمضان» عن الإسلام وأوروبا. وكلهم - باستثناء «محمد أركون» - محصورون داخل سؤال الهوية الذي واجه حركة الإصلاح الإسلامي في اتجاه واحد من اثنين؛ إما الاتجاه الاعتذاري، وإما الاتجاه السجالي.
في القسم الأخير عرضت جهدي في مسألة الشريعة كمجهود بشري مستنتج من فهم البشر، والمقاصد الكلية للشريعة التي صيغت في حفظ النفس والعرض والمال والعقل والدين. وأرى أن هذه المقاصد مستقاة من عقوبات الحدود التي وردت في الفقه، فحفظ النفس مرتبط بحد القتل وحد الحرابة، وحفظ العرض بحد الزنا، وحفظ المال بحد السرقة، وحفظ العقل بحد شرب الخمر، وحفظ الدين بحد الردة. وبالنظر إلى هذه العقوبات نجد أنها لم يأت بها الإسلام، بل هي مستقاة من القانون الروماني ومن التراث اليهودي؛ فهي كانت موجودة قبل الإسلام. وعرضت كيف يمكن الخروج من حالة السجال هذه؛ بالخروج من مفهوم النص إلى القرآن كالخطاب أو بالأحرى خطابات، وما تأثير ذلك في قضايا الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومكانة المرأة. ونشر الكتاب، وأتاحته الجامعة على النت لكل مستفيد من دراسته.
14
لم تنجح فكرة المؤسسة العربية التي حاولنا إقامتها، فلم نجمع غير مليون دولار أنفقت في ترجمة وطبع بعض الكتب المهمة، فقررنا حلها. وبدأت المشاركة الكتابية باللغة العربية في الشأن العام، فكتبت عن الرقابة وتوابعها في البحث العلمي، وكتبت عن تفكيك الاستبداد هل ممكن، وشاركت في مؤتمر بالإسكندرية عن حقوق الإنسان في أبريل ألفين وستة، وقدمت به ورقة «من النص إلى الخطاب»، وكتبت سلسلة مقالات في جريدة «المصري اليوم»، مقالا كل أسبوعين، عن «العقلانية العمياء والليبرالية العرجاء»، وعن «لبنان والمقاومة»، وكتبت عن «الصراع العربي الإسرائيلي هل هو صراع ديني؟» وعن «أمل دنقل يغني في الجامعة، متى تستعيد الجامعة «أمل»؟» وكتبت «درس نجيب محفوظ، الأدب مقاومة فكرية»، وتوفي الرجل فكتبت «رسالة إلى عم نجيب»، و«ملاحظات حول محاضرة البابا بنديكت السادس عشر»، ومرة ثانية «عن العقلانية والليبرالية ثانيا»، ثم كتبت «تجريف التدين وخصاء العقل» في مقالين، ومقال «أوراق شاهندة مقلد وأسئلة ما يحدث في مصر الآن»، لكن وجدت أن هذه المقالات على الرغم من أنها كل أسبوعين إلا أنها تمتص طاقتي الفكرية، فتوقفت، ولا أعرف كيف يفعلها أصدقاء لي يكتبون مقالا كل يوم.
كنت في زيارة إلى مصر، وقد أرسل معي بعض الطلاب المصريين الذين يدرسون معي في هولندا نقودا لأهاليهم في مصر، وكنا قبل العيد، فآثرت أن أوصلها لأهاليهم لعلهم يحتاجون إليها في العيد، فعجلت بسفري إلى «قحافة». وفي يومي الثاني هناك جاء الخبر أن أخي الذي يصغرني «محمد» قد سقط، وهرولنا إلى الطبيب ، لكن صعدت روحه إلى بارئها؛ فلو تأخرت حتى العيد ربما ما رأيت أخي على قدميه، فأقمنا العزاء، واستأت كثيرا عندما أدخل العامل ترددات صوت للمقرئ، فخرجت كلمة «الرحمن» من الميكروفون «الرحمن ن ن ن ن»، فثرت عليه وقلت له: «ما هذا الهباب الذي تعمله، اقفل، لسنا في ملهى ولا راقصة.» ولم يمر الأربعون حتى سقط أخي الصغير «أسامة»، واحتاج إلى عملية قلب مفتوح.
أقترب من الخامسة والستين؛ سن الخروج على المعاش في هولندا، تلقيت دعوة من جامعة «كولومبيا» بنيويورك في نوفمبر ألفين وسبعة لإلقاء محاضرة، ودعتني جمعية «ألوان» الثقافية العربية في نيويورك لألقي محاضرة في يوم وصولي، وقد تأخرت الطائرة ساعة ونصفا، وكنت مرهقا من فرق التوقيت، لكن ذهبت. كانت القاعة في مقر الجمعية قرب «وول ستريت» تعج بالناس. وكان النقاش مفيدا، ودعاني صديقي الودود «فكري أندراوس» وبعض الأصدقاء على العشاء بعد المحاضرة، والتقيت - من ضمنهم - ذلك الشاب المهتم بكتاباتي، والذي كلمني عنه «فكري». عرفته مباشرة من سؤاله في الندوة، واتفقنا أن يأتيني في الفندق في اليوم التالي.
وسألته: جمال، إيه جعلك تهتم بشغلي؟ فقال: «وأنا في التاسعة عشرة كنت مشغولا بأزمة الفكر العربي، وقرأت عن معظم المشاريع الحضارية، لكن كتابك «مفهوم النص» كان فتحا كبيرا لي، يمزج بين الإيمان والعقل. وبعدها بعام حين نشر الأستاذ «محمد حربي» حوارا معك في الصفحة الثقافية في الأهرام، في سلسلة مفكر مصري جديد، في نهاية مايو سنة إحدى وتسعين؛ في هذا اليوم فتحت دوسيه وكتبت عليه «نصر حامد أبو زيد»، ووضعت فيه الحوار بجزأيه «وبدأت أترصد كتاباتك في المجلات» «وكتبك»، فجمعت كل ما أمكنني، وحينما حدثت القضية عشتها بتفاصيلها على صفحات الأهرام وروز اليوسف، الشعب، والتي جمعتها في ملفات، بصراحة ملفك كبر جدا يا دكتور، وقد جمعت كل كتبك في طبعاتها الأولى. وحينما اشتدت الأزمة احترمت فيك اختيارك أن من حق الناس أن تعرف في وجه من أرادوا أن تنحصر داخل الجامعة كقضية ترقية.» ثم سألني: «دكتور نصر، ما بين عام اثنين وتسعين وكتابتك لمقال مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق، احتفالا بمرور مائة عام على مجلة «الهلال» القاهرية، وتحليلك لمشروع النهضة وأزمته، وبين محاضرتك أمس باللغة الإنجليزية عن مشروعك الذي أنجزته لدراسة مشروع تيار الإصلاح في العالم الإسلامي، ما بين اثنين وتسعين وألفين وسبعة خمسة عشر عاما، التغيرات التي حدثت في منهج الباحث وأدواته وعدسته البحثية، الجانب الداخلي للمفكر؟»
فقلت: على مستوى مشروع النهضة، أعتقد أن مقال سنة اثنتين وتسعين، كان بداية الوعي بضرورة نقد مشروع النهضة من الناحية الفكرية. ما حدث بعدها أن العدسة اتسعت، أستطيع أن أرى مشروع النهضة على مستوى العالم الإسلامي كله؛ في الهند وجنوب شرق آسيا، في إيران وإندونيسيا، وفي أوروبا. السؤال باستمرار هو: ما معوقات مشروع النهضة من الناحية الفكرية؟ فيه طبعا معوقات سياسية واجتماعية ومعوقات كثيرة، لكني مشغول بالمعوق الفكري. ليه العجز عن إنتاج وعي علمي بالتراث؟ وهنا حدث تطور أني أدركت أنه بالفعل تم مناقشة جميع الأمور تقريبا، وكثير منها أصبح محسوما. وأنا هنا أتحدث عن الخطاب الثقافي وليس الخطاب الإعلامي؛ ف «محمد حسين هيكل» مثلا حاول كتابة سيرة النبي من منظور تاريخي، لكن طول الوقت الهاجس الدفاعي موجود داخله؛ فالاستشراق كمعادل فكري للاستعمار يمثل تحديا، الاستجابة لهذا التحدي أخذ طابعا اعتذاريا، كأن تقول باستمرار إن الإسلام دين المحبة والسلام؛ لأن هناك هجوما على الإسلام. وهذا ما أسميه المنهج الاعتذاري؛ فأنت ترد الهجوم. وهناك أيضا المنهج السجالي مثل أن تقول له: ما أنت كمان دينك فيه عنف، وكذا وكذا. فأنت تساجله. السجالية والاعتذارية هما وجهان لحقيقة واحدة، هي أن تطور المعرفة لا يتم نتيجة لتطبيق منهج نقدي.
فبدأت أركز في مشروع النهضة من عمومياته إلى مشروع النهضة في تعامله مع القرآن؛ فهناك إنجازات هائلة عملها مشروع النهضة «محمد عبده، والشيخ أمين الخولي، محمد أحمد خلف الله» في تعاملهم مع القرآن؛ هذه الإنجازات مبنية على الأساس اللاهوتي التقليدي باستثناء «محمد عبده»، في محاولة تبنيه مفهوم المعتزلة في خلق القرآن في الطبعة الأولى من كتابه «رسالة التوحيد »؛ فهناك دائما خطورة في تناول هذه القضية، هذه الخطورة ما تزال موجودة، ما يزال مفهوم أن القرآن كلام الله الأزلي القديم مفهوما لم يتم إعادة النظر والتفكير فيه؛ وبالتالي فكل محاولات التفسير تظل مبنية على نوع من حسن النية، لا منهج نافذ، فيمكن الالتفاف حولها والعودة للتفسير القديم، بدليل أننا في القرن الواحد والعشرين نناقش نفس القضايا؛ المرأة، الزواج، الطلاق، ودخلنا في الحجاب والنقاب؛ يعني مشكلات كنا ظننا أنها قد أصبحت في عداد الماضي؛ مما يعني أن الخطاب الإصلاحي في مجال التفسير والتأويل قد حقق هذا الإنجاز، ولكن ليس على أساس منهجي صامد. فأصبح السؤال عندي: كيف نتجاوز هذه الأزمة؟ وأدركت أني أنا في حياتي كلها كنت طرفا في هذا. يعني محاولة فتح معنى النص القرآني بدون أن يكون انفتاح المعنى مؤسسا على إعادة صياغة لماهية مفهوم هذا النص، لطبيعة هذا النص؛ لأن محاولة فتح المعنى دون توسيع أفق لفهم هذا الإطار الذي نسميه القرآن يصبح فتح المعنى معتمدا على النوايا الحسنة، وعلى ردود الأفعال، ومحاولات تركز على جانب من القرآن وتتجاهل جانبا آخر، والمسئولية العلمية تتطلب ألا نتجاهل بعدا من الأبعاد. وهذا ما جعلني في السنوات الأخيرة أن أعيد النظر في المفهوم الذي بدأت العمل به، وهو أن القرآن نص. القرآن كنص سنظل نخوض المعارك كلها على أرضية النص. يصبح النص - كما قلت في دراستي عن المعتزلة، ودراساتي عن التصوف، وعن حركة الإصلاح الديني، والخطاب الديني المعاصر - إن القرآن أصبح مجالا للصراع الفكري، يمكن ينطق بما يشاؤه المفسر.
فأصبح السؤال: كيف نخرج من هذه الأزمة؟ السؤال إذا لاحظت موجود من سنة تسعين في كتابي «مفهوم النص»؛ أي: كيف نخرج من التأويلات الأيديولوجية للدين؟ فعملي استمر في مجالين؛ مجال تحليل تاريخ التفسير ودراسة إنجازات عصر النهضة وإخفاقاته في العصر الحديث، والوصول إلى اقتراح حلول؛ هذه الحلول فيما يرتبط بالقرآن هي: ما أزعمه أن القرآن ليس نصا، إنما هو مجموعة من الخطابات. وهذا مهم جدا حتى نفهم الإمكانات والاختلافات فيه. قاطعني قائلا: «ممكن نقف وقفة هنا عند ما هو الفرق بين نص وخطاب؟» فقلت: النص نسق متكامل لغوي، له بناء ومؤلف هو الذي بنى النص وأعاد النظر فيه ليجعله خاليا من الاختلافات والتناقضات؛ فأدرس المؤلف وأدرس النص نفسه، وأبحث عما يسمى القارئ الضمني في النص. الخطاب أكثر تعقيدا من النص، طبعا كل مشكلات النص توجد في الخطاب، لكن ليست كل مشكلات الخطاب توجد في النص. الخطاب فيه متحدث وليس مؤلفا، ومخاطب، والمخاطب ممكن أن يكون مخاطبا مباشرا، ومخاطبا غير مباشر. وهناك أيضا نوع (نمط - مود). الجملة الواحدة خطابيا ممكن يكون لها معان كثيرة، كما قال أهل البلاغة؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الخطاب الشفوي. التنغيم يعطي معاني مختلفة؛ فمثلا: تأكل حاجة حلوة فتقول «الله»؛ هذه لها معنى، إنك تكون غضبان وتقول «الله» (بحدة) هنا لها معنى ثان، مع أن الكلمة واحدة في النص، الخطاب يعمل تنغيمات؛ هذه التنغيمات تخلق «مود».
القرآن به أنواع من الخطابات حينما أتعامل معه كنص، لا تلاحظ هذه الخطابات في أماكن معينة من التفسير الكلاسيكي. كان فيه وعي جزئي بهذا بأن الأمر في آية من الآيات ليس أمرا وإنما تهديد، والاستفهام في آية ليس استفهاما وإنما استفهام بلاغي؛ يعني إنكارا. ولكن هذا كان على مستوى الجملة. إنجازات علم البلاغة العربية على مستوى الجملة، وليس على مستوى أوسع؛ مستوى الخطاب. علم تحليل الخطاب يساعدنا في توسيع هذه المجالات، فنسأل: من المخاطب ومن المخاطب المباشر والمخاطب الضمني؟ ومن المتكلم؟ وما مود الخطاب ونوعه؟ هل هو تهديد أو وعيد، أم سجال؟ هل هو تأييد أم رفض، أو هو خطاب ابتهالي مثل آيات سورة «الفاتحة»؟ وأين يبدأ الخطاب وأين ينتهي؟ وبعد ذلك نعمل أدوات تحليل النصوص على الوحدات الخطابية؛ وبهذا نخرج من دائرة التأويل والتأويل المضاد؛ لأن النظر إلى القرآن كنص له مركز، فنسعى إلى تحديد مركزية النص، فهل مركز النص القتل والجهاد والحدود، أم إن مركزية النص في الصبر والتسامح وتقبل الآخر؟ فمنذ تقسيم المتكلمين أو اللاهوتيين المسلمين القرآن إلى محكم ومتشابه، أي واضح وغامض، وتقسيمات الفقهاء إلى ناسخ ومنسوخ، في محاولة لرفع التوتر الذي يتصورونه داخل القرآن بين التنزيه الكامل للذات الإلهية، «ليس كمثله شيء»، وبين التشبيه «يد الله فوق أيديهم»، وحولنا الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى صراعات نحاربها على أرضية القرآن. ولا سبيل للخروج من هذا الضيق إلا بالنظر إلى القرآن على أنه مجموعة من الخطابات، وهنا فلكل خطاب مركزيته.
نعطي مثالا يوضح؛ فمثلا الآية السادسة عشرة من سورة «الإسراء»:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، خصوم المعتزلة من الجبريين قالوا إن الله هو الذي يتصرف في كل شيء، فإذا أراد أن يهلك قرية فهو الذي يأمر المترفين أن يفسقوا فيدمرها. وهنا واضح معنى القدرية الحتمية. المعتزلة طبعا ارتبكوا كثيرا، فقالوا إن «أمر» هنا، ليست من «أمر يأمر»، إنما «أمر» يعني أكثر عددهم، وبكثرة المترفين يفسقون. لكنهم بهذا لم يحلوا المشكلة؛ لأن ربنا هو الذي أكثر عددهم. وهناك من قال: «أمرنا» أي جعلناهم أمراء. في النهاية، الله هو الذي جعلهم أمراء. لكن انظر للآية؛ فالمخاطب الضمني هم مشركو مكة، وذلك في استخدام كلمة «قرية»، و«مود» الخطاب تهديد، ولا يمكن أن يؤخذ أنه يطرح قضية لاهوتية عقدية عن قدرة الله، بل هو تهديد لأهل مكة في السجال الدائر مع دعوة النبي محمد. وعن تعدد الأصوات في القرآن، فالصوت المقدس موجود أحيانا بصيغة المفرد،
إنني أنا الله لا إله إلا أنا ، وموجود بصيغة الجمع، وفي معظم الأحيان بصيغة الغائب، وموجود بصيغة المخاطب في الابتهالات، وضمير المتكلم موجود في القرآن. إذن أنا عندي نص هنا متعدد الأصوات؛ صوت المجتمع موجود ليس كنوع من الاقتباس، ولكن كنوع من إعادة الإنتاج. كل اتهامات المشركين وأهل الكتاب التي قالوها ضد محمد موجودة في القرآن. هذا معناه أن هذه البنية بنية خطاب.
السؤال هنا: ألا يجب أن نعود إلى الظاهرة المتداولة؟ الظاهرة التي يسميها «محمد أركون» الظاهرة القرآنية ظاهرة شفاهية، ظاهرة مكونة من خطابات في سياقات مختلفة لمخاطبين مختلفين، ليس فقط المخاطب من مكة والمدينة ، لكن حتى داخل مكة في أكثر من مخاطبين، وداخل المدينة فيه أكثر من مخاطبين، ردود أفعال المخاطبين منعكسة في النص. كل هذه الحيوية نفقدها إذا نظرنا للقرآن كنص. أعتقد أن التعامل مع القرآن كخطاب سيكشف درجة عالية من الغنى والخصوبة مفتقدة في التعامل مع القرآن كنص، وسيحرر القرآن من كثير من المعاني التي فرضت عليه طوال تاريخ التفسير من خلال صراعات سياسية واجتماعية بين الجماعات الإسلامية المختلفة؛ فكشف المعنى في سياقه التاريخي؛ وبالتالي يمكن الوصول إلى: هل هذا المعنى في سياقه التاريخي قادر على مخاطبة العصر الذي نعيش فيه؟ وإلى أي حد؟ أي: ما الصلة بين المعنى التاريخي وبين المغزى المعاصر؟ ولا تترك المسألة لمزاج المفسر؛ أي إخضاع القرآن للأيديولوجيا طوال تاريخنا الفكري.
هذا ليس تجزيئا للقرآن، البعض يتصور أنك تحول القرآن إلى أشلاء. الدراسة هنا تجزيء من أجل التحليل. لا تستطيع أن تحلل نصا إلا إذا جزأته إلى أجزائه الطبيعية. المفسر القديم فرق ما بين المكي والمدني، وبين الناسخ والمنسوخ. من حقي كباحث حديث أني أرجع إلى هذا السياق بغرض الدراسة، لكني لا أقول يا إخوان رتبوا القرآن كما كان منزلا، إن محاولات ترتيب سور القرآن محاولات مشروعة للدراسة وليس للتلاوة في المساجد، لكن التمييز بين دراسة القرآن وتلاوة القرآن - للأسف الشديد - ليس مدركا في الوعي العام. هذا ما حصل خلال هذه السنوات. - في دراستك التي كتبتها سنة اثنتين وتسعين وصلت إلى أن خطاب النهضة مسكون بالآخر الغربي، أنت أقمت الإحدى عشرة سنة الأخيرة في الغرب؛ فكيف نظرتك أنت للغرب كباحث بعد خمس عشرة سنة؟ - من البداية تفكك مفهوم الغرب، لا توجد حاجة اسمها الغرب تقدر تصدر عليه أحكاما، فيه أوروبا وأمريكا الشمالية، داخل أوروبا الغرب السياسي أم الغرب الثقافي، ليس كتلة واحدة. نفس الأمر بالنسبة للإسلام؛ المسلمون يتشاركون في مجموعة من العقائد والشعائر وراء ذلك، المسلمون شعوب وثقافات مختلفة وجنسيات وأعراق مختلفة. نفس الخطأ الذي يرتكبه بعض المفكرين في الغرب عندما يتكلمون عن العالم الإسلامي باعتباره كتلة واحدة . المسألة ليست غربا وشرقا أكثر مما هي عقلية نقدية أم لا. إدراك هذا التنوع والتعدد فيما يسمى الآخر أولا. ثانيا: الآخر ليس خارج الأنا تماما. فلم قلت إن مشروع النهضة مسكون بالآخر. لولا الآخر ما كان تفكير في النهضة أصلا. الآخر هو المرآة التي أنظر فيها فتدرك الأنا عيوبها، حتى وهو يهاجمني وأهاجمه لا توجد الأنا في فراغ؛ فلولا الفكر اليوناني والهندي والإيراني والمصري والفكر القديم كله، ما كنا لنستطيع أن نتكلم عن حضارة إسلامية ولا فلسفة إسلامية، ولولا الفلسفة الإسلامية فما كنا لنقدر أن نتكلم عن النهضة في أوروبا. الفكر الإنساني في حركته التاريخية حضارة تموت، وما يتبقى منها يتسرب في الحضارة التي ترثها. الآن نعيش في حضارة واحدة وفيها ثقافات؛ أي ثقافة معزولة تموت.
السؤال الذي يشغلني جدا: هل يمكن أن نعمل مصالحة بين العقلانية والتدين، أو بين العلمانية والروحانية بشكل عام؟ هذه الأسئلة ناتجة من انخراطي في التدريس والاحتكاك برؤى العالم المختلفة من خلال الجامعة؛ جامعة الإنسانيات. إن الرؤى المختلفة للعالم - سواء لثقافات يهودية أو مسيحية أو إسلامية، أو نتكلم عن «الهيومانيزم»، أو عن الثقافات الهندية البوذية أو الكونفوشيوسية ... إلخ داخل هذه الثقافات على تعددها واختلافها - هو إيمان أو بعد أعلى وأرقى في علاقة الإنسان بالكون والعالم الذي يعيش فيه؛ فالوعي بالجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق البيئة، وإلى أي حد سيؤثر على الإنسان نفسه. إدراك أن الإنسان ليس سيد الكون، وإنما هو جزء من العالم؛ هذا في جوهره فكر ديني، ليس بالمعنى اللاهوتي ولا بالمعنى المؤسساتي، وإنما هو أن الإنسان ليس وحيدا في هذا العالم، وتربطه وشائج عميقة جدا بما هو وراء المنظور تأخذ أشكالا متعددة. الفن شكل من أشكال التواصل مع هذا المنظور. الشكل الفني محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان؛ فمثلا المجاز في الشعر؛ فالمجاز يربط عالم الإنسان بعالم الحيوان وعالم الطبيعة؛ فحينما نقول إن «واحدة مثل القمر» احتجت إلى شيء طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. دا إدراك لصلة بين الكائنات. روح ما تربط هذا العالم، وكلما أدرك الإنسان هذا الترابط أصبح إنسانا أرقى، وكلما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه وأشياء أخرى تتحكم فيه تقل مرتبة إنسانيته. الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نسميه الروحانية، وهي جذر الأديان. والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالم مأنوس، وليس في عالم عدم. هنا العقلانية المتشددة التي أسميتها العرجاء، وأحيانا أسميتها الليبرالية العوراء؛ لأنها تستبعد اتجاهات داخلها؛ فمفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية يمكن أن تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين؛ أي تتحول إلى دوجما. المسألة هي الصلح بين العقلانية والدينية، بين العلمانية والإيمانية؛ فالعلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية.
مشغول بهذه القضية جدا جدا، ورائدي فيها «ابن رشد». أنا في وقت من الأوقات كتبت عن «ابن رشد» أنه تلفيقي. وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصابا. لكن «ابن رشد» كان له ثلاث مسئوليات؛ فيلسوف وطبيب وقاض، وهذه ثلاث مهام صعبة جدا. القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يعالج أجسادهم، والفيلسوف يحاول أن ينظر لهذا كله. مسئولية باهظة، غير أن تكون فيلسوفا فقط أو قاضيا أو طبيبا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المفكر. فتح باب الحوار مع الإنسان العادي يشغلني جدا، جدا الآن. في مناسبات كثيرة أقول حاجات يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي، وليس عندي أية نية أن أجرح شعوره. أنا أريد فتح أفقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان؛ فالإيمان انفتاح وليس انغلاقا؛ انفتاح الإنسان على عوالم خارجه. حين يؤمن الإنسان فهو لا يؤمن بشيء داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أجري فيه حوارات مع تلاميذي وهم ليسوا مسلمين، وهو حوار مثمر جدا، جدا. فهذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكن يهم العالم كله؛ فالعقلانية الأوروبية في فترة من الفترات كانت نوعا من البتر ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين؛ وضعت الدين كله في سلة الغيبيات ، ووضعت الغيبيات كلها في سلة الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهاما وخرافات، بل هي تعبير رمزي عن وعي. كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن؛ فهي ليست قراءة مغلقة، بل قراءة مفتوحة.
الفكر يحاول باستمرار أن يسمو بالواقع، لكن الواقع أحيانا يجذب المفكر إلى الأرض، وهذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والايمان. الإنسان الواضح تماما هو ذو «روبوت»؛ الغموض جزء من نسيج الوعي. لا بد أحيانا أن نحتفل بالغموض. الإيمان بالغيب هو إيمان بأن هناك أسئلة ليس عندك إجابة واضحة تماما عليها، فتتركها في الغموض أو تحاول أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان. كلنا سنموت، الموت شيء مجهول ومظلم، ولكنك تعيش هذا المجهول أو تتوقعه، أو تتعايش مع احتمال أنه سيزورك ذات يوم ويطرق بابك. وعظمة الإنسان أنه عايش هذه الحالة. الملحد يريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح فيقطع على نفسه حالة الغنى الغامضة هذه. المؤمن المنغلق أيضا يفتح على نفسه باب الخرافة. أنا رأيي أن الإيمان الحقيقي هو الذي يعيش حالة الغموض هذه ويحتفي بها. العلم يحاول أن يحل كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معا ليسوا متناقضين. وعلى المستوى الشخصي، هذا ما يجعلني أحتفي جدا بالفن وأستمع إلى الموسيقى وأزور المتاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يجيب لك عن بعض الغموض أو يعمق لك بعض أوجهه. وعندما تقرأ القرآن تستمتع بالخطاب القرآني، وتدخل إلى عوالم يفتحها بشعريته وغموضه أكثر مما تحاول أن تفسر هذا الغموض. وكنت في شبابي من المتحمسين إلى إزالة هذا الغموض، كما فعل المعتزلة، لكني أقول لا، مهمتي كمفسر أن أكشف للقارئ غنى هذه الاستعارات أكثر من أن أقول له هذه معناها كذا وليس كذا؛ لأن الحقيقة ليس لها معنى واحد، بل لها أكثر من معنى؛ فالآية العاشرة من سورة «الفتح»:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ، المعتزلة قالوا يد الله تعني قدرة الله. وهذا تبسيط للمعنى فظيع. الآية تقول :
إن الذين يبايعونك . هنا مهم تحديد الخطاب، المخاطب هنا محمد، لكن المخاطبين المباشرين الذين بايعوه، والبيعة بوضع يد على يد؛ فلا تستطيع أن تفصلها باعتبارها القدرة تكون سخرية من المبايعين، لكن اليد التي تبايع ليست يدا تمارس سلطة بل يد تتعاون؛ فالاستعارة هنا لا يمكنك أن تحلها بأنها معنى مجرد لاهوتي. الغنى هنا هو غنى الموقف والمخاطب الأول؛ لأنه كانت أول مرة بعد معاناة الرسول في مكة يجد أنصارا يبايعونه على أن يحموه بحياتهم قبل أن يهاجر. لا يمكن أن تفسر هنا بمعنى القدرة فقط، وإلا يكون معنى فقيرا جدا. - بالنسبة لفكرتك أو مشروعك عن تفسير القرآن ومقارباتك الماضية؛ فقد أصلت فكريا من ناحية المنهج وطريقة التناول، لكن المقاربة للكتاب ككل، للنسيج ككل في عمل متكامل؟ - أنا أعتقد أن هناك تحديا في المقاربة، ومتوقع أن أصل للحل من خلال الممارسة نفسها. عندنا بنيتان للقرآن: البنية التاريخية - حسب النزول في التاريخ - وبنية المصحف. ولا أستطيع أن أفضل بنية على الأخرى في عمل كبير للتفسير، لماذا؟ لأن القرآن الذي أثر في الحياة وشكل الثقافات الإسلامية عبر القرون هو القرآن بالشكل والترتيب المكتوب في المصحف، فلا تستطيع أن تهمل هذا التراكم التاريخي وتقول سأرجع للظاهرة القرآنية فقط. الرجوع للظاهرة القرآنية مهم، لكن القضية هي كيف تدرس الظاهرة القرآنية في بعديها التاريخي والآني. هذا هو التحدي؛ أن أحاول بيان الجزئيات، لكن في نفس الوقت أضع هذا الجزء من الخطاب في سياق الكل القرآني، وهذا هو التحدي الذي لا أستطيع حله، لكن متوقع من خلال عملي في التفسير نفسه أن أصل لحلول فيه. وبهذا الشكل نقارب حل مشكلة التاريخي والكلي، التجزيئي والكلي؛ لأنه في النهاية القرآن فيه رؤية للعالم، لكنها رؤية لا تستطيع أن تصل إليها من خلال بعد واحد من البعدين؛ لا بد أن تربط البعدين بعضهما ببعض. إذا نظرت فقط للبعد التاريخي فلن تصل إلى رؤية للعالم، ستصل لرؤى للعالم. وإذا نظرت إلى البعد الكلي فقط ستصل إلى رؤية للعالم إلى حد كبير عامة، وإلى حد كبير أيديولوجيتك متدخلة فيها. أنا مدرك حجم التحدي، لكن على الأقل أكون عملت خطوة، فتحت الباب لنقاشات. دع جانبا من سيرفض تماما وسيقول هذا كفر، أو من يقبل تماما. أنت تحتاج إلى من سيأخذ هذا مأخذ الجد، لا القبول المطلق ولا الرفض المطلق، كما أخذ المسلمون الأوائل تحديات المسيحيين مأخذ الجد؛ وبالتالي انخرطوا في إنتاج معرفة، فيه تحديات كثيرة في الدراسات الإسلامية والقرآنية، نحن الباحثين المسلمين نخاف أن نقترب منها، وأنا أرى أن هذا الخوف تعبير عن انعدام الثقة في النفس، والخوف من الخطأ، وكلاهما لا يجعلك فاعلا. وقد حان الأوان ألا نترك المجال لغيرنا ونظل نتفرج فقط؛ نرفض أو نقبل. لقد حان الأوان أن ننخرط في إنتاج معرفة خاصة بالتراث الذي ننتمي إليه، ومن حقنا أن نفهمه وأن نناقشه وننقده ونعدله ... إلخ. مشروع التفسير سيكون مركبا جدا، سآخذ القارئ في رحلة قراءة للقرآن في سياقه التاريخي وفي بنيته الحالية في الدلالات التي يشعها. - جهودك النقدية - وأنا كقارئ لست متخصصا في علم تحليل الخطاب (وتمهل «جمال» في الكلام) - مجرد مقدمة، لكن التفسير سيجعلك تركز الأفكار. - أنت عندك حق، دا كلام «مظبوط»، وهو أنه طول الوقت وكأننا نعمل «وصفة» للطبخ. أطبخ «بقى». نعم أنا تكلمت عن المنهج والمقدمات، نص وخطاب، كلها لا بأس بها، لكن خذ المفهوم الذي وصلت إليه وقدم للقارئ وجبة. وأنا حاسس أني أقدر أعمل هذا، لكن لن يكون عملا كاملا، لكن على الأقل أستطيع وضع الخطوط العريضة، وعندي إجابات كثيرة لكل الآيات الإشكالية التي وقف عندها المفسرون. أنا أرى لها حلولا لو طبقنا منهج تحليل الخطاب. وهذا ليس تبسيطا، والقرآن ليس كتابا في اللاهوت، اللاهوت في القرآن على درجة من الغموض عالية جدا لذيذة جدا؛ ولهذا أصبحت أحتفي بالغموض. فكيف لك أن تتخيل إلها لا يتكلم ولا يغضب ولا يحب، وليس له يد يرعى بها ولا يبطش؟ هل يمكن تخيل إله تخيلا مجردا؟ المحرك الأول مثلا عند «أرسطو»، أو «العقل الفعال» عند الفلاسفة، هذا إله لا يصلح للإيمان، إنه إله يصلح للتفكير. القرآن يقدم إلها للتفكير وإلها للإيمان بالطريقة التي أدركها المتصوفة؛ ف «ابن عربي» حينما يقف عند «ليس كمثله شيء» يقول: هي آية تنفي التشبيه لكن بها تشبيه، إنه جعله شيئا وليس ككل الأشياء. إدراك المتصوف هذه الدرجة العالية من الغموض والاختلاط واحتفاؤه بها، هو ما يميزه. إنه عالم من الغموض. هذا ما أود عمله وبلغة سهلة طبعا ليس بها الأسس النظرية. وأكتب من غير عجمة المصطلحات. أصبحت الأمور واضحة في ذهني.
حل علي التعب، فلاحظ جمال هذا، وقال مشيرا إلى جهاز التسجيل الديجيتال الصغير في يده يمكننا أن نأتي لك بجهاز كهذا، وكل محاضرة أو لقاء صحفي أو تليفزيوني تسجله وترسله لي كملف على النت لتكوين أرشيف صوتي لأفكاري، ووعدته بإرسال نسخة من تسجيلات «شريفة مجدي ونافيد كرماني» عندي، بصوتي عن حياتي، وتسجيلات مناقشات الماجستير والدكتوراه. وعرض علي أنه سينشئ مدونة على النت باسم «رواق نصر أبو زيد».
15
أعمل بطاقة كبيرة، ولكن الكتابة لا تسعفني، ظهرت على شاشات التليفزيون بمصر والفضائيات العربية، ونشرت مجلة «الديمقراطية» بالقاهرة مقالتي عن «الفزع من التأويل العصري للإسلام»، في عدد شتاء ألفين وثمانية. وقررت أن أصرف النظر عن التدريس بجامعة «كولومبيا»، وأقبل التعاون مع جمعيات في إندونيسيا، وأقدم دورة تدريبية لمدة ستة أسابيع لمجموعة كبيرة من طلبة الدكتوراه عن الدراسات القرآنية بالتعاون مع جمعيات هولندية. وشاركني العزيز د. «علي مبروك» الذي عانى مشكلة منع ترقيته ثلاث مرات بقسم الفلسفة في جامعتي الحبيبة. كانت الدورة ستة أسابيع من المتعة والعصف الذهني، خصوصا حواراتي أنا و«علي»، خصصنا كل يوم لعلم من علوم القرآن وعلم الكلام والفلسفة. محاضراتي وحواراتي الخصبة في المساء مع «علي» وقد اقتربنا بعضنا من بعض أكثر، وتجددت فكرة عمل شيء مشترك عن «الشافعي». وبعد الدورة أخذت أنا و«ابتهال» يومين إجازة في سحر الجزر الإندونيسية.
كان عام ألفين وثمانية حافلا، فدعيت لإلقاء محاضرة الربيع من مؤسسة «المورد » في بيروت والقاهرة، وألقيت أول محاضرة كبيرة عامة لي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بعد تعذر إيجاد قاعة للمحاضرة. كانت الجموع حاشدة، واخترت موضوع «الفن وخطاب التحريم»؛ خطاب التحريم ليس الديني فقط، بل التحريم بكل أنواعه السياسي والاجتماعي والديني، ولماذا يجابه هذا الخطاب الفن؟ ودعتني مكتبة الإسكندرية لألقي أربع محاضرات كباحث مقيم. وبالفعل ألقيت المحاضرات بداية من السابع عشر من ديسمبر حتى اليوم الثلاثين، ضمنتها أربع مراحل من تفكيري في الظاهرة القرآنية؛ فمن تأويل المتكلمين في المحاضرة الأولى إلى تأويل البلاغيين والتأويل الصوفي، وكان الأمر يحتاج إلى محاضرة خامسة عن جهودي لدراسة التفاسير في العصر الحديث. وفي المحاضرة الأخيرة أشركت الجمهور في همومي وفي مطبخي الفكري الذي أعيش فيه، من النص إلى الخطاب. ثم محاضرة في الجمعية الفلسفية في آخر يوم من زيارتي، وكانت عن الجدل اللاهوتي الإسلامي المسيحي ودوره في نشأة علم الكلام، أو اللاهوت الإسلامي.
دعيت من جامعة «نوتردام» الأمريكية أن ألقي محاضرة الافتتاح لمؤتمر عن «السياق التاريخي للقرآن» في أبريل ألفين وتسعة. والسؤال: لماذا لم يرتب القرآن في المصحف حسب ترتيب النزول تاريخيا؟ وقد تأملت ترتيب القرآن حسب النزول، فوجدته سيصبح وكأنه عملية تأريخ لحياة النبي محمد والمسلمين الأوائل، فهل كان الترتيب الموجود الآن هو محاولة للاختلاف عن ترتيب الإنجيل؟ ربما. وأيضا لماذا سمي «مصحف» ولم يسم «كتاب»؟ على الرغم من وصف القرآن لذاته مرات أنه «كتاب»؟ وعلى الرغم من وعي المفكرين المسلمين الأوائل للمسألة التاريخية في اجتهادهم، خصوصا الفقهاء، لتحديد الناسخ والمنسوخ؛ لكي تستنتج أحكام تضبط حياة المسلمين من القرآن، لكني ركزت على القرآن في ترتيبه الحالي؛ ترتيب التلاوة. والسؤال الذي يشغلني منذ محاضرة كرسي «ابن رشد» عام ألفين وأربعة هو: هل القرآن يحتوي على رؤية للعالم أم لا؟ وإن كان، فما عناصر هذه الرؤية للعالم؟ فعرضت لرؤية المتكلمين، أو اللاهوتيين المسلمين، للرؤية القرآنية للعالم. وعرضت لرؤية العالم التي حاول استخراجها الفقهاء وعلماء أصول الفقه من القرآن، من تقسيم القرآن إلى ناسخ ومنسوخ، ثم سعوا - بدءا من «الغزالي» - للوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، والتي لخصها الشاطبي في خمسة، وأتصور أنها متصلة بالحدود، فهل الرؤية التي يقدمها الفقهاء يمكن أن تكون الرؤية القرآنية للعالم؟ وعرضت لرؤية الفلاسفة من خلال «ابن رشد». و«ابن رشد» يحتاج إلى دراسة متعمقة، خصوصا دراسة التأويلية عنده، وذلك في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وأهمية الغموض ودور عدم اليقين في فهمه، وفي الرؤية التي يقدمها عن الرؤية القرآنية للعالم. واللغة ذاتها تنتقل عبر التاريخ من خلال الغموض؛ فالنص الواضح تماما في عصر يسجن في مرحلته التاريخية. ثم الرؤية الصوفية التي تتعامل مع الظاهر والباطن للحقيقة، والحقيقة كالماء، لا شكل ولا لون لها، وتأخذ لون وشكل الكوب. والإشكال أن كلا منهم أخذ بعدا من أبعاد القرآن، ونحن نحتاج إلى الأبعاد جميعها في رؤية متعددة الأبعاد. وإجابتي عن السؤال هي: نعم ولا؛ فالقرآن يحتوي على رؤية للعالم، ولا يحتوي في نفس الوقت؛ فهو يحتوي على رؤية ليست بالمعنى الفلسفي، بل هي رؤية للعالم تتشكل حسب المجتمع المسلم، مثل الماء حينما يحتويه الإناء.
وانخرطت في دراسة هذه الرؤى للوصول إلى رؤية العالم في القرآن، واستكملت الحوار في الندوة التي أقامتها لي جمعية «ألوان» الثقافية بنيويورك؛ فمصدر تاريخية القرآن هو علوم القرآن المرتبطة بالتاريخ، من المكي والمدني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ... إلخ، ومن اللغة؛ فاللغة كائن حي يتأثر ويؤثر في التاريخ. والفرق بين دراسة المسلمين للقرآن ودراسة الغربيين للقرآن أن المسلمين، على الرغم من إدراكهم للتركيب والبنية والتاريخ، إلا أن مركز جهودهم كان استخراج المعنى؛ معنى الحياة، والمعنى من القرآن الذي يضبط حياة المسلمين، لكن جهود الغربيين لدراسة القرآن كانت بدافع محاولة استيضاح الغامض من الإنجيل بالعودة لدراسة اللغات السامية، وكانت العربية اللغة الحية من هذه اللغات. وفي محاولة تعلم اللغة العربية كانت دراسة القرآن حتى القرنين الثامن والتاسع عشر، وقيام المستشرق الألماني «تيودور نولدكه» (1250ه/1836م-1347ه/1930م)، عن تاريخ القرآن في محاولة للوصول إلى الأصول التوراتية والإنجيلية للقرآن. وفي العقد الأخير بدأ الاهتمام في الغرب بالدراسات السياقية للقرآن. وكل هذا الاهتمام ركز على البنية والشكل والتكوين التاريخي للقرآن. فهل يحتوي القرآن على رؤية للعالم؟ هذا هو السؤال الذي يملك علي حياتي.
التقيت «فكري أندراوس» و«جمال» الذي بدأ يكتب محاضراتي العربية المسجلة، وأصبح رواق «نصر أبو زيد» الذي يضع عليه كتاباتي وأخباري ملتقى لمهتمين بأفكاري. كتبت مقالة بالإنجليزية نشرت في مايو، على أن تصرفات «طالبان» وقانونهم ليس قانونا قرآنيا بقدر ما هي تقاليد قبلية. وألقيت في هولندا محاضرة لجمعية من العراقيين المهاجرين إلى هولندا عن الفكر الإسلامي الذي دخلنا به إلى القرن السادس عشر الميلادي وطبيعته ومكوناته. أصبح حلم حياتي قريب المنال؛ حلم وجود مؤسسة في العالم الإسلامي تكون مدرسة ومعهدا لدراسة القرآن؛ فكل جامعاتنا الإسلامية على طول وعرض العالم الإسلامي، هي مدارس لتعليم الدين وللوعظ، وليست للدراسة والبحث في القرآن؛ فبالتعاون مع مؤسسة نهضة العلماء التي يرأسها «عبد الرحمن وحيد» رئيس إندونيسيا السابق، ومؤسسة الليبرالية للجميع، سننشئ هذا المعهد العلمي، وسأتولى الإدارة الفكرية والبحثية فيه بالتعاون مع «علي مبروك»، وجهوده الكبيرة في دراسة العقيدة. وأتى مدير المؤسسة إلى القاهرة، وجلسنا في جلسات عمل طويلة نضع الأسس الفكرية والأكاديمية للمعهد العالمي للدراسات القرآنية، الذي سيكون مجلس أمنائه من باحثين من كل العالم الإسلامي، من العالم العربي ومن إيران وجنوب شرق آسيا، وسنبدأ الدورة الأكاديمية الجديدة في إندونيسيا هذا الصيف مع أربعين من حاملي رسائل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.
طلبت من «جابر عصفور» أن نجمع كل المحلاوية بزوجاتنا وأولادهم، وكان لقاء جميلا استعدنا فيه ذكريات شبابنا الجميلة ومناكفاتنا الفكرية. كتبت مجموعة من المقالات للمجلة الإلكترونية «الأوان»، بدأت نشرها في الخامس والعشرين من أكتوبر من البدايات إلى تحليل الخطاب، ومن العقل إلى النقل، وشعار النهضة وشعارات الأزمة؛ ثم كتبت عن علاقة المثقف بالسلطة. وكان عندي محاضرتان سوف ألقيهما بالكويت في ديسمبر ألفين وتسعة، ودبت مشكلة لا لزوم لها، ورضخت الحكومة لضغوط السلفيين في مجلس الأمة الكويتي، وتعرضت لقلة ذوق بإعادتي من مطار الكويت بعد وصولي؛ فمن سعوا لمنعي من الدخول يعيشون في العصور الوسطى، فعدت إلى القاهرة، وألقيت المحاضرة نفسها للمجتمعين ولمن انضم إليهم بسبب الضجة بالتليفون، وسمع الناس المحاضرة، بل وخرجت إلى الإعلام وعلقت على ما جرى داخل مقر نقابة الصحفيين المصرية، وكتبت تعليقا على ما حدث نشر في «الأوان»، وفي كل وسائل الإعلام.
حاصرني الموت بوفاة صديقي المرح الشاعر «محمد صالح»، وكتبت: «يا محمد مش إنت لوحدك اللي تعبت.» وكتبت في «المصري اليوم» خواطر بين عامين. في هولندا، أتت «إيستر نيلسون» من أمريكا بعد كتابنا معا عن حياتي، صوت المنفى، عام ألفين وأربعة؛ لكي نعد كتابا جديدا باللغة الإنجليزية، وتقضي أسبوعا تسجل فيه حواراتنا، ثم تعود وتكتب النص. وأتصور أن تكون النقاط الرئيسية للكتاب فترة ما قبل القرآن، ثم فترة نزول القرآن، ويليها فترة ما بعد نزول القرآن حتى العصر الحديث، ثم عصرنا الحديث حتى الآن. وفترة ما قبل القرآن نتحرك فيها من الماكرو؛ أي الجزيرة العربية في العالم، ثم الحجاز ومكة في جزيرة العرب. وفي فترة القرآن تتعامل مع القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عاما، حتى وفاة النبي محمد. ثم الفترة التالية من وفاة النبي إلى بدايات العصر الحديث عند المسلمين في القرن الثامن عشر، ثم عصرنا الحديث بمراحله حتى لحظتنا الراهنة، التي تعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر نقطة مفصلية؛ فبعدها ازداد الاهتمام بدراسة الإسلام، ولكن في نفس الوقت ازداد الرفض للمسلمين، خصوصا من يعيش منهم في الغرب، وكأن الإسلام وضع خلف القضبان بعد الحادي عشر من سبتمبر، وعليه أن يدافع عن ذاته.
زرت لبنان، والتقيت ناشري وصديقي «حسن ياغي»، وأعطيته بعض الأوراق، وعرضت عليه ما أفكر في عمله من ترجمة للموسوعة القرآنية التي كنت من المشرفين على تحريرها في جامعة «لايدن»، وقد استطعت تقريبا إيجاد من يمول ترجمتها إلى اللغة العربية، وعرضت عليه البدء في مشروع تفسيري للقرآن بكتاب أولي أعرض فيه نقدا للتفاسير السابقة، وأعرض نماذج من التفسير، وكيف يمكن التعامل مع القرآن. وقمت ببعض الأنشطة من مقابلات تلفزيونية ومحاضرات. ونشرت مجلة «الأوان» الإلكترونية أربع مقالات في شهر أبريل عن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، كتبت فيها عن «الخوف على الثوابت والقطعيات»، وعن «الحجاب والنقاب»، وعن «الفزع من العلمانية، فصل الدين عن الدولة»، ثم سافرت إلى إيطاليا لإلقاء محاضرتين، ومنها في شهر مايو مباشرة إلى إندونيسيا، لألتقي «علي مبروك»، ونبدأ في تنفيذ ما تناقشنا حوله أكاديميا في المعهد العالمي للدراسات القرآنية، مشروع العمر، على أن أعود إلى هولندا في الخامس والعشرين من شهر يونيو، حيث ستحتفل الجامعة بخروجي إلى المعاش، والذي اختارت له الجامعة عنوان «كيف يمكن أن نقدم إسلاما ذا وجه إنساني؟» كل المسائل قد أصبحت واضحة أمامي، وعندي إجابات لأسئلة كثيرة مما وقف أمامه القدماء والمحدثون في تعاملهم مع القرآن، وأريد أن أضعها على الورق.
السفر إلى إندونيسيا، حيث سألتقي هناك «علي مبروك»، و«ألان تايلور»، و«رافي كرشنا مرثي»؛ فبعد أن وضعنا الأساس الفكري للمعهد الدولي للدراسات القرآنية، سنسعى للتواصل مع المفكرين والباحثين وعلماء الدين الإندونيسيين لطرح الموضوع الفكري عليهم ومناقشته معهم، وعمل مجموعة من المحاضرات خلال الشهر والنصف القادمين. تأخرت رحلتي بسبب سحابة بركانية، فوصلت متأخرا يوما، لكن وجدتهم هناك. وذهبنا لثلاثة أيام إلى أحد مزارع البن، منطقة لوساري بجاوة الوسطى، خلابة الطبيعة؛ للصفاء والاختلاء بالنفس وللتفكير العميق، نسكن في أكواخ بها فريق العمل، أشعر بصفاء غريب واتقاد ذهني وسماح روحي، حتى إن «رافي» علمنا بعض تمرينات لليوجا؛ فها هو حلم ومشروع عمري تبدأ خطوات تحقيقه؛ معهد دولي للدراسات القرآنية، يكون ساحة للعمل والبحث الأكاديمي بعيدا عن مجرد التكرار والإعادة بلا إفادة التي تعيش فيها جامعاتنا الدينية في العالم الإسلامي. انتهت الأيام الثلاثة لنعود إلى فندق جراند حياة بجاكارتا لمزيد من اللقاءات والمحاضرات. •••
لاحظ «علي مبروك» خلال الفصل الدراسي فترات طويلة من الصمت وعدم المشاركة من «نصر»، بعد أن كان دائم النقاش خلال الأيام الأولى، ولاحظ شروده الطويل، وشعر بقلق عليه، فاتصل ب «ابتهال» بالقاهرة، والتي كانت بدأت تلاحظ بعض التغير في محادثات «نصر» لها. واتفقا على أن يعود «نصر» وعلي إلى القاهرة بأقصى سرعة؛ فعادا إلى القاهرة يوم الخميس السادس والعشرين من أبريل. وكان «نصر» حاضر الذهن، وكان في انتظارهم «ابتهال» بالمطار. دخل «نصر أبو زيد» إلى المستشفى في مدينة السادس من أكتوبر، ولم يكن فاقد الوعي، وتم فحصه فحصا شاملا، وتم تشخيص المرض بفيروس يصيب خلايا المخ، وهو مرض عادي، وبدأت تتحسن حالته نسبيا، لكنه كان يعاني منذ فترة طويلة حساسية في الصدر، فسببت خراطيم التغذية نوعا من الالتهاب الرئوي الذي أدى لرحيله، صباح الإثنين الخامس من يوليو عام ألفين وعشرة، قبل خمسة أيام من عيد ميلاده السابع والستين؛ ليعود إلى قريته «قحافة»، مركز طنطا محافظة الغربية، مرة أخيرة.
إلى لقاء.
بروكلين، أكتوبر 2012م
زهور الرحيق
امتحت رحيق هذه القصة من:
تسجيلات صوتية
عشرون ساعة تسجيلات صوتية ل «نصر أبو زيد»، يتحدث فيها عن حياته، أجراها معه «شريفة مجدي» و«نافيد كرماني»، لكتابهما عن سيرته الذاتية ليصدر باللغة الألمانية.
وكتاب «إيستر نيلسون» و«نصر أبو زيد» بالإنجليزية عن سيرته الذاتية، بعنوان «صوت المنفى».
تسجيلات صوتية لحوارات «أبو زيد» الصحفية بالعربي، تسع عشرة ساعة.
ثمان وأربعون ساعة بالإنجليزية، منها خمس عشرة ساعة ل «إيستر نيلسون»، للكتاب الثاني لهما معا، شهران قبل وفاة «نصر أبو زيد».
خمس ساعات تسجيلات مناقشة الماجستير ومناقشة الدكتوراه.
اثنتا عشرة ساعة صوتية، محاضرات بالعربية والإنجليزية.
عشر ساعات فيديو، لقاءات تليفزيونية.
أربع محاضرات بمكتبة الإسكندرية وجامعة نوتردام الأمريكية.
تسجيل ساعتين ل «نصر أبو زيد» و«هدى وصفي» و«جابر عصفور»، مع الأب «متى المسكين».
حوارات أجريتها وسجلتها صوتيا مع كل من:
د. ابتهال يونس.
د. جابر عصفور.
الشاعر زين العابدين فؤاد.
د. علي مبروك.
الأستاذ جمال الغيطاني.
حوارات مختلفة مع د. فكري أندراوس.
مؤلفاته
من سن التاسعة عشرة حتى السابعة والستين، كتب نصر مقالة «أدب العمال والفلاحين»، مجلة الأدب، لم أعثر على نسختها، لكنه نشرها عام 1962م.
أزمة الأغنية المصرية، المجلد التاسع، العدد السابع، ديسمبر 1964م.
مقالة ابن خلدون بين النظرية والتطبيق، نشرت في مجلة الكاتب عدد 195، يونيو 1977م.
مقال الثابت والمتحول في رؤيا أدونيس، مجلة فصول، القاهرة عدد أكتوبر 1980م، ونشرت في كتاب «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».
دراسة، الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص، مجلة فصول، عدد أبريل 1981م، ونشرت في كتاب إشكاليات التأويل.
كتاب الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة، الطبعة الأولى، دار التنوير، بيروت، 1982م.
ترجمة من اللغة الإنجليزية، مقال هيرش، اتجاهات في التقييم الأدبي، نشرت في مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية، العدد الثاني، 1982م؛ ولم تنشر في كتاب.
ترجمة مقال، أندرية جبسون، ملاحظات عن القصة والفكاهة، نشرت في مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثاني، 1982م؛ ولم تنشر في كتاب.
دراسة الأساس الكلامي لمبحث المجاز، نشرت ضمن الكتاب التذكاري في ذكرى الدكتور عبد العزيز الأهواني «دراسات في الفن والفلسفة»، نشرت في كتاب أبو زيد «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».
ترجمة مقال، إيكيناوم أو هنري، نظرية القصة القصيرة، نشرت بمجلة فصول، المجلد الثالث، العدد الثالث، 1983م.
نشر رسالة الدكتوراه، تحت عنوان «فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، الطبعة الأولى، دار التنوير العربية، 1983م.
مقال الذاكرة المفقودة والبحث عن النص، نشر بمجلة فصول، المجلد الرابع، العدد الأول، 1983م؛ نشرت ضمن كتاب «إشكاليات القراءة». وأيضا تضمن الكتاب: «دراسة مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في ضوء الأسلوبية»، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الأول، 1984م.
بالإنجليزية
مقالة، السيرة النبوية سيرة شعبية، مجلة جامعة أوساكا باليابان، العدد 71، عام 1986م، ص 1-24؛ ونشر نصها العربي بمجلة الفنون الشعبية بالقاهرة، عدد 33، ديسمبر 1991م، ص 17-36.
مقالة نظرية التأويل عند الغزالي، مجلة جامعة أوساكا للدراسات الأجنبية باليابان، العدد 72، 1986م، ص 1-25؛ ولم تنشر في كتاب.
بالعربية «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، نشرت ضمن كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا»، إشراف مشترك مع سيزا قاسم، دار إلياس العصرية، القاهرة، 1986م؛ ودار عيون، الدار البيضاء، 1987م؛ ونشرت ضمن كتاب «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».
ترجمة عن الإنجليزية، مقالة نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات، ليوري لوتمان وآخرين، نشرت ضمن كتاب مقدمة لعلم السيميوطيقا ، وأيضا ضمن الكتاب، ترجمة، مقالة.
مشكلة اللقطة، ليوري لوتمان. ونشر كتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا»، إشراف مشترك مع سيزا قاسم، دار إلياس العصرية، القاهرة، 1986م؛ ودار عيون، الدار البيضاء، 1987م.
مقالي «الفوازير، وظيفتها وبناؤها اللغوي»، بمجلة الفنون الشعبية، عدد 18، مارس 1987م.
بحث بالإنجليزية
الإنسان الكامل في القرآن، مجلة جامعة أوساكا للدراسات الأجنبية باليابان، العدد 77، 1988م، ص 111-133.
بالعربية
مقالة آليات التأويل في كتاب سيبويه، بمجلة ألف للبلاغة المقارنة، بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد 8، 1988م.
دراسة، «الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومنطلقاته الفكرية»، كتاب قضايا فكرية، الكتاب الثامن: الإسلام السياسي، الأسس الفكرية والأهداف، 1989م؛ ونشرت بعد ذلك ضمن كتاب نقد الخطاب الديني.
ترجمة كتاب «البوشيدو، روح اليابان، المكونات التقليدية للثقافة اليابانية»، تأليف إينازو نيتوبي، ط1، دائرة الشئون الثقافية العامة، بغداد، العراق، 1990م؛ ط2، دار سعاد الصباح، القاهرة، 1992م. ومقدمة أبو زيد للكتاب لم تنشر في كتاب من كتبه.
كتاب «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن»، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ط1، 1990م؛ ط2، 1994؛ والمركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء؛ ط3، 1996م. «التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي»، بمجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية، القاهرة، عدد 10، 1990م؛ ونشرت ضمن كتاب نقد الخطاب الديني. «قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية لأنماط الدلالة في القرآن»، ألقيت في الذكرى العاشرة لعبد العزيز الأهواني، مارس 1990م؛ ونشرت ضمن كتاب نقد الخطاب الديني.
مقالة، مفهوم النص، (1) الدلالة اللغوية، مجلة إبداع القاهرية، عدد أبريل 1990م.
مقالة، دال التأويل والمفهوم الثقافي للنص، بمجلة إبداع، عدد مايو 1990م، نشر ضمن كتاب «النص، السلطة، الحقيقة» فيما بعد
مقال الكشف عن أقنعة الإرهاب، مجلة أدب ونقد، القاهرة، العدد 58، يونيو 1990م؛ ولم ينشر في كتاب.
دراسة، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، مجلة الاجتهاد، بيروت، 1990م.
مقال ثقافة التنمية وتنمية الثقافة، مجلة القاهرة، العدد 111، 1990م، ص 23-28؛ ونشر متضمنا بعد حذف المقدمة في كتاب الخطاب والتأويل، فصل العقل العربي بين سلطتين.
كتاب، «إشكاليات القراءة وآليات التأويل»، سلسلة كتابات نقدية، عدد 10، أغسطس 1991م.
مقال ، إعطاء العيش لخبازه أو العودة إلى محاكم التفتيش، مجلة أدب ونقد، عدد 75، نوفمبر 1991م.
مقال، قراءة نقدية في كتاب حصاد السنين وأمثلة التنوير المكبوت، مجلة العربي، الكويت، عدد أكتوبر 1991م؛ نشر بعد ذلك في كتاب الخطاب والتأويل.
مقال، حول القراءة المعاصرة للقرآن، مجلة الهلال، القاهرة، يناير 1992م، ص 128-134؛ لم ينشر في كتاب.
المنهج النفعي في فهم النصوص الدينية (رد على شحرور)، مجلة الهلال، القاهرة، مارس 1992م، ص 54-61؛ ولم ينشر في كتاب فيما بعد.
دراسة، إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني، مجلة القاهرة، عدد 122، يناير 1992م؛ نشر في كتاب «النص، السلطة، الحقيقة»، بعنوان النص ومشكلات السياق.
مقال، «المرأة، البعد المفقود في الخطاب الديني المعاصر»، مجلة القاهرة، عدد 123، فبراير 1992م؛ ونشر ضمن كتاب «أبو زيد» «المرأة في فكر الأزمة»، الذي ضمن فيما بعد في كتاب «دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة».
مقال، التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية، مجلة أدب ونقد، عدد 79، مارس 1992م؛ ونشر متضمنا في الفصل الأول من كتاب «النص، السلطة، الحقيقة».
مقال، محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي، مجلة الهلال، القاهرة، مايو 1992م؛ لم تنشر في كتاب فيما بعد. كتاب.
نقد الخطاب الديني، دار الثقافة الجديدة، 1992م؛ ودار سينا بالقاهرة، ط2، 1994م؛ ومكتبة مدبولي بالقاهرة، ط3، 1995م. (ترجم إلى الألمانية بعنوان
Islam und
Diskurses ، ترجمة: شريفة مجدي، وتقديم: نافيد كرماني، دار نشر ديبا
Dipa ، فرانكفورت، 1996م.)
بحث، مركبة المجاز من يقودها وإلى أين؟ مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، عدد 12، 1992م؛ نشر الفصل الثاني من كتاب «النص، السلطة، الحقيقة».
مقال، مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق، مجلة القاهرة، عدد 119، أكتوبر 1992م؛ نشر متضمنا في الفصل الأول من كتاب «النص، السلطة، الحقيقة».
مقال، قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد، مجلة أدب ونقد، عدد 87، نوفمبر 1992م؛ ولم ينشر في كتاب فيما بعد.
مقال، «الإسلام السياسي في المغرب، نظرة محايدة، عرض كتاب فرانسوا بورجا». وكان ذلك تقديما للترجمة العربية للكتاب، ونشر المقال بمجلة العربي، الكويت، عدد 406، سبتمبر 1992م؛ ولم ينشر في أي من كتب «نصر أبو زيد» فيما بعد.
كتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، ط1، دار سينا بالقاهرة، 1992؛ ط2، مكتبة مدبولي بالقاهرة، 1996م.
مقال، خطاب الإسلام السياسي والعنف المستتر، جريدة الأهرام 24 يناير 1993م؛ لم ينشر في كتاب بعد ذلك.
الجامعة بين الحفاظ على الثوابت وتحقيق الإبداع، جريدة الأهرام، 8 مارس 1993م؛ نشر في كتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، من العنف المستتر إلى العنف العلني ، لم تنشره جريدة الأهرام، لكن نشر في مجلة القاهرة، عدد أبريل 1993م؛ ولم ينشر في كتاب فيما بعد.
مقال، مات الرجل وبدأت محاكمته، جريدة الأهالي؛ نشرت فيما بعد في كتاب الخطاب والتأويل.
مقال، «ابن رشد، التأويل والتعددية»، مجلة العربي، الكويت، عدد مايو 1993م، نشرت في كتاب الخطاب والتأويل. «المرأة في المجتمع، جراح اللغة وجراح الهوية»، مجلة أدب ونقد، مايو 1993م، نشرت في كتاب «المرأة في فكر الأزمة»، والذي ضمن في كتاب دوائر الخوف.
مقال، قراءة التراث النقدي وعدسة الناقد الحداثي، مجلة القاهرة، عدد 126، مايو 1993م؛ ولم ينشر في كتاب من بعد.
قراءة نقدية في كتاب تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها للأنصاري، مجلة العربي، الكويت، عدد 415، يونيو 1993م؛ لم ينشر بكتاب.
دراسة أبو زيد والخطاب الديني، ضمن كتاب قضايا فكرية، الأصوليات الإسلامية، ع 13-14، 1993م؛ نشرت بعد ذلك في كتاب «نصر أبو زيد» «القول المفيد في قضية أبو زيد».
مقال، أبو زيد يرد على البدراوي، جريدة الأخبار، 25 يونيو 1993م؛ نشرت ضمن كتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، الإسلام بين الفهم العلمي والاستخدام النفعي، جريدة الأهرام، 4 أغسطس 1993م؛ نشرت في كتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، «اللامعقول، كيف يصير معقولا في حياتنا؟» جريدة الأهالي، 1 سبتمبر 1993م؛ لم ينشر في كتاب.
مقال، «زكي نجيب محمود، غربة الروح بين أهلها»، مجلة المصور، 24 سبتمبر 1993م؛ لم ينشر في كتاب.
مقال «المعقول واللامعقول في الحياة السياسية المصرية»، جريدة الأهالي، 6 أكتوبر 1993م؛ لم ينشر في كتاب.
مقال، المثقف العربي والسلطة، جريدة الحياة، لندن، 17 أكتوبر 1993م؛ ضمن في كتاب الخطاب والتأويل.
العقل العربي بين سلطتين. مقال، «معرفة الحق بالرجال ، الرجال والحق وما بينهما»، جريدة الأهالي، 1 ديسمبر 1993م؛ ونشرت في كتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، «خطاب الحرية، ضد الكتابة المذعنة»، مجلة أدب ونقد، ديسمبر 1993م؛ نشرت في كتاب التفكير في زمن التكفير.
دراسة الإمام الشافعي بين البشرية والقداسة، مجلة أدب ونقد، عدد 102، فبراير 1994م؛ وأعيد نشرها مرة أخرى بنفس المجلة في عدد أبريل لسقوط جزء منها في النشر الأول، نشرت ضمن كتاب التفكير في زمن التكفير، وبعد ذلك في مقدمات الطبعات التالية من كتاب الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.
مقال، مشكلات البحث في التراث، مجلة أدب ونقد، عدد 103، مارس 1994م؛ نشر في الكتاب السابق.
مقال، مفهوم التاريخية المفترى عليه، أدب ونقد، عدد 105، وعدد 106، مايو ويونيو 1994م؛ ونشرتا بكتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، الاستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر، مجلة الطريق، عدد مايو 1994م؛ نشر بكتاب التفكير في زمن التكفير، وضمن في كتاب الخطاب والتأويل.
مقال، «المقاصد الكلية للشريعة، قراءة جديدة»، مجلة العربي، الكويت، عدد 426، مايو 1994م؛ ونشر في كتاب الخطاب والتأويل.
مقال، «اللغة والعالم، معضلة القرآن والتاريخ»، مجلة أدب ونقد، عدد 107، يوليو 1994م؛ نشرت بكتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، اللغة والثقافة والمنتج الثقافي، مجلة أدب ونقد، عدد 109، سبتمبر 1994م؛ ونشر بكتاب التفكير في زمن التكفير.
كتاب، التفكير في زمن التكفير، عن دار سينا للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1994م.
كتاب، المرأة في فكر الأزمة، دار نصوص للطباعة والنشر.
مقال، انتصار الجهل بملكوت الله، جريدة الأهالي، 8 يونيو 1994م؛ ونشر بكتاب التفكير في زمن التكفير.
مقال، عصيان الدين أم عصيان الدولة؟ مجلة الناقد، عدد 73، يوليو 1994م.
مقال، «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة، قراءة في فكر محمد أركون»، مجلة الناقد، عدد 74، أغسطس 1994م؛ نشر بكتاب الخطاب والتأويل.
مقال، أرثوذوكسية معممة، مجلة الناقد، عدد أغسطس، 1994م؛ لم ينشر بكتاب.
دراسة، الرؤيا في النص السردي العربي، مجلة فصول، القاهرة، المجلد 13، عدد 3، 1994م؛ لم تنشر في كتاب فيما بعد.
مقالة، العالم بوصفه علامة، مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية، عدد 15، 1995م؛ ونشرت ضمن كتاب «النص، السلطة، الحقيقة».
كتاب، «النص، السلطة، الحقيقة؛ الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة»، المركز الثقافي العربي ببيروت وبالدار البيضاء، 1995م.
كتاب، الخلافة وسلطة الأمة، ترجمه إلى العربية عبد الغني سني بك، وقدم له نصر أبو زيد، سلسلة ذاكرة الأمة، دار النهر للنشر والتوزيع، تقديم نصر أبو زيد، تم تضمينه في كتاب الخطاب والتأويل، في الفصل الثالث من القسم الأول، والفصل الثاني من القسم الثاني.
مقال، البعد المفقود في الدراسات الدينية، مجلة العربي، الكويت، مارس 1995م؛ ولم ينشر في كتاب فيما بعد.
مقال، الدفاع عن الشعر من أجل تأسيس علم البيان، مجلة أدب ونقد، عدد 114، فبراير 1995م. «مقال الدفاع عن الشعر، الحيثيات»، مجلة أدب ونقد، عدد 116، أبريل 1995م. وهناك مقال آخر نوه عنه المقال، لكنه لم ينشر في الأعداد التالية.
مقال، «مقاربة منهجية، عادل حسين ورفعت السعيد، خطابان أم خطاب واحد»، كتاب الأهالي، عدد 52؛ ولم ينشر في أي من كتب نصر أبو زيد فيما بعد. «تجديد الفكر الإسلامي، أسئلة واقتراحات»، جريدة الحياة، لندن. «دراسة التنوير الإسلامي، جذوره وآفاقه من المعتزلة وابن رشد إلى محمد عبده»، مجلة القاهرة، عدد 150، مايو 1995م؛ ونشر جزء منها في الفصل الأخير من كتاب «النص، السلطة، الحقيقة».
نشر كتاب «القول المفيد في قضية أبو زيد»؛ وقد نشر كملحق لجريدة الأهالي، يونيو 1995م، ونشرته مكتبة مدبولي، 1996م.
مقال، «رد على حيثيات حكم الردة، مأساة القراءة الحرفية للنص»، مجلة أدب ونقد، عدد 121، سبتمبر 1995م.
دراسة، مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد، مجلة «ألف» بالجامعة الأمريكية، ع 16، 1996م؛ نشرت بكتاب الخطاب والتأويل.
مقال، مشروع الإصلاح الديني بين التحدي الأوروبي والتخلف الداخلي، مجلة أدب ونقد، سبتمبر 1996م.
مقال، أنا أفكر فأنا مسلم، مجلة روز اليوسف، 12 أغسطس 1996م.
مقال، أنا أفكر فأنا مسلم، روز اليوسف، ع 12 أغسطس 1996م. «القراءة الأدبية للقرآن، إشكالياتها قديما وحديثا»، مجلة الكرمل، ع 50، رام الله بفلسطين.
مقال بالإنجليزية، قضية أبو زيد.
الطبعة الأولى من كتاب «النص، السلطة، الحقيقة»، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، 1996م.
مقال ، «الصفات الإلهية في القرآن، تحليل للبناء اللغوي»، بالإنجليزية؛ لم ينشر في أي من كتبه.
مقال، من علمانية بداية القرن إلى أصولية نهايته، مطبوعة حرية، لجنة الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد، تحررها عبلة الرويني، 1997م؛ لم ينشر في أي من كتبه.
مقالة، مرتد كلمة لن أنساها أبدا، جريدة الأهالي، 30 يوليو 1997م؛ لم تنشر في كتاب.
مقالة، الإسلام والديمقراطية والمرأة، دوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي، مجلة نور، عدد 12، خريف 1997م؛ نشرت بكتاب دوائر الخوف.
مقالة، «إشكالية التراث بين التأويل العلمي والقراءة النفعية»، مجلة سطور، تقريبا ديسمبر 1998م، نشرت بكتاب الخطاب والتأويل.
مقال، الثقافة بين التجانس والتهجين، بمجلة سطور، تقريبا 1998م؛ لم ينشر في كتاب. «حقوق المرأة في الإسلام ، دراسة في تاريخ النصوص»، مجلة «ألف» للبلاغة المقارنة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ع 19، 1999م؛ نشرت بكتاب دوائر الخوف.
النشر العربي لدراسة الفكر الإسلامي وحقوق الإنسان بين المثال والواقع، الذي كتب بالإنجليزية سنة ست وتسعين، ونشر ضمن كتاب دوائر الخوف.
صدر كتاب «دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة» عن المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء، عام 1999م، متضمنا كتاب «المرأة في فكر الأزمة»، الصادر سنة أربع وتسعين.
مقالة، «ألفت الروبي وثقافة الاستبعاد، مؤامرة ضد فن القص»؛ لم تنشر في كتاب.
مقال، هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي؟ مجلة الثقافة الجديدة بالعراق، عدد 295؛ ولم ينشر في كتاب.
نشر كتاب «الخطاب والتأويل» عن المركز الثقافي، عام 2000م.
مقال، «فشل التنوير الحكومي»، جريدة أخبار الأدب، ع 397، يناير 2001م؛ لم يصدر في كتاب.
صدور كتاب «هكذا تكلم ابن عربي»، يونيو 2001م، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
النقد والنقض في حرب الكراهية بين الإسلام والغرب، السفير، بيروت، 13 يناير 2002م.
الفزع من الإسلام بين الحقيقة والأيديولوجيا، 19 يوليو 2001م؛ لم يصدر في كتاب.
محاضرة «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا»، في دمشق، مايو 2002م؛ ونشر بكتاب التجديد والتحريم والتأويل.
مقالة، «تجديد الخطاب الديني، ملاحظات واقتراحات»، جريدة الأهرام، 24 فبراير 2002م؛ ونشرت المقالات كاملة التي لم ينشرها الأهرام بجريدة الزمان، سبتمبر 2002م؛ ونشرت ضمن كتاب التجديد والتحريم والتأويل.
محاضرة «اليسار الإسلامي، إطلالة عامة»، لم تنشر في أي من كتبه فيما بعد.
مقالة الرقابة وتوابعها في البحث العلمي، جريدة المدى، تقريبا 2004م؛ لم تنشر في كتاب.
محاضرة «من النص إلى تحليل الخطاب، نحو تأويلية إنسانوية، النص العربي»، بالإسكندرية، 18 أبريل 2006م، ونشرت بكتاب التجديد والتحريم والتأويل.
محاضرة «الفن وخطاب التحريم»، مايو 2008م؛ ونشرت بكتاب التجديد والتحريم والتأويل.
مقالات نشرت بجريدة المصري اليوم
العقلانية العمياء والليبرالية العرجاء، 30 يوليو 2006م.
عن لبنان والمقاومة، 7 أغسطس 2006م.
الصراع العربي الإسرائيلي هل هو صراع ديني؟ 21 أغسطس 2006م.
أمل دنقل يغني في الجامعة، متى تستعيد الجامعة «أمل»؟ 28 أغسطس 2006م.
رسالة إلى عم نجيب، 1 سبتمبر 2006م.
ملاحظات حول محاضرة البابا بنديكت السادس عشر. «درس نجيب محفوظ، الأدب مقاومة فكرية»، 12 سبتمبر 2006م.
العقلانية والليبرالية ثانيا، 19 سبتمبر 2006م.
تجريف التدين وخصاء العقل، 11 أكتوبر 2006م.
تجريف التدين وخصاء العقل، 17 أكتوبر 2006م.
أوراق شاهندة مقلد وأسئلة ما يحدث في مصر الآن، 2 يناير 2007م.
الفزع من التأويل العصري للإسلام، مجلة الديمقراطية، شتاء 2008م.
مجلة الأوان الإلكترونية
مقال، من البدايات إلى تحليل الخطاب، 25 أكتوبر 2009م.
من العقل إلى النقل، 1 نوفمبر 2009م.
مقال، تعليق على ما حدث، 21 ديسمبر 2009م.
مقال، شعار النهضة وشعارات الأزمة، 29 ديسمبر 2009م.
علاقة المثقف والسلطة، 3 يناير 2010م.
أزمة الفكر الإسلامي المعاصر (1)، 6 أبريل 2010م.
المقال (2) الخوف على الثوابت والقطعيات، 13 أبريل 2010م. (3) من الحجاب إلى النقاب، 20 أبريل 2010م. (4) «الفزع من العلمانية، فصل الدين عن الدولة»، 27 أبريل 2010م.
مقال، يا محمد مش إنت لوحدك اللي تعبت، جريدة اليوم السابع، 30 ديسمبر 2009م.
مقال، خواطر بين عامين، جريدة المصري اليوم، 10 يناير 2010م. ونشر كتاب «التجديد والتحريم والتأويل، بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير»، المركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء، 2010م.
قائمة المصادر والمراجع
كتابات نصر أبو زيد بالإنجليزية بعد خروجه من مصر 1995م
The Case of Abu-Zaid, Index on Censorship, London, 4, 1996, pp. 30-39. “Linguistic Exposition of God in Qur’an” in Fundamentalismus Der-Moderne, Christen und Muslime im Dialog, Evangelische Akademie, Loccum, Germany, 75/94, 1996. pp. 97-110. “The Textuality of The Koran” in
Islam and Europe in Past and Present , NIAS (Netherlands Institute for Advanced Study in The Humanities and Social Sciences), 1997, pp. 43-52. “Divine Attributes in the Qur’an: Some poetic aspects” in
Islam and Modernity , edited by John Cooper, Ronald Nettler and Mohammed Mahmoud, I.B. Tauris, London, 1998, pp. 120-211. “Inquisition Trial in Egypt”, in
Human Rights in Islam 15 , RIMO, Maasstricht 1998, pp. 47-55. “Islam, Muslims and Democracy”, in
Religion und
, Konrad-Adenauer-Stiffung, intere Studie Nr. 151/1998, pp. 103-112. “Literature and Heresy-Literature and Justice: The Critical Potential of Enlightened religion” in
Literatur, Menschenrechte in Islamischen Gesellschaften und Staaten , Evangelische Akademie Loccum 22/96, 1998, pp. 18-32. “The Concept of Human Rights, the
Domination”, in
Gesellschaft: International Politics and Society , Herausgegeben von der Friedrich-Ebert-Stiftung, 4/1998, pp. 434-437. “The Modernization of Islam or the Islamization of Modernity”, in
Cosmopolitanism, identity and Authenticity in the Middle East , ed. Roel Meijer, Curzon Press, England 1999, pp. 71-86. “Islamic Cosmology and Qur’anic Exegesis”, in
Religion Wandel der Kosmologien , edited by Dieter Zeller, Sonderdruk 1999, pp. 217-230.
The Image of Europe in Modern Egyptian Narrative, in
Colonizer and Colonized , Eds. Theo D’haen and
2, pp. 627-643. “The Quranic Concept of Justice”,
No. 3 (June 2001): Website address:
The Qur’an: God and Man in Communication, inaugural lecture for the Cleveringa Chair at Leiden University (November 27
th , 2000). “Heaven, Which way?” Al-Ahram Weekly, issue No. 603. 2002.
Spricht Gott Nur Arabisch? (Does God Speak Arabic?), in Michael Thumann (ed), Der Isalm und der Westen, Berliner Taschenbuch Verlag, Berlin 2003, pp. 117-126.
The Dilemma of the Literary Approach to the Qur’an, ALIF, Journal of Comparative Poetics, the American University Cairo (AUC), No. 23, Literature and the Sacred, 2003, pp. 8-47.
Voice of an Exile (coauthor: Esther R. Nelson). Praeger Publisher, Greenwood Publishing Group Inc 2004.
Rethinking the Qur’an: Towards a Humanistic Hermeneutics, the Humanistic University
Taliban law is not Koranic lawRreset Doc Monday, 25 May 2009.
The “others” in the Qur’an: A hermeneutical approach. Philosophy & Social Criticism, March 2010; vol. 36, 3-4: pp. 281-294.
The Qur’an, Islam and Muhammad. Reset DOC,
Filosofia e Religione , JULY 26-AUGUST 23, 2012.
مشاركات نصر أبو زيد في الموسوعة القرآنية، الصادرة عن جامعة لايدن، والمطبوعة في دار بريل (1)
Arrogance, Vol. I (2001), pp. 158-161. (2)
Everyday Life: Qur’an In, Vol. II (2002), pp. 80-97. (3)
Illness and Health, Vol. II (2002), pp. 501-502. (4)
Intention, Vol. II (2002), pp. 549-551. (5)
Opression, Vol 111 (2003), pp. 583-584.
مراجعات كتب بالإنجليزية
Book Review “Muslim, Jews and Pagans: Studies on Early Islamic Medina”, by Micheal Lecker,
Bibliotheca Orientalis
LV No. 1/2, January-April 1998, Column 275-278.
Book Review “Paradise Lost, Reflections on the Struggle for Authenticity in the Middle East” by C.A.O. can Nieuwenhuijze,
Bibliotheca Orientalis
LVI No. 3/4, May-August 1999, Column 510-513.
Book Review, “Image of the Prophet Muhammad in the West, A Study of Muir, Margoliouth and Watt”,
Bibliotheca Orientalis
LVI No. 3/4, May-August 1999, Column 518-522.
Book Review, “Reforming the Muslim World”,
Biblitheca Orientalis , LV11 No. 1/2, January-April 2000, Column 221-224.
ترجمات كتب أبو زيد
Germany
Books
Islam: Kritik des Religiösen Diskurses , translated by Cherifa Magdi, Dipa-Verlag, Frankfurt, 1996.
Leben mit Islam (Life with Islam) autobiography edited by Navid Kirmani, translated by Sharifa Magdi, Herder 1999.
Articles “Islam und Menschenrechte” (Islam and Human Rights)”,
Kas. Auslands-
xInformationen , Konrad Adenauer Stifung, 5, 1996, pp. 51-59. “Die Frauenfrage zwischen Fundamentalismus und Aufkl rung” by Salima Salih, in
Islam-Demkratie-Moderne, Aktuelle Antworten arabicher denker , Verlag C.H. Beck, M nchen, 1998, pp. 193-210.
Dutch
Vernieuwing in het islamitisch denken , translated by Fred and Rob Leemhuis, Uitgeverij BULAAQ, Amsterdam, 1996. “Islam en democratie: convergenties of divergenties?” in
Dehamel Opaarde? De gelovige burger in multiculturele democratie , Davidfonds Leuven 1998, pp. 114-128.
English “The Sectarian and the Renaissance Discourse”, translated and introduced by Mona Mikhail, ALIF,
Journal of Comparative Poetics , The American University of Cairo, no 19, 1999, pp. 203-222.
French “Le Discourse Religieux Contemporain: M canismes et Fondements Intellectuels”, translated by Nachwa al-Azhari, Edwige Lambert and Iman Farag, In:
CEDEJ-Egypte/Monde Arabe , No. 3, 3e trimestre, 1990 , pp. 73-120. “
Critique du Discours Religieux ”, translated by Mohamed Chairet, Sindbad Actes Sud, 1999.
Turkish “Universal Principles of Sharica: A New Reading”, translated from Arabic to Turkish by Mostafa Unver,
Journal of Islamic Research , Ankara, Turkey, vol. 8, n. 2, 1995, pp. 139-143. “The Problem of Qur’anic Hermeneutics, from Classical to Recent Period” by Omer Ozsoy,
Journal of Islamic Research , Ankara, Turkey, vol. 9, no. 1-2-3-4, 1996, pp. 24-44.
The Foundation of The Moderate Ideology in Islamic Thought by al-Shâfi`î, translated by M. Hayri Kirbasoglu, in
Sunni Paradigmanin Olusumunda , Kitabiyat, Ankara 2000, pp. 89-148.
Indonesian
Imam Syafi’i: Moderatisme-Eklektisime-Arabisme , translated by Khoiron Nahdliyyin, LKIS, 1997.
“Mafhum al-Wahy”, by Muhammad Taqi Karmi, in
Naqd wa Nazar , vol 3, no. 4, fall 1997, pp. 376-433. “Al-Tarikhiyya: al-Mafhum al-Multabis”, by Muhammad Taqi Karmi, in
Naqd wa Nazar , vol 3, no. 4, fall 1997, pp. 328-375.
حوارات أبو زيد الصحفية
هناك بعض الحوارات المهمة:
محمد حربي أجرى مع نصر أبو زيد حوارين؛ الأول نشر على أسبوعين في الصفحة الثقافية للأهرام، ضمن سلسلة مفكر مصري جديد، يومي الجمعة 31 مايو والسادس من يونيو 1991م.
الحوار الثاني بعده بخمسة عشر عاما، في صيف 2006م، بجريدة العربي الناصرية، ونشر على أسبوعين، في عددي 1129 و1130.
حواران لعبلة الرويني؛ الأول في مجلة القاهرة، عدد نوفمبر 1993م، والحوار الثاني بعدها بعشرة أعوام بجريدة أخبار الأدب، في عدد 27، يوليو 2003م.
حوار نصر أبو زيد مع محمود أمين العالم، بمجلة العربي، الكويت، سبتمبر 1994م.
أربعة حوارات لمحمد شعير بجريدة أخبار الأدب؛ أولها: أسامة بن لادن بطل من ورق، بدون تاريخ. حوار بمناسبة حصول أبو زيد على جائزة ابن رشد، 2005م؛ وحوار 16 يوليو 2006م؛ وحوار 18 يناير 2009م.
حوار حسن ياغي مع نصر أبو زيد، ونشر ضمن كتاب الخطاب والتأويل.
حوار محمد حسين، في أدب ونقد، عدد مايو 1993م.
حوار مع سمير جريس، في الدويتش فيليه، 1993م.
حوار مع الحسيني البجلاتي، جريدة العربي الناصري، 29 نوفمبر 1993م.
حوار في جريدة العربي الناصري، 26 يونيو 1995م.
حوار مع عزت القمحاوي، بأخبار الأدب، يونيو 1995م.
حوار نزيه أبو نضال، 1995م.
حوار خالد سالم، مجلة العربي، الكويت، مايو 1996م.
حوار وائل عبد الفتاح، 1 يناير 1996م، في روز اليوسف.
حوار مع محمود الورداني، جريدة الحياة، 16 سبتمبر 1996م؛ ورسالة محمود الورداني من ألمانيا لجريدة أخبار الأدب المصرية، ع 16، يونيو 1996م.
حوار مع نبيل يعقوب، مجلة اليسار، ع 79، سبتمبر 1996م.
حوار إلياس خوري، ملحق مجلة النهار الثقافي، 25 يونيو 2001م.
حوار مجلة نزوى، سلطنة عمان، بدون تاريخ.
حوار محمد علي الأتاسي، ملحق النهار، 17 أكتوبر 2002م.
حوار ياسين تملالي، بدون تاريخ.
حوار أمينة عباس، 2003م.
حوار كولي بهنا، بدون تاريخ.
حوار وليد الخشاب، 26 يناير 2004م.
حوار محمد علي خير، 8 يناير 2006م، نص برنامج روافد في قناة العربية، عرض 12 مايو 2006م.
حوار محمد عبد المقصود، مايو 2008م.
حوار حسن سليمان، 20 يوليو 2008م.
حوار منذر الشوفي، الزمان.
حوار عمر عبد العزيز، جريدة المصري اليوم، 13 أبريل 2007م.
حوار آيات الميهي، أجرته في 28 من ديسمبر 2008م، وأعيد نشره في الحوار المتمدن بتاريخ 10 يوليو 2011م.
حوار رياض الفرطوسي، الأربعاء 16 سبتمبر 2009م.
حوار أحمد سيد حسن، جريدة الأهالي.
حوار نادر المتروك، جريدة الوقت البحرانية، 5 فبراير 2010م.
حوار جريدة الأوان، أبريل 2010م.
حوار ناظم السيد، جريدة القدس العربي، 7 يونيو 2010م.
Shafi da ba'a sani ba