Amira Dhat Himma
الأميرة ذات الهمة: أطول سيرة عربية في التاريخ
Nau'ikan
مقدمة
الصحصاح ينازل ملك الروم
حصار العرب لعاصمة الروم
العودة إلى وادي الحجاز
مولد فاطمة بنت مظلوم
انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين
مولد بغداد
الحجاز وبغداد
مأزق ذات الهمة
مرض أم المجاهدين
Shafi da ba'a sani ba
هروب الحارث من انتقام ذات الهمة
ولادة عبد الوهاب
المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة
عبد الوهاب يبدأ جهاده!
الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!
زواج عبد الوهاب بالحجاز
هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!
الأمير عبد الوهاب يشفى من جراحه!
ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية
Shafi da ba'a sani ba
العصر الذهبي لهارون الرشيد
الرشيد يعتقل ذات الهمة
النكبة الدامية للبيت البرمكي
خوارق البطال
حفيد ذات الهمة يحكم الأندلس
مقدمة
الصحصاح ينازل ملك الروم
حصار العرب لعاصمة الروم
العودة إلى وادي الحجاز
مولد فاطمة بنت مظلوم
Shafi da ba'a sani ba
انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين
مولد بغداد
الحجاز وبغداد
مأزق ذات الهمة
مرض أم المجاهدين
هروب الحارث من انتقام ذات الهمة
ولادة عبد الوهاب
المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة
عبد الوهاب يبدأ جهاده!
Shafi da ba'a sani ba
الخليفة المهدي يقلد عبد الوهاب الإمارة!
زواج عبد الوهاب بالحجاز
هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!
الأمير عبد الوهاب يشفى من جراحه!
ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية
العصر الذهبي لهارون الرشيد
الرشيد يعتقل ذات الهمة
النكبة الدامية للبيت البرمكي
خوارق البطال
حفيد ذات الهمة يحكم الأندلس
Shafi da ba'a sani ba
الأميرة ذات الهمة
الأميرة ذات الهمة
أطول سيرة عربية في التاريخ
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
سيرة الأميرة ذات الهمة
تعد هذه السيرة العربية أطول سيرة في التاريخ؛ ذلك أن حجم مخطوطاتها المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني ومكتبة الدولة ببرلين بألمانيا الغربية يصل إلى 23 ألف صفحة، وتغطي أحداثها لحروب قارية متصلة لأربعة قرون بين العرب المسلمين من جانب، والتحالف الأوروبي البيزنطي، أو كما تسميه السيرة: بالتحالف الرومي من الجانب المقابل، كما تغطي أحداثها حقبة مطلع الإسلام وانتشاره؛ فسيرة الأميرة ذات الهمة تبتدئ أحداثها بأزهى عصور الخلافة الأموية في دمشق، والعصر الذهبي لعبد الملك بن مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، الذي طارده أبو مسلم الخراساني عقب هروبه إلى مصر، إلى أن لحقه واغتاله في أبو صير بمصر الوسطى، مرورا بمطلع العصر العباسي وصراع السلطة المحتدم المتبلور في أزمة أو فاجعة البرامكة الفرس؛ حيث تستفيض هذه السيرة التاريخية العملاقة في إعادة سرد تلك النكبة السياسية بين العرب والفرس.
وتنتهي أحداثها في عصر الخليفة العباسي الواثق بالله، برغم أنه يرد ضمن أحداثها وعلى لسان راويها.
إن سيرة الأميرة ذات الهمة الفلسطينية كانت تروى بتمجيد شديد على الخليفة الواثق بالله العباسي، وإن ذلك الخليفة كان كثيرا ما يستوقف راويها مستفسرا عن أبطالها وأحداثها، تلك التي تؤرخ لحياة وبطولات تلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة؛ لذات الهمة كقائدة محاربة لعبت أهم الأدوار في الدفاع عن مطلع الدولة أو الخلافة الإسلامية، فكان سكان الثغور البحرية الفلسطينية كطلائع ساحلية على طول تاريخهم أكثر نبضا وتوقدا واستشعارا للخطر الخارجي المتربص على الدوام بالعرب، سواء أكان الشرق الأوسط المعاصر، أو الأدنى القديم، أو ما يعرف بالعالم العربي بعامة، ومركزه الشام وفلسطين والجزيرة العربية.
Shafi da ba'a sani ba
وهو بالضرورة أمر طبيعي أن تجيء الطلائع البحرية الساحلية من لبنان وفلسطين أكثر استشعارا وترصدا للأخطار المحيطة عنها بالنسبة للبلدان والحضارات الزراعية أو البدوية الرعوية، حتى ولو من مدخل أن تلك الأخطار والغزوات التي لا بد وأن تكون في معظمها بحرية.
وقبل أن نستطرد في سرد الوقائع والأحداث ذات الصبغة السياسية للحقبة أو العصر التاريخي الذي تؤرخ له السيرة، وبدءا على التقريب من مطلع القرن الثامن الميلادي، نعود إلى أهمية وقضية هذه السيرة العربية العملاقة.
وللقارئ أن يتصور أن «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب» لا تزال إلى أيامنا مخطوطة مفتقدة، منذ أن نسخها مؤلفها - أو مؤلفوها الحقيقيون - كتراث أو تاريخ شعبي أقرب إلى أن يكون فلكلورا من حيث الافتقاد للمؤلف اليقيني الفرد.
ولا تزال هذه السيرة مخطوطة في عشرات الأجزاء المتتابعة الحلقات، التي تصل في مجموعها إلى 23 ألف صفحة من القطع المتوسط.
والنسخة الأصلية المحفوظة بمكتبة الدولة ببرلين كمخطوطة لم تصلها بعد يد المطبعة، وهي لهذا مصدر فخر لا يبارى لمكتبة برلين المركزية، واحتفى بها أشد الاحتفاء؛ لإنقاذها من الدمار عقب الحرب العالمية الثانية الأخيرة.
هذا على الرغم من أنه كان لهذه السيرة الملحمية أكبر التأثير في مجمل الآداب البيزنطية منذ ما قبل القرون الوسطى، كذلك نقلت أو ترجمت إلى الفارسية والتركية منذ أوائل الغزو العثماني، وعرفت باسم «سيد البطال»، وهو اسم بطلها الخارق المحارب صاحب الألاعيب والخطط الحربية البارعة، التي أوصلت بطلة السيرة وشخصيتها المحورية «ذات الهمة» لأن تصل بمعاركها وانتصاراتها الحربية التاريخية إلى حد أسر الإمبراطور الروماني «ميخائيل»،
1
ودخولها على رأس الجيوش العربية إلى القسطنطينية؛ لتصبح وتتوج إمبراطورة لفترة - ليست بطويلة - على القسطنطينية.
وكما ذكرنا، فإن الهدف الجوهري لهذه السيرة الفلسطينية هو التأريخ لسيرة دمار تلك الأسرة الفلسطينية وحروبها وتصديها للغزو الخارجي، كمقاتلين على الثغور والمداخل البحرية، طالما أن الغزو لا بد وأن يجيء - في ذلك العصر الوسيط الإسلامي البيزنطي - بحريا. «فالصحصاح»، جد الأميرة ذات الهمة، يشارك في الحرب ضد الروم، والمعروفة باسم «حرب الروم» من وجهة نظر التأريخ الشعبي بالطبع، في تلك الحروب الأموية التي اندلعت ضد الروم «البيزنطيين»، ومنها حملة مسلمة بن عبد الملك، وما توالى من خلفاء وحروب متصلة لتأمين حدود الدولة الإسلامية الوليدة.
كذلك لم تغفل سيرة ذات الهمة أن الحصار الذي ضربه العرب حول القسطنطينية امتد لبضعة أعوام، مما اضطر الجيوش العربية إلى تشييد مدينة ضخمة في مواجهة القسطنطينية، تعارفوا عليها باسم «المستجدة».
Shafi da ba'a sani ba
وهو الحصار الثالث للقسطنطينية الذي وقع تاريخا، كما لم تغفل عنه السيرة في عهد الخليفة «سليمان بن عبد الملك»، وفي ذلك الحصار تبدت طاقات البطل الشعبي المخادع أو الميكافيللي «سيد البطال»، والذي كما ذكرنا، فهو بطل تاريخي استشهد بالفعل في الحروب العربية ضد الرومان عام 122 هجرية، وهو يرد في السيرة كبطل أو قائد محارب ماهر في إنشاء ونقل وتموين خطوط الجيوش العربية إلى مداخل أوروبا الجنوبية، بالإضافة إلى الأندلس أو شبه جزيرة أيبريا بكاملها، التي وصلت الدول والدويلات السورية الفلسطينية - في الإطار العربي القومي العام - فيها إلى أكثر من 46 دولة وكيانا.
فالسيرة تؤرخ لحرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين، وطلائعهم أو حكامهم من أسرة ذات الهمة ضد الدولة البيزنطية عبر بضعة أجيال متعاقبة. تتخذ الأميرة جندبة بن الحارث الكلابي رأسا لها، وابنه الصحصاح، الذي تبدت أولى أعماله البطولية - كما تذكر السيرة - في إنقاذه لابنة الخليفة الأموي من مختطفيها، ثم بعد ذلك نراه يشارك في قيادة الحروب العربية ضد بيزنطة، بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان لحين مجيء ذات الهمة، واسمها الحقيقي «فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن الحارث الكلابي».
ولدت وتربت فاطمة تلك التي عرفت أو لقبت بذات الهمة في الخفاء أو البرية، ومنذ شبابها المبكر تصدت للاعتداءات القبلية الداخلية لقبائل طي، دفاعا عن شرفها ودفاعا عن قبيلتها؛ ومن هنا اشتهرت بذات الهمة، إلى أن أحبها ابن عمها الحارث بن الأمير ظالم، وكان فارسا لا يمل المغامرات والدفاع عن قومه، إلى أن أنجبت ذات الهمة منه ابنا سمته عبد الوهاب، وأراد الخليفة الواثق تعيينه واليا على القسطنطينية فرفض عبد الوهاب.
2
والهدف الرئيسي لسيرة ذات الهمة هو التأريخ لسلسلة الاعتداءات والحروب الخارجية الطامعة في الدولة الإسلامية الوليدة، وهي الحروب الرومانية أو الرومية البيزنطية، وهو ذات الدور الذي اضطلعت به سيرة
3
عمرو النعمان في مواجهة الأخطار والاعتداءات الآرية الفارسية آسيا الصغرى، وكذلك سيرة الأمير حمزة البهلوان.
بمعنى أن الهدف الأسمى لمثل هذه السير، وكذلك المناخ الذي توجد وتتكاثر فيه هو بالتحديد الأخطار المحدقة الخارجية، ومع هذا لم تغفل سيرة الأميرة ذات الهمة التسجيل والتأريخ للأحداث الداخلية ذات الصبغة السياسية، ومن ذلك أزمة نكبة الفرس البرامكة في مطلع الخلافة العباسية، التي يرد ذكرها من منطلق التأريخ الشعبي في سياق أحداث السيرة، وهي الأحداث التي وقعت منذ القرن التاسع الميلادي، حين أقدم الخليفة هارون الرشيد على اغتيال جعفر بن يحيى البرمكي وزيره الأول أو رئيس وزرائه.
وترد تلك الحادثة ضمن أحداث السيرة مرتبطة بإحدى العواصم أو الثغور التي استعمرها البحارة الفلسطينيون، وهي جزيرة مالطة، وكيف أمر الخليفة هارون الرشيد ببنائها وتعميرها وهو في طريق عودته من إحدى غزواته إلى حاضرة خلافته بغداد «حين جمعوا الصناع والبنائين من سائر البقاع».
4
Shafi da ba'a sani ba
وحين عاد إلى بغداد حدثت الواقعة أو الوقيعة بين الرشيد والبرامكة.
ولا تغفل السيرة ربط نكبة البرامكة بأحد أبطالها المحاربين، وهو الأمير عبد الوهاب، الابن الوحيد الوريث لذات الهمة، والخصم الأزلي لشخصية ترد خائنة متآمرة
5
تقف في صف الروم، ويدعى عقبة، وكيف أزعجته العلاقة بين جعفر بن يحيى الوزير الأول، وبين الأمير عبد الوهاب الفلسطيني ابن ذات الهمة، فدس خطابا بمساعدة الفضل بن أبي ربيعة مليء بالتآمر ضد الخليفة بين طيات عمه جعفر بن يحيى البرمكي، اكتشفه الخليفة وأنزل النكبة الانتقامية بالبرامكة، التي أحدثت بالتالي أثرها بالنسبة لمجرى أحداث سيرتنا هذه «ذات الهمة»، التي تجري أحداثها المركزية ما بين الثغور الفلسطينية العربية وبين دمشق وبين جزيرة مالطة - أو مالطية - المتاخمة لشمال فلسطين.
كذلك لا تغفل السيرة عن ذكر بناء وتعمير المدن؛ مثل: مالطة، وأيضا بغداد حين شادها الخليفة المأمون على نهر دجلة، حين أعجبه الموقع فأسماها باسم راهب كان يسكنها وأرضه «باغ-داد».
6
كذلك يرد في السيرة بكثرة ملفتة ذكر المدن والثغور الفلسطينية: غزة، حيفا، يافا، بالإضافة طبعا إلى مالطة المتاخمة، والتي كانت في موقع الدفاع الأول عن الساحل الفينيقي - من فلسطيني وسوري ولبناني - على طول عصورها، وبخاصة أكثر من مطلع العصور الوسطى التي تؤرخ لها سيرة ذات الهمة العملاقة، التي لم تجد بعد الرعاية الكافية.
وفيها يرد تطور أسلحة الحرب والقتال بدءا من المفرقعات التي تدعوها السيرة بالنار الإغريقية، كما يرد الكثير من الوصف الإنثوجرافي للكثير من المدن والكنائس والكاتدرائيات، ومنها كنيسة آيا صوفيا، وحياة الشعوب والكيانات الأوروبية، بدقة مدهشة، منذ مطلع القرن التاسع الميلادي.
شوقي عبد الحكيم
الصحصاح ينازل ملك الروم
Shafi da ba'a sani ba
ذاع صيت الأمير العربي الفلسطيني «جندبة» بن الحارث، حتى أصبح حديث القبائل تتناقل مأثوراته وأخبار مروءاته وفود الشعراء والحكواتية والمداحين على طول ربوع الشام والجزيرة العربية بأسرها.
كان جندبة دائم التفكير في الأخطار المحدقة المحيطة بالعرب والمسلمين، أخطار تقلقه وتقض مضاجعه.
فعبر البحر قاتم الزرقة تنسج المؤامرات وتحاك الخطط للهجوم على الخلافة الإسلامية الوليدة، وكم بعث الأمير الهرم جندبة برسله إلى خلفاء بني أمية ليطلعهم على ما يحمله هواء البحر من أخطار أقوام الروم البيزنطيين وحشودهم، وعيونهم غير الغافلة عن تلك الصحارى والوهاد، التي لا بد يوما وأن تطأها جحافلهم الهمجية.
كان جندبة قد استقر رأيه في الأيام الأخيرة على ضرورة شد الرحال إلى الأراضي الحجازية؛ لطرح الأمر وأخذ المشورة.
هب جندبة من غفوته متخذا طريقه عبر ردهات قصره إلى مخدع زوجته «الرباب»، مستهديا طريقه بنصحها، ورجاحة عقلها، وبصيرتها الصائبة.
وحين تحسست أذن الرباب حفيف أطراف عباءته صرفت من فورها جارياتها، بعدما أمرتهن بإعداد القهوة والفاكهة وحليب المساء.
ومن فورها عاجلته بما يعتمل في خاطره ذلك المساء: هل آن أوان الرحيل للحجاز؟ - نعم يا رباب ... فرأس المشورة وتاجها الراجح بالحجاز وأم القرى.
ضحكت الرباب وهي تأخذه بيده ليحط إلى جوارها على أريكتها: أنا جاهزة.
ضاحكها قائلا: أنت دائما جاهزة يا رباب ... رغم ...
لم يكمل جملته، فقد التفت من فوره محيطا بيديه الاثنتين خصرها في حرص شديد: ليتني يا رباب يمتد بي العمر ... حتى أشهد وليدنا ...
Shafi da ba'a sani ba
اندفعت الرباب معلنة: الصحصاح.
قبل جندبة بطنها: أجل، هو الصحصاح.
كان فكر الرباب منشغلا بالقرار المفاجئ الذي اتخذه زوجها «جندبة» بالرحيل إلى الحجاز، وهي على هذه الحال من الإعياء حامل في شهرها السابع تعاني آلام حملها الثقيل.
ورغم أن هذا الفصل من السنة كان أشقها على جميع خلق الله، قيظا وسهلا، فإنها لم تعط بالا لآلامها ومعاناة حملها.
بل هي كانت مشغولة البال، غائبة عن وعيها لا تجد لها ناصحا أو معينا؛ فزوجها «جندبة»
صحيح أنه لم يجهر لها بشكواه مما يعانيه من آلام المرض الذي ألم به كاسرا باطشا على هيئة حمى في البداية، إلى أن حملت الرباب خبر مرضه إلى شيوخ القبيلة وحكمائها، دون أن تجرؤ على استقدام حكيم يطببه ويحقق له الشفاء.
كان جندبة يكره الحكماء والمطببين، لا يثق أبدا في وصفاتهم وما يشيرون به،
•••
كانت «الرباب» تدرك أن الطريق إلى الأراضي المكرمة محفوف بالمخاطر، والقيظ يطبق على الأنفاس، وهي لم يسبق لها أبدا معارضة رغبة أو قرار لزوجها، الذي أصبح مثقلا بهموم المسلمين مهما كانت بساطة ذلك القرار وتلك الرغبة، فما العمل والرغبة هذه المرة هي الرحيل وهدم المضارب؟
تسندت الرباب على كتف إحدى جواريها المقربات بعدما أفضت لها بهواجسها، واندفعت من فورها متخلية عنها، مشيرة إلى نسائها وجواريها بجمع حاجيات زوجها أولا، والحرص على ملابسه وخصوصياته وعتاده وكتبه التي أوصاها أول ما أوصاها بالحفاظ عليها، خاصة خزانة الخرائط التي لم تكن الرباب تفهم منها شيئا بأوراقها الصفراء وجلودها الملونة، والتي كان جندبة يفرد بعضها متدارسا مع بعض فرسانه ليلا في أيام الشباب الخوالي.
Shafi da ba'a sani ba
تنهدت الرباب: رباه.
فالله وحده يعلم ما بها من آلام الحمل والخوف من مخاطر الطريق وشروره، لكن ما باليد حيلة إزاء رغبة زوجها المتلهف للرحيل إلى مكة، ودون أدنى اعتبار لما وصل إليه من وهن
كيف العمل وآلام حملها هي أصبحت لا تترك لها لحظة صفاء، وكأن وليدها - الذي وافقها زوجها جندبة على تسميته بالصحصاح - يعاني هو الآخر في أحشائها معركة ضارية في سبيل تحقيق تواجده وبقائه.
وحين تذكرت الرباب وليدها القادم الصحصاح انفرجت أساريرها فرحة مستبشرة، وهبت من فورها في حماس مفاجئ، معطية أوامرها بالإسراع بالرحيل. •••
بل إن الغريب في الأمر أن «جندبة» كلما خاض معركة في حرب أو منازلة فروسية وألم به جرح كبير أو بسيط، يدفع به إلى ملازمة فراشه، نهبا للآلام القاسية التي يعانيها، لم يكن يسمح للرباب بإحضار حكيم أو طبيب مداو. وما أكثرهم على طول مضارب القبائل!
فكانت في كل مرة تقارب فراشه سائلة: لا حل لجرحك وما تعانيه يا جندبة سوى الإسراع باستحضار الطبيب، إلا أن جندبة ظل على الدوام، وكما لو كان بينه وبينهم عداء، لا أمل من التئامه يوما.
لكم تذكر الرباب جراحه التي ألمت به على طول ما خاضه من معارك ومنازلات على طول الثغور والموانئ، التي كان جندبة يعاني الأمرين في أهمية تأمينها ضد كل غاصب.
هي تذكر جراحه في الأناضول، وتذكرها في الحمراء وغرناطة، وكريت ... وآمد ... وعمورية.
لكم عانت الأمرين وزوجها وابن عمها مستلق طريح فراشه، يتألم في صمته وفي وحدته دون حتى أن يسمح لزواره من شيوخ القبائل ورسل الخليفة أمير المؤمنين في دمشق بزيارته وهو في أقصى حالات آلامه، مطلقا العنان لأفكاره وهواجسه المصاحبة لمسير المعارك واتجاه الحرب الطاحنة الدائرة، التي لم تكن لتغيب عنه وعن مخيلته أحداثها وأطوارها لحظة بلحظة.
إلا أن الرباب لن تنسى ما حيت لحظات عودة جندبة المنتصر مجللا بأقواس النصر، ودماؤه تنزف على جسده وساعديه كمثل أرجوان أحمر دام. •••
Shafi da ba'a sani ba
نزل الأمير جندبة وزوجته الفاتنة «الرباب» بواد مزهر بأرض الحجاز، ونصب جنده وحرسه المضارب على قمة ذلك الوادي الفسيح، المخضب بروائح المسك ونبات الريحان والورود البرية، تخالطها روائح الذبائح المشوية، وأقيمت الاحتفالات الليلية التي كانت توليها «الرباب» عناية خاصة لإدخال السرور على قلب الأمير المثقل بعذابات العرب على طول صحاريهم ووهادهم؛ لما يحيطهم من أخطار لم تخفت نيرانها يوما، أو حتى لحقبة أو لومضة.
ارتفعت أصوات الموسيقى وإيقاع رقصات الدبكة يخالطه إيقاع المجرودات والمعلقات العربية، وجاء صوت الشاعر مشحونا معبرا وهو يصف الغدر المكين لحربة «جساس بن مرة» تخترق ظهر الجد الأكبر، عمود السرايا، «كليب» ملك العرب:
ضربه بها وتمكنت في حشاه
نفد الخشب قرطين من سرته.
يا لها من لحظة غادرة دائما ما يكرهها «جندبة»، وتسيل لها دموعه مدرارا على وجنتيه!
وفي تلك الليلة القمرية اشتدت شجون «جندبة» لزوجته وابنه الذي أسمياه قبل ولادته ب «الصحصاح»، فانتقل إليها وتمدد في إعياء داخل خبائها، وأفاض في الحديث عن ولده، وأهمية إرضاعه منذ المهد كره الأعداء مع لبن الأم.
ومات «جندبة» قبل أن يكمل مشواره، وشقت عليه البنات والأمهات الصدور، وبكته النائحات،
•••
وحين ولد «الصحصاح» متخليا عن بطن أمه الرباب، ولد في العراء ... بريا كوحوش الصحراء.
ولد يتيما مغتربا محاطا بحنان الأم الكسيرة، التي أرضعته عبر شواطئ البحار القاتمة البعيدة.
Shafi da ba'a sani ba
ومنذ نعومة أظفاره تربى «الصحصاح» وشب على ظهور الخيول العربية التي أحسن اختيارها ومعاشرتها، تربى على عتاد الحرب والجهاد انتظارا لليوم المشهود الذي تنبأ به الأب الراحل يوما عبر وهاد الحجاز.
وهي النبوءة التي أطلت برأسها يوما باتجاه التحقق على رمال الصحراء.
تلحف «الصحصاح» اليافع بالعراء، وغفا ثم تيقظ على شبح شيخ مسن بيده مقبض جواد شهير عالي الهامة بين العرب يدعى «اللاحق»، وهو من أمهر خيول «بني مرة»، هامسا في أذنه: ما خابت التربية فيك يا «صحصاح» يا ابن «جندبة».
وأغدق ذلك الشيخ المحسن العطايا «للصحصاح» من خيول وجمال بأحمالها، وخيول ورءوس أغنام ورعاة وجند وسيوف عواقل.
ومنذ شبابه المبكر، تبدت فروسية الصحصاح بين القبائل حين تصدى لملوك حضرموت في عشرين ألف فارس، وحين حالفه التوفيق فأنقذ ابنه الخليفة «مروان بن عبد الملك» وامتطى فرسته الشهباء، فكافأه الخليفة بالمجيء إلى عاصمة الأمويين.
ودخل أبواب دمشق محاطا بجنده من أبناء الأمراء وهم يرشونه بالملح والجوهر والبلخشن، إلى أن دخل قصر الخلافة، فاحتضنه الخليفة سائلا عن حاله، فأنشد:
إن كنت من أرض الشام مناظري
نحو الحجاز مخيم لا يطرف
ليلي بليلى طال حتى إنه
في كل جارحة فؤادي يزحف
Shafi da ba'a sani ba
وأغدق عليه الخليفة الهدايا والعطاء، وعقد عزمه على جنده، ورافقه في رحلات صيده وقنصه، وهو يعده عاقدا العزم على أن هذا الفارس الفتي «الصحصاح» هو المنوط به منازلة تحالف الأروام المتربصين، وملكهم المتآمر «برجيس».
حصار العرب لعاصمة الروم
وأعدت الجيوش والرجال ... وانطلق الصحصاح والأمير مسلمة ابن الخليفة عبد الملك بن مروان على رأس جيش جرار لمقاتلة الروم والبيزنطيين، وكان زاده شجاعة لا حد لها، وخبرة في الخرائط التي ترسم الجزر والثغور والمسالك البحرية الصعبة ... ولكن كان بانتظاره فخ نصبه الأعداء له.
لكن لم تفلح الحيلة المكيدة التي دبرها الأعداء للإيقاع بالأمير الصحصاح وهو الخبير العالم بخداع وتآمر أعدائه المنهزمين ... وكيف أن الحرب في عمومها خدعة.
لذا ما إن دوى صوته عاليا مكبرا حتى أحاطت كتيبة مدربة من جند المسلمين بالمغارة من كل جانب، مما أوقع الهلع في قلوب العساكر الرومية، فولوا الأدبار طلبا للهرب، بعد أن عملت فيهم سيوف الأميران الصحصاح ومسلمة، فتساقطت الرءوس الواحدة بعد الأخرى، وأولهم الرسول المتآمر، ومن قدر له بلوغ رأس المغارة تلقته سيوف الكتيبة التي سبق للصحصاح إعدادها ومراقبة ما يحدث خفية.
بل إن هذه الواقعة المكيدة ترسبت غائرة في أعماق ذات الصحصاح، مواصلة ترددها بين صفوف بقية كتائب العرب على طول الجزيرة، فدقت طبول الحرب والرحيل، وزحفت صفوف المسلمين إلى سطوح الكتائب والمراكب والعمائر الرابضة على طول السواحل؛ لتسد كل المنافذ على جند الأعداء.
وعلت الأصوات مكبرة ومعلنة: إلى القسطنطينية ... إلى القسطنطينية.
وعبر أمواج البحر الهادر، أعاد الأمير الصحصاح قسمه ووعده لأمير المؤمنين الخليفة الأموي. «والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح القسطنطينية وأبني فيها مسجدا للخلافة.»
ولازم الصحصاح أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان، لا يغيب عن صحبته ليل نهار، وهو يحكي له تفاصيل خططه الحربية التي لم تكن تخلو من الحيل والمكائد والكمائن التي تفرد بمعرفتها الصحصاح، ودون حياء، طالما أن الحرب هي من مجملها خدعة كبرى.
وكان الخليفة عبد الملك بن مروان كلما استعذب حديث الصحصاح، ومدى ما ركبه من صعاب للوصول إلى أهدافه العزيزة المنال، كلما طالبه بتدوين ملاحظاته وتوثيقها بالخرائط؛ لتحفظ في خزائن الدولة، ولتكون معينا لا ينضب عطاؤه لأجيال العرب من قادة وفاتحين، طالما أن الأروام لن يحدث ويستسلموا أبدا لما حل بهم من هزائم.
Shafi da ba'a sani ba
كانت أمنية الصحصاح عسيرة بعيدة المنال، وهو القائد المتمرس بالموانئ والثغور المحيطة بالقسطنطينية، بل هو على معرفة يقينية بعاصمة التحالف الرومي البيزنطي، ومدى ما تمتاز به أسوارها وحصونها من تعزيزات تكسرت أمامها نصال كل غاز وطامع في النفاذ والعبور إلى ساحاتها.
بل يكفي في هذا الأمر القنوات المحيطة التي كثيرا ما أغرقت أعتى الجيوش المدججة، ومنها أيضا بعض الفيالق العربية التي غرقت بكاملها داخل سراديبها ومسالكها التحتية العميقة الأغوار.
كان الأمير الصحصاح على معرفة بمدى صعوبة ووعورة ما سبق له أن قطعه على نفسه في بلاط أمير المؤمنين، وكبار وزرائه وحاشيته، بألا يعود إلى أرض العرب قبل أن يفتح القسطنطينية.
وعبر تأملات الصحصاح الليلية لأمواج البحر الفسيح الهادر، التي تمخره السفن العربية المحملة بالجنود من كل كيان وقبيلة وقوم، ما بين المقاتلين العرب الحجازيين والنجديين والطائيين، جنبا إلى جنب مع القبائل الفلسطينية والسورية والمصرية واللبنانية، وهم البحارة بناة السفن الذين عرفوا هذه الطرق البحرية وجابوها منذ الأزل، فأنشئوا المدن والثغور البحرية،
والذين وصل ثراؤهم إلى حد أثقال الفضة التي صنعوا منها هلوبا لسفنهم المشادة من أخشاب أرز لبنان، تتوسطها الصواري الشاهقة الارتفاع إلى حد مناطحة السماء.
كان يحلو للأمير الصحصاح مواصلة التأمل لما يجري، حتى القديم السالف الذي عشقه منذ صباه، لتعرفه على مكنونات وأسرار أعماق الكتب القديمة وسير الرواة، عن حياة البحر، وعن مدن الأجداد والأسلاف التي شادوها، كما أشادوا بعلبك وصيدا وصور، تلك المدن التي لا تزال شاهقة تشهد بأمجاد الأجداد القدماء على طول الساحل والثغور.
فقرطاج والبندقية وكريت كانت على الدوام تفيض بالصناعات والمنسوجات والعمائر العربية، وتعج بالتجار، وتزخر بمنتجات الشرق، فتحملها جاهزة مجهزة إلى مدن الغرب وموانئه الغارقة في أعماق التخلف وحياة الكهوف.
كان الصحصاح يبذل خارق الجهد في الاستزادة من المعرفة بسير الجدود القدماء وتطلعاتهم وفتوحاتهم البحرية مشرقا ومغربا.
كان يبعث برسله لنقل كتاب مخطوط قديم من شواهق الهند وفارس والبندقية.
لكن دون أن تغفل عيناه عن جنده وواجبه كقائد يقظ مؤتمن على حياة جند المسلمين، وتلك الثقة المشوبة بالحذر التي أحاطه بها أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان.
Shafi da ba'a sani ba
إلى أن جاءت لحظة حماسه وانجرافه ذات يوم في حضرة الخليفة، وأمير الحملة ولده المقرب الأمير مسلمة، حين انتصب واقفا على قدميه الاثنتين، رافعا ذراعه عاليا على رءوس الأشهاد، مطلقا قسمه وتعهده، الذي أصبح بسببه لا يذيق عينيه غفوة الراحة والنوم مثل بقية خلق الله: «والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح عاصمة الروم قسطنطينية، وأبني فيها مسجدا لأمير المؤمنين.»
وحين حطت قوافل العرب وبوارجهم وعمائرهم على تخوم عاصمة الروم البيزنطيين، بدت المدينة مظلمة ضئيلة الحركة وكأنها مدينة للموتى، وليست عاصمة للتحالف الأوروبي بأكمله المتربص منذ الأزل بالعرب والمسلمين، انتظارا لتحين فرص الوثوب لفرض الإذلال والهيمنة.
بل إن دوام الحصار دفع بالصحصاح إلى إعلان شارات التحدي لملك الروم وقادته صباح مساء دون مجيب، حتى إذا ما طال أمد ذلك الحصار العربي لعاصمة الروم، وبدا الملل بين صفوف الجند والكتائب، استشار الأمير مسلمة الصحصاح بالشروع فورا في إنشاء الحصون والأبنية المجاورة للعاصمة، التي واصلت مع توالي الأيام والسنين النمو والتكاثر والازدهار، إلى أن شرع الأمير مسلمة في إطار العزم والمثابرة وإطباق الحصار «في بناء مدينة مقابل القسطنطينية أسماها المستجدة، وقسم لكل طائفة طرقا وأحياء فيها ... وعمرت المدينة وصارت متسامقة عالية البنيان والأسوار، مليحة الأركان كأنها مدينة نبي الله سليمان».
وعمرت بالأسواق والمعاهد ومعاقل الجند والحمامات. كل ذلك يحدث تحت أعين جنود الروم ومليكهم لاوون، الذين أرهقهم الحصار، وقطع المؤن، وضرب كل إمداد، وانتشار الخوف والهلع في نفوس السكان.
وحين طال أمد حصار جيوش المسلمين للقسطنطينية الذي فاق أربعة أعوام، لم تغفل فيها عين الأمير الصحصاح عن زوجته وحبيبة قلبه الوفية «ليلى»، التي كان قد علم بوضعها لولديه ظالم ومظلوم، على مدى سنوات الحرب المستعرة التي لم تترك له يوما لرؤيتهما منذ رحيله عن أرض الحجاز إلى دمشق، وزيارته الخاطفة لها عقب فتح مالطة، إلا أن الحصار المديد لعاصمة الروم أعاد إلى مخيلته الحنين الجارف إلى زوجته وولديه، فتمنى مشتهيا رؤيتهم والتعرف على أحوالهم.
فدأب على إرسال الرسل المحملة بالهدايا من ملبس ومأكل وتحف وجوهر إليهم، بل هو كثيرا
وكانت أخبار الانتصارات العربية تتوالى إلى عاصمة الخلافة مدوية شاحذة للهمم، حتى إن الخليفة عبد الملك بن مروان دأب على إذاعتها بين العواصم العربية أولا بأول، ودأب على مراسلة ابنه الأمير مسلمة وقائد حملات جيش المسلمين الأمير الصحصاح يحثهما على التقدم والجهاد والسهر على حراسة ثغور الخلافة دون هوادة.
وحتى عندما اشتد عليه المرض فلزم فراشه، حرص على استقبال الرسل وسماع الرسائل، ورد عليها بنفسه مسديا المشورة، منبها الأذهان إلى أهمية إخفاء مرضه ولزومه فراش الموت؛ حتى لا يتسرب إلى صفوف الأعداء فتقوى عزائمهم، ويطمع طامعهم.
ورغم حنينه وهو يعاني سكرات الموت وأطيافه إلى مجرد رؤية ولده المظفر مسلمة، ظل مفضلا بقاءه لمواصلة حراسة تخوم خلافة المسلمين، إلا أن الخليفة المحتضر عبد الملك بن مروان أوصى
ومن جانبه فضل الوليد إخفاء وصية الأب طمعا في الخلافة التي مارسها بالفعل طيلة فترات مرض الخليفة الوالد.
Shafi da ba'a sani ba
العودة إلى وادي الحجاز
بل هو - أي الوليد بن عبد الملك - كشف عن نواياه الدفينة لأتباعه ومريديه بالحيلولة دون تسرب خبر الوصية إلى أخيه الأكبر مسلمة، والعمل على إبعاده أكثر بالحرب، دون العودة ولو للمشاركة في شعائر وجنازة دفن الخليفة.
وظل يكاتبه باسم الخليفة الوالد لمدة خمسة أعوام متخوفا من جنده البالغ عددهم خمسون ألفا، ومن انتصاراته والتفاف الأمصار من حوله كبطل فاتح.
وفي العام السادس، عاد الأمير مسلمة بعدما تحقق فتح القسطنطينية واستسلام ملكها لشروط المسلمين، وأقيمت الزينات والأفراح على طول عاصمة الأمويين دمشق، ودخل الأمير مسلمة وقائد الجند المنتصر الأمير الصحصاح قصر الخلافة المزين بأقواس النصر، وحين عانقه الخليفة الجديد الوليد بن عبد الملك بن مروان مقبلا سائلا عن حاله، أنشد الصحصاح:
أقول وقد طال اشتياقي إليكم
وقد غبت عنكم في جهاد العدا دهرا
وضاقت علي الأرض شوقا إليكم
ولم يبق لي من بعدها صبرا
ودامت أفراح الانتصار ومباهجه أياما وبذل الخليفة الأموي الجديد الوليد بن عبد الملك كل جهد في محاولة إخفاء وصية والده أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بن مروان، التي سبق له اقتناصها وإبعادها عن الإشهار، والتي أوصى فيها بالخلافة من بعده لابنه مسلمة، الذي كان بدوره مشغولا بالحرب والجهاد بعيدا عن عاصمة الخلافة وما يعتمل داخلها من صراعات تملك السلطة، وهو الصراع الذي احتدم لهيبه طيلة فترة مرض أمير المؤمنين وانشغال الأذهان والمشاعر بالحرب المستعرة التي يقودها الصحصاح والأمير مسلمة.
فالحرب هنا ليست بالعادية، بل هي حرب قارية تشمل جبهتها الفسيحة كل آسيا الصغرى ومداخل أوروبا الجنوبية، وتمتد أطرافها إلى عاصمة التحالف الأوروبي الرومي؛ القسطنطينية من جهة، ومن جهة أخرى المغرب العربي والأندلس، وهو ما لم يتح للحظة واحدة للأمير مسلمة «الخليفة الشرعي» مجرد التفاتة خاطفة إلى الخلف؛ للتعرف على ما يجري داخل عاصمة الخلافة، وعلى ظروف مرض الخليفة الوالد سليمان بن عبد الملك بن مروان، ووصيته له بالخلافة من بعده، باعتبار أن الحرب الضارية التي يخوض رحاها هو والصحصاح ستهبه كل خبرات ممكنة تعود بالنفع على أمن المسلمين وكياناتهم الوليدة، بدءا من حدود وتخوم الصين، مرورا بالشرق الأدنى القديم وحتى شبه جزيرة أيبريا (الأندلس).
Shafi da ba'a sani ba
على هذا النحو كان يجيء تفكير الخليفة الراحل سليمان بن عبد الملك بن مروان، باعتبار أن البلدان العربية والإسلامية في أشد احتياج لقائد مجاهد صقلته ظروف الحرب وأدمته المعارك قبل أي شيء.
وهو ما لم يعره التفاتا شقيقه - الخليفة الحالي - الوليد بن عبد الملك، الذي اجتذبته إغراءات السلطة والتسلط في غيبة مسلمة.
ومن هنا تكاثرت الهموم التي لا تخلو من مخاوف على الخليفة الوليد بن عبد الملك، منذ أن تواترت إليه الأخبار بعودة أخيه مسلمة برفقة قائد الجيوش العربية الصحصاح تحيط بهما أقواس النصر المتوهجة، وهما يتصدران مطالع الجيش العربي الزاحف، محملين بالعروش والتيجان وأسلاب الأسرى من قواد وأمراء جيوش الروم، ما بين يونانيين وبلغار ورومان وغاليين - أو فرنسيين - يرفلون في حجلاتهم وأصفادهم وقيود سبيهم.
وهم يتحركون عبر شوارع دمشق وساحاتها محاطين بالعيون التي أبهجها النصر، بينما تكبير الآلاف المؤلفة من المسلمين يصم الآذان على عتبات وبوابات قصر الخلافة، وعلى مسمع من الوليد وحاشيته، الذين لم يجدوا بدا ولا مهربا من مواجهة ذلك النصر العارم والحماس المتدفق سوى المشاركة، والتظاهر بالفرح والتبجيل للجيش المنتصر العائد.
إلا أن الخليفة شحذ كل فكره في الكيفية التي عليه أولا اتخاذها لإخماد ذلك التدفق بالحماس الذي سرى من أطراف عاصمة الخلافة، ومنها تواتر إلى بقية أشلاء وكيانات الأقوام العربية.
ولم يجد الوليد بن عبد الملك منفذا سوى الإسراع بعزل القائدين، وشق وحدتهما: أخيه الأمير مسلمة، والأمير الحجازي القائد الصحصاح.
فما إن انتهت أيام احتفالات النصر، ووزعت الأسلاب وكنوز مغانم الحرب، وأفضى الصحصاح للخليفة الوليد بن عبد الملك برغبته المتأججة بالعودة إلى موطنه الحجاز، الذي فارقه طويلا نظرا لظروف الحرب والجهاد، ولرؤيته زوجته وولديه ظالما ومظلوما، حتى وافق الخليفة من فوره مجزلا له العطاء والتكريم؛ لمواصلة رحلته إلى وادي الحجاز.
مولد فاطمة بنت مظلوم
وبانتهاء دور الأمير العربي الصحصاح بفتح عاصمة الروم البيزنطيين القسطنطينية، وتأمين الثغور ضد الطامعين، وعودته والأمير مسلمة مظفرين إلى عاصمة الخلافة، خبا نجمه تخوفا من سطوته، حتى إنه لم يعمر طويلا، مقضيا بقية حياته في غياهب الظل بوادي الحجاز.
وكبر ولداه ظالم ومظلوم، اللذان لم يشهد لهما طفولة وصبى انشغالا بالحرب والجهاد، وهكذا
Shafi da ba'a sani ba
مظلوم ابنة جميلة تسمت بفاطمة، إلا أنه على عادة العرب تلقى خبر مولدها كأنثى مكتئبا، حتى إنه لم يطق رؤيتها، بينما واصلت الأم رعايتها، فعهدت بها إلى جارية قابلة تدعى أم مرزوق، فكانت تحملها ليلة بعد ليلة سرا؛ لتدفع بها إلى صدر أمها لرضاعتها، وتعود بها إلى خبائها في الخفاء.
وفي العام السادس من عمر فاطمة، أغارت بعض قبائل اليمن بريادة بني طيء، على مضارب والدها وعمها ظالم ومظلوم، ووقعت فاطمة أسيرة لدى قبائل بني طيء، فتربت هي وجاريتها سعدى في مضاربهم إلى أن كبرت وشبت على رعاية الجمال والخيول عبر عواء المراعي.
وكانت فاطمة منذ صغرها تهيم بما يصلها من أخبار جدها الأمير الصحصاح فاتح القسطنطينية، فأولعت بالفروسية العربية متخلية عن كل ما يربطها بعالم البنات والنساء.
فتعلمت منذ الصغر أساليب الحرب من مدافعة وممانعة، وكشفت شخصيتها عن الكثير من العجب والانبهار لكل من شاهدها أو سمع بها، حتى إنها أصبحت محط أنظار الشباب والفرسان من أقرانها.
فتهافت عليها الخطاب وراغبو الزواج منها متكاثرين على بوابات مولاها الأمير «البجير»، الذي كان كلما عرض عليها الأمر رفضت بإباء، مدعية أنها لم تخلق للزواج وحياة الفراش، بل لها جلد الرجال.
حتى إذا ما واصل مولاها الضغط على فاطمة لقبول أحد راغبي الزواج منها من شباب العرب المرموقين ذوي السطوة بين القبائل، اضطرت إلى الفرار خفية من مرعاها، متخذة لنفسها ومع جاريتها مأوى معززا في الخلاء، واصلت منه السطو وفرض الجزية إلى أن عظم شأنها، وتضاعف نفوذها، فهجمت ذات ليلة مع أتباعها على قبيلة والدها وعمها ظالم، الذي نازلها فأوشكت أن تقضي عليه بسيفها، إلى أن تدخلت أمها مانعة كاشفة عن شخصيتها.
وانتهى الأمر بالتعرف عليها، وعودتها إلى حظيرة ودفء قبيلتها، فعرف الجميع أن فاطمة أو الدلهمة أو الداهية، أو داهية بني طيء، وهو اللقب الذي عرفت به بين القبائل، ما هي إلا فاطمة ابنة مظلوم.
وهكذا أقيمت الأفراح ابتهاجا بعودة «الدلهمة» إلى ربوع قبيلتها بعد طول الأسر والغياب، لكن حظ فاطمة أو الدلهمة لازمها من جديد حين وقع ابن عمها ظالم
حتى إذا ما تفرسها الحارث - ابن عمها ظالم - عن قرب، وبهره جمالها ونبل شمائلها وحديثها، أخذ منه العشق الدامي مداه؛ فطلب من والده الزواج منها وهي ابنة عمه، وواصل الشكوى والإلحاح لأمه «الجمانة» بطلب الزواج من فاطمة، مما اضطر الوالد إلى الانتقال إلى قبيلة أخيه مظلوم ومكاشفته بأمر الزواج.
وحين عرض والدها مظلوم الأمر عليها اشتد جنونها إلى حد التهديد بالعودة والفرار من جديد إلى البراري، بل إن فاطمة تعممت واتشحت بزي الرجال، وخرجت بنفسها إلى عمها ظالم وابنه الحارث، شارحة أمرها، معبرة بوضوح عن معالم شخصيتها، وكيف أنها ليست مجرد أنثى تصلح للبيت وتربية الأطفال والطهو، بقدر ما هي محاربة في عالم قوامه المفترس والفريسة، أو الغالب والمقهور: فاعلم أنني ما خلقت إلا للنزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعدة حربي ... وكحل غبار النجع مرادي.
Shafi da ba'a sani ba