استطاعت نازك في أوروبا أن تقرب منيرة إلى نادر فهي تطلب منه دائما أن يرافقها، وأدركت منيرة ما ترمي إليه نازك، ولم يحاول نادر كعادته أن يتعمق هذه المحاولة. إنه يظنها مجاملة طبيعية من أمه لابنة صديقتها، وكلما ازداد التقارب بينهما ازداد اطمئنان نازك وكريمة. - في هذه المرة أفهمك. - أنت صديقة العمر. - لكن ليس هذا وحده هو الدافع. - أنا أعرف أنك تفهمين. - إذا تزوج من لا أعرف، خرج من يدي إلى الأبد. - منيرة تربية يدك. •••
إن أمه وأمي تلقيان بي إليه وتلقيان به علي، لقد كنت أتمناه ولكن ليس على هذه الصورة. لقد أصبح مفروضا علي فرضا وأنا لا أحب أن يفرض أحد علي حتى ولو كان نادر، بل لا أحب أن يفرض نادر بالذات. كيف أستطيع أن أرفضه؟ إنه يتقدم إلي بثقله جميعا، الثراء الفاحش ونظارة الوقف والشباب والجمال. ماذا أقول لأرفضه؟ وأين الخيار لي؟ ليس هذا اختيارا. إنه زواج بالإكراه؛ إكراه المال والمنصب والشباب والجمال. كنت أريد هذا الحب الذي يتناغم بين قلبين لا يدري شيئا إلا الحب وحده. كنت أريد هذه الأحلام العذبة من آمال الشباب الوردية. كنت أريد حبا يسبق الزواج، ولكن من أين لي بهذا؟ لقد أصبح مفروضا علي فرضا، ولو لم تكن أمه وأمي لعلي كنت اخترته وحدي دون دفع منهما، وهو مسوق لا يدري إلى أي شيء هو مسوق. وهو عذب صاف، ولكن هذا النوع من الصفاء الذي لا يتمعن في أمر ولا يتعمق في شيء، أنا أعلم أنه لا يدري إن كان يحبني أم لا. لعله يخيل إليه أنه يحبني، ولكنه لا يدري حقيقة مشاعره لأنه لا يدري حقيقة شيء على الإطلاق. لم يقل أحبك؛ فهو يفرض أنني أحبه كأمر لا جدال فيه؛ فقد تعود أن يرى كل من حوله يحبونه، ولم يحاول في مرة أن يتعمق هذا الحب أو مقدار صدقه. وهو يعلم أن إشارة منه تكفي لأكون زوجة له، وهو محق، فأمه وأمي في انتظار هذه الإشارة، وهو واثق أنني أيضا في انتظار هذه الإشارة. ألست من الناس وكل الناس يحبونه؟ فكيف لا أكون مثلهم؟ سأتزوجه حين يطلبني ولا سبيل أمامي إلا هذا. ولكن الذي لا شك فيه أن هذا الزواج مفروض علي، لعل كل من أعرف من البنات يتمنينه. ولكن أنا، أنا بالذات كنت أرجو أن أتزوج بطريقة أخرى. •••
وفي غمار هذه المحاولة المتشبثة من نازك لتزوج نادر من منيرة، لم تلتفت عيناها إلى حب آخر. - وماذا بيدنا أن نصنع؟ - أشهر إسلامي. - أتظن أن الدين هو العقبة الوحيدة؟ - هو العقبة الأساسية. - يبدو أنك لا تقدر حقيقة الموقف. - أبي موظف صغير عندكم، ولكن ما لي أنا؟ - الأمور ليست بالسهولة التي تتصورها. - أنا سأترك ديني من أجلك، فعليك أنت أن تصنعي شيئا. - ليس شيئا بسيطا هذا الذي تريدني أن أفعله. - وليس شيئا بسيطا الذي سأفعله أنا. - إنهم الآن مشغولون بنادر. - أعلم. - فانتظر حتى ينتهوا. - إني منتظر، ولكن أريد وعدا. - سأحاول. •••
منيرة إن أصبح وإن أمسى، ولم لا، لقد عرفت كثيرا من الفتيات، ولكن حين أريد أن أتزوج لا بد أن تكون زوجتي منيرة، لقد سرت معها وحدنا كثيرا وأنا واثق أنها تحبني، ومع ذلك لم تحاول أن تظهر لي شيئا من حبها، جميل حياء العذارى، إنها الفتاة الشريفة التي يطمئن الإنسان حين يتزوجها، ثم لا بد لناظر الوقف أن يتزوج، أليس كذلك؟ لا بد لناظر الوقف أن يتزوج. •••
كان حفل الزفاف رائعا، واختلط فيه الرجال بالنساء وقدم فيه كل ما يخطر ببال إلا الخمر، فبيت ناظر الوقف لا يجوز أن يقدم فيه الخمر. ونادر باشا يدور بالمدعوين يعرفهم بأقاربه وهم يبدون إعجابهم وتهنئاتهم. وحين تقدم حسام شوكت من العروسين قال الباشا: وهذا حسام شوكت أعظم خلبوص في العائلة.
ثم ضحك ضحكة رنانة عالية صافية مجلجلة رنانة، وابتسم حسام. - أهكذا يا سعادة الباشا من أول مرة؟ - إنها ستعرف الحقيقة على أي حال ما دامت أصبحت من الأسرة.
وضحك الضحكة نفسها مرة أخرى.
وفي طرف خفي من الحفل: هذا أحد مشاريعي يتحقق. - أهناك مشاريع أخرى؟ - مشروع خاص بي أنا. - بك أنت؟ - وبك أيضا. - ماذا؟ - ليس الآن على كل حال.
وكانت عينا خديجة قد رأتهما، فحين انفردت بهما الحجرة في المساء: ماذا كانت تقول نازك لك؟ - سؤالك عجيب. - نعم لعله عجيب فعلا. - فلماذا تسألينه؟ - ولماذا لا تجيب؟ - أغريب أن تكلم أم ناظر الوقف موظفا عندها؟ - أكان الكلام عن الوقف؟
وصمت قليلا. - لماذا لا تجيب؟ - الواقع لم يكن عن الوقف. - فالسؤال في محله إذن؟ - ولكن كيف عرفت؟ - إحساس قديم. - إحساس؟! - إحساس لعله بلا مبرر، ولكنه إحساس على أي حال. - هو إحساس كاذب. - لا يستبعد أن يكون كاذبا كما لا يستبعد أن يكون صادقا. - هو كاذب. - فماذا كانت تقول لك؟ - تقول لقد حققت شيئا هاما بهذا الزواج. - فأنت موضع سرها. - ألا يرضيك أن أكون موضع سرها؟ - موضع سر نازك؟ لكم أخشاها. - إنني موظف عندهم. - أهم موظف عندهم. - ألا يسرك هذا؟ - على أن يظل الأمر كذلك. - ولماذا لا يظل؟ - أرجو ألا يزيد. - وكيف يمكن أن يزيد؟ لقد كنت المتصرف في الوقف في أثناء غيابهم في الخارج. - أرجو ألا يزيد.
Shafi da ba'a sani ba