وحينئذ رأينا سبعة رجال جاءوا وقرعوا الباب بعنف، ففتحت لهم العجوز فسألوها: هل فلان هنا؟ فقالت: نعم هو في القصر «الغرفة العليا». فقلت: دنت الساعة! وأشرت إلى القواس لينجو بنفسه ويخبر عما حل بي، وبينما أنا أكلمه بذلك صرخ واحد من الرجال قائلا: انزل يا فلان فأنا صديقك السيد محمد السوطري، جئت برجال الأمير عبد القادر لكي أنقذك، فلا تخش بأسا. فنزلت إليه، وألبسوني برنسا كالمغاربة، ومشيت بينهم وسرنا ندوس على القتلى في الأزقة حتى وصلنا إلى بيت الأمير، وكان مزدحما باللاجئين إليه؛ لأن الأمير بقي ثمانية أيام متسلحا يطوف في الشوارع وينقذ الناس من القتل، ولما رأى السيد محمد السوطري أن بيت الأمير مزدحم إلى هذا الحد طلب منه أن يسمح له بأخذي إلى بيته وهو قريب من بيت الأمير فسمح له، ومضى بي إلى بيته وسألني عن عائلتي، فقلت له: إن ابني الكبير في قنصلاتو الإنكليز، والثاني في مدرسة الروم، وكان معي ولدان ففرقوا بيني وبينهما ولا أعلم ماذا جرى لهما، وقد تركت زوجتي وطفلها في البيت. فقال: أما ابنك الكبير فلا خوف عليه؛ لأنه لم يدن أحد من قنصلاتو الإنكليز، وأما الباقون فأنا أمضي الآن أفتش عنهم، وهم لا يعرفونني فقد يمتنعون عن المجيء معي، فدع القواس يذهب برفقتي لاطمئنانهم.
ومضى هو والقواس فوجدوا زوجتي وأولادي كلهم ما عدا الثاني الذي كان في المدرسة، وسألت السيد محمدا كيف عرف أني في البيت الذي كنت فيه، فقال إنه لما بلغه ما حصل بباب البريد ظن أن الأمر طفيف وأن الحكومة تتلافاه حالا، فأقفلوا الباب الواصل إلى حارة النصارى لمنع أولاد محلتهم من الاشتراك مع الثائرين، فأتى جمهور من أكراد الصالحية، وخلعوا الباب فخاف حينئذ على بيتي، وأتاه واحد فأخبره بما أصابني وبوصولي إلى بيت محافظ الحارة، فتوجه إليه وطلبني منه فأنكرني، فرجع وأخبر الأمير عبد القادر، فأعطاه ستة من المغاربة المتسلحين ليطلبوني من المحافظ، فذهب معهم وطلبوني منه وشددوا عليه، فاضطر أن يرسل ابن أخيه معهم ليدلهم على مكاني.
وفي تلك الليلة زارني المستر برانت قنصل الإنكليز وطمنني عن ولدي الأكبر، أما ولدي الثاني فمضى ثلاثة أيام، ولم أقف له على خبر ولا وجد بين القتلى المطروحة في الأزقة.
ثم أتى رجل تركي إلى قنصل الإنكليز، وأخبره أنه متزوج ابنة علي آغا كاتب الخزينة - وكنت قد أسكنت المستر روبنصن المرسل الإنكليزي في بيته - فلقيت زوجته ابني المفقود وأخفته في بيتها، فللحال أرسل القنصل رجالا من المغاربة فأحضروه إليه.
وبقيت شهرا في بيت السيد محمد السوطري حتى شفيت من جراحي، ثم دعاني الشريف محمود أفندي حمزة إلى داره فانتقلت إليها؛ لأن الأشقياء خربوا بيتي، ونزعوا خشبه وبلاطه، وبقيت في بيت محمود أفندي إلى أن حضر فؤاد باشا.
وعادني السيد محمد الأمين الشاعر المشهور مفتي بلاد بشارة وقال لي: ماذا أصابكم؟ فقلت: الذي تراه. فقال: سفكت دماؤكم وسبيت نساؤكم وهدمت بيوتكم، ولكن عليكم أن تتأسوا بمصاب غيركم، فإن أهالي دمشق الذين فعلوا بكم هذه الفعال قتلوا أولاد نبيهم وسبوا نساءهم وهدموا الكعبة المشرفة.
الفصل الحادي والثلاثون
مؤتمر باريس
ما هذا الحر الذي يزهق النفوس؟! حقا إن باريس لا تطاق في شهر أغسطس. (المتكلم مندوب روسيا والمخاطب مندوب إنكلترا.)
فقال مندوب إنكلترا: والحر عندنا شديد أيضا على خلاف المعتاد، وقد بلغت درجة الحرارة التسعين أمس.
Shafi da ba'a sani ba