كان زوجها يعرف الأمير عمر ويعرف أباه، وقد حارب معه كتفا لكتف في عهد إبراهيم باشا، لكن ذلك كان قبل أن اقترنت به، وكان الأمير عمر يواصلهم بالهدايا، ولكنها لم تر صورته إلا ذلك اليوم، فلم تكد تأنس به وبأمه حتى وقعت بها هذه الضربة الأليمة.
وقد عاشت مع زوجها نحو عشرين سنة على تمام الهناء والصفاء، وكانت تهتم به أكثر مما يهتم النساء بأزواجهن عادة؛ لأن معرفيها غرسوا في ذهنها أنه هالك، ولا بد لها من أن تجاهد جهادا مستمرا في الصلاة لأجله، فأكثرت من الصلوات والنذور في السنة الأولى والثانية، ثم رأت أن زوجها أفضل سيرة وسريرة من كل الذين تعرفهم حتى من رجال الدين ، وسمعت مرة واحدا يتلو آية من التوراة مفادها أن كل من يعمل البر فهو مقبول لدى الله مهما كانت أمته، فانجلى لها وجه الصواب، وقالت: إن الله لا يأخذ بالوجوه، بل الناس لديه حسب أعمالهم ونياتهم. وكانت لا ترى من زوجها إلا العمل الطيب والنية الصالحة على ما فيه من الرزانة والوقار ومجادلة الناس بالحسنى، حتى إن المطران كان يسر بحديثه ولا يسمعه كلمة تغيظه، فزالت الشكوك من نفسها، ومنعت القسوس عن الكلام معها في أمر زوجها، ثم لما كبر أولادها اتجه همها كله إلى تعليمهم وتهذبيهم، فلم تعد تهتم بالخلاف الديني الذي بينها وبينه، ولم يخطر لها ببال أنه يمكن أن يموت قبلها؛ لأنه لم يمرض قط مدة اقترانها به، فلما رأته الآن مطروحا على فراشه لا حراك به، لم تصدق أنه ميت، بل أخذت يده وجعلت تناديه وتكنيه، ثم غلبتها عواطفها واسودت الدنيا في عينيها فأعولت بالبكاء.
وغلب الحزن الأميرة سلمى وجفف دموعها، فوقفت شاخصة، ولكنها لم تكد تسمع بكاء أمها حتى وقعت على الأرض وطرحت رأسها على صدر أبيها وهي تبكي وتقول: يا أبي يا أبي. وفاضت الدموع من عيون أخويها وجعلا يبكيان وينتحبان، وقد قام كل منهما في زاوية من المضرب.
ووقف الأمير عمر حائرا في أمره، رأى هذا المشهد وسمع نواحا يفتت الأكباد فاغروقت عيناه بالدموع، ولكنه لم ينس هول الموقف وما يطلب منه ويطالب به فوقف يفكر في أمره، وجلست أم يوسف على الأرض وقد غلبها الحزن فلم تحاول الندب على جاري عادتها، فإنها كانت من النادبات الشهيرات ولكن الحزن الشديد يبكم الألسنة.
وعلا البدر فقصرت ظلال المضارب، واشتد حلكها بالنسبة إلى النور الذي حولها، ونبحته الكلاب من كل ناحية، فانقطع عواء الذئاب خوفا ورهبة، وبركت الجمال وربضت الثيران، والأغنام تجتر وتلوك جرتها على مهل، ووقفت الصافنات الجياد تغمض جفونها ثم تفتحها كلما مر خفاش من أمامها، وخمدت النيران أمام المضارب، وعلا نقيق الضفادع من جوانب الغدران، حيث تظللها أغصان الصفصاف والبان، فامتزج به خرير الماء امتزاج الحسيني بالعشيران، واجتمعت الخفافيش على أشجار الإجاص والزعرور تختصم وتصيح، ولكنها لا تنتقل من الحجاج الشجاج؛ لأنها تكتفي بالكفاف من الطعام، ولا تفعل فعل ابن آدم الذي لا يكفيه شيء يلهمه، فيطمع بما في يد غيره ويجور على أبناء نوعه.
ودخل الأمير عمر مشوره، وجمع رؤساء عشيرته الأدنين وقص عليهم ما حدث بالاختصار، فقال إن أباه كان متآخيا مع الأمير عباس من عهد إبراهيم باشا إخاء الدم،
1
وقد أوصاه أبوه قبل وفاته أن يحسب الأمير عباسا عما له، ويبر به بر الأب بابنه، وأنه استدعاه إليه إلى جبل عجلون لما علم أن في النية قتل أمراء حاصبيا واللاجئين إليهم، ولكن يظهر أنه كان مريضا، فأثرت فيه الشمس وقتلته، والطبيب يقول إنه مات من ضربة الشمس، ولا بد من أن يطالبه الشهابيون والحكومة بدمه قبلما تنجلي لهم الحقيقة، ولكنه واثق أن الأميرة هند وابنتها الأميرة سلمى تقرران الحقيقة، وهي أنه وصل المضارب متعبا، ثم أكل من الطعام الذي أكل منه ولداه وأصحاب المنزل، وأصيب بعد ذلك بصداع شديد وحمى، وقضى نحبه قبل أن يشرب دواء، قال: وقد أحضرتكم الآن لأستشيركم في أمرين؛ الأول: أن الأمير عباسا كان مسلما، فهل ندع الإمام يغسله وندفنه مسلما؟ والثاني: هل ندعو رؤساء العشائر كلهم ونقيم له مأتما يليق به؟ قال ذلك وأومأ إلى شيخ كبير السن شيبت الأيام رأسه، ولكنها لم تحن ظهره كأنه يطلب منه الجواب على سؤاليه.
فقال هذا الشيخ: أما عن الأمر الأول، فالرأي عندي أن نستشير زوجة الأمير، ونعمل بقولها، ولاسيما إذا وافقها عليه أولادها، وأما الأمر الثاني فواجب الضيافة وعهد الأخوة بين الأمير المتوفى وبين المرحوم أبيك؛ يقضي علينا أن نحتفل بمأتمه كما احتفلنا بمأتم أبيك.
ووافقه سائر الرؤساء والمشايخ على ذلك، وللحال نادى الأمير عمر بالسعاة وبعث معم إلى كل أحياء قبيلته، وعين وقت الدفن عصر اليوم التالي، وأعطى الطبيب حنجرا من عطر الورد حتى يصبه في الماء الذي يغسل الميت به فيمنع فساده، وأوصى مدير بيته أن ينحر مائة خروف وعشرة جمال، ويطبخها كلها غداء للجموع التي تحضر المأتم، وأن يطبخ معها عشرين قفة من الأرز، ويخبز ما يكفي ثلاثة آلاف نفس، ويفعل كما فعل في مأتم أبيه، بحيث تكون مضارب طبخ الطعام مفصولة عن المضارب التي يقام فيها المأتم، ولو لم تكن الأرض سهلا كما كانت حينئذ.
Shafi da ba'a sani ba